لا يخفى ما تُمثّله مدينة القدس من رمزية في الوجدان العربي والفلسطيني، وما تُمثّله من مكانة عند والمسيحي اليهودي والمسيحي والمسلم، فمكانة مدينة القدس لا تقل عن مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين، ورغم ذلك إذا فتّشت عن المسجد الأقصى في وجدان وعقل المسلم فستجدُ معرفته به لا تزيد عن وصْفه “بأولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي، وأنه سيعود إلينا بعد معركة آخر الزّمان هذا كلّ ما أنجزه الخطاب الديني وأقسام الدراسات الإسلامية في التعريف بالمسجد الأقصى مما أصاب العقل المسلم بالضمور.
فإصلاح الفكر الديني يستلزم إعادة قراءة السردية الإسلامية حول المسجد الأقصى، فَقراءة ثانية لما جاء عن دالّ “المسجد” في القرآن الكريم والأخبار المسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، والتراث الإسلامي يُمكنها أنْ تُوقظ الوعي، وتُزيل الالتباس، فالشعوب الواعية شعوب يقظة متبصرة، لا تهاب السؤال، ولا تتوقف عن إعادة النظر والبحث.. وعلى نقيضها الشعوب غير الواعية التي تعيش حالة من الترديد والتسليم والجمود، مدفوعة إلى ذلك بشعور بالفوقية، وتضخم الذات تُخفي خلفه شعور بالخوف والقلق على ضياع الهوية.
إذا توقّفنا أمام كلمة المسجد في القرآن الكريم، فسنجد أنّها لا تعنى دائما دار العبادة عند المسلمين، فالمسجد في لغة القرآن وسنة الأخبار حمل مدلولَين مختلفين: الأول أنّه بقعة مقدسة معظمة، فهو دار عبادة اليهودي، والمسيحي، والمسلم، وغيرهم، فجاءت كلمة “المسجد” في قصة أصحاب الكهف ، وهم من الأمم التي كانت قبل ميلاد النبي ﷺ بهذا المدلول في قوله تعالي: “قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا” [الكهف:٢١]، يقول الرازي: “”ذِكْر اتِّخاذِ المَسْجِدِ يُشْعِرُ بِأنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ هُمُ المُسْلِمُونَ، وقِيل هم أهْلُ السُّلْطانِ، والمُلْكِ مِنَ القَوْمِ المَذْكُورِينَ؛ فَإنَّهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلى أمْرِ مَن عَداهم، والأوَّلُ أوْلى”. فالقرآن استخدم كلمة مسجد في الدلالة على المعبد أو الكنيسة، كما أشار الإمام الرازي إلي اليهود والمسيحيين بلفظ المسلمين.
وفي إحدى الأخبار المسندة إلى النَّبِيَّ ﷺ جاءت كلمة المساجد بمعنى المعابد، والكنائس، في قوله: “لَعَنَ اللَّه الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ”،([1]) وأشار القرآن إلى السجود والركوع في مخاطبته السيدة مريم بقوله تعالى: “يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين” [آل عمران:٤٣].
المدلول الثاني لكلمة (مسجد) والأكثر تداولا كونها علما على دار العبادة عند المسلمين خاصة، تمييزا لها عن غيرها من البيع والكنائس والمعابد والصوامع، ومنه قول الله تعالى”لمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ”. [التوبة: ١٠٨] “ولَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَتٌ وَمساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا”. [الحج:٤٠] وقد سوّى الله بينها في كونها أماكن يُذكَر فيها اسم الله، من كل متعبد بلغته..
في ضوء هذين المدلولين لكلمة المسجد نُعيد النظر في تأويل قوله تعالى: ” سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”. [الإسراء:١]، فإذا سلّمنا بمكيّة سورة الإسراء فسيكون مدلول المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية لا يختلف عن مدلولها في سورة الكهف المكية من كونها بقعة مباركة/ مقدسة/ معظمة فحسب، وهذه إحدى تأويلات ثلاث محتملة في الآية، نجملها في التالي:
أولها: المسجد الأقصى مثل المسجد الحرام في الآية إشارة إلى دار عبادة غير المسلمين كما جاء في المدلول الأول لكلمة المسجد على نحو ما فصّلت سابقا.. دون أن ينفى هذا كون المكان بقعة معظمة مباركة عند المسلمين، وأنهم سيتخذونَها أو بعضَها مسجدًا في المستقبل، وقد استعملت مصادر التاريخ الإسلامي “المسجد” في الإشارة إلى المعبد والكنيسة ومسجد المسلمين على نحو ما سيأتي تفصيله..
ثانيها: أن المسجد الأقصى بمعنى المسجد الأبعد، فالأقصى هنا صفة وليس علما، والإسراء عند أصحاب هذا التأويل يَعني “الهجرة”، معتمدين على ارتباط لفظ “الإسراء” بمدلول الهجرة في لغة القرآن الكريم مستدلين بوصف هجرة الأنبياء بالإسراء في تسعِ مواضعٍ من القرآن، ([2]) ثم يختلفون حول المراد بالمسجد الأبعد، فمنهم من يجعله مسجد المدينة، وقد بارك الله حوله، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، هناك ثمرة وقوة وكان بالإسراء (الهجرة) الفتح والنصر. ([3]) وهذا التأويل وإنْ اتّسق مع مدلول أسرى في لغة القرآن إلا أنه يقتضى أن تكون الآية مدنية، وليست مكية.
وهناك تأويل ثانٍ لكلمة “أسرى”، بمعنى ذهب في السّراة، في منطقة عسير، فهو بعد أن يُفسّر الأقصى بأنه القاصي والبعيد استنادا إلى أنّ التاريخ يُوكّد أنّه لم يكن هناك مسجد للمسلمين بُني بعدُ اسمه “المسجد الأقصى”، وأنّ بناء المسجد التاريخي المعروف اليوم كان في العصر الأموي، ينتقل إلى المعنى اللغوي لكلمة “أسرى” فيرفض أن تكون بمعنى سار ليلا في الآية، لأن كلمة ليلا في الآية تصير حشوا زائدا؛ لأن كلمة أسرى بمعنى مشى ليلا تدلّ عليها، فلا حاجة لذكر كلمة ليلا، وهذا يتناقض مع بلاغة القرآن الكريم التي لا تعرف حشوا أو زيادة، فيجعل أصحاب هذا التأويل معنى أسرى من الكلمة “سرو” أو “سري” بمعنى ارتفع من الوادي وانحدر من الجبل، والسراة من سري وهي أعلى كل شيء،([4]) حتى أنّ بعضهم شرح كلمة “إسرائيل” بأنها “سراة إيل” أي سراة الله، وهي مرتفعات السراة بين الطائف واليمن. ([5])
ثالثها: المسجد الأقصى إشارة إلى المسجد بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن في الوقت الراهن من كونه مسجد المسلمين، ورغم أنّه المعنى الأبعد تاريخيا، إذ أول ما اتخذ المسلمون من المساجد في بيت المقدس، وفق المصادر الإسلامية، كان في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولم يكن للمسجد الأقصى بصورته التي نعرفها اليوم وجودٌ في زمن الرسول أو زمن نزول القرآن، فالتاريخ يذكر أنه بُني في عهد عبد الملك بن مروان بعد الانتهاء من بناء مسجد قبة الصخرة، وأنه اكتمل في عهد ابنه الوليد..
ولعل السبب الأقوى لجعْل هذا المدلول الأكثر شهرة وتداولا هو الأثر/الخبر الذي فُسّرت به الآية، فتمّ الربط بين الآية وحديث الإسراء والمعراج الذي جاء في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربـطـته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم عـُرِجَ بي إلى السماء”. فالحديث يحكى أن الأنبياء جاءوا على مخلوق من غير عالمنا وهو البراق يحتاج إلى أن يُربط بحلقةِ حديدٍ من عالمنا!! وأنّ الأنبياء صلّوا خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم تُفرضْ بعدُ الصلاة وفقا للرواية نفسها التي تتحدث عن مراجعة النبي لله عز وجل في عدد الصلوات بناء على طلب نبي الله موسى وأن الله قبِل تلك المراجعة من النبي عدة مرات!! وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغم صلاته بهم إماما في الأرض لم يعرفهم عندما التقى بهم في السماء، فوفقا للراوية نفسها سيسأل عنهم النبيُ جبريلَ في كلّ سماء سيلتقي بهم فيها، بقوله من هذا؟!! والأهم أنّ الخطابات الدينية الإسلامية التي استدعت الخبر لم تسأل أيّ مسجد في بيت المقدس؟ وكيف ولم يكن قد بُني للمسلمين مسجدٌ بعد؟!
ولا يُحتج بأنّ هذا التأويل هو رأي الجمهور أو إجماع أهل التأويل والسّير، فهو في النهاية رأي واحد استنتسخه الواحد تلو الآخر، وهو وإن صحّ سندا عن بعض المسلمين، فقد أنكره بعضهم.
وحيث أنّ الأخبار المسندة إلى النبي الكريم يحظى متنُها بتسليمٍ من الخطابات الدينية المُشكِّلة للثقافة الإسلامية العامة دون اختبار وإعادة نظر في صحة متنها، فهناك رواية أخرى أضرّ التسليم بصحة متنِها العقل المسلم، وهي رواية أبي هريرة رضي الله عنه بتخريج البخاري “لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتلْه”. وزادت عليها رواية مسلم “إلا الغرقد فإنّه من شجر اليهود”.
فهذا الحديث من الأحاديث التي تصف آخر الزمان التي ردّها الإمام محمد عبده وتلامذته، فلا يثبت عندهم من قضايا الغيب إلا ما جاء بطريق التواتر، وهذا التواتر لم يثبتْ إلا للقرآن الكريم، مكتفين بما أجمله، أو فصّله القرآن دون زيادةٍ عليه.
كما أننا إذا نظرنا في زيادة رواية مسلم “إلا الغرقد فإنّه من شجر اليهود”، فستُظهر لنا كيف أنّها تُناقض العقل والإيمان، فرغم الحضور الذي يحظى به الحديث في الثقافة الإسلامية، إلا أنّه لم يستوقف مُردّده أنّه يتناقض مع قوله تعالى “النجم والشجر يسجدان”، فليس هناك شجر طائع وشجر عاصٍ، فهذا وصف للإنسان، وليس للنبات أو الحيوان الخاضعين المسبحين كسائر الأشياء لله..
كما أن شجر الغرقد (العوسج) في كتبنا لم يرتبط باليهود، ولم يُرو أنهم تبرّكوا به حتى يُنسب إليهم، وإنما ارتبط بالمسلمين في التداوي، كما أنّه كثر في بقيع/ مقبرة المدينة بلا نهي من النبي ﷺ حتى سُميت مقابر المسلمين “بقيع الغرقد”.
فالموقف الرافض لصحة متن هذا الخبر وأخبار آخر الزمن الذي تبناه الإمام محمد عبده وتلامذته يُساهم في إخراج الدين من دائرة التوظيف السياسي، ويبتعد بالنصوص الدينية عن أن تكون وقودا لصراعات الجميع ضد الجميع التي تتبناها خطابات التطرف من كلا الجانبين، وتتصور أن المسلمين كلهم يجب أن يحملوا فكرا دينيا واحدا، وأنهم يجب أن يخوضوا معركة دينية واحدة مع جميع اليهود الذي يُروّج أنهم بالضرورة يحملون فكرا دينيا واحدا، وهذا متخيل ووهْم لم يحدث عبر التاريخ، ولن يحدث.. فدوما المسلمون والمسيحيون واليهود وأتباع مختلف الأديان يتبنّون مذاهب وأفكار دينية متنوعة يتبعها تنوع في مواقفهم الحياتية.. فلا يوجد في الاجتماع الإنساني كتلة ضخمة واحدة ثابتة لا تعرف التغيّر والتنوع المستمر عبر تاريخها..
يُتبع
المراجع:
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (١٣٣٠) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
([2]) منها قوله تعالى: “وﻟـﻘد أوﺣـﯾﻧﺎ إﻟـﻰ ﻣـوﺳـﻰ أن أﺳـر ﺑـﻌﺑﺎدي ﻓـﺎﺿـرب لهم طـرﯾـﻘﺎ ﻓـﻲ اﻟﺑﺣر ﯾﺑﺳﺎ ﻻ ﺗﺧﺎف درﻛﺎ وﻻ ﺗﺧﺷﻰ” [ﺳورة طه:٧٧]، “وﺟـﺎوزﻧـﺎ ﺑـﺑﻧﻲ إﺳـراﺋـﯾل اﻟﺑﺣـر ﻓـﺄﺗـوا ﻋـﻠﻰ ﻗـوم ﯾـﻌﻛﻔون ﻋـﻠﻰ أﺻـﻧﺎم لهم ﻗـﺎﻟـوا ﯾـﺎ ﻣـوﺳـﻰ اﺟـﻌل ﻟـﻧﺎ إلها ﻛـﻣﺎ لهم آلهة ﻗـﺎل إﻧـﻛم ﻗـوم تجهلون” [ سورة الأعراف:١٣٨]، “وأوﺣــﯾﻧﺎ إﻟــﻰ ﻣــوﺳــﻰ أن أﺳــر ﺑــﻌﺑﺎدي إﻧــﻛم ﻣــﺗﺑﻌون” [سورة الشعراء:٥٢]، “ﻓﺄﺳر ﺑﻌﺑﺎدي ﻟﯾﻼ إﻧﻛم ﻣﺗﺑﻌون” [ﺳورة الدخان:٢٣]، “ﻗـﺎﻟـوا ﯾـﺎ ﻟـوط إﻧّـﺎ رﺳـل رﺑّـك ﻟـن ﯾـﺻﻠوا إﻟـﯾك ﻓـﺄﺳـر ﺑـﺄھـﻠك ﺑـﻘطﻊ ﻣـن اﻟـﻠﯾل وﻻ ﯾـﻠﺗﻔت ﻣـﻧﻛم أﺣـد إﻻ اﻣـرأﺗـك إﻧـﮫ ﻣـﺻﯾبها ﻣـﺎ أﺻـﺎﺑهم إن ﻣوﻋدھم اﻟﺻﺑﺢ أﻟﯾس اﻟﺻﺑﺢ ﺑﻘرﯾب” [ﺳورة هود:٨١]، “ﻓـﺄﺳـر ﺑـﺄھـﻠك ﺑـﻘطﻊ ﻣـن اﻟـﻠﯾل واﺗـﺑﻊ أدﺑـﺎرھـم وﻻ ﯾـﻠﺗﻔت ﻣـﻧﻛم أﺣـد واﻣﺿوا ﺣﯾث ﺗؤﻣرون” [ﺳورة الحجد:٦٥].
([3]) الهداية والعرفان، ج٤، ص٦٢.
([4]) د. أحمد داود، العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود، ص٢٥١.
([5]) د. كمال الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ص١٩٥.