تكوين
مقدمة
تنطلقُ مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية للعقل بوصفه مجموعةً من المفاهيم التي كَوَّنت بِناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي. وتعمل مجموعة المقالات لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، زاعمةً أنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤية بخصوص إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المُكونة له والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهْزم حضاريًا. يرتكن تحديد هذه المفاهيم في:
- الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطرح عليها وتتسلل داخلها، إن لم تُعد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي والاتحاد مع المُقدس، لتضمن لنفسها البقاء والتأبيد، وتضمن الدفاع عنها الذي يأخذ بُعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس.
- وفي الزاوية الثانية إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي، الذي يغلب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المتمحور حول الذات، نتيجة للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه.
- وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المُؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأسست لهذا مجموعةً من المفاهيم الصارمة التي قدمتها لتكون المفاهيم المكونة للضمير الإلهي من جانب، والمُعبرة عن الذات العربية والإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية، وبُعد أنها مقاومةً للتفكك المُمنهج وحفاظًا على الهُوية.
ويأتي الجهاز المفاهيمي المُكون للعقل العربي المعاصر من مفهوم الهُوية النقية والمُهَدَّدَةِ، ويستدعي مفاهيم الماضي وإنجازاته ويستحضرها في الراهن، ويضعها في حالة تماهٍ مع الهُوية ومُحددًا لأدوات بناءه وتعامله الواقعي. وتأتي المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر من أفق الانهزام والتهديد الحضاري الذي مَثله الاستعمار بقيمه الحداثية وتكنولوجيته العسكرية. وتحت ضغط المطالبة بالحضور النِدِّي، نجد عديدًا من المفاهيم قد بُنيت بنزوع مُقاوم، فتحت ضغط الواقع المُنهزم والمُلح على التجديد وتقديم الحداثة الأوروبية لنفسها في صورة أداة التقدم والتحضر وقاطرة التاريخ، وعدم إمكان إنتاج مفاهيم موازية للمفاهيم الحداثية التي تطرح نفسها بالقوة الواقعية، لجأ العقل العربي إلى استدعاء المفاهيم التراثية الجاهزة، ووضع هذه المفاهيم في حالة توحيد بين الهوية والعقيدة، فأضحت المفاهيم التراثية تستدعى بطريقة أداتية تفتقد الحيوية والفاعلية، وتعتمد لتكون ممثلًا للعقيدة وللهوية وللاستقلالية، وكذا الحداثة أيضًا، تُستدعى بطريقة أداتية تفقدها هويتها، وتعطيها صورة الحقائق النهائية التي يجب تأكيدها والدفاع عنها.
إقرأ أيضًا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر: الجزء الأول الهُوية النقية والمُهددة
من هذا الأفق الهُوياتي المُهدد يأتي مفهوم المعرفة داخل العقل العربي بوصفها حفظ الحقائق وتأكيد صلاحيتها، خاصة في حالة السجال الندي بين الحداثة والتراث، ليقع العقل العربي بين منظومتين تفرضان نفسيهما بوصفهما عقلًا يجب أن يُفكر به، ويقود واقعه، ولكل منهما مبرراته. والمعرفة عادة ما تهدف نحو تكوين الهوية، وفي حال الوضع العربي الواقع بين المنظومتين اللتين تقدمان نفسيهما على أنهما يمثلان الهوية المفتقدة للذات/النحن العربي، تكون الهوية هنا جاهزة وليست في حاجة إلى التكوين، وعليه تكون المعرفة كذلك هي حفظ ما تطرحه هاتين المنظومتين؛ أي استدعاء ما يطرحانه من الانساق الهوياتية وتأكيدها، ومن ثم تدور المعرفة داخل المنظومتين المسيطرتين ولا تخرج عنهما.
المعرفة والأيديولوجيا
لا تخرج علاقة الإنسان بالكون وعلاقته بنفسه ومحيطه عن المعرفة، فالمعرفة هي قوام الإنسان وميزته التي تعطيه خبراته وأدواته ومفاهيمه التي تميزه عن الحيوان، وعد كثيرٌ من الفلاسفة الإنسان حيوان عارف، وقالها الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط: الإنسان حيوان ناطق. وعن قيمة المعرفة وقدرتها على تحديد معالم الإنسان وقدرته قال سقراط جملته الشهيرة: “تكلم حتى أراك” مشيرا بذلك إلى أن المعرفة هي المحددة لهوية الفرد.
واعتادت المجتمعات الفخر والتباهي بما تملكه من معارف وعلوم، ونظرت عديدٌ من المجتمعات إلى نفسها نظرة تفوق، لامتلاكها معارف وعلوم لا تمتلكها المجتمعات الأخرى، وترى المجتمعات أن ما قدمه الأسلاف من معارف مصدرًا للفخر والعزة بتاريخها، وتراه جزءًا من بنيتها الذاتية، وخير مثال على ذلك المجتمعات العربية التي لا تملك شيئًا اليوم غير التباهي بما تركه الأسلاف من تراث.
والوضع المعاصر يعلن بصراحة أن المعرفة هي القوة، وعديدٌ من المجتمعات والدول ترى في نفسها السيادة لما تملكه من معرفة، ولم تكن سيادة المعرفة هي سمة العصر، بل كانت سمة كل عصر، ويظهر هذا فيما تقدمه الفلسفات اليونانية، واعتداد أثينا بما لها من معارف واخذها على إسبرطة الجهل والجلفة والغلظة. لأنها ترى أن المعرفة هي المكونة للمجتمع ورابطه، فالمعرفة هي التي تحدد قيمة المجتمع وواقعه، وكذا أيضًا من طريقها يرسم مساراته، ووفق ما يتخذه من طريق ورؤية نحو تحقيق ذاته وتحديد هويته يعمل لتأسيس نمط معرفي يحقق له مآربه.
فالإنسان والمجتمع عادة ما يسعيان نحو تحقيق الذات/النحن وتحديد الهوية التي يعلن كلٌّ منهما أنها تمثله، ومن الضروري أن يمتلك (الفرد/المجتمع) المعرفة الكافية عن الراهن المعاش، لتحديد ما يرغب في أن يكون عليه، وكيف يمكن أن يحققه، ومن طريق ما يحدده من كينونة مستقبلية له، أو هُوية يسعى في تحقيقها، يحد ويرسم نمطه المعرفي الذي يمكنه من تحقيق هذه الكينونة، وحضور هذه الهوية.
والمعرفة وبنائها عادة ما يخرجان من رغبة في بناء المستقبل والخروج من الراهن، ومن ثم فإن لكل بناء معرفي أيديولوجيا ما يسعى فيها، ولكل أيديولوجيا معرفة تؤسس لها، فمن الضروري أن يحمل البناء المعرفي غاية يسعى فيها، وإلا فقد طبيعته الوظيفية، فما المعرفة غير السعي نحو سد الاحتياجات العملية التي تمكن الذات من تجاوز واقعها الراهن إلى مستقبل أكثر اتزانا وأقل إرهاقا، “فـ ((تغيير العالم)) أو السعي في تحقيق ذلك التغيير يتأسس بالضرورة ليس على منظور أيديولوجي أو معياري لما يجب أن يكون عليه هذا العالم فحسب، وإنما على وصف معرفي وتقييم معياري، للعالم كما هو كائن، وللعوالم الأخرى الممكنة”[1].
فالمعرفة تبني الأيديولوجيا، إذ ترسم المعرفة صورة الراهن، وبناء على هذه الصورة تُبنى الأيديولوجيا التي تسعى نحو تجاوز هذا الراهن، وتحدد هذه الأيديولوجيا وجهة المعرفة وكيفية قيامها، بل وبنائها. وفي حال الوضع العربي الإسلامي فإن التهديد الهوياتي الذي يلاحقه، يجعل الذات مطالبة دائمًا بتأكيد أصالتها وهويتها، ويبلور هذا التهديد الأيديولوجية التي تعمل من طريقها، إذ تعمل بوصفها ذاتًا مهددة تحافظ على بقائها، وترى دورها منحصرًا في حفظ تراثها واستدعاء الماضي من باب الأصالة وحفظ الهوية.
إقرأ أيضًا: القراءة الإيديولوجية للواقع العربي ومكر التاريخ
وتحديد آليات الإنتاج المعرفي تستوجب دراسة الأيديولوجيا التي تحرك البناء المعرفي وتحدد آلياته، والمعرفة التي تؤسس لهذه الأيديولوجيا. والتراتب المنطقي، يفضي إلى فهم النمط المعرفي المؤسس للأيديولوجيا المحركة للمعرفة في السياق العربي/الإسلامي، وهذا النمط المعرفي القائم ينحصر في حالة الانكسار الحضاري التي فرضتها الحداثة، مما دفع الذات/النحن العربية حينها إلى تبني الحداثة وصياغتها لمشكلات الاجتماع العربي وفق بنيتها، ليسعى نحو الموائمة بين الحداثة والإسلام، وإثبات عدم تعارضها أو أنها تمثل صحيح الإسلام.
وتقديم الحداثة لنفسها في صورة أقرب منها للعقيدة -ولها عذرها في ذلك، إذ كانت رد فعل على حالة الهيمنة اللاهوتية- دفعها للسيطرة وفرض رؤيتها وقيمها. وللحداثة أدوات التفوق والسيطرة الحضارية التي تجعلها الأفق المعياري للمجتمعات والقيم، ويعزز هذا التصور الاستهلاك السياسي لها وتباهي المجتمعات الحداثية بما تملكه من علوم وقيم. ومن ثم رسمت الحداثة مشكلات المجتمعات العربية في عدم حداثيتها، ووقوعها تحت سطوة العقل الديني، وسعت في خروج هذه المجتمعات من الأفق الملي (العقائدي) المسيطر عليها.
ودفعت محاولة الحداثة للسيطرة على المجتمعات العربية وحضورها بالعنف الرمزي والصريح، الذات/النحن العربية نحو الإفلات منها ومما تحدده من أفق، لتجد في التراث ملاذًا للتمسك بالذات/النحن والتعرف عليها، وتشخص المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أيضًا، بأنها ناتج الابتعاد عن الدين والشريعة الربانية، الكافية عن كل العلوم الدنيوية والوافية بها، وترى فيهما حلًا أصيلًا بديلا عن الحلول الدخيلة من جهة، وتقدمها لتكون حلولًا إلهية مفارقة لا يعتريها النقصان البشري الذي يعتري الحلول الإنسانية التي تُفرض عليه باسم العقل والتقدم، وهي حيلة دفاعية في مواجهة الصوابية المطلقة التي قدمت الحداثة نفسها من طريقها. وشبه الجزيرة العربية لم تعرف غير الإسلام منهجًا للتقدم، فالإسلام هو من جمع هذه القبائل وصنع لها حضارة، ومن ثم ترى فيه كل جوانب الحياة وجميع المعارف، ويعبر عن هذا الشافعي في قوله: فليست تنزل بأحد من أهل الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها[2].
النمط المعرفي العربي
والنمط المعرفي القائم يشخص المشكلات جميعها، بأنها نتاج الابتعاد الدين والشريعة الإلهية الكافية عن العلوم جميعها والوافية بها، فالفكرة المستقرة في الذهن العربي عن الوحي أنه “يقول كل شيء عن العالم والإنسان والتاريخ والعالم الآخر والمعنى الكلي والنهائي للأشياء، وكل ما سوف يكتشفه العقل لاحقًا، لن يكون صحيحًا أو صالحًا مؤكدًا، ما لم يكن مستندًا استنادًا دقيقًا وصحيحًا إلى أحد تعاليم الله أو إلى امتداده لدى النبي ﷺ”[3]. وفي لائحة الأسماء والمذاهب والجماعات والآراء التي وضعت لنفسها إطارًا من التقديس (محايثًا للوحي)، حيث أضحى العقل المعاصر يفكر من طريقها[4]. وفي المقابل نجد أن ثمة من يرى أن المشكلات تتمثل في عدم الامتثال للحداثة وما تقدمه من معارف، والارتماء في أحضان الدين، ويرى في الحداثة صورة طوباوية تحمل شيئًا من التقديس، إذ تعد هي القول الحق وحاوية المعارف ولها انتصاراتها الحضارية التي تدل على ذلك.
وطبقًا لتاريخ العلوم والمعارف فإن النقد هو قوام البناء المعرفي، فإن المعرفة بما لها من تراكمية تعطيها أبديتها وحضورها، تقوم على نقد الأنساق السابقة وعدم الهيمنة أو وجود أفق الحقيقة المطلقة، إذ تعد الحقيقة وفق البناء المعرفي وطبق عملية بنائية مرهونة بمدى قدرتها على الإثبات، وتنتقل من حال إلى آخر، فتاريخ العلم والمعرفة يقومان على هدم السابق وتقديم نتائج جديدة. والمعرفة يحركها المجهول، إذ لا يوجد أفق ما يحدها ويرسمها، بل هي التي ترسم الأفق وتهدمه وتعيد بنائه. وإذا كانت ثمة منظومة ما تقدم نفسها بوصفها حاملة الحقيقة النهائية والمطلقة، فإنها تحكم على المعرفة بالمحدودية والانحصار داخل هذه المنظومة، وتُفقد المعرفة طبيعتها ووظيفتها لتصبح المعرفة تأكيدًا لصلاحية هذه المنظومة وتدور في أفقها.
والتاريخ، لا سيما التاريخ المعرفي يتحدث عن أن الإبداع نمط الاستمرار والحياة، فكل حقبة تاريخية كانت تأتي ببصمتها الخاصة التي تساعدها على الاستمرار في الحياة بآليات وترتيبات مختلفة عن الحقب السابقة، وتلبية احتياجاتها التي لم تظهر عند سابقيها. وإذا انطلقنا من هذه الرؤية، تصبح المجتمعات التي لا تحترم الإبداع ولا تعمل على احتضانه، مجتمعات تعيش حالة اغتراب وعدم حضور هوياتي، لأنها لا تقدم ما يمثلها ويعبر عنها ويسد احتياجاته. والدوران في أفق منظومة ما والانحصار في تأكيد صلاحيتها وإعادة انتاجها، يحكم بنفي الإبداع وتمثيل الذات، إذ تكمن عبقرية الفرد في قدرته على إثبات صلاحية هذه المنظومة وحفظها، ويقتصر العمل المعرفي على إثبات صلاحية هذه المنظومة.
والنمط المعرفي في السياق العربي يقوم على قاعدة “الحق يُعرف بالرجال” التي تعد إعادة صياغة للعقل القَبَلِي، ويضع نفسه مستهلكًا لمنظومتين يحكمان أفقه المعرفي والاجتماعي، وهما الدين مُمثلا في التراث، والحداثة بقيمها ومنجزاتها، ويرى أن كلًا منهما يقدم الحقائق النهائية التي يجب عليه العمل بها، ويقف موقف المُستقبل السلبي لما يطرحانه ويعده حقائق نهائية لا يمكن نقدها.
ويعد النمط المعرفي القائم في المنطقة العربية/الإسلامية المعرفة جاهزة وفي حاجة إلى الحفظ والاطلاع فقط، ولا ينظر إليها بوصفها السعي نحو معرفة المجهول، فلا مجهول بالأساس، فالحداثة تقدم المعرفة بألف لام التعريف، والقيم العلمية والحضارة، وفي المقابل يستدعي الفريق الآخر النص القرآني ويضعه ندًا للحداثة ويقول أنه جاء بكل المعارف التي أكملها السابقون، لذا تتضمن الأيديولوجيا المطروحة (العودة إلى الدين الحاوي لكل المعارف سابقًا، أو الحضور الحداثي المالك لطريق الحضارة والمعرفة) التي كثيرًا ما تعني حمل الراية الإرشادية ذات الطابع النبوي، الحاملة – في الذهن العربي/الإسلامي – العصمة والمعرفة الشاملة، ومن ثم تنبني صورة المعلم العارف بكل العلوم والمعصوم عن الخطأ، وهو ما ينتج عملية معرفية لا تحمل تفاعلًا حقيقيًا ذات طرفين، أحدهما إيجابي يملك المعرفة ويعطيها، والآخر سلبي لا يملك المعرفة ودوره يقتصر على التلقي، فعصمة الأول لا تعطي للنقاش أو التفاعل أي دور، لينتهي الأمر بتعامل المعلم مع المعرفة كطرد ويقوم هو بدور بريدي في توصيله (من الملاحظ هنا التشابه أيضًا مع الوظيفة الرسولية للأنبياء)، وعلى الطالب حمله دون معارضة أو تساؤل، وهذا ما يدفع المعلم إلى استخدام الوسائل جميعها التي تمكنه من ذلك، حتى وإن كانت بالضرب أو بالغناء والرقص.
المؤسسات التعليمية
تخرج وظيفة المؤسسات التعليمية من بنية الأيديولوجيا المطروحة داخل المجتمع، التي يغلب عليها عادة تصور ما للذات/النحن في المستقبل، تسعى فيه من طريق مؤسساتها التعليمية، وبناء عقول مواطنيها وتكون بنية الوعي لدى المجتمع. والعلاقة بين المؤسسة التعليمية والمجتمع علاقة جدلية كلاهما يؤثر في الآخر، فتتكون المؤسسة من أفراد المجتمع، وتسهم بنصيب كبير في تكون وعي أفراد المجتمع، وتوجد المؤسسات التعليمية بهدف تلبية احتياجات المجتمع، وتنشئة أفراد يسهمون في إقامة زويا المجتمع وسد احتياجاته. وانحصار العقل في منظومة معرفية محددة يسعى دائمًا في ترديدها وتأكيد أنها تملك الحقيقة والصلاحية المطلقة، والحلول لكل المشكلات، يجعل وظيفة المؤسسات التعليمية تأكيد هذه المنظومة، ويحدد مهمتها مسبقًا، فتصبح مطالبة بتلقين الطلبة الحقائق التي تحملها المنظومة، وتأكيد صلاحيتها وقدرتها.
والمعرفة بمضامينها ومؤسساتها تهدف إلى بناء هُوية الفرد والمجتمع، وفي السياق العربي تكون وظيفة المعرفة ومؤسساتها التعليمية تأكيد الهُوية المفتقدة وتأكيد صلاحيتها، سواء كانت هذه الهوية الحداثية بوصفها تمثل الهوية الإنسانية التي يجب أن تكون عليها المجتمعات، وعدتها في ذلك سيطرتها الحضارية، أو الطرح التراثي الذي يرى أن الهوية هي الذات القديمة التي قدمها الأسلاف، بوصفها الذات بألف لام التعريف، أي الذات التي يجب أن تكون عليها جميع المجتمعات، بصورة تضمن الندية للحداثة. وفي هذه الحالة تصبح العملية التعليمية عائقًا أمام الإبداع والتفرد، وتعمل بمنطق الحقائق المطلقة التي يجب أن يتبعها الجميع، ومن ثم تخلف ثقافة القطيع، وتسعى في الحفاظ عليها، وتصبح المؤسسة التعليمية قالبًا يتكون فيه على غير ما يهوى، وبغير احترام لطبيعته المختلفة. ولا تكون المؤسسات التعليمية في هذه الحالة مرضية للفرد أو المجتمع، فوظيفتها ليست إنتاج هوية الفرد والمجتمع، بل فرض مجموعة من الحقائق عليه، وتصبح هذه المؤسسات التعلمية عائقًا نحو بناء الفرد والمجتمع.
ويشير الشاعر والمفكر السوري أدونيس، إلى الدور الذي تلعبه المؤسسات التعليمية داخل العقل العربي قائلًا: “إن تأثير المدرسة لا يكمن في المادة التي تعلمها بقدر ما يكمن في فرض التعود علي نموذج محدد للتفكير”[5] فـ “الإنسان المنتج للعلم والتكنولوجيا، هو الإنسان الذي كُون معرفيًا منذ الطفولة بتدريبه على أهمية الأسئلة، وتقليب الاحتمالات الممكنة”[6]، أما الإنسان المستهلك، فهو الذي كونته سلطة العارف الذي يمتلك الحقيقة، ويعطي إجابات دائمًا واحدة وقاطعة وجاهزة، وهذا النمط من التربية عادة ما يُورث الاستهلاك، ويعطي المعرفة طابعًا كميا لا كيفيا، فالإنسان لا يعرف في هذه العملية غير الحفظ (وهو الهدف من المؤسسة التعليمية والبناء المعرفي)، وهذا ما أشار إليه الجابري قائلًا: “تدوين العلم معناه: أن العلم جاهز وأن مهمة المدون -أي العالم- تنحصر أو تكاد في التقاطه وجمعه وتبويبه”[7] لذا كلما اتسعت قدرته على الحفظ كان أقرب إلى العالم، دون الانتباه إلى أن أرفف المكتبات تحوي آلاف الكتب وغير قادرة على تغيير مسارها، أو الحاسوب مثلا. وتنتج المؤسسات التعليمية في هذه الحالة عقلية نمطية أشبه بالروبوت في حاجة دائمة إلى مرشد، عاجزة عن الاستقلال، وهذا ما نلمسه في قانون المرجعية الذي أضحى يحكم الثقافة العربية/الإسلامية، فليس بمقدور الأفكار أن تقدم نفسها دون مرجعية سواء كانت من التراث الإسلامي أو الفلسفات الغربية الباهرة للعقل الإنساني.
ولما كان النسق المعرفي القائم يتغافل عن الواقع وحاجاته وطبيعة مشكلاته وينظر إلى أزماته كابتعاد عما وضعه السابقون، أو ما قدمته الحداثة، أضحت الأيديولوجيا التي تحركه تسعى في معرفة ما تركه السابقون، وتضعه ضمن الدائرة العقائدية ذات الطابع التقديسي، أو ترديد ما تقدمه الفلسفات الحداثية بوصفها الحقيقة النهائية الممثلة للعلم والمعرفة. ومن ثم فإن النمط المعرفي في العقل العربي/الإسلامي يعمل بطريقة دائرية، كمن يدور حول ذاته؛ يبدأ من معرفة غير واقعية على الإطلاق، تُرجع الأزمات الواقعية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لأسباب عقائدية تتعلق بالطقوس العبادية والالتزام بنمط ديني تفرضه الثقافة، أو بعدم الالتزام الأداتي الشكلاني بما تقدمه الحداثة بوصفه الحقائق والحلول النهائية. وتدفعه أيديولوجيا لا تمت للواقع بصلة، تسعى في التربية على الموروثات القديمة المقدمة في شكل معتقدات، أو التماهي والتقليد التام للأفق المُسيطر حضاريًا، ومن ثم تعجز الذات/النحن عن إنتاج معارف من أجل المستقبل والاندماج في عالم اليوم، وتسعى في استنساخ الماضي الذي تعطيه طابعًا عقائديا مقدسا، أو التماهي مع الحداثة واستيرادها بصورة تُفقدها حيويتها وتقولب الواقع وتفقده حيويته كذلك.
الجامع والجامعة
ووضع المستهلك الذي تنحصر فيه المجتمعات العربية ولا تعد حالة التهديد الهُوياتي مبررًا كافيًا له، صنع نمطًا استهلاكيًا للمعرفة كذلك، عاجز عن إنتاج المعرفة، ويتلصص على التراث والحداثة ليستهلك ما يقدمانه ويدور في فلكهما، ويستعير من كل منهما ما يمكن أن يمثل هويته ويعطيه شعورًا بالوجود الندي، فالعقل العربي المعاصر يتعامل من داخل البناء المعرفي بمنطق الحقيقة الجاهزة التي تتوقف على استهلاكه لها، سواء مما يقدمه التراث أو مما تقدمه الحداثة. وتعد الجامعة هي المسؤولة عن صياغة النمط المعرفي القائم، لأنها المؤسسة المعرفية التي تعمل لتكوين الكوادر العلمية التي يحتاجها المجتمع، ولا تخرج الجامعة عن نمط المعرفة المعهود في الذهن العربي/الإسلامي، إذ تعد وسيطًا لتقديم الحقيقة لطلابها، سواء كانت من التراث وما قدمه الأسلاف أو من الأفق الحضاري المسيطر.
إقرأ أيضًا: العلم وأبعاده الحضارية والثقافية: دراسة في مفهوم العلم عند الفيزيائي المصري علي مصطفى مُشَرفة
وعن وظيفة الجامعة ودورها في بناء العقل ومفاهيمه سعى المفكر التونسي المعاصر فتحي المسكيني في توضيح وظيفة الجامعة وأثرها في بناء ثقافة الاستهلاك، وغياب النسق الفلسفي النقدي، بالإشارة إلى المسافة التي قطعها الفكر العربي/الشرقي الإسلامي من الجامع إلى الجامعة. فهو يرى في الجامع أعقد ظاهرة في تاريخ العرب، ولا يرى المسكيني تعقيده في الطور الطقوسي/التعبدي الذي يقدمه بوصفه مسجدًا للمسلمين، بل يراه في وظيفته التي مثلها بوصفها منظومة كلية تقدم المعرفة الصادقة والحقيقة إلى المسلمين في كل مكان (انظر إلى الأزهر على سبيل المثال) ويذكر بـ “أنه أول مؤسسة علم عرفها العرب… مؤسسة لإنتاج الحقيقة”[8]. ويرى المسكيني:
“أن علينا أن نبحث يوما ما على نحو أكثر أصلية عن طبيعة خلافة الجامعة للجامع”[9]
فلم تعرف المجتمعات العربية مؤسسة معرفية تعمل لصياغة العقل المعرفي وتقديم الحقيقة غير الجامع، فعصر التدوين أزهى العصور المعرفية للثقافة العربية/الإسلامية، مَثل فيه الجامع دورًا أكاديميا كبيرا في بناء المعرفة والثقافة، بل كان له الدور الرئيس، حيث كانت تقام الدروس في الجامع وتكتب كذلك الكتب وتدون في الجامع. وعندما انتقل المجتمع العربي من أفق الجامع أعطى خلافته إلى الجامعة التي وقفت في دورها عند حدود الجامع، أي بوصفها وسيطًا يقدم المعارف والحقائق للطلاب، وليس بوصفها مؤسسة تعليم تعمل من طريق العمليات التفاعلية لإنتاج المعارف والعلوم.
وباعتياد الثقافة العربية الاستهلاك وفرض بعض الأدوات عليها وتلقيها بديناميات العقل الإسلامي الذي تمت صياغته في العصر العباسي، فإنها استقبلت نمط الجامعة بوصفها أداةً أخرى، لم تختلف كثيرًا عن نمط الجامع، غير أنها لم تعد المقر الإداري للسلطة السياسية أو مكانًا للصلاة، وتتعامل على أنها تقدم الحقائق كما يفعل الجامع قبل دخولها، فهي لا تفهم دورها في تربية العقول النقدية من طريق تقديم طرق مختلفة في التفكير تمرن العقل وتمكنه من الاستقلالية. ويصرح فتحي المسكيني: بأن الجامعة
“لا تعني اليوم أكثر من جهاز شرعي لإنتاج موظفين نوعين قابلين للاستعمال العمومي في فضاء دولة ما”[10]
وتضع الجامعة الأفق الحداثي والتراثي ليكون أفقًا يمثل الحقيقة، وتستقي منه بنيتها وأدواتها المعرفية. ومن ثم أضحت تقاليد البحث العلمي –حتى في العلوم الطبيعية – تُقيد البحث العلمي وتقولبه داخل إطار الشرح، وما دون ذلك يُرفض داخل ساحة البحث العلمي، ويعد منافيًا لآليات البحث العلمي وغير مؤهل إلى أن يُعترف به بحثًا علميًا.
وأغلقت تقاليد البحث العلمي وطريقة تعامل الجامعة مع المعرفة أي مجال للتفكير العلمي الخلاق، حتي داخل مؤسسات البحث العلمي، وهذ ما دفع الطيب تيزيني إلى القول بأن:
“الواقع الثقافي الجامعي أن ما يحدث هنا من نمو، يتحرك في دائرة الكم المتعاظم”[11]
في غفلة عن الكيف، فهناك العديد والعديد من الحاملين لشهادات الماجستير والدكتوراه، ولكن هناك القليل جدا القادر علي التحليل العقلي وإنتاج أفكار خلاقة تتمتع بالاستقلالية والذاتية، فيعجز البحث العلمي في المنطقة العربية/الإسلامية عن الخروج من بوتقة الشرح حول النظريات الأخرى، وإنجاب نظريات خاصة به، إجابة عن حاجة الفرد والمجتمع.
الفلسفات النقدية داخل العقل العربي
يرى ناصيف نصار أن
“الأيديولوجية السائدة في المجتمع والدولة تتخذ موقفا محددا من الفلسفة، ومن تعليم الفلسفة”[12]
والأيديولوجية العربية/الشرقية الإسلامية أيديولوجية مِلَّية (عقائدية) ترى أن هُويتها محددة سلفا بتحديد ميتافزيقي، أو طرح حداثي، وتسعى إليها؛ لذا تحول المفاهيم والمضامين والمحاولات إلى أدوات استهلاكية تمكنها من إثبات صلاحية هذه الهُوية، وتفقدها طبيعتها الحيوية، ولا سيما الفلسفة، والحديث هنا ليس عن الفلسفة اليونانية أو الغربية بوصفهما نموذجين للفلسفة والتفلسف، ولكن عن الفلسفة بوصفها عملية عقلية تسعى في تحليل الواقع وفهم أزماته وإعادة تركيبه بكيفية يتجاوز بها هذه الأزمات والمشكلات، فالفلسفة في السياق العربي/الإسلامي أخذت طابعًا استهلاكيًا يبلورها ويقدمها لتكون علمًا أو أيديولوجيا، ويفقدها طبيعتها العملية التفاعلية للفرد مع واقعه تُمكنه من تجاوز أزماته ومشكلاته، فتصبح أحد الأدوات الاستهلاكية المتداولة المُفتقدة لأي صلة أو تفاعل واقعي، وينحصر الفكر الفلسفي في نظريات صيغت في ظروف اجتماعية وسياسية وتاريخية مختلفة كُليا عن الظروف التي يعيشها.
ويرى الفيلسوف الألماني هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770-1831) أنه
“ما دامت الفلسفة هي اكتشاف العنصر العقلي، فإنها لهذا السبب نفسه عبارة عن إدراك للحاضر وللواقع بالفعل، فالفلسفة دراسة العالم الواقعي الفعلي”[13]
فالفلسفة هي إدراك الواقع ونقده قبل أي شيء آخر. وعادة ما تتباهى الفلسفة بنزعتها النقدية القوية، ودورها في بناء المجتمع، فمجمل النظريات الإدارية والسياسية والاجتماعية المعاصرة خرجت من بنية الفلسفة. ويُرجع هنتر ميد صعوبة تعريف الفلسفة لطبيعتها فهي: “عملية أو نشاط أكثر من كونها موضوعًا أو بناءً للمعرفة“[14] فهي لا تعلن عن نفسها بوصفها علمًا أو بناءً معرفيًا بقدر ما تقدم نفسها -عبر تاريخها- بأنها طريقة تعاطي العقل الإنساني مع أزماته[15]، ودراسة الفلسفة تعني دراسة الأنساق الفلسفية وطرائقها في التعامل مع أزماتها، وتغير مناهجيتها ومنطلقاتها تبعًا لتغير الأفق والواقع المنطلقة منه، لتزود العقل بأدوات التفكير المختلفة وتمكنه من صياغة نمطه وحل أزماته.
إقرأ أيضًا: سؤال الأخلاق ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية (الجزء الثاني)
والفلسفة لا يمكنها أن تكون علمًا أو عقيدة أو معلومات، هي فلسفة أو عملية أو نشاط كما يقدمها هنتر ميد، ولكنها تحضر في الجامعات العربية/الإسلامية بصيغة تسحب منها وظيفتها النقدية، وقدرتها البناءة داخل المجتمعات، فهي تقدمها بوصفها حقائق (أشبه بالدينية). ويصرح الباحث والمفكر السوري حسام الدين درويش بأن:
“ما يقدمه الباحث العربي الأكاديمي في ميدان الفلسفة هو -عمومًا أو غالبًا- تحويل «الأفكار الفلسفية الغربية» إلى «معلومات» ونقلها إلى الثقافة العربية”[16]
فتفقد الفلسفة حيويتها ودورها النقدي وتتحول إلى بعض المعلومات الواجب حفظها أو ما يشبه الدين، ويتم التعامل مع ما تقدمه الفلسفة الغربية بوصفها حقائق نهائية غاية في ذاتها وليست وسيلة لفهم عالمنا واحتياجاته وسبل سد هذه الاحتياجات.
وغياب الفلسفة عادة ما وصف بغياب العقل، وذلك لما تقدمه للعقل من قدرة نقدية تمكنه من الحضور وصياغة واقعه وهويته، والتعامل مع المنجز المعرفي الأوروأمريكي بوصفه حقائق نهائية تعمل على قيادة الوجود، جعل العقل العربي يعمل بما تنتجه هذه المؤسسات ويسعى نحو قولبة واقعه وفق ما تطرحه هذه العلوم والمعارف. وبخصوص الفلسفة فالبحوث تتجه نحو الحداثة وما بعد الحداثة والفلسفة اليونانية، وهذا أمر غير معيب على الإطلاق، فتزويد العقل بالمعارف المختلفة والمعاصرة أمر ضروري لامتلاكه أدوات تفكير أكثر معاصرة وموثوقية، ولكن المعيب أن تعد هذه المعارف غاية في ذاتها، ويكون العقل العربي/الإسلامي معنيًّا بمواجهة أزمات ليست أزماته، ويصيغ مشكلاته بصورة مسبقة وفق المنظومة التي تفرض نفسها، فيبحث عن نقد ميشيل فوكو للسلطة وهو ما يزال عاجزًا عن فهم الديمقراطية على أنها بناء سياسي، وليست أداة انتخابية.
البناء المعرفي وحدود المقارنة
عادة ما يُفضي غياب الفلسفات النقدية إلى عقل عاجز عن تكوين ذاته وبنيته المعرفية، ويسعى نحو استدعاء بديل رشيد عنه، ويضع نفسه موضع القاصر والمستقيل الذي يولي منظومات ما التفكير بدلًا عنه، والعقل العربي يقع بين منظومتين يكونان أفقه المعرفي ومفهوم المعرفة لدية، وهما الأفق الحداثي الذي يفرض نفسه بقوة الضرورة الواقعية، والأفق التراثي الذي يستدعي البعد العقائدي، وحالة الهشاشة الهُوياتية التي تعانيها الذات/النحن العربية ليقدم نفسه بوصفه ممثلًا للعقيدة وللهوية العربية والإسلامية. ووضع العقل العربي بين منظومتي التراث والحداثة، جعله يقف عند حدود المقارنة، ويولع بها، لإثبات أصالة ما يطرحه العقل التراثي مقابل العقل الحداثي وصلاحيته من ناحية، ومن ناحية أخرى لإثبات صلاحية الحداثة للذات بالعموم وبوصفها حتمية تاريخية، والمقارنة بينها وبين التراث، وفي عديد من الأحيان، توضيح عدم تعارضها مع التراث أو استنطاقها بما يقدمه، وذلك لحضور التراث في الذهن العربي بوصفه حائط المصد الأخير والممثل للأصالة العربية/الإسلامية وهويتهما.
وعن وضع المقارنة ليكون حدًّا يرسم العقل العربي، يصف المفكر المغربي عبد الله العروي (1933) منطق الخطاب العربي/الإسلامي بأنه:
“ليس أفكارًا وأحكامًا متناثرة، بل هو منظومة وسائل ذهبية للفصل والاختيار والاتجاه: الاختيار بين سلوكين، الفصل بين رأيين، الاتجاه وسط دروب التاريخ المتشعبة”[17].
وحالة السيطرة الحضارية للحداثة والتهديد الهوياتي التي يقع داخلها العقل العربي تجعله مولع باستخدام المنهج المقارن، سواء كان التفكير متعلقًا بالتراث والحداثة، أو كان متعلقا بالإنتاج الفكري المعاصر وعلاقته بالعلوم الغربية المعاصرة، فإن الفكر العربي المعاصر يكون مدعوًا إلى المقارنة من أجل أن يثبت نوعًا من الأصالة أو الحضور الندي أو من أجل أن يحدد الشروط الخاصة لوضعيته ولشروط النوعية التي يستخدم فيها كثيرًا من المفاهيم من طريق المقارنة[18]. والواقع العربي المعاصر يعاني من الانجذاب بين طرفين كلاهما يقدم حلولًا جاهزة غير نابعة من بنائه الاجتماعي وأزماته: فإما أن يقبل بالفلسفات الغربية لتكون حلولًا جذرية جاهزة وصحيحة، وإما أن يعود إلى ماضٍ متخيل، يرى فيه هويته الجاهزة والنهائية والمنجزة، التي تُمثل الحل الميتافزيقي/الإلهي لأزماته.
ومن رؤية للذات/النحن العربية لنفسها على أنها قاصرة، غير قادرة على تولي أزماتها ومشكلاتها، وفي حاجة إلى مرشد أو زعيم عارف، يحمل كل المعارف ويتولى مسؤولية المجتمع وأزماته، تأتي المقارنة لتكون تأطيرًا للعقل العربي، والحاجة إلى المرشد والإرشاد سمة قَبلية وجدت في شيخ القبيلة داخل البيئة العربية، وعززها منطق الإرشاد النبوي الذي صنع للعرب الحضارة بواسطة الإسلام. وعلى صعيد بنية العقل العربي فإن وضع المقارنة كحد له، يخرج من بنية التفوق الحضاري للحداثة الذي أجبر الذات/النحن على انكار الراهن ممثلًا لها، والبحث عن ذاتٍ قديمة تمثلها، وتتولى أزماتها ومشكلاتها، ومن ثم لجأت إلى المقارنة ليثبت كل اتجاه صلاحيته لقيادة الواقع وأصالته. وكان لكل من الاتجاه التراثي والتجديدي/الحداثي مبرراته التي صاغها من الواقع واحتياجاته، فكانت كافية للطرح، إذ قدمت الحداثة البراهين الحضارية مع المدافع، مما دفع استدعاء التراث ليكون أداة أصالة وصونًا للهوية. ومن ثم أضحى العقل العربي يفهم المعرفة بوصفها حقائق يحفظها، ومنظومتين يعمل من طريقهما، ويقف عند مقارنتهما ببعضهما من أي زاوية كانت.
المراجع:
[1] – حسام الدين درويش، المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر، ط 1، ميسلون للثقافة والترجمة، 2022، صـ 27.
[2] – الشافعي، الرسالة، ج 1، صـ 20
[3] – محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ت هشام صالح، ط6، دار الساقي، بيروت، 2016 صـ 13.
[4] – راجع، محمد أركون، الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي، ترجمة عبد اللطيف فتح الدين، مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2010، صـ 123.
[5] – أدونيس، الثابت والمتحول، ج 3، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، صـ 25.
[6] – نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل (بين المعرفة العلمية والخوف من التفكير)، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الدار البيضاء المغرب، 2014، صـ 33.
[7] – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ط 6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، صـ 63.
[8] – فتحي المسكيني، الهوية والزمان، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2001، صـ 158.
[9] – فتحي المسكيني، المرجع السابق، صـ 159.
[10] – فتحي المسكيني، الهوية والزمان، صـ 158.
[11] – طيب تيزيني، على طريق الوضوح المنهجي (كتابات في الفلسفة والفكر العربي)، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 1989، صـ 43.
[12] – ناصيف نصار، في التربية والسياسة: متى يصير الفرد في الدول العربية مواطنا؟، ط 2، دار الطليعة، بيروت، 2005، صـ 143.
[13] – ج. ف. ف. هيجل، أصول فلسفة الحق (المجلد الأول)، ت إمام عبد الفتاح إمام، ط 3، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، 2007، صـ 84 – 88.
[14] – ميد (هنتر)، الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، ترجمة فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، 1969، صـ 24.
[15] – راجع، زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، القاهرة، 1971، صـ 62 – 65.
[16] – حسام الدين درويش، في فهم فكر العظم: بين الفلسفوية والأيديولوجية والعلموية، مجلة أوراق، العدد الثامن، 217، صـ 58.
[17] – عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، ط 4، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1997، صـ 194.
[18] – محمد وقيدي، بناء النظرية الفلسفية (دراسات في الفلسفة العربية المعاصرة)، ط 1، دار الطليعة، بيروت، 1990، صـ 46.