المركزيَّة الحيويَّة: قراءة في أخلاقيات البيئة عند بول تايلور

تكوين

إنَّ أكثر التوصيفات دلالة على القرن العشرين أنه قرن الأزمات الكبرى، فقد شهد هذا القرن العديد من الأحداث المأساوية أبرزها الحربان العالميتان وما نتج عنهما من كوارث إنسانية أودت بحياة ما يقرب من ثمانين مليون نسمة. لكن إذا كانت الحروب تهدد مستقبل جماعات عرقية محددة أو أمم ودول بعينها، فإننا اليوم بصدد أزمات جديدة وهي أزمات ومشكلات البيئة التي تهدد ليس دولة أو مجموعة من الدول فحسب، بل تهدد الكوكب بأسره والحياة بمفهومها الأكثر شمولًا الذي يضم كل الكائنات الحية على ظهر هذا الكوكب.

وهناك شبه إجماع على أن الفعل الإنساني هو سبب كل هذه الأزمات، فلقد فرض السلوك الإنساني المتسم بالعنف واللا وعي في تعامله مع عالم الطبيعة والكائنات الحية الأخرى غير الإنسانية العديد من المشكلات والتحديات التي أصبحت تهدد جوهر الوجود الحي بشكل عام، والوجود الإنساني بشكل خاص. فلقد أدت أفعال الإنسان غير الرشيدة النازعة دائمًا نحو السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لتحقيق مصلحته، إلى حدوث الكثير والكثير من الكوارث مثل: ارتفاع نسبة التلوث العالمي الذي أدى بدوره إلى انقراض العديد من الأنواع النباتية والحيوانية والإخلال بالتوازن البيئي، إضافة إلى الاحتباس الحراري الذي أدى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض بما يهدد بذوبان القطبين: الشمالي والجنوبي، وإغراق مساحات كبيرة من الكرة الأرضية، وبالتالي، دمار وفناء الكائنات الحية الإنسانية وغير الإنسانية.

هذا التهديد بالدمار الكلي والشامل يستدعي حلولًا عالمية متعددة المستويات: اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية …. الخ، والسمة الضرورية التي يجب تأكيدها هو أن تتجاوز هذه الحلول النزعات القومية ضيقة الأفق التي لا تفكر إلا في تحقيق المصالح الآنية والعاجلة لبعض الدول، وتغض الطرف عن النظرات المستقبلية المتعلقة بمصير كوكب الأرض وما عليه من كائنات.

أثارت كل هذه التحديات والكوارث انتباه كثيرين من الفلاسفة والمفكرين المهتمين بالشأن البيئي مثل: الفيلسوف الأمريكي بول تايلور Paul Taylor، والنرويجي أرين نيسArne Naess، والفرنسي ميشيل سير Michel Serres، والألماني هانز يوناس  Hans Jonas،  والأسترالي بيتر سنجرPeter Singer، والنمساوي فيرتجوف كابرا Fritjof Capra وكثيرين آخرين. هؤلاء جميعًا وإن اختلفت رؤاهم وتصوراتهم حول تشخيص الداء والدواء، إلا أنهم يشتركون جميعًا في التعبير عن بالغ قلقهم إزاء ما يتعرض له الكوكب من دمار. ويشتركون أيضًا في أنهم يشيرون إلى الإنسان بأصابع الاتهام ويحملونه جميعًا مسئولية حدوث كل هذه الكوارث، لكنهم يعولون على نزوعه العقلي أيضًا في تجاوز هذه الأزمات.

لكن ما تتميز به أطروحات الفيلسوف الأمريكي بول تايلور دون غيرها هو أنه لا ينطلق في تأسيس موقفه الأخلاقي تجاه الطبيعة من الرفض المطلق لكل فلسفات الأخلاق التقليدية: الخير، والمنفعة أو الواجب، ولا يحكم عليها بأنها أخلاق بالية لا تفيدنا في مواقفنا الراهنة. إذ إننا لا نجد لديه نقدًا صريحًا وواضحًا لأبرز مذاهب وفلسفات الأخلاق التقليدية، لكننا نجده يعلن في الوقت نفسه جدة أخلاقيات البيئة وتفردها. لكن هل سيقدم لنا تايلور نسقًا أخلاقيًّا جديدًا مستقلًا تمام الاستقلال عن الأنساق التقليدية بحكم اختلاف التحديات المطروحة علينا الآن؟ أم سيولد نسقه الفلسفي الجديد من رحم فلسفة الأخلاق التقليدية؟ أم ستجمع فلسفته بين الأمرين؟

إضافة إلى ذلك لا يدعو تايلور إلى تأسيس فاشية إيكولوجية تبرر الممارسات المستبدة ضد البشر باسم الحفاظ على البيئة كما هو الحال لدى يوناس مثلًا. بل نجده يصرح في بعض الأحيان أنه يرفض التضحية بالمصالح والاهتمامات الإنسانية لصالح الطبيعة والكائنات الحية الأخرى غير الإنسانية. كما أنه يرفض في الوقت نفسه إفراط الإنسان في استغلاله للطبيعة اللكائنات الحية الأخرى لتحقيق مصالحه واحتياجاته ورفاهيته. ففلسفته هي محاولة للتوفيق بين الاقتضائين: البيئي والإنساني. فهو لا يريد التضحية بطرف لحساب الطرف الآخر.

لكننا سنجد أنفسنا بصدد مجموعة من التساؤلات: هل سينجح تايلور بالفعل في تحقيق هذه الموائمة بين البيئي والإنساني؟ أم أنه سيجد نفسه مضطرًا إلى الانحياز لطرف دون الآخر؟ وألا يتطلب الحفاظ على البيئة الطبيعية ضرورة وضع قيود وضوابط للحد من الممارسات الاقتصادية الرأسمالية التي تستنزف الموارد الطبيعية؟ لكن ألا يعد فرض هذه القيود بمثابة تقليص لحرية الإنسان الاقتصادية  ورفاهيته؟ وإذا كان الأمر يتطلب فرض الضوابط الأخلاقية فكيف ستكتسب هذه القيود والضوابط صفة الإلزام؟ هل يجوز إدراجها ضمن منظومة القوانين التي تكفل حماية الحقوق ولو بالقوة؟ أم أن المسألة لدى تايلور تكمن في تقديم تصورات ومعايير أخلاقية يجب أن يلتزم بها الإنسان احترامًا للحق في الحياة والبقاء؟ وهل سيظل الإنسان تاجًا للخليقة في نسق تايلور الفلسفي، أم سيكون شأنه شأن باقي الكائنات الحية الأخرى؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول مقاربتها في بحثنا هذا. لكن قبل مقاربة هذه التساؤلات سنحاول وضع أيدينا على ما يقصده تايلور بأخلاق البيئة.

تعريف أخلاقيات البيئة

يشير دوجلاس ماكلين Douglas Maclean في القاموس الجديد لتاريخ الأفكار إلى أن أخلاقيات البيئة قد نشأت كفرع ثانوي للفلسفة الأخلاقية بشكل عام، وبالتحديد في بدايات السبعينات، ومع يوم الأرض العالمي، وتكمن أهميتها في أنها قد زادت من الوعي بالمشكلات البيئية المتزايدة ([1]). نلاحظ في هذا النص أن ماكلين لم يقدم تعريفًا واضحًا لأخلاق البيئة، بل أنه ركز على التحديد الزمني لنشأة هذا الفرع المعرفي الذي أصبح يشغل اهتمام الكثيرين، كما أنه يجعل أخلاقيات البيئة تابعة للنظرية الأخلاقية الكلاسيكية في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. وتكمن قيمتها لديه في أنها أثارت وعي الكثيرين بخطورة ما تتعرض لها البيئة من كوارث، وضرورة وضع حد لهذا.

وإذا ما حاولنا معرفة موقف تايلور من هذا التصور سنجده يرفض في البداية فكرة أن أخلاقيات البيئة تابعة لفلسفة الأخلاق التقليدية أو أنها تمثل أحد روافدها، بل أنه يعزو إليها استقلالية معرفية، فهي ” ليست فرعًا ثانويًّا من الأخلاق الإنسانية التقليدية “([2]). بجانب ذلك يضيف تايلور إلى ما قدمه ماكلين تعريفًا واضحًا ومحددًا يوضح فيه مجال عمل واختصاص هذه الأخلاقيات الجديدة، فيقول: ” إن أخلاقيات البيئة هي دراسة للعلاقات الأخلاقية التي تنشأ من تفاعل البشر مع العالم الطبيعي. فمهمتها هي تسليط الضوء على المباديء الأخلاقية التي تحكم هذه العلاقات، والتي تحدد واجباتنا والتزاماتنا ومسئوليتنا تجاه البيئة، وتجاه كل الكائنات الحية التي تقطن هذه البيئة “([3]). تتسم أخلاقيات البيئة لدى تايلور بالجدة novelty، إذ أنها تضع في اعتبارها البيئة الطبيعية والكائنات الحية غير الإنسانية، وتجعلها طرفًا في المعادلة الأخلاقية التي تلزم الإنسان بتحمل مسئولياته تجاهها، وهي بذلك تُدخل موضوعات جديدة على ساحة الفكر الأخلاقي لم تكن مطروحة عليه من قبل.

بهذا المعنى تختلف أخلاقيات البيئة عن الأخلاق الكلاسيكية التي جعلت من الإنسان ومصلحته ورفاهيته محور اهتمامها، واختزلت كل التصورات الأخلاقية في رسم صورة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين البشر، وكذلك تحديد حقوق وواجبات كل منهم تجاه الآخر. هذه التصورات الكلاسيكية هي ما أراد تايلور تجاوزها إلى آفاق أخلاقية أكثر رحابة تضم بين طياتها ليس الإنسان وحده، بل سائر الكائنات الحية الأخرى، وهو ما غاب عن الفكر الغربي منذ عصوره الأولى. لهذا لم يكن مستغربًا أن يستهل تايلور تأسيس نسقه الفلسفي بنقد مركزية الإنسان.

نقد مركزية الذات الإنسانية

أ ـ نقد تايلور لمركزية الذات في الفلسفة اليونانية:

ساد الفكر الغربي منذ بواكيره أطروحة أن الإنسان هو أسمى وأنبل الموجوات، ودعمت الفلسفة والدين والعلم هذا التصور وعززته على مر التاريخ. فها هو بروتاجوراس يعلن في القرن الخامس قبل الميلاد أن ” الإنسان هو مقياس كل الأشياء، فهو مقياس ما يوجد منها وما لا يوجد”. بهذه العبارة أعطى بروتاجوراس للإنسان وحده دون بقية الموجودات حق الحكم على عالم الأشياء وتقرير مصيرها في الوجود من عدمه. ولم يختلف الأمر كثيرًا عند معاصريه سقراط وأفلاطون، فسقراط هو صاحب العبارة المشهورة ” أعرف نفسك بنفسك ودع الطبيعة للآلهة تعرفها ” وبالتالي، تكون الغاية القصوى للمعرفة، من وجهة نظر سقراط، هي معرفة النفس الإنسانية، لأن معرفة الطبيعة لن تفيدنا في شيء، وهو ما يترتب عليه إما إهمال هذه الطبيعة، وإما استغلالها لصالح ترقية المعارف والعلوم الإنسانية.

نفس المعنى هو ما أكده أفلاطون في محاورة فايدروس على لسان سقراط قائلًا: ” لتكن سمحًا معي يا عزيزي فأنا أحب العلم، لكن الريف والأشجار لا ترضى بتعليمي شيئًا “([4]). هكذا نظر أفلاطون أيضا إلى عالم الطبيعة والأشياء على أنه عديم الجدوى وليس له أي قيمة معرفية. ليس هذا فحسب، بل اعتبره أن هذا العالم مرادف لعالم الوهم والظن الذي لا ينطوي على معرفة حقيقية ولا على وجود حقيقي مستقل، بل أنه يمثل صورة باهتة من العالم الحقيقي الذي هو عالم المثل. وهو ما دفع أفلاطون إلى القول بضرورة تحرر الإنسان من هذا العالم الزائل، ومحاولة الإدراك واللحاق بالعالم المثالي الحقيقي.

أما أرسطو فقد قدم في فلسفته شكلًا من أشكال الهيراركية والتراتبية بين الموجودات، قد سُخر الأدنى منها لخدمة الأعلى وتحقيق مصلحته، فالنباتات قد خُلقت للحيوانات، والحيوانات خُلقت للإنسان، وهو ما عبر عنه في كتابه السياسة قائلا: ” لذلك ترى الثمار والحيوانات تكون مادة طبيعية يعرف الناس أجمعون أن يستغلوها ” ([5]). وبهذا يكون أرسطو هو أول من دعا الإنسان لاستغلال مصادر الطبيعة، لكن لا يقصد أرسطو هنا تحقيق الإنسان لمصلحته على حساب الأنواع الأخرى. فالمقصود بالاستغلال هنا هو الاستخدام لحفظ البقاء والنوع، وهو ما أقره أيضًا للحيوانات في تعاملها مع النباتات. فمفهوم الاستغلال الذي يروج له أرسطو ليس مرادفًا للاستغلال بمعناه المعاصر، والذي يقوم في جوهره على الفناء والتدمير كما هو حادث مع عالم الطبيعة اليوم. نستنتج مما سبق أن الإنسان كان بالفعل محورًا لاهتمام فلاسفة اليونان، وكان يحتل المكانة الأولى في تفكيرهم.

لكننا لا يجب أن نتسرع ونفهم من النصوص السابقة أن إعلاء الفلاسفة اليونانيين من شأن الذات الإنسانية العاقلة كان يتم على حساب التقليل من شأن باقي أجزاء الكون. بل على العكس، لقد كانت نظرتهم للإنسان داخل الكون هي نظرة للجزء داخل الكل. كذلك رأى اليونانيون في الكون إلهًا وعزوا إليه نفس كلية عاقلة اعتبروها علة النظام والجمال الموجود بداخله. ووصل الأمر مع أرسطو في كتابه الميتافيزيقا إلى اعتبار الأجرام السماوية جواهر خالدة. وهو ما يعني أن مركزية الذات الإنسانية ومركزية الكون كانا يسيران جنبًا إلى جنب داخل بنية الفلسفة اليونانية، فقد استطاع اليونانيون تحقيق شكلًا من أشكال الانسجام والتوازن بين الإنسان وعالمه.

إن نظرة الفلاسفة اليونانيين الإيجابية للكون، واحتفاءهم البالغ به، وإضفاءهم طابع القداسة عليه، هو ما دفع كثيرين من فلاسفة البيئة المعاصرين إلى المطالبة بضرورة إحياء هذا النموذج اليوناني في التعامل مع العالم الطبيعي، واستلهام أفكارهم ومحاولة ترجمتها إلى مواثيق أخلاقية تحاول رأب الصدع بين الإنسان وعالمه الطبيعي الذي يعيش في كنفه.

هذه النظرة هي ما شددت عليها جابريلا ر. كارون Gabriela R. Carone، عندما نفت فكرة أن الذات الإنسانية كانت وحدها محور اهتمام فلاسفة اليونان، بل رأت أن فكرة الكون كانت تحظى لديهم أيضًا بنفس القدر من الأهمية، فلقد “عزا أفلاطون في محاوراته المتأخرة – تيماوس والجمهورية والسياسي والقوانين – النظام والثبات للكون المحسوس. فالكون نفسه في هذه المحاورات قد مُنح بحياة وعقل خاصين به “([6]). ولا تختلف نظرة يوناس عن نظرة كارون، إذ شدد مثلها على إبراز قيمة الكون والعالم الطبيعي في الفلسفة اليونانية، لكنه يضيف إلى نظرة كارون فكرة أن الكون لم يُمنح فقط العقل والحياة مثله مثل الذات الإنسانية، بل إن النظرة إليه تجاوزت هذه الصفات الإنسانية وصولًا إلى مرحلة الإله، وهو ما يعني لدى يوناس أن نظرة الفلاسفة اليونانيين للكون كانت أسمى من نظرتهم للإنسان”فهذا العالم المادي الذي يُطلق عليه الكون قد تم اعتباره إلها”([7]).

لكن تقف في وجه هذه الرؤى التي تنفي عن فلاسفة اليونان نزوعهم المحض نحو مركزية الذات الإنسانية، وتؤكد على اهتمامهم بالعالم الطبيعي والكون أسوة بالإنسان العديد من الفلسفات والتصورات الأخرى. إذ نرى تايلور يرجع بداية وأصول فكرة مركزية الذات الإنسانية وأسبقيتها على باقي الموجودات إلى فلاسفة اليونان. فهم، في تصوره، أول من قدموها إلى الحضارة الغربية، عندما نسبوا العقل والفكر إلى الإنسان وحده دون باقي الموجودات، وهو ما ترتب عليه انفصال الإنسان عن عالمه الطبيعي وعن باقي الموجودات لشعوره بالتفوق والامتياز والسمو ” إن السمو المتأصل للبشر على الأنواع الأخرى كان متضمنًا في تعريف فلاسفة اليونان للإنسان بأنه حيوان عاقل. فالعقل قد تمت رؤيته ليس كشيء جوهري وفريد فحسب، بل على أنه يمنح الإنسان نوعًا من الجدارة والاستحقاق، ويعطي له قدرًا من النبل والكرامة التي تغيب عن باقي الموجودات غير العاقلة “([8]).

ولم يقف تايلور عند حد توضيح فكرة أن الإعلاء من شأن العقل – في الفلسفة اليونانية – كان سببًا من أسباب انفصال الإنسان عن باقي الأنواع فحسب، بل يمضي لأبعد من ذلك حينما يوضح أن فكرة امتلاك الإنسان وحده للعقل قدمت لهؤلاء الفلاسفة المبررات لاحتقار وتشويه كل جوانبنا التي نشترك فيها مع الحيوانات مثل: الغريزة والرغبة والعاطفة. فهو يرى أن الفلسفة اليونانية دعت لقمع كل ما حيواني في الإنسان، ليبقى الإنسان لديهم عقلًا محضًا لا تلوثه الصفات الحيوانية، إذ ” ساد الفلسفة اليونانية اعتقادًا بأن العقل هو الذي يجب أن يتحكم في المشاعر والرغبات (…) فهو السيد على طبيعتنا الحيوانية “([9]).

ويكمن الخطر الأكبر الناتج عن عزو العقل للإنسان وحده، حسبما يرى تايلور، في الأبعاد الأخلاقية المترتبة على هذا التصور، والتي روجت لفكرة أن الإنسان وحده بفضل امتلاكه للعقل يجب أن يسعى إلى تحقيق سعادته ومصلحته وخيره ورفاهيته ولو على حساب باقي الموجودات الأخرى ” فقد ربطت مركزية الذات الإنسانية لدى اليونانيين فكرة الخير الإنساني بالعقل فقط، فمن خلال العقل نستطيع أن نحقق إنسانيتنا الكاملة ووجودنا الحسن “([10]). إن امتلاك الإنسان للعقل جعل اليونانيين يقصون المفاهيم الأخلاقية عن باقي الموجودات غير الإنسانية، لأنها لا تمتلك هذا الجوهر الذي يمكنها من تحقيق خيرها.

لكن يستنكر تايلور تصورات فلاسفة اليونان، ويرى أنها لا تقوم على أي أسس عقلانية. فلا يوجد أي مبرر لمنح الإنسان قدرًا من الكرامة والسمو بفضل امتلاكه للعقل، لأننا ” إذا سألنا لماذا يعطينا العقل استحقاقًا أعظم فلا نجد إجابة شافية “([11]).

على أية حال، ليس تايلور وحده من يشير بأصابع الاتهام إلى فلاسفة اليونان لأنهم أسسوا لمبدأ مركزية الذات الإنسانية، بل يتفق معه كثيرون في هذا الرأي. إذ ينفي كيفين ديلاب Kevin Delapp عن اليونانيين فكرة أنهم كانوا يعزون للأشياء غير الإنسانية قيمة متأصلة ومحايثة وخاصة بها في حد ذاتها، أو حتى مستقلة عن تقييم البشر لها. بل يرى أنهم عندما فعلوا، فكان ذلك نابعًا من إيمانهم بقيمة الإنسان وحده. ويدلل ديلاب على صحة تصوره هذا بموقف الفيثاغوريين من الحيوانات، إذ يقول: ” لقد قدم التقليد الفيثاغوري بعض الاعتبارات الأخلاقية بخصوص الحيوانات، وحرم التعرض لها بالإيذاء. لكن ما يجب أن نضعه في اعتبارنا هو أن هذه الفلسفات لم تعز للحيوانات أي قيمة خاصة بها، بل إن دفاع فيثاغورس عنها كان مبنيًا على الأساس الميتافيزيقي لعقيدة التناسخ، وإيمانه بأن الأرواح الإنسانية تتجسد فيها. وهو ما يعني أن المعاملة الأخلاقية للحيوانات قد بُنيت لدى فيثاغورس على مركزية الذات الإنسانية “([12]).

لم يبرز ديلاب ارتكاز الفلسفة اليونانية على مركزية الذات الإنسانية فحسب، بل يمضي لأبعد من ذلك حينما يسم مركزية الذات هذه بأنها كانت عنصرية ومتطرفة، لأنها قامت على الإقصاء والتحقير والتقليل من شأن كل إنسان ليس يوناني. وبالتالي، يستنكر ديلاب بالتأكيد موقفها من الموجودات الأخرى غير الإنسانية وهذا ما وضحه قائلًا: ” عرف أرسطو الأجانب في كتابه السياسة بأنهم عبيد، لأن جوهرهم مؤسس على أجسادهم المادية ولا يتأسس على العقل (…) كذلك رفض أرسطو أن يعزو أي اعتبارات أخلاقية تجاه الموجودات غير البشرية “([13]).

نحن إذن أمام تصورين على طرفي نقيض إزاء موقف فلاسفة اليونان من مسألة الإنسان والكون. ينفي أنصار الفريق الأول عن هؤلاء الفلاسفة تأسيسهم لمركزية الذات الإنسانية في الفلسفة، كما يرفضون أيضًا الاتهام الموجه إليهم بأنهم لم يعطوا كل اهتمامهم إلا للإنسان وحده دون سائر الموجودات الأخرى. وشدد أنصار هذا الفريق على فكرة أن الكون والعالم الطبيعي قد حظيا لدى هؤلاء الفلاسفة بنفس القدر من الأهمية التي حظي بها الإنسان بل وأكثر. إذ نسب اليونانيون للكون صفات لم ينسبوها للإنسان عندما اعتبروه إلهًا. ولم ير هؤلاء في العقل ميزة ترفع من شأن الإنسان على باقي الموجودات، لأن الكون كله ممتلئ بالعقل والحياة والقداسة.

في الجهة الأخرى، يُحمل أنصار الفريق الثاني فلاسفة اليونان مسئولية تأسيس مركزية الذات الإنسانية، فهم أول من نسبوا العقل للإنسان وحده، وانتزعوه عن سائر الموجودات الأخرى، وهو ما برر التصور السائد بأن الإنسان أسمى من كل المخلوقات، وهو ما اعتبروه سببًا في إحداث فجوة بين الإنسان والكون، هذه الفجوة هي ما ترتب عليها حدوث كل الكوارث البيئية المعاصرة.

لكن نظرة مدققة على إنجازات فلاسفة اليونان تجعلنا أكثر تأييدًا لآراء أنصار الفريق الثاني، فمعظم كتابات فلاسفة اليونان بشكل عام، وكتابات أفلاطون وأرسطو بشكل خاص، تدور حول معالجة القضايا المتعلقة بالإنسان. إذ نجد تركيزا على البعد الأخلاقي الذي تمثل في البحث عن مفاهيم العدالة، والشجاعة، والفضيلة، والسعادة، والخير، والشر. وكذلك البعد السياسي التي تمثل في البحث عن مفاهيم الفرد والدولة والمجتمع والدساتير والقوانين، والمواطن الصالح، وأشكال الحكومات. والبعد التربوي الذي تمثل في البحث عن أفضل الطرق والمناهج لإعداد المواطن. والبعد المعرفي الذي تمثل في البحث عن نظريات المعرفة الإنسانية، والمنطق، إضافة إلى فهم ومعرفة العالم الطبيعي.

وهذا يدل على عنايتهم الفائقة بالإنسان، وليس في هذا ما يجعلهم محل نقد أو موضع اتهام.  فالإنسان وحده هو الكائن الوحيد الذي يمتلك العقل، وبفضل امتلاكه له قد تحرر من هيمنة وسيطرة الطبيعة عليه، واستطاع تشييد الحضارة والتاريخ، وتطوير العلوم والفنون والآداب، وبناء المجتمعات الإنسانية التي ينبغي أن تقوم في جوهرها على المحبة والعدالة والحرية والمساواة. نعم، إننا نواجه اليوم أزمات نتجت عن الإفراط وإساءة الاستغلال للعالم الطبيعي، وهو ما يستدعي إعادة المراجعة لعلاقتنا بهذا العالم والكائنات الحية مرة أخرى، لأننا إذا استمرينا على هذا المنوال سندمر وجودنا الإنساني. لكن العقل الذي هو حكرًا على الإنسان وحده أصبح مدركًا لكل هذا وسيقوم بتصحيح المسارات مرة أخرى.

على أية حال، لم يقف نقد تايلور عند مركزية الذات الإنسانية في الفلسفة اليونانية، بل إن الأخطر، من وجهة نظره، هو انتقال هذه النظرة إلى المسيحية التي أضفت عليها هالة من التقديس عندما سبغتها بالنصوص الدينية المؤيدة لسمو الإنسان على باقي الموجودات.

ب ـ نقد تايلور لمركزية الذات الإنسانية في التقليد اليهودي – المسيحي:

يستهل تايلور نقده لمركزية الذات الإنسانية في التقليد اليهودي – المسيحي بنقد مصطلح شاع استخدامه كثيرًا في حقبة العصور الوسطى، وهو مصطلح السلسلة العظمى للوجود the great chain of being. والكون، وفقًا لهذا المصطلح، مكون من سلسلة لا متناهية من الموجودات، تحكم علاقتها الحتمية والهيراركية التي لا تتغير ولا تتبدل. وتبدأ هذه السلسلة بالأسمى، وتنتهي بالأدنى، وهو ما رأى فيه تايلور تدعيمًا لمركزية الإنسان وسموه على باقي الموجودات التي تليه في الترتيب داخل هذه السلسلة. وهو ما اعتبره زيادة للفجوة بين الإنسان وباقي الخليقة. هذا المعنى هو ما أبرزه عندما رأى أن هذا المصطلح ” يشير إلى أن كل موجود لديه مكانه المحدد داخل هذه الهيراركية المطلقة للموجودات التي تمتد من الأكثر كمالًا إلى الأكثر نقصًا. البداية بالله في القمة، ثم رؤساء الملائكة، ثم الملائكة، ثم البشر، ثم الحيوانات، ثم النباتات، وتنتهي بالمادة في القاع “([14]).

لكن لا يمكن اختزال مصطلح السلسلة العظمى للوجود في التصور السلبي الذي أبرزه تايلور، إذ يحمل هذا المصطلح بين طياته العديد من الدلالات الإيجابية أيضًا. فهو يصف الكون بثلاث سمات أساسية هي: الوفرة والاستمرارية والتدرج. فالوفرة تشير إلى امتلاء الكون إلى حده الأقصى بأنواع الموجودات. وتؤكد الاستمرارية على أن هناك ترابطًا بين كل حلقات السلسلة، فرغم اختلافها، تشترك كل حلقة مع الأخرى على الأقل في صفة ما. أما التدرج فمعناه أن هذه السلسة تسير في نظام تراتبي يبدأ بالأنواع الأدنى للوجود وصولًا للأسمى ([15]). نلاحظ هنا أن ثمة اختلاف جذري بين توصيف تايلور لمصطلح السلسلة العظمى للوجود، وما ورد عن هذا المصطلح في الموسوعة البريطانية. فدلالته في الموسوعة تشير إلى التلاحم والترابط بين كل حلقات السلسلة من بدايتها (الله) إلى نهايتها (المادة)، فالسلسلة كلها مشمولة ومحاطة بالعناية الإلهية. أما لدى تايلور فهو يشير إلى الانفصال والشقاق بين الله والإنسان من جهة، وباقي أجزاء الكون من جهة أخرى. هذا الانفصال قد ترتب عليه عداوة ضارية بين الطرفين، وذلك ” لأن البشر هي الموجودات الوحيدة المخلوقة على صورة الله ومثاله، فقد تم وضعها في مكانة أسمى في ميزان الوجود، ومُنحوا المباركة الإلهية للسيطرة وإخضاع باقي المخلوقات “([16]). هذا التمايز المبني على أسس دينية بين الإنسان وباقي الموجودات هو ما رفضه تايلور ساخرًا عندما قال: ” لو أننا تبنينا مواقف النباتات والحيوانات، سنرى أن الله غير رحيم وغير عادل لأنه تحيز لنوع على حساب باقي الأنواع الأخرى “([17]).

لكننا نلاحظ أن نقد تايلور للتبريرات الدينية لتمايز الإنسان عن باقي الموجودات في التقليد اليهودي – المسيحي لا يرتكز على أسس دينية صريحة بقدر ما يرتكز على تصورات ومصطلحات فلسفية محضة. إذ لم يتعرض تايلور بالنقد للآيات التي وردت في العهدين: القديم والجديد كما فعل آخرون. كما أننا لا نجد لديه أي نقد صريح أو ضمني لموقف فلاسفة المسيحية بهذا الخصوص. في حين إن كثيرين من فلاسفة البيئة كانوا أكثر وضوحًا عندما ركزوا جل اهتمامهم على إبراز دور التقليدين اليهودي والمسيحي في الترسيخ لأزمة البيئة.

ليس هذا فحسب، بل إن هناك كثيرين تنبوا وجهة النظر المضادة عندما رأوا في الكتاب المقدس وسيلة ناجزة للخروج من هذه الأزمة. وسوف نعرض لآراء هؤلاء الفلاسفة حتى نضع أيدينا على مدى الإضافات التي أضافوها إلى تايلور في هذا الشأن، وحتى تكتمل أمام القارئ الكريم تفاصيل موقف التقليد اليهودي – المسيحي من أزمة البيئة ومحاولة إيجاد حل لها.

ورد في الآية السادسة والعشرين من الإصحاح الأول من سفر التكوين ما يلي ” وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض (…) وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها “. تقدم هذه الآية، حسبما يرى كثيرون من فلاسفة البيئة مفهومين كانا لهما أكبر الأثر في الترسيخ لمركزية الذات الإنسانية. هذان المفهومان هما: التسلط والإخضاع بالقوة للأرض ولكل ما عليها من كائنات لتحقيق راحة الإنسان ومصلحته، بحجة أنه المخلوق الوحيد على صورة الله ومثاله. مثل هذه الآيات هي ما جعلت المفكر الأمريكي لين وايت Lynn White يشير إلى المسيحية بأصابع الاتهام والمسئولية عن أزمة البيئة ” إن المسيحية هي الديانة الأكثر تأسيسًا لمركزية الذات الإنسانية في العالم “([18]).

أما فيلسوف البيئة الشهير بيتر سنجر Peter Singer فيشدد على بعد آخر، وهو أن كتابات أهم فلاسفة المسيحية مثل: أوغسطين والأكويني قد اتخذت موقفًا عدائيًّا تجاه البيئة والعالم الطبيعي. ويرى أن هذا الموقف العدائي مشتق بدوره من الكتاب المقدس ” فتفسير القديس أوغسطين لبعض آيات العهد الجديد الخاصة بتدمير السيد المسيح للعالم الطبيعي مثل: شجرة التين وقتل الخنازير يعلمنا أنه عندما نمتنع عن قتل الحيوانات وتدمير النباتات فهذا شكل من أشكال الخرافة “([19]).

كذلك فالقديس توما الأكويني عند تفسيره لمعنى الخطيئة يستثني من مجالها كل ما لا يتعلق بالموجودات البشرية، وهو ما يعني أن أي فعل عنيف تجاه الموجودات غير البشرية لا يوسم بالإثم، وهو ما أكده سنجر قائلًا: ” يرفض الأكويني اقتراف الخطايا ضد الله وضد أنفسنا وضد رفاقنا، لكن ليس هناك مجال للحديث عن اقتراف الخطايا ضد الحيوانات أو ضد العالم الطبيعي “([20]). إن ما يشدد عليه سنجر هنا هو أن المسيحية برمتها: عقيدة وفلسفة قد غلب عليها طابع الكراهية الشديدة للعالم، فهي تقوم في جوهرها على معاداة هذا العالم الذي رفضه ومقته السيد المسيح قائلًا: ” لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم “. وكذلك قوله: ” مملكتي ليست من هذا العالم “. فالعالم، من وجهة نظر المسيحية، ما هو إلا محطة انتظار يجاهد الإنسان للتحرر منها لبلوغ العالم السمائي، أو على حد التعبير المسيحي نفسه السمائيات عوض الأرضيات الفانيات.

لكن إذا كان وايت وسنجر وآخرين قد رأوا أن التقليد اليهودي – المسيحي قد حمل المبررات الدينية لمركزية الذات الإنسانية التي تجعل الإنسان ذو الجوهر الروحاني والمخلوق الوحيد على صورة الله ومثاله أسمى من باقي المخلوقات، فإننا نجد في المقابل أن كثيرين من المهتمين بقضايا البيئة والذين يبحثون عن إيجاد حلول لها، يحاولون رد الاعتبار مرة أخرى للرؤية المسيحية للعالم. مؤكدين، في المقابل، على أن المسيحية لم تؤسس لتعالي الإنسان وسموه عن العالم وباقي المخلوقات، بل إن العناية الإلهية قد شملت ليس الإنسان وحده، بل كل الكائنات الحية على وجه المعمورة. فالسيد المسيح قد اهتم واعتنى بأشياء العالم الطبيعي، ولهذا يجب أن نحذو حذوه ونتخذ من أفعاله مرشدًا لنا يلهمنا في التعامل البناء مع الطبيعة.

إذ يرسخ روبن أتفيلد Robin Attfield لهذا التوجه انطلاقًا مما جاء في سفر المزامير، وبالتحديد في المزمور مائة وأربعة الذي ورد فيه أن الله هو المفجر لعيون في الأودية تسقي كل حيوانات البر، وهو المنبت عشبًا للبهائم، وخضرة لخدمة الإنسان. ولا يقف أتفيلد عند تبرئة العهد القديم مما لحق به من اتهامات، بل إنه يبرأ العهد الجديد أيضًا من تهمة عدم عناية الله بالموجودات غير البشرية. ويدلل على ذلك بما ورد في إنجيل متي (الإصحاح 6: آية 26) من أن الله يعتني بالعصافير وزنابق الحقل([21]). إذ تقول هذه الآية: ( أنظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها ). صحيح أن الآية تؤكد هنا أفضلية الإنسان على باقي الموجودات، لكنها لا تنكر في نفس الوقت عناية الله ببقية المخلوقات. مثل هذه الآراء هي ما جعلت ماكس أولشليجر Max Oelschlaeger يصل إلى حكم حاسم لا لبس فيه وهو أنه ” لن يكون هناك حل لأزمة البيئة بعيدا عن الدين “([22]).

لكن إذا كان البعض يعزون للأديان دورًا محوريًّا في حل مشكلات البيئة، فسيكون السؤال عن مدى حدود هذا الدور وقدرته على الخروج من هذه الأزمات والتحديات. ومن جهتنا، نعتقد أن دور الدين سيكون محدودًا جدًّا في المشاركة في تقديم الحلول. إذ سيرفض رجال الدين تصورات فلاسفة البيئة، وخاصة فكرة أن للطبيعة نفسًا أو روحًا حية أو حتى قيمة متأصلة فيها ومساوية لقيمة الإنسان، أو أنها تسعى إلى تحقيق خيرها الخاص. فكثير من النصوص الدينية ستقف عائقًا في وجه هذه التصورات. ففكرة الطبيعة على حد تعبير مالبرانش هي فكرة ” معادية للمسيحية أو هي ضد المسيحية على الأصالة “([23]).  لذا ستنصب كل جهود رجال الدين على رصد الآيات التي تبرز عناية الله بعالم الأشياء والكائنات الحية غير الإنسانية، وهو أمر لاحظناه في كثير من الكتب والمقالات المهتمة بهذه المسألة. كذلك لن يطرح رجال الدين نسقًا أخلاقيًّا جديدًا ويقدمونه على أنه البديل الضروري للأخلاق القائمة على مركزية النزعة الإنسانية، ولن ينادوا أيضًا بضرورة تغيير النظم الاقتصادية والسياسية كإجراء حتمي لوقف استنزاف الموارد الطبيعية. وكما ذكرنا من قبل، أن عالمية المشكلات والتحديات تتطلب حلولًا عالمية تتجاوز النظرات الضيقة والمتعصبة أحيانًا، في حين ينحصر تأثير الدين في فئة محددة ولا يتخطاها وهم المؤمنون بهذا الدين، ولهذا قد ينعدم تأثيره لدى أصحاب الديانات الأخرى وغير المؤمنين.

لكن إذا غاب عن تايلور تركيز الضوء على أزمة البيئة من منظور ديني متكامل، فإننا نجده يوجه نقدًا أكثر تركيزًا للثنائية الديكارتية ويحملها القدر الأكبر من المسئولية عن هذه الأزمات.

ج ـ نقد تايلور لمركزية الذات الإنسانية في الفلسفة الديكارتية:

لم ينل فيلسوف قدرًا من النقد من قِبَل فلاسفة البيئة بقدر ما نال ديكارت. إذ يشير كل فلاسفة البيئة إلى الفلسفة الديكارتية بأصابع الاتهام ويحملونها جميعا المسئولية عن ما آلت إليه النظرة المتردية إلى العالم الطبيعي. فهم يرون أن الديكارتية قد اختزلت العالم في مستودع كبير مطروح للاستهلاك، ويجب على الإنسان تسخيره واستغلاله لتحقيق مصلحته ورفاهيته. هذه النظرة الاستغلالية وما ترتب عليها من أثار سلبية غيرت من نمط تعامل الإنسان مع عالمه الطبيعي هي ما انتقدها الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير قائلًا: ” لقد غذت الفلسفة الديكارتية عالم السيادة، وجعلتنا نتخلى عن عقولنا ونتمسك بهزيمة العالم (…) فأصبحت علاقتنا الأساسية بعالم الموضوعات هي الحرب والملكية “([24]). إن ما يرفضه ميشيل سير هنا ليست فقط رؤية الديكارتية الاستغلالية للطبيعة، بل دورها المؤثر أيضًا في تحول العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة إلى علاقة هيمنة وسيطرة وإخضاع للاستحواذ على مواردها لصالح الإنسان. فهذا سيؤذن في النهاية بأفولها، وبالتالي، أفول الإنسان المعتمد عليها كلية في وجوده وبقاءه.

بالفعل، هناك العديد من الشواهد الديكارتية التي تعزز فكرة السيطرة الواضحة على الطبيعة وتدعو إلى تسخيرها لصالح الإنسان، وهذا ما تؤكده نصوص ديكارت نفسه التي يدعو فيها إلى الإعلاء من شأن الفلسفات العملية لتحقيق هذا الغرض، فبدلا من ” الفلسفة النظرية التي تُعلم في المدارس، فإنه يمكن أن نجد عوضًا عنها فلسفة عملية، (…) وبذلك نستطيع أن نجعل أنفسنا سادة ومسخرين للطبيعة. وهذا جدير بأن يُرغب فيه لابتداع ما لا يحصى من المصنوعات التي تجعل المرء ينعم بدون جهد وبكل ما فيها من أسباب الرفة، بل ولأجل حفظ الصحة أيضا “([25]). إن ما يطالب به ديكارت هنا هو ضرورة الربط بين الفلسفة والعلوم، بحيث يكون للفلسفة مردود علمي وعملي، ويصبح لها دورا مؤثرا وفعالا في حياة البشر والمجتمعات، بدلًا من تلك الفلسفات الإسكولائية التي لم تفد البشر في شيء.

لكن إذا كان ديكارت قد شدد في نصه السابق على ضرورة التخلي عن إرث الفلسفة التأملية: اليونانية والوسيطة لبلوغ التطور والتقدم، فإننا نجد تايلور يرى ثمة تشابه بين الديكارتية والفلسفة اليونانية في موقفهما من مركزية الذات الإنسانية. فالديكارتية تمثل، من وجهة نظر تايلور، شكلًا متطرفًا من الفلسفة اليونانية، وخاصة أنها لا تعزو العقل إلى الموجودات البشرية وحدها شأنها شأن الفلسفة اليونانية، بل تزداد في تطرفها عندما تنظر إلى الحيوانات والكائنات الحية الأخرى على أنها الآلات. هذه النظرة الآلية للحيوانات والكائنات الحية الأخرى هي ما رفضها تايلور ” إن الحيوانات لدى ديكارت لا تختلف جوهريًّا عن الأجسام غير الحية، ونفس الشيء ينطبق على النباتات، فكلاهما أشياء مادية غير قادرة على الحياة الواعية “([26]). إن تايلور المؤسس لنظرية المركزية الحيوية biocentrism يرفض إحالة الحيوانات والكائنات الحية الأخرى إلى الآلات، كما يرفض أيضًا نزع الوعي والغرضية عنها. مؤكدًا على أنه لا يوجد فارق بين الإنسان والحيوان والكائنات الحية الأخرى في النوع، فالكل لديه نتاج لتطور بيولوجي طويل بدأ من الكائنات وحيدة الخلية وصولًا إلى الإنسان. الفارق لديه إذن ليس في النوع، بل في درجة الوعي. وهكذا يرد تايلور الاعتبار للكائنات الحية والحيوانات مرة أخرى بعدما جردتهما الديكارتية من أي اعتبار.

لا يتوقف الأمر مع فيلسوف البيئة الأسترالي بيتر سنجر عند حد عزو الوعي والغرضية إلى الكائنات الحية عامة، وإلى الحيوانات خاصة. بل يذهب سنجر لأبعد من ذلك حينما ينسب لبعض الحيوانات أخص خصوصيات الإنسان مثل: العقل والكلام. وهو ما يعني أنه لا يوجد لدى سنجر فارق بين الإنسان والحيوان، لا في النوع ولا في درجة الوعي والعقل. حيث ” تستطيع بعض القردة أن تتواصل معنا باستخدام اللغة الإنسانية (…) فإخفاق المحاولات السابقة لتعليم الشمبانزي الكلام كان راجعًا لافتقادها ليس للعقل، لكن للإعدادات الصوتية اللازمة لإنتاج أصوات اللغات الإنسانية “([27]).

وجود الوعي والغرضية لدى الكائنات الحية غير الإنسانية هو ما دفع تايلور إلى نفي تهمة الآلية عنها. فلقد سعى جاهدًا إلى توضيح وجه الاختلاف الجوهري بين الآلات والكائنات الأخرى” ليس للآلات خير خاص تسعى إلى تحقيقه، بل إن أهدافها وأغراضها قد وُضعت فيها بواسطة الإنسان، فهي ليست كالموجودات الحية المستقلة، في حين إن النباتات والحيوانات لديها خيرها الخاص بنفس المعنى الذي يمتلك به البشر خيرهم الخاص “([28]). ليس تايلور وحده هو من سعى إلى كشف هذا الاختلاف بين الكائنات الحية والآلات، بل سعت إليه أيضًا فيلسوفة الأخلاق الإنجليزية ماري مدجلي Mary Midgley بطريقة ساخرة عندما تساءلت” هل يمكن للسيارة إيجاد طريقها للمنزل بمفردها؟ وهل للمنبه أن يصدر صيحات الإنذار والتنبيه عندما يتعرض للخطر “([29]). ما يؤكد عليه تايلور ومدجلي هو مساواة الكائنات الحية للإنسان حتى في الصفات التي كان يُعتقد من قبل أنها من صميم وأخص خصائص الإنسان وحده.

إذن الفكرة الأساسية والمحورية في فلسفة تايلور الأخلاقية هي رفض السمو الإنساني على باقي الكائنات. وهذا ما دفعه إلى اقتراح نموذج جديد للحياة على كوكب الأرض، ليس انطلاقًا من مركزية وسمو الإنسان كما هو الحال في فلسفات الأخلاق السابقة، بل انطلاقًا من فكرة تكامل الإنسان وتعايشه مع الكائنات الحية الأخرى في الوسط البيئي الذي يكتنف بظله، إذ إننا ” لدينا قرابة عميقة مع الكائنات الحية الأخرى، ونشترك معهم في العديد من السمات، فمثلنا مثلهم أجزاء مكملة لكل واحد عظيم يشكل النظام الطبيعي للحياة على كوكبنا”([30]).

هذا النموذج الجديد لدى تايلور مبني على الوحدة العضوية والتكافلية بين كل الكائنات الحية، وهو مغاير تمامًا للنموذج الديكارتي المبني على الثنائية والانقسام بين الإنسان وباقي المخلوقات والعالم. إن الثنائية الديكارتية، من وجهة نظر تايلور، هي بذرة الانحلال التي تسربت إلى فلسفة القرن السابع عشر، وأسست النظرة الآلية للعالم، وفصلت الإنسان عن كل ما حوله من أشياء. وهذا ما دعاه إلى استكمال مهمته النقدية على هذه الثنائية، باعتبارها تمثل انحرافًا عن مسار التفكير الفلسفي السليم الذي يجب أن يضع في اعتباره أولوية العالم الطبيعي والحياة بمفهومها الشامل لكل الكائنات.

فوفقًا لهذه الثنائية يتكون الإنسان، لدى ديكارت، من جوهرين متضادين ومتمايزين تمام التمايز وهما: النفس والجسد. تتسم النفس بالخلود والبساطة والوضوح، وهي مستقلة بذاتها في الوجود والمعرفة، وهي توجد وتعرف حتى بدون وجود الجسد. جوهر النفس هو الفكر، أو على حد تعبير ديكارت هي الجوهر المفكر، أما الجسد فهو جوهر ممتد، ويخضع لكل قوانين المادة مثل: الحركة، والسكون، والامتداد، والقسمة، والعد، والتجزئة. هذا التمايز الحاد بينهما هو ما أبرزه ديكارت قائلًا: ” لما كانت النفس لا تعتمد في وجودها على الجسم ويمكن أن توجد بدونه فإنها لا تنطبق عليها صفاته ذاتها، أي، أنها لا تقبل القسمة ولا توجد في مكان، إنها خالدة في حين أن الجسد فانٍ “([31]).

إن ثنائية النفس والجسد ليست تصورًا مستحدثًا أتت به الفلسفة الديكارتية، بل يحفل تاريخ الفلسفة بالثنائيات منذ بداياته، فلقد نادى أفلاطون وأرسطو ومعظم فلاسفة العصور الوسطى بالتمايز بينهما، وجميعهم قالوا بخلود النفس وفناء الجسد. لكن ما تتميز به الثنائيات القديمة على الثنائية الديكارتية هي أنها لا تقوم في جوهرها على التعارض المطلق بين قطبي الثنائية، بل إنها ثنائيات تكاملية تقوم على التعاون بين النفس والجسد، وإن كانت تعلي من شأن الأول على حساب الثاني. فأرسطو، على سبيل المثال، قد وصف النفس بأنها علة الحركة في الكائنات الحية، وهي تعد للجسم بمثابة الصورة من المادة. وبالتالي، فالنفس وإن كانت متميزة عن الجسد، إلا أنها غير منفصلة عنه. أما الثنائية الديكارتية فهي ثنائية تعارضية تقوم على الانفصال التام والجذري بينهما، فلا سبيل للاتصال والتعاون. هذا الانفصال الحاد بين النفس والجسد هو ما أثار العديد من المشكلات الميتافيزيقية عن كيفية حدوث التفاعل بين جوهرين متمايزين تمام التمايز، إذ يتساءل تايلور ” كيف يمكن للامادي أو اللاممتد أن يحدث تغيرات في الحالة المادية لشيء في المكان؟ “([32]). ما يريد أن يقوله تايلور هنا هو إن انفصال النفس عن الجسد قد ارتبط بانفصال النفس عن العالم والكائنات الحية الأخرى. فامتياز الإنسان بسبب امتلاكه للنفس فصله عن جسده وعن العالم وبرر له هيمنته عليه لأنه لا يمتلك مثل هذا الوعي والفكر.

لكن لا يمكن اختزال المشكلات الناجمة عن الثنائية الديكارتية في الأبعاد الميتافيزيقية فقط، بل ينبهنا الفيلسوف وعالم الفيزياء النمساوي فريتجوف كابرا إلى أن خطورة هذه الثنائية تمتد إلى المجالات البيئية والسياسية والاقتصادية والدينية، ويحمل كابرا الثنائية الديكارتية مسئولية حدوث كل هذه الكوارث العالمية ” فالانقسام الداخلي للإنسان إلى نفس وجسد يعكس رؤية للعالم الخارجي على أنه مجموعة من الموضوعات والأحداث المنفصلة. فالبيئة الطبيعية تمت معاملتها كما لو كانت متكونة من أجزاء منفصلة يجب استغلالها بواسطة جماعات المصالح المختلفة. والرؤية المتشظية امتدت أيضًا إلى المجتمع الذي انقسم إلى أجناس وديانات وجماعات سياسية متناحرة “([33]). ما يشدد عليه كابرا هو أن انقسام وانفصال الإنسان الداخلي قد ترتب عليه انقسام وانفصال خارجي بين الإنسان نفسه وعالم الموضوعات.

لكن رغم هذه المخاطر، يبقى الخطر الأكبر هو ما يترتب على هذه الثنائية من نظرة للعالم، فالعالم وفقًا للثنائية الديكارتية جوهر ممتد، لذا فقد تم إحالته إلى القوانين الآلية الميكانيكية فهي وحدها الكفيلة بتفسيره. وهذه القوانين لا تتعامل مع الأشياء إلا بمنطق التفسيرات الكمية الخالية من أي حياة، وهو ما برر للإنسان صاحب الجوهر المفكر فرض هيمنته وسيطرته على العالم لمعرفة قوانينه لترويضه واستغلاله. هذه النظرة الميكانيكية الخالصة للعالم هي ما انتقدها كابرا ” لقد أجازت الثنائية الديكارتية للعلماء أن يتعاملوا مع المادة باعتبارها شيئًا ميتًا ومنفصلًا عنهم. فالعالم المادي بالنسبة لهم هو مجموعة من الموضوعات المُجملة في آلة ضخمة ويجب فك شفراتها لمنفعة الإنسان “([34]). يرفض كابرا نظرة ديكارت الآلية للعالم. ويؤكد، في المقابل، في كل كتاباته على أن الكون كله ممتلئ بالحياة، فالكون يشبه الشبكة الكبيرة التي تجمع خيوطها كل الكائنات الحية معًا، ويؤثر كل فعل من أفعال الكائنات الحية على باقي أفراد الشبكة.

على أية حال، ليست التصورات الفلسفية وحدها هي من تصدت لأخطاء الثنائية الديكارتية ورؤيتها للعالم والكائنات الحية الأخرى، بل إن النظريات العلمية الحديثة والمعاصرة قد قوضت الرؤية الديكارتية، وأكدت بما لا يدع مجالًا للشك أن ثمة قرابة بين الإنسان والحيوان. فالإنسان، من منظور علوم البيولوجيا، هو نتاج لتطور بيولوجي طويل بدأ في التدرج من البسيط إلى المعقد، وهو ما يعني انتفاء التمايز بين المملكتين: الإنسانية والحيوانية. فالإنسان يمثل حلقة من حلقات سلسلة المملكة الحيوانية. هذا الدور البارز لعلوم البيولوجيا في تقويض مركزية الإنسان هو ما أبرزه تايلور عندما وضح أنه ” عندما نضع في اعتبارنا المعارف المكتسبة الخاصة بالأصول التطورية للحياة الإنسانية، إضافة إلى معارفنا بالكيمياء الحيوية والتغيرات الجزيئية بيننا وبين الحيوانات سندرك مدى القرابة بطريقة لا يمكن إنكارها “([35]). ولا تقتصر هذه القرابة بين الإنسان والحيوان لدى دارون على التشابه في البنية الجسدية فقط، بل تمتد لتشمل القرابة في المشاعر أيضًا ” فالحيوانات الأدنى مثلها مثل الإنسان تشعر باللذة والألم وبالسعادة والبؤس “([36]). هكذا يتآزر العلم والفلسفة، حسبما يرى تايلور، في تفنيد ودحض الفلسفة الديكارتية وتباين تهافتها في موقفها من الإنسان والحيوان والعالم.

لكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: هل يمكننا أن نحمل فلسفة ديكارت أخطاء عصرنا الراهن ؟ وهل نستطيع أن نقول إن فيزياء نيوتن الكلاسيكية المبنية على تصورات ديكارت عن المادة هي المسئولة عن سيادة الاتجاه العدواني والتدميري نحو الطبيعة؟ في الحقيقة نعتقد أن تحميل الفلسفة الديكارتية وتجلياتها المادية مسئولية ما يحيق بنا من مخاطر إنما هو افتراض يغض الطرف عن فارق التوقيت التاريخي بين مقتضيات القرنين: السابع عشر والحادي والعشرون. إذ لم يعاصر ديكارت الكوارث البيئية المفروضة علينا، إذ لم يكن ثمة تطور تكنولوجي يهدد الوجود الإنساني كما هو حادث الآن، بل كان التحدي الأساسي المفروض عليه آنذاك هو التحرر من التصورات العلمية والفلسفية البالية التي لم تزد البشر إلا بؤسًا.

لقد شكلت الفلسفة الديكارتية البنية الأساسية للتحرر في القرن السابع عشر، سواءً أكان ذلك بالاتفاق أو بالاختلاف معها،  أو حتى بنقدها لتجاوز ما فيها من أوجه قصور وأخطاء.

نعم، أن نحمل فلسفة ديكارت مسئولية الأزمات الإيكولوجية المعاصرة مساوٍ لأن نحمل نيتشه مسئولية احتلال النازي للعالم، أو أن نحمل سارتر مسئولية الانحلال الأخلاقي لدى البعض. والسؤال هل يمكننا أن نستبدل بعلوم الطبيعة المعاصرة العلوم الأرسطية ونحيي فكرة الغائية مرة أخرى، لمجرد أن هذه الفكرة تظهر تعاطفًا واحترامًا تجاه الطبيعة أكثر من النظرة الآلية؟!!

إننا، من جهتنا، نؤمن أشد الإيمان بمقولة أن الفلسفة هي ابنة زمانها، ولا ينتابنا شكًا بأن هذه المشكلات لو كانت مطروحة على فلاسفة القرن السابع عشر لكان ديكارت أول من تصدى لها. ونود أن نضيف أنه رغم تخلي علوم البيولوجيا والعلوم الطبيعية والرياضية في القرن العشرين عن نظرتها المادية والآلية الخالصة للطبيعة، فإن المد العدواني ما زال مستمرًا على الطبيعة. ما نريد أن نقوله هو أنه ليست نظرية علمية بعينها ولا تصور فلسفي بعينه هو السبب في هذا الدمار، إنه سوء الاستخدام والتطبيق لهذه العلوم. إضافة إلى وجود سياسات اقتصادية جعلت غايتها تحقيق الربح وتراكم رؤوس الأموال مهما كانت الوسائل مدمرة. وأخيرًا وليس آخرَا، فإذا كان الاستخدام السيئ للعلوم والاقتصاد والسياسة هو سبب هذه الكوارث، فإن الاستخدام المتسم بالعقلانية والحصافة سيكون الملاذ والملجأ للخروج من هذه الأزمات البالغة الخطورة.

على أية حال، إن رفض تايلور لمركزية الذات الإنسانية ارتبط لديه بتأسيس تصورات أخلاقية للحفاظ على البيئة بعيدًا عن أي منفعة تتعلق بالإنسان من قريب أو من بعيد. وهو أمر نلاحظه جيدًا في تمييزه الصارم بين أخلاقيات البيئة المرتكزة على مركزية الذات الإنسانية والمرتكزة على المركزية الحيوية.

المركزية الحيوية في مقابل مركزية الذات الإنسانية:

رغم أن ثمة اتفاق على أن مفهوم مركزية الذات الإنسانية كان مفهومًا أساسيًّا في خلق الكثير من المشكلات الإيكولوجية، إلا أنه يُعد أيضًا مفهومًا محوريًّا انطلق منه كثير من الفلاسفة في التأسيس لأخلاقيات البيئة، وفي المطالبة بوقف الاستنزاف الدائم للموارد الطبيعية، وكذلك الاحترام للطبيعة. منطلقين من فكرة أنه إذا استمرت الحرب على الطبيعة بنفس المنوال فإن هذا سيؤثر لا محالة على الإنسان نفسه بالضرر، وعلى حقوق الأجيال المقبلة على المدى البعيد. إن دفاع هؤلاء الفلاسفة عن البيئة اقترن لديهم بخوفهم على الإنسان، وما قد يتعرض له من كوارث. الإنسان إذن هو الغاية النهائية في تفكير هؤلاء الفلاسفة.

هذا النموذج الأخلاقي المهموم بالإنسان حتى في دفاعه عن حقوق البيئة والكائنات الأخرى هو ما أطلق عليه تايلور مفهوم أخلاقيات البيئة المرتكزة على مركزية الإنسان. وقد لخص أهدافها فيما يلي ” حماية الوجود الحسن للبشر، بما يضمن حماية حقوق أجيال المستقبل. فمن حق الأجيال المقبلة المشاركة العادلة في المصادر الطبيعية، إضافة إلى حقهم في الاستمتاع بجمال الطبيعة والبرية “([37]). ما يرفضه تايلور في هذه التصورات هو تأسيس معاييرها الأخلاقية بناءً على الاحتياجات والمصالح الإنسانية، فهي تعطي الأولوية للإنسان على باقي المخلوقات، وهو ما يهدر مطلب تايلور الأساسي في المساواة بين الكائنات الحية.

ليس تايلور وحده من يرفض تأسيس أخلاقيات البيئة على مصالح الإنسان، فلم يلق هذا التصور قبولًا لدى بيتر سنجر الذي طالب أيضا بضرورة التحرر من أسر مركزية الإنسان الأخلاقية التي شكلت البنية الكلية للأخلاق التقليدية، والتي لم تحتل فيها حقوق الكائنات الأخرى سوى مرتبة هامشية تتحدد بمقدار قيمتها للإنسان، إذ يعارض المرء ” الذي يتبنى التقاليد الأخلاقية الغربية المسيطرة الطاقة النووية بناءً على فكرة أن الوقود النووي يشكل خطرًا جسيمًا على حياة الإنسان، كما يعارض التلوث واستخدام بعض الغازات خوفًا على صحة الإنسان وليس خوفًا على الطبيعة والكائنات الأخرى “([38]).

لكن اتفاق تيلور وسنجر على ضرورة أن يكون للطبيعة وللكائنات الحية الأخرى نسقا أخلاقيا جديدا مستقلا عن نسق الأخلاق الإنسانية التقليدية، ليس محل إجماع، ولا يلغي قراءة آخرين. إذ يرى جون باسمور John Passmore أنه من الصعب تأسيس نسق أخلاقي جديد للطبيعة دون الرجوع إلى التقليد الفلسفي الغربي “فالأخلاق الجديدة سوف تنشأ من رحم الأخلاق التقليدية، وإلا فلن تنشأ على الإطلاق “([39]). لا يرى باسمور تعارضًا بين الأخلاق الإنسانية والأخلاق الجديدة المطلوبة لحماية حقوق البيئة والكائنات الأخرى، وخاصة أن الإنسان طرف أصيل في المعادلة الأخلاقية، له حقوق وعليه واجبات. وبالتالي، فلا يمكن صياغة نظرية أخلاقية جديدة دون أن توضع مصالح الإنسان وحقوقه وواجباته في الاعتبار.

لكن على الرغم من صعوبة مهمة تأسيس نسق أخلاقي جديد كليه لدى باسمور، إلا أن هذا لم يمنع تايلور من الاجتهاد في تقديم هذا النسق الجديد ليكون بمثابة معيار نموذجي في التعامل مع الطبيعة والكائنات الحية الأخرى. إذ يستبدل تايلور بمركزية الإنسان المركزية الحيوية. ويطرح تايلور هذا التصور باعتباره بديلًا أخلاقيًا أكثر ملائمة في النظر إلى حقوق الطبيعة والكائنات الأخرى.

وتتحدد ملامح المركزية الحيوية عند تايلور بناءً على مجموعة من التصورات، يمكن إجمالها فيما يلي:([40])

ـ الاعتقاد بأن البشر مجرد أعضاء في المجتمع الحيوي، بنفس القدر الذي تكون به الكائنات الحية الأخرى أعضاء في نفس المجتمع.

ـ الاعتقاد بأن النوع الإنساني، شأن كل الأنواع الأخرى، فهو عنصر تكاملي في نظام الاعتماد المتبادل. بحيث يتحدد بقاء كل كائن حي ليس بالشروط المادية للبيئة وحدها، بل بالعلاقات مع الكائنات الحية الأخرى أيضًا.

ـ  الاعتقاد بأن كل الكائنات الحية هي مراكز غائية للحياة، بمعنى أن كل كائن حي هو فرد فريد، ويحاول تحقيق خيره الخاص بناءً على طرقه الخاصة.

ـ الاعتقاد بأن البشر ليسوا أسمى من الكائنات الحية الأخرى.

نلاحظ مما سبق أن مبدأ المركزية الحيوية يرتكز عند تايلور على المساواة التامة بين الأنواع، وعلى عدم سمو وأفضلية نوع على آخر. فالتحيز لنوع من الأنواع لا مكان له داخل إطار المركزية الحيوية التايلورية. ولتبرير المساواة بين الأنواع يلجأ تايلور إلى نظرية التطور، ويشير إلى فضلها في هذا المجال ” فنظرية التطور تشكل جزءًا أساسيًّا من مشهد المركزية الحيوية للطبيعة “([41]). إذ تؤكد هذه النظرية على أن الإنسان هو نتاج لتطور بيولوجي طويل بدأ من الكائنات وحيدة الخلية وصولا إلى الإنسان. وبالتالي، فلا يوجد مبرر لتعالي الإنسان على باقي الأنواع. فأصلنا مشترك، ولولا الأصول لما وُجدت الفروع. وهو ما يعني أن الإنسان هو الذي يدين بالفضل في وجوده للأنواع التي تطور عنها.

في الحقيقة، يعتمد الإنسان في وجوده على الطبيعة والكائنات الأخرى ولا تعتمد هي عليه. بل إن وجودها أصبح مهددًا بسبب وجوده، فكمال النظام الطبيعي لن يتأثر في شيء في حالة العصف بالإنسان. بل على العكس إن فناء الإنسان سيقلل من المخاطر التي يتعرض لها هذا النظام. وهذا ما يؤكده تايلور قائلًا: ” إننا لسنا وافدين جدد فحسب، بل إننا معتمدون كلية على الغلاف الحيوي. وإننا لن نوجد دون مساعدة باقي النظام الطبيعي. فطالما أن الغلاف الحيوي لكوكب الأرض يعمل جيدًا فإن وجودنا سيستمر، فاعتمادنا عليه مطلق. (…) وإذا انقرض النوع البشري لسبب أو لآخر، فلن يسبب هذا خسارة للأنواع الأخرى، ولن يؤثر على البيئة. بل على العكس سيكون في صالحها لأنه سيضع حدا لتسمم التربة وتلوث الأنهار والهواء “([42]). وهنا ينطلق تايلور من البداية بمصلحة الطبيعة والكائنات الأخرى.

نفس هذه الفكرة هي ما يؤكدها ميشيل سير عندما يرى ” إن كوكب الأرض يوجد بدوننا، لكننا لا يمكن أن نوجد بدونه. وبالتالي، فإن النظرة التي يجب أن تسود هو أن نضع عالم الأشياء في المركز ونكون نحن على الهامش. أو الأفضل، أن تكون كل الأشياء حولنا ونحن بداخلها مثل الكائنات الطفيلية (…) فكيف نقلب الأمور ونتسيد على سيدنا؟!!! إن هذا الإفراط للطفيلي ضد عائله يعرض كل الكائنات للخطر المميت “([43]). ما يشدد عليه سير هنا هو التنبيه على ضرورة رد الفضل والجميل لأصحابه الحقيقيين (العائل) الذي يعطي ولا يأخذ شيئا. وكذلك ضرورة نزع السيادة عن هذا الكائن الطفيلي الذي يأخذ ولا يعطي شيئًا. فما يريد أن يقوله سير، هو أنه وفقًا لترتيب درجات السمو والتمايز، فإن الإنسان ذلك الكائن الطفيلي يجب أن يأتي في أدنى الدرجات وتسبقه الطبيعة وكل الكائنات الأخرى في سموها وتمايزها بسبب فضلها عليه.

هكذا يشترك كل من تايلور وسير في الانطلاق من علوم البيولوجيا لتأكيد فرضية المساواة بين الكائنات الحية جميعا. ومما يدعم هذه الفرضية أيضًا أطروحة الغائية التي يعزوها تايلور إلى كل الكائنات الحية ” فكل كائن حي يتم تصوره تصورًا غائيًّا، بمعنى أنه يسعى إلى بلوغ أهداف محددة، ويتابع تحقيق خيره بطريقته الخاصة الفريدة (…) فهو نسق موحد من الأنشطة المنظمة، ولديه نازع ثابت بأن يحفظ حياته ويرقي وجوده الحسن “([44]). فالكائنات الحية، من وجهة نظر تايلور، هي موجودات مدركة تسعى إلى تحقيق خيرها ومصلحتها الخاصة. ولا يحدث هذا بطريقة آلية كما قال داروين والذي رأى أن الكائنات الحية تؤدى وظائفها البيولوجية على نحو يخضع للانتخاب الطبيعي والصدفة العمياء. بل إنها، من وجهة نظر تايلور، تؤدي وظائفها الحيوية التي تضمن استمرارها وبقائها بطريقة قصدية وواعية. وهكذا سعى تايلور إلى استبعاد كل الفوارق البيولوجية والأخلاقية التي تقف عقبة كأداء في وجه المساواة بين كل الأنواع الحية، لتشترك الأنواع كلها لديه في الوعي والإدراك وسعيها إلى حفظ وجودها.

لكن نزوع تايلور لترسيخ مفهوم المساواة بين الكائنات الحية قد لاقى معارضة شديدة من قِبَل كثيرين الذين اعتبروا أن آراء تايلور تتسم بالتطرف الشديد الذي لا يمكن قبوله، إذ يقول وليم فرنش William French : ” ليس هناك ما يستدعي مشاعر الندم عندما نقتل الحيوانات لكي نأكل (…) فمصالح واهتمامات البشر ينبغي أن تحتل الأولية على مصالح واهتمامات الكائنات الأخرى “([45]). بالتأكيد لا يدعو فرنش هنا إلى انتهاك حقوق الكائنات الأخرى، لكن في حالة تعارض الاهتمامات والمصالح التي قد تعرض وجودنا الإنساني للخطر ينحاز فرنش صراحة إلى الإنسان، في حين يطالب تايلور بضرورة التضحية ببعض من هذه المصالح لحساب البيئة والكائنات الأخرى.

لقد مثلت مشكلة تعارض المصالح البشرية مع حقوق العالم الطبيعي تحديًا كبيرًا مطروحًا على كثيرين من الفلاسفة، إذ تتطلب حماية حقوق العالم الطبيعي تغيير النظام الاقتصادي القائم على الاستنزاف المفرط لموارد الطبيعة، كما تتطلب أيضًا التخلي عن نمط حياة الرفاهية وتغيير العادات الاستهلاكية القائمة على الإفراط الاستهلاك والتبديد. هذه المطالب هي مع عبر عنها تايلور فلكي ” ننقذ الجزء المتبقي من كوكب الأرض كمسكن ملائم للحيوانات والنباتات، يجب أن نفرض قيودًا على الزيادة السكانية، وعلى عاداتنا الاستهلاكية، وعلى استخدامنا للتكنولوجيا “([46]). لكن مثل هذا التصور لا يرتضيه كثيرون من المدافعين عن منطق النظام الرأسمالي المتفائلين بأطروحة التقدم. منطلقين من أن التقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا سوف يساعدنا على إيجاد وتطوير الموارد البديلة والطاقات النظيفة. وبالتالي، فلا توجد ضرورة للحد من حريات البشر الاقتصادية. وقد مثل هذا الاتجاه مارك ساجوف Mark Sagoff عندما قال: ” إن حفظ المواد الخام غير القابلة للتجديد يزيد بالفعل (…) ووجود تكنولوجيا متطورة يساعدنا على الحفاظ عليها، والتقدم التكنولوجي يزيد من إنتاج الغذاء كل عام “([47]).

نحن إذن أمام رأيين متعارضين، يرى أنصار الرأي الأول أنه لا مندوحة لنا عن التضحية بالكثير من المصالح الإنسانية من أجل بقاء الكوكب وبقائنا. بينما يرى أنصار الرأي الثاني أنه لا داعي للخوف والقلق، ولا داعي أيضًا للتضحية بالمصالح الإنسانية، فالتكنولوجيا كفيلة بسد العجز وإصلاح العيوب في أي وقت. لكن ما بين هذا وذاك تضيع فكرة الوسطية، حيث المطالبة بعدم التضحية بمصالح واهتمامات طرف لصالح الطرف الآخر.

لقد وعدنا تايلور بتقديم تصور يقوم على تحقيق التوافق بين احتياجات البشر من جهة، واحتياجات العالم الطبيعي من جهة أخرى، وقد أطلق على هذا التصور مصطلح نموذج الانسجام وعرفه بأن ” الانسجام يعني حفظ التوازن بين القيم الإنسانية والوجود الحسن للحيوانات والنباتات في الأنظمة الإيكولوجية. إنه الشرط الذي يجعل البشر قادرين على تحقيق مصالحهم الشخصية، ويجعلهم في نفس الوقت قادرين على المساهمة في تحقيق نمو وتكامل وسلامة المجتمعات الحيوية بتنوعها الكبير “([48]).

لكن رغم دعوته هذه، إلا أننا لا نجد لديه نصوصًا ولا تصورات توضح كيفية تحقيق هذه المعادلة المرجوة التي ترسم الحدود الفاصلة بين اهتمامات الطرفين. بل إننا نجد أن كل فلسفته تقوم على إعطاء الأولوية للشأن الطبيعي على حساب الشئون الإنسانية، إذ يذكر كثيرًا وفي مواضع متعددة ” إننا يجب أن نفرض قيودًا على أنفسنا (…) فمملكة الطبيعة لا يجب اعتبارها شيئًا ينبغي استهلاكه أو استغلاله أو التحكم فيه لصالح الغايات الإنسانية “([49]). انحياز تايلور للعالم الطبيعي اقترن لديه بتأسيسه لمفهوم الجدارة أو الاستحقاق في الوجود.

إن سعي الكائنات الحية إلى حفظ وجودها وتحقيق خيرها الخاص هو ما سينقلنا مع تايلور إلى التطرق إلى التأسيس الأخلاقي لحقوق هذه الكائنات. هذه الأخلاقيات هي ما يطلق عليها تايلور مصطلح اتجاه الاحترام للطبيعة. والفكرة الأساسية التي يرتكز عليها هي أنها تعزو للكائنات الحية استحقاقا أو جدارة متأصلة فيها. هذه الجدارة تفرض على الإنسان ضرورة احترامها، بل ومساعدتها على ترقية وجودها وخيرها. وسوف نجد أن تايلور يفرق في الأخلاق البيئية بين ثلاثة مصطلحات أساسية وهي: القيمة الغريزية أو الفطرية intrinsic value، والقيمة الباطنية inherent value والجدارة المتأصلة أو المحايثة inherent worth.

ورد في قاموس بلاك ويل The Blackwell Dictionary الفلسفي تعريفًا للقيمة الغريزية بأن ” للشيء قيمة غريزية إذا كان يمتلك قيمة خاصة به وليست قيمة نفعية أو استهلاكية “([50]). كذلك يشير مارك رولاندز Mark Rowlands في كتابه أزمة البيئة إلى وجود عدة معانٍ لمصطلح القيمة الغريزية. فالمعنى الأول يطابق بين القيمة الغريزية والقيمة التي يمتلكها الشيء بفضل سماته وخواصه الفطرية. ويتحدد المعنى الثاني بالمقابلة بينه وبين القيمة الذرائعية، فالشيء له قيمة نفعية طالما أنه وسيلة لتحقيق غاية ما، أما عندما يكون الشيء غاية في حد ذاته فهو يمتلك قيمة غريزية. أما المعنى الثالث للقيمة الغريزية فيضفي عليها سمة الموضوعية والاستقلالية، فالشيء يمتلك قيمة غريزية عندما لا يعتمد في وجوده على آراء ومشاعر واتجاهات المخلوقات الأخرى ([51]). نلاحظ مما سبق أن المعنيين الثاني والثالث هما الأقرب إلى المقصود بالقيمة الغريزية في إطار فلسفة البيئة، فهذا المصطلح من المصطلحات الدارجة في أخلاقيات البيئة.

لكن رغم أن مصطلح القيمة الغريزية من المصطلحات الشائعة في أدبيات فلسفة البيئة، واستخدمه كثيرون ليشيرون به إلى أن العالم الطبيعي يمتلك قيمة خاصة به ومستقلة عن تقييم البشر، إلا أن تايلور يستخدم هذا المصطلح بمعنى مغاير تمامًا عن معناه الشائع، لدرجة أنه يخرج به من إطار فلسفة الأخلاق البيئية إلى إطار الخبرات الإنسانية والحياتية المعاشة المقترنة بتحقيق اللذة والسعادة. إذ يعرف تايلور القيمة الغريزية بأنها ” القيمة الإيجابية التي يضفيها البشر أو الموجودات الواعية على تجربة ما عايشوها بأنفسهم وشعروا أنها تجربة ممتعة (…) فخبرة الاستماع للموسيقى تحمل قيمة غريزية “([52]).

نفس الشيء ينسحب على توصيفه للقيمة الباطنية، فرغم أن مصطلح القيمة الباطنية أو المحايثة من المصطلحات المتداولة لدى كثيرين من فلاسفة البيئة مثل: يوناس وسنجر، إلا أن تايلور يخرج به من إطار أخلاقيات البيئة إلى إطار التجربة الجمالية والفنية التي يضفيها البشر على الأشياء ذات الطابع الفني أو الأثري، ويعرف تايلور القيمة الباطنية بأنها ” القيمة التي يضفيها الإنسان على الأعمال الفنية أو المباني التاريخية والأثرية “([53]). وبالتالي، يتوقف وجود القيمة الباطنية لهذه الأشياء على تقييم الإنسان لها، فهو وحده معيار ما لها من قيمة.

نستنتج مما سبق أن تايلور يعزو القيمتين: الغريزية والباطنية إلى الخبرة الإنسانية، في حين أنه ينسب إلى باقي الكائنات الحية استحقاق متأصل inherent worth. ومصطلح الاستحقاق المتأصل هو مصطلح جديد يصيغه تايلور ضمن أدبيات فلسفة البيئة، وهو لديه أكثر شمولًا وأهمية من المصطلحين الآخرين. ويعرف تايلور الاستحقاق المتأصل بأنه ” جدارة يمتلكها الكائن الحي بدون اعتبار لأي ذرائعية، وبدون الرجوع لخيرية أي موجود آخر “([54]). ما يشدد عليه تايلور هنا هو أن الاستحقاق المتأصل أو الجدارة الباطنية للكائنات الحية توجد بشكل مستقل عن تقييم الإنسان لها، وبفضل امتلاكها يسعى الكائن الحي إلى تحقيق خيره الخاص ومصلحته.

امتلاك الكائنات الحية للاستحقاق المتأصل وسعيها إلى تحقيق خيرها بوعي وغرضية هو ما جعل تايلور يدرجها ضمن فئة أصحاب الحقوق الأخلاقية التي يجب أن توضع حقوقها في الاعتبار شأنها شأن البشر. ويطلق تايلور على الكائنات الحية مصطلح الذوات الأخلاقية moral subjects، وعلى البشر المنوط إليهم مراعاة وحفظ حقوق هذه الكائنات مصطلح الفاعلين الأخلاقيين moral agents.

ورغم أن مصطلحي الذات الأخلاقية والفاعل الأخلاقي ينتميان بامتياز إلى مجال فلسفة الأخلاق الإنسانية، إلا أن تايلور يحدث تغييرًا كبيرا في استخدامه لهما. إذ يختزل مفهوم الذوات الأخلاقية في العالم الطبيعي والكائنات الحية غير الإنسانية فقط. فهو يضع هذه الذوات في موضع المفعول به الذي يتوقف وجوده دائمًا على سلوك الفاعلين الأخلاقيين ” فالذوات الأخلاقية هي موجودات تتم معاملتها بطريقة جيدة أو سيئة، أو هي كيانات تتم إفادتها أو أذيتها، وتتحدد شروط وجودها بناءً على سلوك الفاعل الأخلاقي “([55]). يؤسس تايلور هنا لمبدأ المسئولية التي تقع على عاتق البشر تجاه الكائنات الأخرى، إذ سيتوقف على السلوك البشري هذا وجود أو عدم وجود هذه الكائنات.

لكن مطالبة تايلور بحماية الذوات الأخلاقية أو الكائنات الحية غير الإنسانية لا يعني أنه غير مبالٍ بالعالم الطبيعي غير الحي: الرمال والجبال والأحجار والأنهار والبحار …، صحيح أنه يحتل لديه مرتبة ثانوية بعد العالم الحي، لكن سلامته وكماله تمثل الشرط الوجودي للوجود الحسن ولبقاء الذوات الأخلاقية. وهذا ما عبر عنه قائلًا: ” إن الموضوعات غير الحية لا تمثل ذوات أخلاقية، ورغم أننا ليس لدينا أي واجبات تجاه الأنهار، إلا أننا لدينا واجبات تجاه الأسماك والكائنات الحية الأخرى التي تعيش في هذه الأنهار “([56]). هكذا يعهد تايلور بحفظ الذوات الأخلاقية والعالم الطبيعي غير الحي إلى الفاعل الأخلاقي المسئول والقادر وحده على اتخاذ قرارات إيجابية لحماية حقوق هذه الموجودات.

ولم يكتف تايلور بتأسيس حقوق أخلاقية للكائنات الحية على المستوى النظري فحسب، بل إنه طالب بترجمة هذه الحقوق الأخلاقية إلى حقوق قانونية ملزمة، يتعرض كل من يتعداها أو ينتهكها للمسألة القانونية وللعقاب ” فطالما أننا نعتبر الحيوانات موجودات لديها خيرها الخاص بها والذي يمكن ترقيته أو تدميره بسبب سلوك الفاعلين الأخلاقيين، فمن المتصور والمعقول أن نعزو لهم المكانة القانونية لحاملي الحقوق. ولهذا فمن الضروري أن نتحدث عن حماية خيرها بواسطة القوانين التي تضمن معاملتها بطرق محددة وتمنح لها حقوقًا محددة “([57]). بالفعل، تبنت العديد من الدول دعوة تايلور هذه، وفرضت حظرا على صيد الكثير من الأنواع الحية في أماكن محددة عُرفت بالمحميات الطبيعية، ومن يخترق هذا الحظر يتعرض للسجن.

لكن في الوقت الذي يصر فيه تايلور على أن يعزو للذوات حقوقًا قانونية وأخلاقية يجب حفظها مثل: الحق في الحياة وحفظ البقاء والوجود الحسن وترقية الخيرات الخاصة، فإننا نجد جون رولز لا يدرج هذه الذوات ضمن فئة أصحاب الحقوق ” رغم أنه من الخطأ تمامًا أن نتعامل بقسوة مع الحيوانات، إلا أن الحيوانات والعالم الطبيعي خارج إطار نظرية العدالة، ومن المستحيل أن نمد مبدأ العقد لكي يشملهم بطريقة طبيعية “([58]). ترتكز نظرية العدالة لدى رولز على التأسيس التعاقدي المبرم بين الأفراد الأحرار المتساوين، ولا مكان للذوات غير الإنسانية في هذا العقد الاجتماعي الجديد. وهذا ما أثار اعتراض كثيرين من المهتمين بالشأن البيئي وأنصار حقوق الذوات الأخلاقية.

إن إقصاء الذوات الأخلاقية خارج فئة أصحاب الحقوق القانونية، وكذلك إدراجها خارج أطر نظريات العقد الاجتماعي قد لاقى معارضة شديدة من الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير الذي انتقد نظريات العقد الاجتماعي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان انتقادًا شديدًا، لأنهما لم يضعا في اعتبارهما حقوق هذه الذوات. وهو ما وضحه عندما توصل إلى الاستنتاج التالي ” اتسم العقد الاجتماعي بأنه مغلق على نفسه ويترك العالم كلية، فعالم الموضوعات لم يكتسب حتى الآن أي كرامة قانونية. ومثل العقد الاجتماعي يتجاهل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العالم الطبيعي ويبقى صامتًا بخصوصه “([59]). ولهذا سعى سير إلى سد جوانب النقص التي تخللت نظريات العقد الاجتماعي، وذلك بصياغة عقد مكمل لها وهو العقد الطبيعي الذي يرسم ملامح نظرية حقوقية تحدد ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة العلاقات بين الإنسان والطبيعة. فكما يرسخ العقد الاجتماعي لمبدأ المساواة بين البشر، كذلك يرسخ العقد الطبيعي لمبدأ المساواة بين البشر والعالم الطبيعي ” فالقانون هو الذي سيحد من أفعال الطفيلي، وهو الذي سيعيد التوازن من خلال العقد (…) العقد الطبيعي للتكافل والتبادل الذي سيقيم علاقتنا بالأشياء ليس على السيادة والاستحواذ، بل على الاحترام والتبادل، وعلى ترسيخ فكرة أن من ينهب سوف يموت على المدى القريب “([60]).

لم يقف الأمر مع بيتر سنجر عند حد الاكتفاء بالمطالبة بتأسيس الحقوق الأخلاقية والقانونية فحسب، بل يمضي لأبعد من ذلك عندما يدعو إلى الثورة ضد البشر لتحرير الحيوانات والذوات الأخلاقية من التعسف والاستغلال الإنساني، مشبهًا ثورات تحرير الحيوانات بثورات التحرر السياسي والاجتماعي للسود ضد البيض” فطغيان البشر ضد الحيوانات سبب ولازال يسبب قدرًا من الألم والمعاناة يمكن مقارنته بهذا الذي نتج عن سنوات اضطهاد البيض للسود. لذا فإن النضال ضد هذا الطغيان هو نضال يتسم بالأهمية التي يتسم بها النضال الأخلاقي والاجتماعي “([61]).

لكننا نلاحظ، إن اهتمام الفلاسفة بالأبعاد الأخلاقية في أدبيات فلسفة البيئة فاق اهتمامهم بالأبعاد التشريعية، حيث تغيب عن معظم كتاباتهم رسم ملامح آليات قانونية لتنفيذ هذه الحقوق على أرض الواقع. لكن رغم ذلك تظل أفكارهم الأخلاقية الخلاقة والمبدعة هي الدافع لرجال القانون والسياسة لترجمة هذه الرؤى إلى نصوص قانونية ملزمة للجميع، وقد ساهمت فلسفة تايلور الأخلاقية بالكثير في هذا المضمار.

قدم تايلور تصورًا أخلاقيًّا يقوم في جوهره على تقديم مجموعة من المعايير التي يجب تبنيها لتجاوز أزمتنا البيئية الراهنة، لكن قبل أن نعرض لتفاصيل هذه المعايير لابد أن نعرض لأهم القواعد التي سترتكز عليها هذه المعايير. يطلق تايلور على هذه القواعد مصطلح الشروط الصورية formal conditions المكونة للنسق الأخلاقي، وتتحدد لديه فيما يلي: ([62])

  • شرط الصورية
  • شرط القابلية للتطبيق العام على كل الفاعلين الأخلاقيين
  • شرط التطبيق بموضوعية
  • شرط تبنيها كمبادئ معيارية كلية على الجميع تبنيها

وننتقل مع تايلور من الإجمال إلى التفاصيل، إذ يوضح لنا مضمون الشرط الأول بأن القاعدة تكون صورية عندما لا تتضمن أي مرجعية لأفعال محددة أو أشخاص محددين في الزمان أو المكان، مثل القاعدة التي تقول لا تؤذي أحدًا. أما عن الشرط الثاني، فالمقصود به هو قابلية القاعدة للتطبيق العام على كل الفاعلين الأخلاقيين، فهذا الشرط مرادف للعمومية. فالقاعدة التي لا يمكن تطبيقها بعمومية ليست قاعدة أخلاقية على الإطلاق. أما عن الشرط الثالث المتعلق بالموضوعية فيعني ضرورة التخلي عن مبدأ المصلحة والمنفعة في التعامل. أما عن الشرط الرابع فيتبلور في قاعدة الكلية، أي أن تكون القاعدة الأخلاقية قانونًا كليًّا عامًّا ([63]). إذن يمكننا أن نلخص الشروط الأساسية للمعايير الأخلاقية لدى تايلور في: العمومية، والقابلية للتطبيق، والموضوعية، وفي كونها قوانين كلية. ونلاحظ في هذه الشروط تشابهها الكبير مع مضمون الأخلاق الكانطية، وخاصة الأوامر الأخلاقية المطلقة.

كنت قد طرحت فيما سبق سؤالًا متعلقا بمدى جدة فلسفة الأخلاق البيئية عند تايلور، وهل يمكن تشييد المعايير الأخلاقية بعيدًا عن فلسفات الأخلاق الكلاسيكية أو التقليدية: الخير والمنفعة والواجب، أم ستكون للأخلاق الكلاسيكية دورًا بارزًا في تشكيل ملامح الحالة الأخلاقية الراهنة؟ لقد أكد تايلور، كما ذكرنا آنفًا، أن أخلاقيات البيئة ليست فرعًا ثانويًّا من الأخلاق الكلاسيكية، وأن موضوعها مختلف تمامًا عن موضوع الأخلاق الكلاسيكية التي قامت على مركزية الذات الإنسانية.

لكن النظرة المدققة لفلسفة تايلور الأخلاقية توصلنا إلى أن هذه الفلسفة مشبعة بالأخلاق الكانطية، فما أرساه كانط من قواعد أو أوامر أخلاقية لتكون معاييرًا لتعامل البشر وبعضهم البعض، تبناها تيلور وانتقل بها إلى مجال المعاملات بين البشر والكائنات الحية الأخرى. فالأوامر الأخلاقية المطلقة لدى كانط، وبالتحديد المبدأين الأوليين اللذان يقول فيهما: ” أعمل دائمًا بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونًا كليًّا “. والأمر الثاني ” أفعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائمًا وفي نفس الوقت غاية في حد ذاتها، ولا تعاملها أبدًا كما لو كانت مجرد وسيلة “([64]). هما ما يشكلان جوهر الأخلاق التايلورية، إذ يطالب تايلور بمعاملة ليس البشر فحسب، بل كل الكائنات الأخرى على أنها غاية في حد ذاتها ولا يجوز التعامل معها على أنها وسائل يجب استغلالها لتحقيق مصلحة الإنسان. كما أن الشرط الأول المتمثل لديه في كلية وعمومية القاعدة الأخلاقية مرادف تمامًا للأمر الأخلاقي المطلق الأول لدى كانط الذي يطالب بجعل الفعل قانونًا كليًّا.

إضافة إلى تأثر تايلور الكبير بمبدأ الواجب الكانطي والذي اسماه داخل نسقه الأخلاقي مبدأ الاحترام للطبيعة، فكما يقوم الواجب الكانطي على احترام القانون الأخلاقي لأنه القانون، وبعيدًا عن أي نزوع بالمشاركة أو الحب أو التعاطف، كذلك يعتبر تايلور الاحترام للطبيعة مبدئًا أوليًّا قبليًّا تتأسس عليه أخلاقيات البيئة. إذ يجب احترام الطبيعة احترامًا للقانون والعقل ” فالاحترام للطبيعة مختلف تمامًا عن حب الطبيعة، فالاحترام ليس مجرد عاطفة شخصية بسيطة أو عناية بالطريقة التي يسير بها الحب للطبيعة (…) فالاحترام هو تبني مجموعة من القواعد الأخلاقية والمعايير والالتزام بها، فهو ليس اتجاه أخلاقي فحسب، بل اتجاه أخلاقي مطلق “([65]). إذن يدين الفاعلون الأخلاقيون بواجب الاحترام للكائنات الأخرى دون اعتبار لمدى حبهم أو كراهيتهم، وبدون اعتبار لمنفعة ومصلحة البشر.

ينتج عن واجب الاحترام للطبيعة الالتزام بعدة قواعد أخلاقية، يجملها تايلور فيما يلي: ([66])

  • قاعدة عدم الإيذاء the rule of non maleficence

وهي الواجب بألا نؤذي أي موجود في البيئة الطبيعية، وهي تشمل أيضًا الواجب لعدم قتل وتدمير الأنواع الأخرى. فجوهر هذه القاعدة هو الامتناع عن أي فعل مدمر لخير الكائنات الحية. وتُعرف هذه القاعدة لدى تايلور بالقاعدة السلبية التي تتطلب من الفاعلين الأخلاقيين أن يمتنعوا عن أداء أفعال محددة.

  • قاعدة عدم التدخل the rule of non interference

وتقوم هذه القاعدة على إبراز نوعين من الواجبات السلبية. يتطلب الواجب الأول الامتناع عن فرض أي قيود على حريات الكائنات الحية. ويتطلب الواجب الثاني رفع اليد عن التدخل في كل ما يتعلق بالأنظمة الإيكولوجية، فتدخلنا في حياتهم معادل للنفي المطلق لحرياتهم الطبيعية. فالحرية، بالنسبة للأنواع الأخرى مرادفة لغياب التدخل الإنساني في الأنظمة الطبيعية. وهو ما يعني أنه حتى في حالة حدوث كوارث طبيعية مثل: الزلازل والبراكين والفيضانات، فإننا ملتزمين بألا نتدخل لإصلاح الخسائر. إن امتناعنا عن التدخل في مسار النظام الطبيعي هو طريقة من طرق التعبير عن اتجاهنا لاحترام الطبيعة. فلا شيء يسير على نحو خاطىء في الطبيعة.

  •  قاعدة الإخلاص the rule of fidelity

وتطبق هذه القاعدة على السلوك الإنساني في علاقته بالحيوانات. وفحواها الأخلاقي هو أننا يجب أن نبقى على قدر الثقة، ونظل مخلصين للحيوانات والكائنات الحية الأخرى. وأكثر الأمثلة انتهاكًا لهذه القاعدة تحدث في حالات صيد الحيوانات والأسماك. إن خيانة الثقة هي مفتاح للصيد، لكن الخداع بغرض الأذى يهدر كرامة الكائنات الأخرى، لذا يجب إدانته من قبل أخلاق الاحترام للطبيعة.

  • قاعدة العدالة التعويضية the rule of restit

تقوم هذه القاعدة على الواجب لتجديد العدالة بين الفاعل الأخلاقي والذات الأخلاقية عندما تتعرض الذات للأذى من قبل الفاعلين الأخلاقيين. أي أن جوهر هذه القاعدة مبني على فكرة أنه في حالة الانتهاك يجب التعويض.

نلاحظ فيما سبق أن تايلور يطالب بفرض مجموعة من المحاذير والنواهي على سلوك الفاعلين الأخلاقيين الذي يتسم بالاندفاع والتهور. فقد آن الأوان لرفع شعار لا تفعل وإلا فالخطر يطوقنا من كل الجهات.

كما نلاحظ أيضًا في نهاية مقاربتنا لفلسفة تايلور الأخلاقية، أنه قد غاب عنها الكثير والكثير أثناء معالجتها لمشكلة البيئة. فلا نجد لدي تايلور نقدًا للأنظمة الاقتصادية السائدة، وبخاصة النظام الرأسمالي المسئول الرئيسي عن حدوث كل هذه الكوارث، فلا يتطرق إليه من قريب أو من بعيد. غياب نقد السبب أدى إلى تشوش في رؤية النتائج، إذ لا نجد لديه نظامًا بديلًا يكون قادرًا على تحقيق ما أطلق عليه مفهوم الانسجام بين المصالح الإنسانية وحقوق الطبيعة والكائنات الأخرى.

ليس غياب الرؤية الاقتصادية وحدها هو ما وسم فلسفة تايلور الأخلاقية، بل غاب عن فلسفته أيضًا مقاربة الأسئلة السياسية المتعلقة بمدى قدرة الأنظمة الديموقراطية على مواجهة هذه التحديات المفروضة علينا. فهل بمقدور الأنظمة الديموقراطية التي رسخت لمفاهيم الحرية أن تفرض قوانين وتشريعات تحد من حريات الإنسان الاقتصادية لصالح البيئة؟ كما أنه لم يتعرض أيضًا لكيفية تعامل الأنظمة الشمولية مع هذه التحديات، فهل فرضت هذه الأنظمة قوانين ديكتاتورية وشمولية للحد من استنزاف الموارد الطبيعية، أم أنها في محاولتها للحاق بالدول المتقدمة صناعيًّا قد نست كل هذه الهموم والتحديات المطروحة على الإنسان المعاصر؟

كذلك غاب عن فلسفته توضيح دور الدين والفكر الديني في المساهمة للخروج من هذه الأزمات. كما أننا لا نجد لديه تصورات واضحة ومحددة حول دور العلم والتكنولوجيا في إحداث هذه الأزمات، ولا تصورات عن دورهما وقدرتهما في إيجاد الحلول البديلة التي تمكننا من تجاوز هذه الأزمات دون التضحية بحقوق طرف لحساب الطرف الآخر. ولا نجد لديه أيضًا أية مقاربات لاختبار إمكانيات التنمية المستدامة في المساهمة في وضع الحلول المناسبة لهذه الأزمات.

لكن رغم كل ذلك تبقى مقاربات تايلور الأخلاقية من أهم المقاربات في هذا المجال، وذلك لدورها الرائد في إثارة وتنبيه وعي معظم المشتغلين والمهتمين بفلسفات البيئة. كذلك تتسم أطروحته في المركزية الحيوية بالجدة، فهذه الأطروحة قد تبنتها العديد من التيارات مثل تيار الإيكولوجيا العميقة وتيار الخضر. ولا يمكننا أن نغفل فضل أرائه في ترسيخ مبدأ الاحترام للطبيعة كمبدأ مطلق أوجد مشروعيته بسبب ارتكازه على فكرة مركزية الحياة والمساواة بين كل الكائنات الحية. وأخيرًا، يبقى مجال الدراسات في فلسفة البيئة مجالًا خصبًا وثريًّا ومتنوعًا، فما يغيب عند فيلسوف يجيب عنه آخر، ويأتي ثالث ليضيف المزيد من النقاشات والتساؤلات الجديدة كل يوم ليوسع من مداركنا وآفاقنا بهذا الحقل المعرفي المهم والمرتبط بمصير البشرية.

 

قائمة المصادر والمراجع:

([1]) Maryanne Horowitz, New Dictionary of The History of Ideas, Thomson, Gale, 2005, p: 679.

([2]) Paul W. Taylor, Respect for Nature: A Theory of Environmental Ethics, Princeton, Princeton University Press, 2011, p: 12.

([3]) ibid., p: 3.

([4]) أفلاطون، فايدروس: أو عن الجمال، ترجمة وتقديم / أميرة حلمي مطر، القاهرة، دار غريب، 2000، صـ 38، 39.

([5]) أرسطو طاليس، السياسة، ترجمة / أحمد لطفي السيد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، صـ 116

([6]) Dale Jamieson (ed), A Companion To Environmental Philosophy, Oxford, Blackwell, 2001. p: 72.

([7]) Hans Jonas, The Gnostic Religion: The Message of The Alien God and The Beginning of Christianity, Boston, Beacon Press, 2001, p: 242.

([8]) Paul W. Taylor, ibid., p: 135.

([9])  Ibid., p: 136.

([10]) Ibid., p: 136.

([11]) Ibid., p:136.

([12]) Rob Boddice(ed), Anthropocentrism: Humans, Animals, Environment, Boston, Brill, 2011, p: 41,42.    

)[13]) Ibid., p: 40.41.

([14]) Paul W. Taylor, ibid., p: 139.

([15]) www.britannica.com.

([16]) Paul W. Taylor, ibid, p: 140.

)[17]) Ibid., p: 143.

([18]) Lynn White Jr, ” The Historical Roots of Our Ecological Crisis ” in Science, Vol. 155,1967, pp: 1203 – 1210.

([19]) Peter Singer, Practical Ethics, Cambridge, Cambridge University Press, 1999, p: 267.

([20]) Ibid., p: 267.

([21]) Robin Attfield, ” Christian Attitudes to Nature “, in Journal of The History of Ideas, Vol. 44, No. 3 1983, pp: 369 – 386.

([22]) Douglas J. Moo, ” Nature in The New Creation: New Testament Eschatology and The Environment ” in Journal of The Evangelical Theological Society, Vol. 49, 2006, pp: 449- 488.

([23]) إيتن جلسون، روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ترجمة وتعليق/ إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011، صـ 404.

([24]) Michel Serres, The Natural Contract, Translated by / Elizabeth MacArthur, William Paulson, Ann Arbor, The University of Michigan Press, 1998, p: 32 .

([25]) رينه ديكارت، مقال عن المنهج: لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، ترجمة وتقديم / محمود محمد الخضيري، تصدير / زينب محمود الخضيري، القاهرة، المكتب المصري للطباعة والنشر، 1930، صـ 125.

([26]) Paul W. Taylor, ibid., p: 143.

([27]) Peter Singer,op.cit.,p: 111.

([28]) Paul W. Taylor, ibid., p: 124.

([29]) Mary Midgley, Beast and Man: The Roots of Human Nature, London, Routledge, 2002, p: 147.

([30]) Paul W. Taylor, ibid., p: 154.

([31]) رينه ديكارت، مقال عن المنهج: لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، مرجع سبق ذكره، صـ 95.

)[32]) Paul W. Taylor, ibid., p: 144.

([33]) Fritjof Capra, The Tao of Physics: An Exploration of The Parallels Between Modern Physics and Eastern Mysticism, Shambhala, Boulder, 1975, 23.

([34]) Ibid., p: 22.

([35]) Paul W. Taylor, ibid., p: 145.

)[36]) Charles Darwin, The Descent of Ma and Selection in Relation to Sex, Introduced by: John Tyler Bonner, Robert M. May, Princeton, Princeton University press, 1981, p:39 .

([37]) Paul W. Taylor, ibid., p: 11.

([38]) Peter Singer,op.cit.,p: 268.

([39]) John Passmore, Man’s Responsibility for Nature: Ecological Problems and Western Traditions, London, Duckworth, 1980, p:56.

([40]) Paul W. Taylor, ibid., p: 99,100.

([41]) Ibid., p: 113.

([42]) Ibid., p: 114.

([43]) Michel Serres, op.cit., p: 33,34.

([44]) Paul W. Taylor, ibid., p: 45.

([45]) David Schmidtz, ” Are All Spices Equal ” in Journal Of  Applied Philosophy, Vol.15, No. 1, 1998, pp: 57 – 67.

([46]) Paul W. Taylor, ibid., p: 288.

([47]) Laura Westra, Patricia H. Werhane, The Business of Consumption: Environmental Ethics and The Global Economy, New York, Rowman, 1998, p: 8.

([48]) Paul W. Taylor, ibid., p: 309.

([49]) Ibid., p:310.

([50]) Nicholas Bunnin, Jiyuan Yu, The Blackwell Dictionary of Western Philosophy, Oxford, Blackwell, 2004, p: 245.

([51]) Mark Rowlands, The Environmental Crisis: Understanding The Value of Nature, London, Macmillan Press, 2000, p: 29 – 32.

([52]) Paul W. Taylor, Normative Discourse, Prentice Hall, Englewood Cliffs, 1961, p: 24.

([53]) Paul W. Taylor, Respect for Nature, op.cit., p: 74.

([54]) Ibid., p: 75.

([55]) Ibid., p: 17.

([56]) Ibid., p: 18.

([57]) Ibid., p: 222.

([58]) John Rawls, A Theory of Justice, Harvard, Harvard University Press, 1971, p: 512.

([59]) Michel Serres, op.cit., p: 36, 35.

([60]) Ibid., p: 37, 38.

([61]) Peter Singer, Animal Liberation, New York, Harper Collins, 2002, p: xx.

([62]) Paul W. Taylor, Respect for Nature, op.cit., p: 27.

([63]) Ibid., p: 28- 31.

([64]) امانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم وتعليق / عبد الغفار مكاوي، مراجعة / عبد الرحمن بدوي، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965، صـ 63، 73.

([65]) Paul W. Taylor, Respect for Nature, op.cit., p: 91,92.

([66]) Ibid., p: 172- 186 .

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete