تكوين
تكاد إشكالية المرجعية تهيمن على فكرنا العربي الحديث والمعاصر . هل هذه المرجعية هي التراث أو هي التقاليد والاعراف ؟ هل هي الغرب وحداثته وقيمه وفلسفاته الوضعية أو هي الدين أو الإيديولوجيا ؟ وهل هذه المرجعيات تخضع للنقد والمساءلة أم أن مقاربتها أو المساس بها نذير شؤم ومجلب للهلاك بينما الإبتعاد عنها ضامن للطمأنينة والسلامة ؟
في إطار هذه الإشكالية المتمادية بدا المثقف العربي ، وعلى امتداد تاريخ بكامله وكأنه أسير مرجعيات قاهرة مستبدة يدور إلى ما لا نهاية في كنفها، حتى إذا تجرّأ أحياناً على الإفلات من قبضتها ، لا تلبث أن تشده إليها من جديد فيرجع خائباً معتذراً،موفّقاً ملفّقاً، راجياً الطمأنينة والأمان ، أو يغامر بمصيره فيدفع من حياته أو كرامته ثمن رفضه للسائد وخروجه على “المرجع “المعصوم الذي لا تساؤل إزاءه ولا نقاش ولا حوار أو مكابرة .
كانت هذه سيرورة التاريخ العربي منذ نكبة المعتزلة ومحنة ابن رشد إلى اغتيال اسعد الشدياق وتشريد أخيه أحمد، إلى اغتيال جبرائيل دلال وعبد الرحمن الكواكبي وتكفير طه حسين ، إلى اغتيال فرج الله الحلو وكامل مروة وكمال الحاج ومهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة إلى تكفير نصر حامد أبو زيد ونفيه . لقد كانت هنالك دائماً مواجهة مأسوية محكوم أبطالها سلفاً،إما بالانتحار، وإما بالموت الروحي نفياً أوعزلاً وتهميشاً ، أو اعتذاراً وتراجعاً وانكفاءاً. فثمة مرجعية متسلطة ضاغطة ، تراثية أو مذهبية أو طائفية أو إيديولوجية أو سياسية تنتصر في النهاية وإن بدا أن في الإمكان زحزحتها أو اختراقها وتكييفها . لقد بدأت الفلسفة العربية في الاساس في عملية توفيق وتلفيق بين التراث والعقلانية اليونانية بما يبدو في النهاية انتصاراً للمرجعية التراثية وتبريراً عقلانياً لها ، رغم كل ما يتراءى عكس ذلك . وإذا تجاوز العقل حدوده ، كان ثمة ما يتربّص به من المحن والتنكيل ما يكفل إعادته إلى المرجعية السائدة والمهيمنة ويضيع تمرده هباء . ولنافي محن الفلاسفة العرب ومآسيهم صورة لمعاناة شاقة مع الاستبداد المرجعي ما فتئت أصداؤها تترد د جيلاً بعدجيل .
وإذا كان عصر النهضة ، بعد قرون من السبات والانحطاط قد استأنف التلاقي مع الحضارة الغربية ، فإن الصراع المرجعي شهد في الوقت نفسه تناسل صور أخرى من الاستبداد المستجد والمتولد من الاحتكاك مع عقل الغرب والاحتكام إلى مسلّماته وبديهياته والاهتداء بانجازات حضارته ، حيث راح النهضويون العرب يتحسّسون هذه الانجازات بخوف وتقية كمن يخطو في الظلام قلقاً من صدمة أو زلة قد تكون مكلفة أو قاتلة .وقد أعرب أكثرهم إن لم نقل جميعهم ، بدرجات مختلفة ومتفاوتة عن التوجس من قيم العقل الغربي ، وتعاملوا معه بالحيطة والحذر والشك . وإذا كان بعضهم قد أقبل باندفاع نحو حضارة الغرب ، إلا أنه ما لبث أن عاد إلى دفء المرجعية السائدة مشككاً أو مسفّهاًأو متفاخراً بأمجاد تاريخه وتراثه طالباً الأمان والطمأنينة .
من مثل هذه المواقف انطلق النهضويون العرب، من رفاعة الطهطاوي واحمد فارس الشدياق وفرنسيس المراش إلى طه حسين وامين الريحاني مروراً بعبد ا لرحمن الكواكبي وجرجي زيدان ،إلى تسفيه الحضارة الغربية وتتفيهها ، رغم اقرارهم بتفوقها المادي والعلمي، وتأكيد تفوّق القيم التراثية والشرقية .فقد اعتبرأكثر هؤلاء ان حضارة الغرب انما قوامها الكسب المادي والعدوان والتوسّل بالآلات الحديثة لقهر الشعوب الضعيفة واغتصاب خيراتها ولو على حساب عذاب وآلام ملايين البشر. ولهذا ، في رأيهم ،انحطت مثل الغربيين وقل انصافهم، وانحدرت أخلاقهم . يعبّر عن ذلك تعبيراً نموذجياً محمد كرد علي إذ يقول : ” لا يستغربن أحد ما يشاهد من غارات الدول المستعمرة ما دمنا موقنين أن المدنية الحديثة هي ابنة المادة. والانصاف يقل في أهل المادة ،وهم يحتقرون في سبيلها المثل العليا والاخلاق الفاضلة ، وتقبل اذهانهم كل وسيلة ما دامت الغاية جمع المال “. وفي المقابل ركّز النهضويون على فضائل الشرق الاخلاقية ومثله الانسانيةوالروحانية وسبقه العلمي ، حتى أن بعضهم ذهب إلى أن خلاص الغرب ، انما هو في اقتداء قيم الشرق واخلاقه وروحانيته . من هذا قول الطهطاوي ان “الافرنج يعترفون لنا باننا كنا اساتذتهم في سائر العلوم ” وقول خير الدين التونسي ان ما توصل إليه الغرب من رقي علمي وحضاري انما ” كنا عليه وأخذ من أيدينا وقول امين الريحاني إن لدى الشرقيين من السكينة والاطمئنان ومن القناعة والاكتفاء ” ما لو وجد شيء منه في الغربيين لقلت في مجتمعهم المنكرات والمفجعات…ولخف التكالب على الماديات ولقلت الحروب ونكباتها…ولو كان لهم ما للشرقيين من الديموقراطية الحقيقية في الحياة الاجتماعية ليسر حل المشكلات الاقتصادية التي تهدد بالبلشفية دول الغرب كلها ” .
تخلف حضارة العرب
في هذا الاطار نظر إلى تخلّف العرب الحضاري على أنه ناجم عن الابتعاد عن التراث لا عن التقصير في التشبه بالحضارة الغربية وتمثّل قيمها وأخلاقها وعقلانيتها .وإذ أحس المثقفون العرب ، من الطهطاوي إلى طه حسين ، أن لامناص من اقتباس الحضارة الغربية ومثلها العلمية ، دأبوا على الفصل بين علم الغرب وحضارته ، وعقل الغرب الذي أنتج هذا العلم وهذه الحضارة . وما ذلك في الحقيقة سوى موقف دفاعي هدفه صيانة المرجعية التراثية وإقصاؤهاعن النقد والمساءلة. وإذا كان طه حسين قد بلغ حداً كبيراً في تحدي المرجعية التراثية داعياً إلى اقتباس الحضارة الاوروبية كاملة ، بوصفها المدنية الخالدة وحاملة القيم الانسانية والمثل السامية الحقة ، ورأى أن الاستقلال العقلي والنفسي والعلمي يكون ب” ان نتعلم كما يتعلم الاوروبي ، لنشعر كما يشعر الاوروبي ، ثم لنعمل كما يعمل الاوروبي ونعرف الحياة كمايعرفها ” ، فإنه لم يجرؤ على ذلك إلا لأن مصر في نظره هي جزء من حضارة أوروبا ، وأن ” شرقنا القريب” هو مهد العقل الذي يزدهي ويزدهر في أوروبا “.
ومع ذلك لم يلبث طه حسين ان انكفأ إلى التراث ليبيّن أن المثل والمبادىء السياسية والاجتماعية التي يقتبسها المصريون من الغرب انما هي في تراثهم الاسلامي ،وهكذا كان تفلّته من الفضاء المرجعي مشروطاً ومحدوداً وانتهى بعودة ميمونة إلى كنفه ورحابه . وما انتهى إليه زكي نجيب محمود لا يختلف عما انتهى إليه طه حسين ، إذ بعد رحلة طويلة في عالم الوضعية المنطقية التجريبية صحا محمود معتذراً ” صحوة قلقة ” يفتش و” الحيرة تؤرقه” عن ” طريق للمواءمة بين المنقول والأصيل ” . وراح ” يزدرد تراث آبائه ازدراداًويعبّ صحائفه عبّاً سريعاً ” . وزكي نجيب محمود إذ يصوّر تجربته هذه في كتابه
” تجديد الفكر العربي ” انما يعبّر عن حالة أكثر المفكرين والمثقفين العرب الذين لا يلبثون أن يشعروا بالذنب بعد خروج مرحلي وعابر على ” المرجعية ” التي تشدّهم في النهاية وتبدّد ثورتهم . هذه الحالة ما هي في الحقيقة وفي خلفياتهاالبعيدة إلا تعبير عن الروح السلطوية التي تحكّمت بالعقل العربي والانسان العربي عبر وسائط متعدّدة هي التراث أحياناً وهي الإيديولوجيا الطائفية أو الحزبية أو القبلية أو القومية أحياناً أخرى .فالمرجعية السلطوية هي هي سواء داخل القبيلة أو المذهب أو الحزب أو الجماعة . أليست التصفيات الدموية التي طاولت ولا تزال ” الخوارج ” على الخطوط المرسومة دليلاً على الاستبداد المرجعي المتواصل على مدى التاريخ العربي كله ؟ألا تشيه محنة فرج الله الحلو الخارج على الايديولوجيا الستالينية محنة أسعد الشدياق الخارج على الايديولوجيا الطائفية رغم التناقض الفلسفي والتاريخي بين الايديولوجيتين ؟ ألا يشبه تشريد أحمد فارس الشدياق تشريد نصر حامد ابو زيد ؟ ألا يشبه اغتراب محمد اركون اغتراب رزق الله حسون وجبرائيل دلال وأمين الريحاني ؟ أليس مؤسفاً بل فاجعاًأن يبقى الاستبداد المرجعي مغلقاً أي كوّة يمكن أن تتسلّل منها رياح التغيير والتحوّل وأن يبقى المثقف العربي إما مهاجراً يعاني التهميش والإحباط أو يواجه في وطنه موقفاً عدا ئياً يضطره إلى” الاندماج في الخط السائد وتقديم التنازلات ، بل وحتى التخلّي عن خطه النقدي الحر في التفكير والكتابة” على حد تعبير محمد اركون في كتابه ” قضايا في نقد العقل الديني ” دار الطليعة 1998. إننا في أواسط العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ، قرن يحمل في أحشائه مفاجات ومتغيرات يمكن أن تبدّل مستقبل الإنسانية بالكامل . ولقد كانت السنوات الاخيرة من القرن الماضي والسنوات الاولى من قرننا الراهن مؤشراً ونذيراً لما يمكن أ ن تكون عليه صورة المستجدات الآتية . فالثورة التي عرفتها هذه السنوات في السياسة والاقتصاد والفكر والايديولوجيا والبيولوجيا والتكنولوجيا بدّلت تبديلاً جذرياً في كل المفاهيم المعروفة والسائدة وزلزلت المطلقات العقائدية والايديولوجية فاتحةً الابواب على كل الاحتمالات مهما تكن غريبة وغير متوقعة . إن عصرنا يشهد ولادة واقع إنساني جديد ومصير إنساني جديد ، فهل من المعقول أن نبقى أسر ى مرجعياتنا المستبدة فيما عواصف التبدّل والتحوّل والانقلاب تهب من كل الجهات؟ هل من الجائز أو المقبول أن يرمى بالتكفير كل مثقف عربي يحاول أن يخرج ولو قيد أنملة على الأنماط المرجعية السائدة ، وأن يحشر بين خيارات مرة كلها: إما الخروج من التاريخ ، وإما الخروج من الجغرافيا ، وإما الخروج منهما معاً .
أكثر ما يتجلى هذا الحصار الفكري في منع كتب ثقافية لكتّاب من ذوي ا لقامات الكبيرة في غير معرض من معارض الكتاب في العالم العربي ، بالإضافة الى رفض الافكار التجديدية ، مايطرح بصورة جدية أكثر من أي وقت مضى تجاوز الإشكال المرجعي المزمن ، إذ إن “الابستميه” المدهش في استمراره منذ القرون الهجرية الاولى الى يومنا – على حد تعبير محمد اركون – يجب أن يخضع للنقد والمساءلة مهما بدا ذلك صعباً أو مستحيلاً .
إقرأ أيضاً: كيف فكَّرَ فلاسفة الإسلام في “أخلاقيات الاعتقاد”؟