تكوين
لا يعيب تراث الأسلاف ما يكتنفه من اللامعقول، لكن يعيبنا نحن اليوم؛ أن نتجاهل ما انتهت إليه الدراسات والحفريات، ونسعى إلى تبرير اللامعقول لمجرد أنّه جاء به بعض كُتب التراث، فهذه جناية نرتكبها، لا ضدّ أنفسنا وواقعنا وحاضرنا فقط؛ بل ضدّ التراثِ نفسه الذي جمع إلى جانب اللامعقول/ الأسطوري تصورات أخرى معقولة، ينبغي أن نبني عليها.. فالمشاركة في نشر الثقافة البدائية وإضعاف العقلانية يتعارض مع تعزيز الفكر أحد تكليفات الإسلام.
لماذا المسجد الأقصى مقدس؟
ومن إرهاصات الفكر أن نُدرك أنّ ثمة فارق بين المسجد الأقصى بمعنى الأثر التاريخي الإسلامي العظيم الذي بُني في العصر الأموي بعد بناء مسجد قبة الصخرة، وبين المسجد الأقصى بدلالات محتملة في القرآن الكريم كما أوضح المقال السابق، وبين المسجد الأقصى بمعنى مدينة بيت المقدس/ المعبد كما جاء في كتب التراث.
فإننا، وإنْ اعترفنا في الخطاب السجاليّ نظريّا، بأن ثمّة فارقاً بين الوحي المقدس و”تراث المسلمين” غير المقدس إلا أننا لا نُميّز بينهما على المستوى العملي سوى تمييز شاحب جدا، فالشواهد تؤكّد أن “التراث” قد تمّ إدماجُه في هيكل “الدين المقدَّس”؛ كمسوّغ للاستعلاء به، وتقديمه على الحاضر، فتعطّل التفكير، ونشطتْ الذاكرة، واتُّهمتْ كلّ محاولة لإعادة النظر في التراث.
فإذا توقّفنا أمام المسجد الأقصى في التراث الإسلامي فسنجد المُؤرخون في المصادر التاريخية الأصيلة يُطلقونه تارة على مدينة بيت المقدس، وتارة على مذبح إبراهيم وتارة على معبد داود وهيكل سليمان.. كلّها “مسجد” بدلالة المسجد في آية سورة الكهف في قوله تعالى على لسان أصحاب قرية أهل الكهف: “لنتخذن عليهم مسجدا”.
فيُحدثنا ابن جرير الطبري عن تخريب “المسجد الأقصى” في عهد الملك نبوخذ نصر بقوله: “فبعث االله بُختنصر على بني إسرائيل فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن، وانتسف بني إسرائيل نسفًا فأوردهم أرض بابل”.([1]) فتخريب نبوخذ نصر لهيكل سليمان هو تخريب للمسجد الأقصى من منظور ابن جرير الطبري.
بناء المسجد الأقصى
وكان بداية بناء المسجد الأقصى الذي يُرادف الهيكل في تاريخ ابن جرير الطبري، في عهد داود، واكتماله في عهد سليمان، وسبب بنائه أنه “أصاب بني إسرائيل في زمانه (زمن داود) طاعونٌ جارفٌ، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون الله، ويسألونه كشف ذلك البلاء عنهم، فاستجيب لهم فاتخذوا ذلك الموضع مسجدًا، وكان ذلك فيما قيل لإحدى عشرة سنة مضت من مُلكه، وتُوفي قبل أنْ يستتم بناءه فأوصى إلى سليمان باستتمامه”.([2]) ولا تختلف عن ذلك رواية المقدسي فيقول: “وكان داود وضع أساس بيت المقدس فبناه سليمان وأتمه”.([3])
ويروي الطبري رواية أخرى في سبب بنائه متأثرة على نحو واضح بحكاية سلم يعقوب في التورة،([4]) غير أن الرواية تجعل السلم لداود وليس ليعقوب، فتقول: “رأى داود الملائكة سالّين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود هذا مكان ينبغي أن يُبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وأنك قد صبغت يديك في الدماء، فلستَ بِبَانِيه، ولكن ابْنٌ لك بعدَك أسميه سليمانٌ أسلمه من الدماء”.([5])
وينقل ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق” رواية وهب بن منبه، التي جعلت سلم داود في التوراة ليست لداود وإنما ليعقوب، فيقول: “فرأى داود الملائكة سالين سيوفهم ثم يغمدونها، وهم يرفعون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود هذا مكان ينبغي أن نبني الله فيه مسجدًا ونكرمه، فأسس داود قواعده، وأراد أن يأخذ في بنائه فأوحى إليه أن هذا بيت مقدس، وأنك قد صبغت يديك في الدماء فلست ببانيه، ولكن ابنًا لك أملكه بعدك اسمه سليمان، وأسلمه من الدنيا، فلما ملك سليمان بناه وشرفه”.([6])
وهذه الصخرة يُؤكد لنا القلقشندي في “صبح الأعشى في صناعة الإنشا أنّ مكانها في بيت المقدس، وأنّها قبلة اليهود.([7]) فالسردية التراثية تشارك كتبُ الأدب فيها كتبَ التاريخ.
وكما تكرر إشارة ابن جرير الطبري إلى هيكل سليمان باسم المسجد، أشار إلى كنيسة جبل صهيون مرة باسم الكنيسة،([8]) ومرات باسم “المسجد”، فيتحدث ابن جرير الطبري عن السيدة مريم بقوله: “وكان معها ذو قرابة لها يُقال له يوسف النجار، وكانا مُنْطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذٍ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد في ذلك الزمان”.([9])
فمن الملاحظ تأثّر لغة التراث الإسلامي بلغة القرآن الكريم في إطلاق كلمة “المسجد” بمعنى البقعة المقدسة على المعبد، والكنيسة، فهيكل سليمان يُقال له في كتب التراث مسجد سليمان، وفي مروج الذّهب للمسعودي المسجد الأقصى هو نفسه مسجد سليمان، في قوله: “وابتدأ سليمان ببنيان بيت المقدس، وهو المسجد الأقصى الذي بارك الله عزّ وجلّ حوله”.([10])
وفي تاريخ اليعقوبي مدينة بيت المقدس نفسها مدينة صهيون، فيقول: “ونزل داود مدينة صهيون وهي بيت المقدس”،([11]) وأن بناء بيت المقدس كاملا يعود إلى سليمان، بعد أن شغلت الحرب داود عن بنائه، فيقول: “إن داود شغل بالحروب، فأوحى االله إليه أن ابنك سليمان يبني البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر وخشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه، ولبسه الخشب من داخل، وجعل الخشب منقوشًا وجعل له هيكلا مذهبًا.. ثم صعد بتابوت السكينة فجعله في الهيكل، وكان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى”.([12])
وإذا كان ابن جرير أرجع بناء المسجد الأقصى إلى داود، واستكماله إلى ابنه سليمان، واليعقوبي جعله كاملا من بناء سليمان، فإنّ ابن كثير في تاريخه “البداية والنهاية” أرجع بناء المسجد الأقصى أول مرة إلى نبي الله يعقوب بن إسحق/ إسرائيل، فيُخبرنا ابن كثير “أنّ يعقوب، عليه السلام، هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرّفه االله.. ويشهد له ما ذكرناه من الحديث، فعلى هذا يكون بناء يعقوب وهو إسرائيل عليه السلام بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحق”.([13]) وفي تفسير آية: “يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة” يُؤكد ابن كثير أنّ بيت المقدس كان بيد يعقوب قبل رحيله إلى مصر، ولما ارتحل إلى مصر أيام ابنه يوسف، اغتصبه العمالقة!
ويشرح ابن كثير كيف حدّد يعقوب مكان المسجد الأقصى، بقوله: “بينما هو في طريقه إلى بيت خاله في حرّان، نذر لله لئن رجع إلى أهله سالمًا ليبنين في هذا الموضع معبد االله عز وجل، وأنّ جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عُشره، ثم عمد إلى ذلك الحجر، فجعل عليه دهنًا يتعرفه به، وسُمّي ذلك الموضع “بيت إيل” أي بيت االله، وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك.. ثم بعد قدوم يعقوب من حرّان مرّ على أورشليم قرية شخيم، فنزل قبل القرية، واشترى مزرعة شخيم بن حمور بمائة نعجة، فضرب هنالك فسطاطه، وابتنى مذبحًا سماه “إيل” إله إسرائيل، وأمر االله ببنائه”؛ ليستعلن له فيه، وهو بيت المقدس اليوم، الذي جدّده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام، وهو مكان الصخرة التي أعلمها بوضْع الدهن عليها قبل ذلك”.([14])
فالباني للمسجد الأقصى عند ابن كثير يعقوب، ولم يزدْ دور سليمان عن تجديده، فعند حديث ابن كثير عن سليمان ذكر أن “سليمان، عليه السلام، غاب عن سريره أربعين يومًا، ثم عاد إليه، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس، فبناه بناء محكمًا، وقد قدّمنا أنّه جدده، وأنّ أول من جعله مسجدًا إسرائيل (يعقوب) عليه السلام”.([15])
ويُميز ابن كثير بين تعظيم صخرة بيت المقدس وتعظيم المسجد الأقصى، فيروي أنّ أول تعظيم لصخرة بيت المقدس يعود إلي النبي يُوشع الذي خَلَف موسى بعد وفاته، “وقد كانت قبة الزمان (خيمة العهد) مع بني إسرائيل في التيه يُصلّون إليها، وهي قبلتهم وكعبتهم، وإمامهم كليم االله، موسى عليه السلام، ومُقدّم القربان أخوه هارون، عليه السلام، فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام، استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان، وهو فيهم إلى الآن، وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده فتاهُ يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس… والمقصود هنا أنّه لما استقرت يدُه على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يُصلّون إليها، فلما بادت صلّوا إلى محلتها، وهي الصخرة”.([16])
ولا تختلف رواية ابن الأثير عن رواية الطبري فتحت عنوان “ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام”([17]) نقل الرويات نفسها التي جاءت في تاريخ الطبري، على الجانب الآخر سنجد ابن خلدون يتفق مع ابن كثير في كون يعقوب مَنْ بنى المسجد الأقصى، فيروي: “وأوحى االله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل، ومرّ على أرشاليم وهي بيت المقدس، فاشترى هنالك مزرعة ضرب فيها فسطاطه، وأمر ببناء مذبح، سماه إيل في مكان الصخرة”.([18])
من بنى المسجد الأقصى
وفي موضع آخر يجعل ابن خلدون النّبيّ دانيال في عصر داود، وأن النبي دانيال من أوحي الله إليه بأن البناء سيكون علي يد سليمان وليس داود، وأنه أخبر داود ففرح بذلك!! فيقول: “واعتزم (داود) على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليه، فأوحى االله إلى دانيال، نبي على عهده، أن داود لا يبني وإنما يبنيه ابنه، ويدوم ملكه، فسر داود بذلك”.([19])
ويستطرد ابن خلدون في حكاياته عن تاريخ المسجد الأقصى، فيحدثنا بأنه كان معبدًا وثنيا قبل مجيء بني إسرائيل، “وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة، موضعًا لهيكل الزهرة، وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه، ويصبونه على الصخرة التي هناك، ثم دثر ذلك الهيكل، واتّخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلةً لصلاتهم، وذلك أن موسى، صلوات االله عليه، لما خرج بِبني إسرائيل من مصر؛ لتمليكهم بيت المقدس، كما وعد االله أباهم إسرائيل وأباه إسحق.. إلى أن يقول: ولما ملك داود عليه السلام نقل القبة والتابوت إلى بيت المقدس، وجعل عليها خباء خاصًا ووضعها على الصخرة، وبقيت تلك القبة قبلتهم، ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها، فلم يتم له ذلك، وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه، ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام”.([20])
ويذكر ابن خلدون دفْن الكثير من الأنبياء حول المسجد الأقصى “وبيت المقدس بناهُ داوُد وسليمان، عليهما السلام، أمرهما الَلُه ببناِء مسجِدِه وَنصب هياكله، وُدِفن كثيٌر من الأنبياِء من ولِد إسحاق عليه السلام حواَليه”.([21])
ولم تقف السردية التراثية حول المسجد الأقصى عند كتب التاريخ، وإنما امتدت إلى كتب اللغة والأدب، ففي “نهاية الأرب في فنون الأدب” للنّويري يُميز بين المسجد الأقصى بمعنى بيت المقدس حيث “كان إسحاق يخرج مع أبيه إلى البيت المقدس”.([22]) ومسجد الأقصى بمعنى خيمة العهد/ قبة الزمان، ذاك البيت الذي اتخذه موسى، “وهذا البيت ليس هو البيت المقدس الموجود الآن، وإنما هو الذي تسميه اليهود “قبة الزمان”، ويزعمون أن ذلك نصّ التوراة، وكان من خبر هذه القصة ما رواه الثعلبي بإسناده عن وهب بن منبه قال:” أوحى االله تعالى إلى موسى، عليه السلام، أن يتخذ مسجدًا لجماعتهم، وبيت قدس للتوراة، وتابوتًا للسكينة وقبابًا للقربان”.([23])
ويتبنى النويري تفصيلات رواية وهب بن منبه التي تحكي أن “داود رأى الملائكة سالين سيوفهم فأغمدوها وهم يرقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود لبني إسرائيل: إن االله قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكرًا، قالوا: وكيف تأمرنا؟ قال: آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي يرحمكم االله فيه مسجدًا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذكر االله تعالى، فأخذ داود في بنائه… وأخذوا في بناء بيت المقدس، وذلك فيما قيل لإحدى عشرة سنة مضت من خلافة داود، وكان داود ينقل لهم الحجارة على عاتقه، وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة فأوحى االله تعالى إليه: أن هذا بيت مقدس، وأنت سفاك للدماء، ولست بانيه، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أسلمه من سفك الدماء، وأقضي إتمامه على يديه، ويكون له صيته وذكره، قال: فصلّوا فيه زمانًا إلى أنْ توفى االله نبيه داود واستخلف سليمان وأمره بإتمام بناء بيت المقدس … قال الثعلبي: فكان بيت المقدس على ما بناه سليمان إلى أن غزاه بختنصر، فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمل ذلك معه إلى دار مملكته من أرض العرا. قال: ثم لم يزل خرابًا إلى أن بني في الإسلام”.([24])
ويُفصّل القلقشندي في تاريخ المسجد الأقصى/ مسجد بيت المقدس/ مذبح يعقوب/ معبد داود وهيكل سليمان، نقلا عن الروض المعطار في كتابه صبح الأعشى قائلا: “أول من بنى بيت المقدس، وأُري موضعه يعقوب، عليه السلام، وقيل داود، والذي ذكره في تقويم البلدان أن الذي بناه سليمان بن داود، عليهما السلام، وبقي حتّى خرّبه، بختنصر فبناه بعض ملوك الفرس، وبقي حتى خربه طيطوس ملك الروم، ثم بقي، ورمم وبقي حتى تنصّر قسطنطين ملك الروم وأمّه هيلانة وبَنَت أمُّه كنيسة على القبر الذي يزعم النّصارى أنّ المسيح عليه السلام دُفن فيه، وخربت البناء الذي كان على الصخرة، وجعلتها مطرحًا لقمامات البلد عنادًا لليهود، وبقي الأمر على ذلك حتى فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي االله عنه، القدس فدلّ على الصخرة فنظّف مكانها وبنى مسجدًا”.([25])
في ضوء ذلك يتضح لنا كيف حذتْ السردية التراثية الإسلامية حذو القرآن الكريم في استخدام كلمة المسجد بمعنى البقعة المقدسة، فأطلقت المصادر الإسلامية التاريخية كلمة “المسجد” على المعبد، والكنيسة، وتبنت السردية التراثية الإسلامية جغرافيا التوراة القائلة بأن الأنبياء الآباء عاشوا ودُفنوا في فلسطين، فالتراث الإسلامي حول المسجد الأقصى يخضع للنّسق الثقافي للمفسرين والمؤرخين من جامعى الأخبار مثل ابن جرير وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وابن الجوزي واليعقوبي وابن عساكر وغيرهم ممن استوعبوا ثقافة عصرهم القائمة على خطاب قصصي يُردّده يهود اليمن ممن دخلوا الإسلام، فقد انعكست تلك الثقافة على تفسيرهم لآيات القرآن الكريم، ورؤيتهم لتاريخ الأمم من حولهم.
ولم تسلم تلك السردية من تناقض واضطراب ومتخيل ناتج عن اختلاف وتضارب الروايات حول في عهد أي نبيّ بُني المسجد الأقصى، فمن المنظور التراثي لم يُبن المسجد الأقصى ذاك الأثر التاريخي الإسلامي في العهد الأموي بعد بناء مسجد قبة الصخرة، وإنما يعود المسجد الأقصى إلى المذبح/ المحرقة التي بناها إبراهيم ليقدم قرابينه لله، ومنهم من اعتقد أنه مسجد بيت المقدس الذي بناها يعقوب للرب في بيت إيل بعد عودته من حران، فما صخرة بيت المقدس إلا الحجر الذي علّمه يعقوب بالزيت ليبني عنده بيت الله بعد عودته من حران، ومنهم من اعتقد أنّه المعبد/ الهيكل الذي استكمله سليمان بعد أبيه داود في رواية، أو جدّده بعد أن بناه يعقوب في رواية، فالأقصى على هذا الرأي مسجد سليمان والصخرة في داخله، ومنهم من اعتقد أنه المعبد الوثني قبل عهْد بني إسرائيل كما يروى ابن خلدون، فكان الأقصى معبدا وثنيا تُصبّ على صخرته الزيوت كطقوس وثنية، ومنهم من اعتقد أنّ المسجد الأقصى ما بناه يُوشع عندما نصب قبة الزمان/ خيمه العهد/ الشهادة فوق الصخرة/ صخرة يعقوب، ووضع في الخيمة التابوت وبداخلها ألواح شريعة موسى..
آراء استنسخت من الرواة، وتداولها الجميع واحدا تلو الآخر، نقلها الإخباريون العرب عن يهود اليمن ممن أسلموا، ودوّنها المؤرخون المسلمون الأوائل، ورددها المتأخرون، حتى أصبحت الأخبار حكاية، اكتسبتْ بكثر الترديد، ونقل اللاحق عن السابق قداسة المعتقد رغم أنها في مجموعها متناقضة مضطربة، لم يقم على صحتها دليل من حفريات وآثار تلك المنطقة، في حين أننا لو قارن بينها لوجدنا تناقضا واضطرابا، ولو في بحثنا في حفريات تلك المنطقة لن نجد أثرا لمسجد أو معبد في القدس يعود إلى أعماق التاريخ قبل الميلاد حين كان الأنبياء.
يُتبع
المصادر
([1]) تاريخ الأمم والملوك ، ج١، ص٣٢٦.
([3]) البدء والتاريخ، ج٣، ص١٠٥.
([4]) يُنظر: سفر التكوين، إصحاح: ٢٨
([5]) تاريخ الأمم والملوك ، ج١، ص٢٨٦.
([7]) صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج٤، ص٧٥.
([8]) “وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة”. تاريخ الطبري، ج١، ص٣٤٩.
([9]) تاريخ الأمم والملوك، ج١، ص٣٥٠.
([11]) تاريخ اليعقوبي، ج١، ص٥١.
([12]) تاريخ اليعقوبي، ج١، ص٥٨.
([13]) البداية والنهاية، ج١، ص٣٠٨.
([15]) البداية والنهاية، ج٢، ص٢٦.
([17]) يُنظر: الكامل، المجلد الأول ١٧٤،١٧٣.
([18]) تاريخ ابن خلدون، ج٢، ص٤٥.
([19]) تاريخ ابن خلدون، ج٢، ص١١١.
([22]) نهاية الأرب في فنون الأدب، ٧٢١٤.
([24]) السابق، ٧٧١٥:٧٧٠٧ بتصرف.
([25]) صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج٤، ص١٠٥.