تكوين
“فقد تتغلَّب العادات على الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كلُّ مَن عرفه” قاسم أمين
تتأثر مختلف العادات والتقاليد الاجتماعية، بطبيعة التحولات التي يعرفها المجتمع على مستوى العلم والثقافة والوفرة في الاقتصاد… كما أن التقارب بين الثقافات والمجتمعات نتيجة أسباب مختلفة، له دور مهم في طبيعة التحولات في مختلف العادات والتقاليد، فيما يخص تربة الأولاد والإقبال على الحياة في مختلف مجالاتها.
- الثورة المعلوماتية والتحول الاجتماعي
مست الثورة الرقمية والمعلوماتية والأنترنت، مختلف مجالات الحيات في القرن الواحد والعشرين، فقد كان لهذه الثورة أثرها البين والواضح على الصناعة والتجارة ومختلف مجالات الحياة العملية…ولا شك بأن المجتمع ومختلف العلاقات الاجتماعية والثقافية في نظرة الفرد لذاته وإلى الآخر من حوله، قد اهتزت نتيجة مختلف شبكات التواصل الاجتماعي مواقع الانترنت… ولا شك بأن الجيل الذي ولد في مطلع القرن الواحد والعشرين وقبله بقليل يمكن تسميته جيل الأنترنت بامتياز، بالمقارنة مع الجيل المخضرم، الذي ولد في الثلث الأخير من القرن الماضي. كل هذا سيكون له أثر على طبيعة التحولات الاجتماعية فيما يخص النظرة إلى موضوع المرأة، وهو موضوع قديم وجديد، جديد بالنظر للنقاش الدائر في هذا القطر أو ذاك حول الموضوع، وقديم بالنظر للكتابات التي أسست له أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما سنقف عنده، بهدف استثمار التجارب والأفكار القديمة في خدمة الأفكار والاجتهادات الجديدة.
لا شك أن ما أحدثه الأنترنت والثورة المعلوماتية عبر العالم، شبيه بما أحدثته المطبعة عند اختراعها في أوروبا من لدن “غولدسميث يوهان غوتنبرغ ” عام 1440م، لا شك بان الطباعة وظهور الصحف حينها قد دشن عهدا جديدا في أوروبا وبعدها العالم،
المرأة في سياق خطبة الوداع: حقوق أم انتهاكات؟
ويبقى الدخول الأكبر للطباعة في الوطن العربي مربوطاً بحملة نابليون على مصر، حيث أدخل معه المطبعة عام 1798م، وخرجت تلك المطبعة مع خروج الفرنسيين أيضاً، وبقيت مصر بعد هذا التاريخ دون مطبعة حتى عام 1819م عندما أمر والي مصر محمد علي باشا بإنشاء مطبعة في مصر، وهي موجودة حتى يومنا هذا ومعروفة باسم المطبعة الأميرية، ولا شك بأن العالم العربي قد دبت فيه حياة التحول والتغير بفعل المطبعة حينها.
- المرأة والتحول الاجتماعي
في عام 1899م نشر قاسم أمين كتابة عن “تحرير المرأة” وأتبعه في السنة الموالية 1900م بكتاب مكمل له “المرأة الجديدة”. كتاب في الإصلاح الاجتماعي، جعل من قضية تحرير المرأة من مختل القيوم والتقاليد الاجتماعية والعرفية، والتي تتعارض مع روح الشريعة، مدخلا أساسيا لإصلاح المجتمع بأكمله. عندما نعود لقراءة هذا الكتاب من ضمن تراث القرن التاسع عشر، سنجده كتاب غني بمعطيات اجتماعية تعكس لنا طبيعة الوضع الذي كانت عليه علاقة كل من المرأة والرجل في العالم الإسلامي ومصر نموذجا. يبقى كتاب قاسم أمين من أبرز الكتب التي دشن ملف قضية المرأة في الوطن العربي والإسلامي، وهو ملف لازال في أخذ ورد ولم ينتهي منه بعد، بالنظر الى طبيعة النقاش والجدال حول سؤال إصلاح مدونات الأحول الشخصية في كثير من أقطار العالم العربي والإسلامي، وبالأخص فيما يتعلق بالطلاق والحضانة…صحيح هناك قضايا تم الإفراغ منها من قبيل تعلم الإنات وعملهن في مختلف الوظائف إلى جانب الرجل، ومن قبيل حرية المرأة في التصرف فيما تملك، وحقوقها بعد الطلاق… رغم أن الوضع في العالم الإسلامي وضع متباين من بلد إلى أخر في التعاطي مع هذه القضايا التي سارت أمرا مسلم به.
- تراث قاسم أمين
قد يتساءل البعض وما هي الفائدة من العودة لتراث قاسم أمين، وهي أفكار قد قتلت بحثا وتم استهلاكها؟ الجوب هنا يتصل بوجهين: الوجه الأول: يتعلق بمعرفة تتبع الأفكار الإصلاحية منذ بذرتها الأولى، ومدى تقبل المجتمع لها ومدى تحولها وتطورها من لحظة زمنية إلى أخرى، بهدف معرفة طبيعة تحول المجتمع في نظرته لذاته وللآخر، وفي نظرته لمختلق العادات والأعراف التي كانت فوق القيم والأخلاق ومقاصد اليدين، فيما يتعلق بمسألة المرأة في زمن قاسم أمين، والسؤال هنا سؤال يتصل بعلم الاجتماع هل طبيعة التحول الذي نراه اليوم في مختلف المجتمعات المسلمة، تحول واعي أم هو تحول لا يصحبه وعي معرفي والحضاري. الوجه الثاني يتعلق باستثمار جهود وتراث كبار المصلحين، بالنظر إلى أسئلة وإشكالات الواقع المعاش. وهو واقع لا زال فيه الكثير من الناس على سبيل المثال يسلمون ويأخذون بما جاء في الحديث “لا نكاح إلا بولي” بمعزل عن فهم متن الحديث والسياق التاريخي الذي ورد فيه، فمن المضحك، أن تكون المرأة اليوم قاضية تقضي بين الناس وهي مسؤولة عن جلب حقوق الطرفين، ومهندسة وهي مسؤولة عن أرواح من يسكن مختلف العمارات والأحياء، وطبيبة وهي مسؤولة عن تطبيب المرضي… وكيف بها في عقد الزواج تفقد كل مسؤوليته وقدرتها على تحديد من تتزوجه أو لا تتزوجه!!
- إعمال العقل في فهم قضايا الدين والمجتمع
إنها مسألة العقل في فهم قضايا الدين والمجتمع في هذا السياق نستحضر، ما قال به قاسم أمين أواخر القرن التاسع عشر “فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال بنا الكسل إلى معاداة كل فكر صالح مما يعدُّه أهل الوقت حديثًا غير مألوف، سواء كان من السنن الصالحة الأولى، أو قضت به المصالح في هذه الأزمنة. وكثيرًا ما يكتفي الكسول وضعيف القوَّة في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه فيقول: تلك بدعة في الإسلام. وما يرمي بهذه الكلمة إلَّا حبُّ التخلُّص من مشقَّة الفهم، أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء، كأن لله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحي”[2]
كان كل هم قاسم أمين التمييز بين التقاليد الاجتماعية وبين الغايات والمقاصد القيمية والأخلاقية للشريعة الإسلامية، والمشكلة هنا ليست في التقاليد والعادات، فحياة الانسان وكل المجتمعات مليئة بمختلف العادات والتقاليد، ولكن المشكلة عندما تتحول تقاليد المجتمع إلى تقاليد سيئة تحيل بينه وبين المعرفة والرقي والوعي والتطلع إلى المستقبل، يتساءل قاسم أمين “لِمَ يعتقدون المسلم أن عوائده لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟ ولِمَ يجري على هذا الاعتقاد في عمله مع أنه هو وعوائده جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل في كل آن؟ أيقدر المسلم على مخالفة سنَّة لله في خلقه إذ جعل التغيير شرط الحياة والتقدُّم والوقفة والجمود مقترنين بالموت والتأخُّر؟ “[3]
- التمييز المنهجي بين الدين والتدين
لا شك بأن قاسم أمين له تمييز منهجي بين الدين كمنظومة قيم متعالية، وبين التدين المتصف بالتنوع والتعدد والمتصل بمختلف العادات والتقاليد، وهي بطبعها ينبغي أن يسري عليها التحول والتغير، ولا يعقل أن تبقى جامدة لأن من طبيعة الحياة التجدد والتغير والتحول من حال إلى حال، فمَن هذا “الذي يمكنه أن يتصوَّر أن العوائد لا تتغيَّر بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان، وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان؟ المسلمون منتشرون في أطراف الأرض، فهل هم أنفسهم متَّحدون في العادات وطرق المعاش؟ مَن ذا الذي يمكنه أن يدَّعي أن ما يستحسنه عقل السوداني يستحسنه عقل التركي أو الصيني أو الهندي؟ أو أن عادة من عادات البدوي توافق أهل الحضر، أو يزعم أن عوائد أمَّة من الأمم — مهما كانت — بقيت جميعها على ما كانت عليه من عهد نشأتها بدون تغيير؟”[4]
- اختزال موضوع الإصلاح في مسألة ثنائية الحجاب والسفور
من بين الكتب التي ردت على كتاب تحرير المرأة نجد كتاب “تربية المرأة والحجاب” لمؤلفه ألفه محمد طلعت حرب باشا. وقد صدر في نفس السنة الت صدر فيها كتاب “تحرير المرأة” 1899م. مع الأسف هذا الكتاب كان من بين الردود التي حولت الأمر من دائرة الدعوة الى الإصلاح الاجتماعي بمفهومه العام، والذي يستند الى العقل والمقاصد العليا للدين، إلى دائرة ضيقة وهي الحجاب “الحجاب” وما زاد في اختزال الموضوع وإفراغه من مضمونه، هو وضع موضوع الحجاب نفسه في ثنائية مع أو ضد. بوضع مفهوم السفور مقابلة مفهوم الحجاب. والمسألة إن نظرنا لها من خلال محيطنا الاجتماعي الحالي فستظهر طبيعة تحول وتغير العادات ما بين الأمس واليوم، كل هم قاسم أمين أن يقنع القراء بأن وجه المرأة ويديها ليست بعورة، بينما يرى خصومه العكس من ذلك. إذ يرى صاحب الكتاب محمد طلعت بأن ” تربية المرأة والحجاب (كتاب) إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوروبا في العالم الإسلامي”.
موضوع الحجاب وعدمه تضخم بشكل كبير مع إيديولوجية الإسلام الساسي، إذ حولته إلى وسيلة للاستقطاب النساء، والغريب أننا نجد أشكال متعددة لما يسمى بالحجاب قد يختلف من جماعة إلى أخرى، ومن تنظيم إلى آخر. مع العلم أم مفردة الحجاب في القرآن لا تعني ما تقصد الجماعات المتشددة وما يقصده الإسلام السياسي، فالقرآن تحدث عن الخمار فيما يخط المرأة وليس الحجاب، والحقيقة أنّ القول بالحجاب بدلاً من الخمار؛ واختزال بعضٍ من الناس الانتماء إلى الإسلام في ارتداء ما يرونه فيه حجابا من عدمه تبعاً لتصوّراتهم وفهمهم الضيق، الذي يميل إلى الظهور في الفضاء العام بشكل مثير للانتباه؛ تعبيراً منهم عن انتمائهم إلى الإسلام كما يفهمونه وكهوية دينية لمجموعة محدودة من الناس؛ قد أثار إشكالاً في المجتمع الفرنسي؛ وهو الإشكال الذي عُرِف بقضية الحجاب في فرنسا في سنة (1989م)، وتكرّرت المسألة سنة (2004م).
- محاولات سابقة عن قاسم أمين
في الأخير نذكر بأن هناك كتابات سابقة عن قاسم لم يكتب لها الانتشار[5]، وبالتالي لم تحظى بنقاش واسع من قبيل عائشة تيمور (ت 1902م) وكتابها “مرآة التأمل في الأمور” الصادر عام 1892م، الذي طرحت فيه اجتهادًا لمفهوم القوامة في الإسلام، ورأت أنها ليست مطلقة بل شرطية، تعتمد على قيام الرجال بواجباتهم الأسرية، ومنها إعالة زوجاتهم. كانت اللبنانية. زينب فواز (ت 1914م)، قد سبقت أمين في إطلاق حرية المرأة في كل المجالات، وعبرت عن مشروعها في كتابها “الرسائل الزينبية” الصادر عام 1893م، كما صدر لها كتاب “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور” عام 1894م، وبالرغم من سبق هؤلاء فمؤلفاتهم لم تتصف بالثراء والإحاطة بالموضوع من مختلف جوانبه.
- صدى طروحات قاسم أمين في العالم الإسلامي
- تونس
اشتهر الطاهر حداد في تونس (1899م/1935م) بدعوته لتحرير المرأة من مختلف العادات والتقاليد، من خلال كتابه ” امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة لم تعد تتمتع بها وتمارسها بالدرجة نفسها.. وكذا بالمستوى عينه، الذي وضع الإسلام المرأة فيه. بسبب المسلمين وظروفهم التاريخية، إذ وقفوا في طريق التطور.[6] من درس سيرة الطاهر حداد سيقف عند المحنة والأذى الذي لحق به بسبب تأليفه لهذا الكتاب وقد صدر له سنة 1930م إذ جرد الرجل من عمله وتم تكفيره وتأليب العوام والجهلة عليه، وبقي على هامش المجتمع لا أحد مد إليه يد العون وقد توفي 1935م، خلد التاريخ أفكار واجتهادات الطاهر حداد، ولا أحد يذكر معارضيه ومن كان سببا في محنته.
- المغرب
اشتهر الفقيه محمد الحجوي الثعالبي (1874م/1956م) بطروحاته الاجتهادية في زمانه، وهو صاحب كتاب “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” وقد نادا بضرورة تعليم الفتيات، وهذا وجه من أبرز وجوه الدعوة إلى تحرير المرأة من العادات والتقاليد التي منعتها من العلم والتعلم، من أجل هذا الهدف، ألقى محمد الحجوي الثعالبي محاضرة تحت عنوان “تعليم الفتيات” سنة 1925م، بمعهد الدروس العليا بالرباط حضرها جمع من العلماء، فحدَث أن قاطعه الصدر الأعظم (الوزير الأول) محمد بن عبد السلام المقري، ووزير العدلية الشيخ، أبو شعيب الدوكالي ، اللذان اعتبرا تعليم الفتاة بدعة، ولا يترتب عليه إلا الضرر والفساد، وأن الحجوي – بدعوته تلك – إنما هو تابع لفرنسا، لأن تعليم المرأة حتما يؤدي إلى السفور. مما اضطره إلى قطع المحاضرة، والانسحاب خارج القاعة، ليلقي بعد مدّة محاضرة “تعليم الفتيات لا سفور المرأة” يوضح فيها حقيقة ما دعا إليه، ويصحح ما فهمه خطأ جمهور واسع ممن انتقدوا أفكاره وآراءه. لسنا هنا بصدد نقاش وعرض تصورات وأراء الحجوي حول موضوع الحجاب وكيفية تصوره للتعليم الفتيات، بقدر ما نريد لفت نظر القارئ لطبيعة الوضع حينها في المغرب، حول سؤال يبدوا اليوم بديهي وبسيط هل يسمح للفتيات بالتعليم والتعلم، وقد ساق الحجوي عدة أدلة من الشريعة ومن التاريخ الإسلامي ليقنع خصومه بضرورة وأهمية تعليم الفتيات، فالنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعي إلى الأحسن يبدأ من تعليم المرأة، صحيح بأن الحجوي يبدوا متحفظا في تصوره لموضوع الحجاب، وربما أن المحيط الاجتماعي وضغط خصومه كان له دور في ذلك وهذا موضوع يتطلب البحث والتحقيق.
المراجع:
[2] تحرير المرأة، قاسم أمين، مؤسسة هنداوي، طبعة 2017م، ص. 10
[3] نفسه، ص.10
[4] ص. 11
[5] أنظر كتاب: الحوار قلق الحاضر وأفاق المستقبل، أسئلة حول الذات والآخر، (مجموعة حوارات) صدر عن منظمة الإيسيسكو 2024م.
[6] موقع البيان : https://www.albayan.ae/paths/books/2013-01-27-1.1810862