المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر: الجزء الثاني المفهوم الأداتي للقرآن

 تكوين

” فليست تَنْزِلُ بأحدٍ من أهلِ الدينِ نازِلةً إلا وفي كتابِ اللهِ الدليلُ على سبيل الهُدى فيها”[1] (الإمام الشافعي)

مقدمة

تنطلق مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية للعقل بوصفه مجموعةً من المفاهيم، والتي كونت بِناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي. وتعمل مجموعة المقالات لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، زاعمةً أنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤية بخصوص إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يُمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المُكونة له، والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهزم حضاريًا.

وفي تحديد هذه المفاهيم ترتكن في الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطْرَحُ عليها وتتسلَّلُ داخلها، إن لم تُعد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي داخل المُقدس والاتحاد معه لتضمن لنفسها البقاء والتَأْبيد، والدفاع عنها الذي يأخذ بُعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس، وفي الزاوية الأخرى إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي، الذي يَغْلُب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المتمحور حول الذات، نتيجةً للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه.

وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأسست لهذا مجموعة من المفاهيم الصارمة التي قدمتها بوصفها المفاهيم المُكونة للضمير الإلهي من جانب، والمُعبرة عن الذات العربية الإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية، وبُعد أنها مقاومةٌ للتفكك المُمَنْهَج وحفاظًا على الهُوية.

ويأتي الجهاز المفاهيمي المُكون للعقل العربي المعاصر من مفهوم الهُوية النقية والمُهددة، ويستدعي مفاهيم الماضي وإنجازاته ويستحضرها في الراهن، ويضعها في حالة تماهٍ مع الهُوية ومُحددًا لأدوات بناءه وتعامله الواقعي، وتأتي المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر من أفق الانهزام والتهديد الحضاري الذي مَثَّلَهُ الاستعمار بقيمه الحداثية وتكنولوجيته العسكرية، تحت ضغط المطالبة بالحضور النِّدِّي نجد عديدًا من المفاهيم بُنيت بنزوع مقاوم بوصفها بديلًا أصيلًا لم تطرحه حضارة الحداثة الدخيلة التي تهدد الهُوية والعقيدة.

وجاء مفهوم النص المعاصر للقرآن من البناء الأيديولوجي المُهدد الذي يسعى في إثبات هُويته القديمة وصلاحيته، فيأتي مفهوم النص/القرآن بوصفه وثيقةَ خلاصٍ للبشرية حاملةً كافة الإجابات التي وُجدت والتي سوف تُوجد، ووجدت الذات/النحن العربية في تاريخها ما يُعزز هذا المفهوم، وسحبت حق الأصالة من كافة المنجزات التي انتجتها الحضارة السائدة، ووجدت أن النص/القرآن سبقهم بمئات السنين في الوصول إليها، وهي حالة من الحضور النِّدِّي تحاول بها الذات/النحن العربية رفع التهديد عنها وذلك من طريق الارتكان إلى القرآن بوصفه إلهيًّا ومقدسًا، وبواسطة ذلك تضعه أداةَ تفوقٍ حضاري لها وتُطالب المجتمعات الأخرى بالمثول لها بناء على تفوقها بالنص/القرآن.

أولًا: تاريخ التعامل مع القرآن

إن القول بأن القرآن جاء راسمًا لحياة المسلمين يُمكن أن يصدق في الفترة التأسيسية للإسلام حتى خلافة عمر بن الخطاب وربما حتى خلافة عثمان، ولكنه دخل بعد ذلك في دائرة الصراع السياسي على يد معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وذلك حين استُدعيَ في معركة صفين ورُفعت المصاحف على أسِنَّةِ الرماح، منذ ذلك الحين أضحى القرآن أحد أدوات السلطة السياسية التي زعمت أنها تبني لنفسها المشروعية بواسطته، وتحكم باسمه حتى لا تكون هناك سلطة تردعها، أو إمكان للخروج عليها، فيمكن القول مع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد (1943-2010) “لم يكن الإسلام هو موضوع التأويل، بل كان الواقع الخارجي ومتطلبه الأيديولوجي هما القصد والغاية التي سقطت على الأصل فلونته[2]، ويتفق الباحث والمفكر المصري علي مبروك (1961-2016) مع نصر أبو زيد على أن التاريخ الإسلامي يُفضي بأن القرآن قبل أن يكون موضوعًا لفعل معرفي كان موضوعًا لفعل سياسي([3])،  وذلك حين جُمع القرآن وانتُقِلَ به من ألسنة القبائل العديدة والتي تَمَثَّلَت في لغة المسلمين إلى لسان قريش وحدها، وما يوحي إليه ذلك بانتصار قريش السياسي وغياب أي نِدِّيَة سياسية لها، لأن لغة القرآن أصبحت لغتها ومن ثم أضحى الاختلاف معها اختلافًا مع القرآن([4])، وأممهُ الأمويون بعد ذلك بعد توليهم الحكم وامتلاكهم السلطة السياسية والمال، مما أعطاها إمكانُ صياغة المعرفة القائمة من طريق خضوع الفقهاء للسلطة أو توظيفهم في البلاط الملكي، ومن ثم أدخلت نفسها في حالة تماهٍ مع القرآن.

وعلى الرغم من إصرار القرآن على إعمال العقل ورفضه التقليد في مواضع عديدة فقد وردت كلمة يتفكرون في القرآن عشر مرات، وكلمة “لعلهم يتفكرون” ثلاث مرات، وكلمة “يعقلون” اثنتان وعشرون مرة، وكلمة “تعقلون” أربعة وعشرين مرة، وذلك وفق رواية حفص عن عاص، وقد أخذ القرآن على أهل شبه الجزيرة العربية وأنكر عليهم تمسكهم بالعادات والتقاليد في مواضعَ عدة، فقال تعالي في سورة البقرة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون (170)، وقوله تعالي في سورة الشعراء: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (74)، وغيرها من الآيات التي رُفِضَ فيها التقليد وحُثَّ على إعمال العقل والفكر.

صُبِغَ القرآن بالصبغة القَبَلية التي لم تعرف شبه الجزيرة العربية نمطًا للوجود والاجتماع الإنساني غيره، بعد أن انتقل من ألسنة قبائل شبه الجزيرة العربية إلى لسان قريش، ووُضع القرآن موضع العادات والتقاليد والإرث القَبَلي، وتعاملت معه على هذا الأساس بوصفه مجموعةً من الأوامر الواجب تنفيذها واتباعها اتباعًا أعمى.

وخرج من أفق التعامل مع القرآن بالنمط القبلي واتخاذه بديلًا لعادات القبيلة وتقاليدها، تقديمه بوصفه نصًّا أزليًّا متعاليًا على أي سياق اجتماعي، وسعت قريشٌ ومن بعدها السلطة الأموية في ذلك وصاغت من طريق رغباتها على هذا الأساس وعرضت تشريعاتها ومشروعيتها بواسطته، أي بوصفها قَدَرًا إلهيًا محتومًا قُضيَ به قبل الخلق، وقَتَلت آل بيت النبيزاعمةً أنه بقضاء الله وقدره، وأضحت السلطة تدعي أنها تعمل من طريقه على غرار النمط القَبَلي سابقًا، وتعمل لحمايته وحماية هذا التصور الذي تطرحه عنه، ومن جانب الفقهاء فإنهم عملوا بوصفهم موظفين لدى السلطة وأكدوا هذا التصور، ومن جهة أخرى سعوا في تنزيه القرآن بوصفه كلام الله وأحد صفاته التي لا تنفصل عن ذاته، ومن ثم كان عليهم أن يُكرسوا هذا الموقف من القرآن، ولكنهم لم يُكرسوا هذا الموقف من القرآن، بل كرسوه للمصحف الذي جُمِعَ بلسان قريش وحدها، وتعاملوا مع المصحف كونه القرآن الكامن في اللوح المحفوظ، بل لا نكون مبالغين إذ قلنا إنهم تعاملوا معه كونه وُجِدَ بهذه الصورة داخل العقل الإلهي، ويُعَدُّ التماهي بين المصحف الذي أقرته قريش بلسانها مع اللوح المحفوظ والقرآن حيلةً مفهومة استخدمتها الثقافة والعادات والتقاليد حين تسعى في تأبيد نفسها بواسطة المُقدس[5].

خلق القرآن

بعد أن دخل القرآن فضاء الكتاب المُغلق وانتصرت قريش في الانتقال به إلى لسانها، جاءت مرحلة أخرى لبلورة نمط النص المعزول من طريق الحديث عن خلق القرآن، وهو حديث تضمن تحديد طبيعة القرآن وشكله، ومن ثم تساؤلًا بخصوص كيفية التعامل معه وقراءته، فإذا كان القرآن مخلوقًا يكون قد جاء متجاوبًا ومتعاطيًا مع الواقع الإسلامي، وليس ثمة طريق –في هذه الحالة– لقراءته بمعزل عن سياقه الثقافي، أما إذا كان القرآن غير مخلوق، فهذا يعني أنه موجود منذ الأزل ويحمل مميزات الأزلية، أي يكون منعزلًا عن أي سياق اجتماعي، لأن التزامه بأي سياق يتنافى مع أزليته، وبناء على أزلية القرآن يصبح النص/المصحف وحده كافيًا لإنتاج الاحكام دون أي أداة أو وسيط معرفي -اللهم إلا المصطلحات اللغوية- ولا حاجة إلى العقل الذي جاء القرآن مُخاطبا إياه أو إلى الثقافة التي جاء ضمن إطارها رافضًا بعض أعرافها وتقليدها ومتبنيا البعض الآخر، فهو يُعد نصًّا أزليًا متعاليًا على أي قدرة بشرية أو بُعد اجتماعي، وله أن يحكم إلى الأبد، ومن ثم تنصب الدراسات بشأن النص وطبيعته ونطقه في حالة من التغافل عن أي محاولات تطبيقية له ودوره داخل الواقع الإسلامي.

وقد كان لمحمد بن إدريس الشافعي (150هـ -204هـ) دور كبير في الخلاف في القول بخلق القرآن كما قالت المعتزلة أو بعدم خلقه كما قالت الأشعرية، وتَزَعَّمَ الشافعي دور الوسطية، ولنصر حامد أبو زيد كتاب يُفند فيه هذا الزَعْم بعنوان ((الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية)) يُوضح فيه كيف انتصر الشافعي للنص وأهل الحديث على أهل الرأي، وحسب ما قَدَّمَ الشافعي فإنه عمل لعزل القرآن عن سياقه الذي جاء مخاطبًا إياه وهاديًا له، بل وعَدَّ القرآن حاملًا لكافة المعارف الإنسانية وعدم حاجة الإنسانية إلى أي علم أو معرفة غيره، وبدأ الشافعي رسالته بتعريف العلم بأنه العلم بالقرآن وينصُّ قائلًا: “فكل ما أنزل الله في كتابه -جل ثناؤه- رحمة وحجة، عَلِمَهُ من عَلِمَهُ، وجَهِلهُ من جَهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه[6]، فالعلم هنا هو علم بكتاب الله ومن ثم يُعدُّ كتاب الله حاويًا لكل المعارف القديمة والجديدة والتي سوف توجد، فالقرآن بهذا المعنى حاويًا لما كان وما هو كائن وما سوف يكون، ويظهر هذا فيما قاله الشافعي في الصفحة التالية إذ يقول: “فليست تنزل بأحد من أهل الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”[7]، ويضيف الشافعي السنة إلى القرآن بوصفها وحيًا ولكن على خلاف القرآن، ويغلق باب المعرفة عند المصحف (النص القرآني) والنص السني، أو بالأحرى عند النص الذي اعتُمدَ بوصفه نصًّا إلهيًّا أزليًّا وُجد على هذه الصورة منذ الأزل، وعلى المسلمين فَكُّ شِفرته والاهتداء إليها ليحكم بينهم.

ومنذ رفع المصاحف على أسنة الرماح في موقعة صفين، واستدعاء القرآن استدعاءً واضحًا وصريحًا في ميدان السياسة والعمل من خلفه، كان عمل السياسة مع القرآن أقل وضوحًا وصراحةً عما هو عليه، إلى أن تم الاستقرار على الرؤية الأشعرية (بأن القرآن غير مخلوق) للوحي على يد الخليفة المتوكل (206ه، -247ه) في حضور الشرفاء والقضاة وشهود العدل، وقضى بتحريم القول بخلق القرآن وعدِّها خارجة عن الدين ومستباح دم من يعتنقها، وقد اختفت القراءات المختلفة مع الاتجاه الأشعري بآلية الفرض السياسي، وكونت الرؤية الأشعرية رؤيةً صادقةً ونهائيةً للدين وليس ذلك فحسب، بل إنها قَدَّمَت نفسها على أنها نمطُ التفكير الإسلامي الذي يُكون أدوات العقل الإسلامي ومناهجه والخروج عن هذا النمط وهذه الأدوات يُمثل خروجًا عن الدين، وعملت السلطة بعد ذلك من خلف النص القرآني بواسطة التيار الأشعري الذي تحالفت معه، وقَدَّمت القرآن بوصفه حاملًا لكافة المعارف الدنيوية التي يمكن أن تطرحها المناحي الحياتية، لتبرر من طريقه جميع أفعالها، وتستنطقه برغباتها في كافة الأصعدة، واستقرَّ الفكر الإسلامي على ذلك وأضحى المخالفُ خارجًا عن الدين.

وفَرَضَ التعامل الأزلي مع المصحف التنزيه الذي يعرفه العقل الإنساني عن الأزلي، فلا يحمل أي نقصان أو مساس بشري، لذا كانت الرؤى المعتادة والتي تسعى في البقاء تعمل لتنزيه المصحف وعدم الحديث عن الدور البشري في جمعه وترتيبه ونقله من ألسنة القبائل إلى لسان قريش وحدها، وهذا التعامل الأزلي مع المصحف لم يجعل للقرآن مَدخلًا غير اللغة، في الوقت الذي يُطالب فيه المسلمون النص/القرآن بالحضور الحي في أدوات وآليات عمل العُرف والاجتماع، وهو ما يجاوز قدرته بوصفه نصًا لغويًا، ويصبح في حاجة إلى آليات أوسع من اللغة تكون قادرة على استيعاب حاجة المجتمع ومقاصد النص وكيفية حضوره الحي في المجتمع، لكن التعامل معه بوصفه نصًا وُجِدَ على هيئته منذ الأزل يحول دون وجود مثل هذه الآليات والأدوات.

ويتضمن التعامل مع القرآن بوصفه نصًّا عَدُّهُ بنيةً نصيةً واحدةً متسقةً فيما بينها ذات بناء واحد متناسق لا يعرف التناقض أو التعارض، خاصة إذا كان يُعرض بوصفه كلام الله في ذاته، وهذا ما يجعله غير قابل لاحتواءِ أي شكل من أشكال النقصان، ومن ثم عملت التفسيرات لرفع التناقض الظاهري بين أجزاء النص وبعضه، باستخدام آليتي المُحْكَم والمُتَشَابه داخل السياق الكلامي، والناسخ والمنسوخ داخل السياق الفقهي أو بين النص والواقع، من طريق الأبواب الخلفية التي اخترعتها المنظومات التفسيرية القديمة لإدخال البُعد الاجتماعي والإنساني في النص، ومن طريق علم أسباب النزول الذي يعترف ضمنيًا بقوة الموقف الاجتماعي في صياغة آيات القرآن، كون الحادث الاجتماعي سببًا في نزول الآية ومن ثم أحد أدوات فهمها وتفسيرها، ونجد أن السيوطي (849هـ- 911هـ) يقول في مقدمة كتابه ((لباب النقول في أسباب النزول)) إنه: “لمعرفة أسباب النزول فوائد وأخطأ من قال لا فائدة له لجريانه مجرى التاريخ، ومن فوائده الوقوف على المعنى أو إزالة الأشكال قال الواحدي لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها[8].

ثانيًا: المفهوم المعاصر للقرآن

صِيغ العقل العربي المعاصر بمفردات رد الفعل التي وضعته فيه حالة التهديد الهُوياتي التي جاء بها الاستعمار واستخدامه الأداتي للحداثة، وتُمثل التفسيرات الإصلاحية (المُنْجَزَةُ في العصر الذي يطلق عليه العصر الإصلاحي) نتاجًا أوليًّا لتماس الحضارة العربية/الإسلامية مع الحداثة القادمة مع غزو نابليون بونابرت، فانطلقت للإجابة عن التساؤلات الغربية المطروحة على الواقع الإسلامي، وجعلت العقل الإسلامي في حرجٍ  وعجزٍ عن التنصل منها، تتفق في المنهج مع التفسيرات التراثية في أن القرآن يحملُ الإجابات الكافية عن جملة مشاكل الوجود الإنساني، ومن ثم تحاول الدفاع عنه مقابل المُنجز الحضاري الغربي، إلا أنها تُفضي إلى نتائج مختلفة، لأنها تعمل بمنهج انتقائي تلفيقي يحاول استنطاق القرآن بالمنجز الحضاري الغربي، ودفعها ذلك إلى حالة الانهزام التي عاشتها في مرحلة تماسها مع الحداثة أمام غزو نابليون، وانطلقت من وضعها للحضارة الحداثية بوصفها مُمثلًا لمفهوم الإسلام الصحيح، ويتجلى هذا في عبارة الإصلاحي الكبير محمد عبده عن المجتمع الأوروبي (وجدتُ إسلامًا بلا مسلمين، وهنا مسلمون بلا إسلام) بعيدًا عن التعارض المنطقي الصارخ في العبارة، ولكنها محاولة تلفيقية ذات جانبين:

  1. أولهما، سلب العقل الأوروبي القدرة على إنتاج ذاته، ونسب التقدم أو تعريفه بالإسلام
  2. والجانب الآخر، استنطاق القرآن بهذا المنجز بغير منهجية واضحة، بل من طريق العمل بآلية انتقائية تبريرية نفعية.

وتميز الفكر العربي في المرحلة الإصلاحية باعتناقه الأفكار الحداثية الأوروبية وقيمها، بدافع انبهاره بها ورؤيته لها على أنها حتمية ومهيمنة، ولم يستثن من ذلك المعتقدات الدينية، فقد جاءت محاولات محمد عبده الـتأويلية، بوصفها محاولةً لاستنطاق النص الديني (القرآن) والتراث الإسلامي بقيم التقدم الغربي -الذي يسلبه محمد عبده أصالته وادعاءه بأنه صحيح الإسلام[9]– وذلك من طريق عمل انتقائي نفعي للقرآن وللتراث، بما يوافق القيم المطروحة حينها من الحرية والتسامح والمواطنة التي جعلت العقل الإسلامي في موقف حرج حينذاك[10]، واعتمد على العناصر العقلانية في التراث، خاصة ما يؤول في نهاية الأمر إلى الموقف الأوروبي ومنجزاته التي كانت تُمثل التحدي الذي يعمل هذا التيار لمواجهته[11]، ووفقًا لقول الباحثة والمؤرخة أمل غزال* “كانت أوروبا متميزة وحاضرة في الكتاب، وتردد صداها لاحقا في التأريخ العربي الأوسع، وكأنها مكة الجديدة بالنسبة للجميع”[12]، ولا تكون الباحثة مغالية في تقييمها إذا نظرنا إلى محاولات محمد عبده التأويلية التي استنطقت القرآن بالقيم الحداثية والأوروبية، وزعمه بأن أوروبا تطبق الإسلام والبلدان العربية لا تفعل، وفق ما حملته عبارته الشهيرة عن أوروبا.

وحمل هذا الوجود الطاغي للفكر الأوروبي والانبهار بالحداثة تهديدًا ضمنيًا للهُوية العربية والإسلامية، وهذا ما نطق به جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897) الذي جاء من الهند حاملًا ثقافة المقاومة ضد الاستعمار البريطاني لها، وكان رفضًا للمد الأوروبي في الثقافة الإسلامية، إلى درجة أنه خصص رسالته في (الرد على الدهريين) لنقد ودحض أراء الإصلاحين المسلمين الهنود، الذين جعلوا من جامعة عليكرة ساحة لنشر الأفكار والعلوم الأوروبية[13].

ورأى الأفغاني في الانتصار للثقافة الأوروبية والحداثة انتصارًا للبدع والاستعمار وضياعًا للدين وللهُوية وأن الأمة لا تنهض إلا بـ “أسباب نهوضها الأول حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وانهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رؤوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها بدقيق حكمتها إنما هو دين قويم الأصول، محكم القواعد شامل لأنواع الحكم “[14]، ولا يختلف الأفغاني هنا مع محمد عبده في أن الدين هو قوام الأمة وطريقها للنهوض، ولكنه يختلف في مضمون هذا الدين، ففي الوقت الذي يراه محمد عبده متمثلًا في المعارف الأوروبية والمجتمعات الأوروبية، يرى الأفغاني أنه في الأصول الدينية التي تعطي للأمة ميزتها وتلم شملها، ويرى الأفغاني أن “الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة واتحاد وائتلاف الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية”[15]، وما يعنيه الأفغاني من تبرئة الأصول عن محدثات البدع هو خلوها من أي بعد أوروبي والعودة إلى الأصول التاريخية، وحملت هذه المرحلة الإصلاحية الجدل بين الحداثة والتراث، فقد جاءت بانبهار الحداثة والحضارة الأوروبية، وفي الوقت نفسه النزوع نحو التراث واللوذ به مما يُمثله التفوق الحضاري من تهديد على الهُوية والدين.

 

  • الوهابية واعتماد المفهوم الأداتي للقرآن

بعد إلغاء الخلافة العثمانية وما مَثَّلتهُ من تضاعف التهديد الهُوياتي على العقل العربي، رأى في الوهابية بديلًا عن هذه الخلافة خصوصًا أنها أخذت على نفسها حق تطبيق الدين وعملت للتطبيق الحرفي للقرآن داخل الدولة السعودية التي نشأت على يدها، ومَثَّلَت الوهابية في هذا الحين طوق نجاة للذات المُنهزمة التي في حاجة إلى مشروع موازٍ يُعلن عن وجودها وتبنت المجتمعات العربية الوهابية شيئًا فشيئًا، إلى أن حدث التحول البترودولاري الذي أعطى إلى الوهابية تمويلًا ونفوذًا مَكَّنها من الحضور في كافة أنحاء المجتمعات العربية، وكان لابن باز (1912-1999) دورًا كبيرًا في نشر الوهابية، فقد كان يعمل لوجود وكلاء في المنطقة العربية يُكلفهم بطباعة كتب الوهابية والكتب الداعمة لها[16]، وأسهمت الهشاشة الهُوياتية وحالة الانهزام التي عرفتها المجتمعات العربية في ظل الاستعمار الأوروبي بعد إلغاء الخلافة وفشل قيام الدولة القومية في حضور الوهابية بوصفها مشروعًا يُعبر عن احتياجات الأمة ويضمن بقاءها ونهوضها، ومن ثم تَخللت الوهابية النسيج الاجتماعي العربي وعملت لصياغة العقل العربي العاصر.

وترفض الوهابية أن يُطلق عليها هذا الاسم وتفضل أن تُطلق على نفسها اسم (السلفية)، نسبة إلى السلف الصالح وإن كانت لا تتبع إلا ما يطرحه محمد بن عبد الوهاب، وهي -كما تعلن عن نفسها- تُمثل الإسلام الخالص النقي الخالي من كل بدعة أو شائبة بلا انحراف أو زيادة، وأنها تُمثل الإسلام الصافي الذي أجمع عليه السلف الصالح، ولعل هذا ما دفع لوزيير إلى تسميتهم (بالسلفية النقاوية)([17])، وتُعد السلفية رد فعل حداثي بامتياز، إذ جاء التيار السلفي بوصفه ردَّ فعلٍ لحالة الانهزام العامة التي يعانيها العقل الإسلامي تجاه المنجز الحضاري الغربي، كونه مستهلكًا عاجزًا عن المشاركة أو الندية، وذلك من طريق زعم تفوق أنطولوجي مبني على الانتماء العقائدي مقابل التفوق الحضاري الغربي، بل متعاليًا عليه، ويبلور التيار السلفي رؤية مشروعيته من طريق دفاعه عن الهُوية الإسلامية والعمل لحفظها وعدم تفككها، وينطلق من هاجس المؤامرة المُسيطر على الذهن السلفي، وتصبح العودة إلى النص (القرآن والسنة) ووضعه خارج السياق التاريخي أهم آلياته في الدفاع عن الهُوية الإسلامية وتماسكها كونه يُعد المكون الأساسي لها، والحصن المنيع للذات العربية/الإسلامية وفق رؤية التيار السلفي، ومن ثم يتعامل مع النص القرآني بوصفه مجموعة من الأوامر والنواهي المتعالية على أي سياق تاريخي، والتي جاءت في الفضاء معزولة عن أي سياق اجتماعي وتاريخي، غير المحتاجة إلى أي أدوات تأويلية أو وسيط معرفي لإنتاج أحكامها الاجتماعية، بل تُنفَّذُ بحرفيتها.

ويؤيد هذه الرؤية الباحث الأنثروبولوجي المصري محمد حافظ دياب (1938-2015) بخصوص معنى الإسلام عند السلفية/الوهابيين، بأنه لا يخرج عن لفظ النص الذي صاغه الشافي[18]، أي أن الإسلام يعنى الالتزام الحرفي بالنص القرآني والنص السني، وترى في النص (القرآن والسنة) الإجابة عن كافة التساؤلات الممكنة في كافة نواحي الوجود، ومن ثم تتعامل معه على أنه كتاب علم وتعمل لسحب شرعية النظريات العلمية المعاصرة ونسبها إلى القرآن وكتاب تاريخ وكتاب قانون كذلك، وتتخلى عن أي منجز معرفي تم في التاريخ الإسلامي بخصوص القرآن، وترفض المذاهب الفقهية والمُنجز الفقهي، وترى أن الإسلام يتمثل في النصوص ولا مجال للرأي، فيقول تلميذ ابن تيمية ابن قيم الجوزية (1292- 1350): “النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا[19].

ويصرح ابن تيمية أستاذ ابن القيم الجوزية والمنظر الرئيس عند العقل السلفي حتى أُطلق عليه لقب “شيخ الإسلام“، عندما سألوه عما قدمه بأنه موافق لما قدمه الإمام أحمد بن حنبل ومطابقًا له قال: “مَا جَمَعْت إلَّا عَقِيدَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ إنَّمَا هُوَ مُبَلِّغُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ قَالَ أَحْمَدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ الرَّسُولُ لَمْ نَقْبَلْهُ وَهَذِهِ عَقِيدَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ(([20] وعليه تُرفض كافة الاجتهادات الفقهية والعقلية التي مارسها العقل الإسلامي تجاه واقعه والنص القرآني.

والسلفية/الوهابية في عَدها النص حاملًا كافة المعارف المُمكنة كانت تقدمه على أنه أداة تفوق وقيادة مقابلة للحداثة التي جاءت بها الحضارة الأوروبية المتفوقة، ومن ثم عملت لسحب شرعية هذه الحداثة وأفكارها ونسبها إلى النص، وكما استقبل العقل العربي الحداثة بوصفها أداة تقدم، وليست عرضًا لاختمار معرفي نتجت عنه الحداثة، قدمت السلفية النص (القرآن والسنة) على أنه أداة تقدم وطالبت الواقع بالمثول له، وتمسكت بالشكلانية والعودة إلى القرون الهجرية الأولى شكلانيًا دون النظر إلى المضمون، وذلك هروبًا من حالة السيطرة التي تُمثلها الحضارة السائدة والحداثة على واقعها.

وحين جاء الاستقلال مخيِّبًا للآمال المطروحة في الساحة العربية، تغافلت الدولة عن دورها مما خلق نوعًا من الفراغ الأيديولوجي والفكري والإداري، تولت السلفية القيادة لتنمو هي الأخرى بوصفها ردَّ فعلٍ على حالة الضياع هذه واجتاحت الشارع العربي وفرضت أيديولوجيتها[21]، واضحت السلفية تُعبر عن الجو الفكري العام في السياق العربي وتضامنت معها المؤسسات الدينية الأخرى، خاصة أنها كانت تزعم انطلاقها من القرآن والسنة النبوية وعَدَّت نفسها أهل السنة والجماعة، ومن ثم نشأ المفهوم الأداتي للوحي الذي يرى في القرآن نصًّا يحمل كافة المعارف الدنيوية والأخروية وكافة الإجابات، وكان هذا المفهوم مُرضِيًا لحالة العجز التي تعيشها المجتمعات العربية وحالة الإفلاس المعرفي والتبعية التي تفرضها سيطرة الحضارة القائمة.

ولإيمان العقل العربي المعاصر بأن القرآن نصٌّ يحمل كافة المعارف معزول عن أي سياق واقعي وإنساني، أضحى يطالبُ المجتمعات العربية بالمثول له، ولحضوره في الذهن العام بهذا الشكل جاءت تيارات الإسلام السياسي تُعلن انطلاقها منه، وأن مشروعها يُمثل إحياءً للقرآن وعودته إلى الواقع العربي ومن ثم نهضة الأمة، وهذا ما يتضح مع سيد قطب (1906-1966) في إعلانه الانطلاق من القرآن في مشروعه لوجود نظام اجتماعي متوازن، وتحديده بأنه يكون من طريق اتخاذ النص القرآني بوصفه دستورَ حُكم يجب على الجميع الإذعان له وتنفيذ أوامره والعمل به، فقد جَعل القرآن مصدره الأساسي ولا يعود إلا إليه([22])، ويقر قطب في كتابه “معالم في الطريق” بوجود نمطين للتعامل مع القرآن: أولهما، اتخاذه بوصفه منبعًا للسلوك الإنساني من الله، لا يملك الإنسان حياله سوى تنفيذه بوصفه مجموعةً من الأوامر الإلهية، وهذا ما فعله الجيل الأول من الصحابة كما يذكر قطب، أما النمط الآخر، فينظر إلى القرآن بقصد الدراسة والإمتاع، وهو النمط السائد في هذا العصر[23]، وللخروج من حالة الانهزام والتردي التي تعانيها المجتمعات العربية وهي ما يُطلق عليها قطب الجاهلية الثانية، عليهم أن يفعلوا كما فعل الجيل الأول من الصحابة للخروج من الجاهلية الأولى، وهو توحيد منابع السلوك الاجتماعي والفردي والقوانين، لتَتَمَثَّل جميعها في القرآن، كما أنه يجب أن يتغير نمط التعامل مع القرآن بوصفه موضعَ دراسة ونقاش وتساؤل وإمتاع وتذوق، ليصبح نافذة يحكم من خلالها الله عز وجل، ومن ثم علينا الانصياع لأوامره كما فعل الجيل الأول من الصحابة باتخاذهم الآيات القرآنية بوصفها أوامرَ عسكريةٍ عليهم تنفيذها[24]، وهو أمر ينفيه الاستقراء التاريخي، ولكن يُصِرُّ عليه سيد قطب.

وفي كتاب له بعنوان “كيف نتعامل مع القرآن اليوم” يقول الشيخ يوسف القرضاوي (1926-2022): “القرآن لم يصبح هو المُوجه الأول لعقول المسلمين، ولا المُؤثر الأول في قلوب المسلمين، ولا المحرك الأول لسلوك المسلمين([25]) ويرى أن هذا هو سبب الضعف والتمزق الذي تعانيه المجتمعات العربية، ومن ثم يكون العلاج لِمَ يعانيه المسلمون من ضعف وتمزق وانحطاط وتشتت وتخلف تجاه الحضارة يتمثل في العودة إلى الإسلام الصحيح لدى القرضاوي([26])، ويقدم حله بوصفه الحل الطبيعي الذي تفرضه قوانين الطبيعة في مقابل الحلول الأخرى المُصطنعة([27])! ولا يقف هذا الحل عند حدود المشكلات التي يعانيها المجتمع العربي والإسلامي، ولكنها تُمثل حلولًا لما تعانيه البشرية من عبثية وتخبط وضياع، وذلك لأنها نابعة من مصدر إلهي كما يدعي القرضاوي ومن قبله قطب([28])، وينهج القرضاوي نهج قطب في رؤيته لعودة الإسلام التي تتمثل في عمل القرآن داخل الساحة الاجتماعية بوصفه منهاجًا للحياة ودستورًا حاكمًا للعلاقات الاجتماعية والحياة السياسية والدعوة الإسلامية([29])، ويُصرح بأن “العقلية التي ينشئها القرآن بوصاياه وتوجيهاته وأحكامه، هي التي تحقق الازدهار العلمي، وتهيئ المناخ لظهور علماء يبحثون ويبتكرون في كل مجال”([30])، ويستشهد بنمط تعامل الصحابة مع القرآن ويرى أنهم وقفوا منه موقف الآمر وهم المنفذون، فكانوا يسارعون في تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه([31])، ويُعَدُّ المسبب الأول والأوحد للنهضة والتغير اللذين حدثا داخل شبه الجزيرة العربية، اتباع أصحاب النبي للقرآن بوصفه سلطةً ودستورًا حاكمًا([32])، ومن ثم تكون النهضة في عودة القرآن بوصفه دستورًا حاكمًا.

والواقع إن المفهوم الأداتي للوحي التي ذرعته السلفية في العقل العربي المعاصر، أدى إلى استدعاء القرآن والتعامل معه على أنه حلٌّ جذري لكافة الأزمات التي تعانيها المجتمعات العربية، وأضحى التعامل مع القرآن كما قال الباحث المصري حسن حنفي (1935-2021) على أنه سوبر ماركت به كل شيء[33]، أو جراب الحاوي حامل لكل الحيل، وأفضت محاولة فرض القرآن في صورته الجامدة المعزولة عن أي بعد واقعي التي تقدمها السلفية واستقرت في الذهن العربي، إلى أن أصبح الواقع والقرآن أسطورة، فلا الواقع قادر على البحث في أزماته ومشكلاته ومواجهتها وإنتاج حلولٍ لها، ولا القرآن حاضرٌ في حياة المسلمين حضورًا فعليًّا.

ونتيجة الضغط الواقعي أضحى المفهوم الأداتي للقرآن مشكلة أمام الواقع المعاش، فقد أضحى القرآن في صورته التي تقدمه فيها السلفية والتي استُقِرَّ عليها، ضاغطًا على هذا الواقع ويعمل لإنتاج حلولًا لهذه المشكلة أو التحايل عليها، وراهنت عديدٌ من المشاريع على التأويل بوصفه حلًا[34]، ورأت هذه المشاريع أن علينا أن نخرج من أفق المفهوم الأداتي للقرآن والتعامل معه على أنه نصٌّ حاملٌ لكافة المعارف منعزلٌ عن أي بُعدٍ واقعي، والبحث في كيفية حضوره الواقعي في حياة المسلمين، ولطغيان الفكر السلفي عَدَّ العقل العربي المعاصر هذه المشاريع هادمة لطبيعة القرآن، وحاكمت نصر حامد أبو زيد لقوله بمفهوم مغاير للنص، بردته وتطليق زوجته منه، مما يُعبر عن حالة التطابق التي يراها العقل العربي المعاصر بين مفهومه الأداتي للقرآن والطرح الإلهي له.

 

الحواشي والمراجع:

[1] – محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، صـ 20

[2] – نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2007، ص 128

[3]https://www.youtube.com/watch?v=1-bezmtNHIc

[4] – راجع، علي مبروك، نصوص حول القرآن (في السعي وراء القرآن الحي)، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2015، صـ 21-22.

[5] – عبد الستار جبر، الهوية والذاكرة الجمعية (إعادة انتاج الأدب العربي قبل الإسلام أيام العرب أنموذجا)، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص55.

[6] – محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، ص 19.

[7] – الشافعي، الرسالة، ج1، صـ 20

[8] – عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، لباب النقول في أسباب النزول، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 3.

[9] – عبده (محمد)، الإسلام بين العلم والمدنية، دار الحياة للنشر والتوزيع، الجيزة 2017، ص 212- 228

[10] – Safran. (Nadav), Egypt in search of political community, Harvard, 1961, pp.63

[11] – نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء – المغرب، بيروت- لبنان، 2014، ص 188

* – أستاذة التاريخ وعميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

[12] – أمل غزال، الفكر “المتزمت” في العصر الليبرالي يوسف النبهاني (1849-1932) قصص الأحلام والمجادلات الصوفية في مواجهة العصر الحديث، دراسة ضمن كتاب (الفكر العربي بعد العصر الليبرالي نحو تاريخ فكري للنهضة، تحرير: دجنس هانسن -ماكس وايس، ترجمة فؤاد عبد المطلب، مؤمنون بلا حدود للدراسات والنشر، بيروت، 2019، ص 374.

[13] – علي مبروك، مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، 2017، ص265.

[14] – جمال الديني الأفغاني، محمد عبده، الأثار الكاملة، العروة الوثقى، ط2، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، طهران، 1221ه، ص83.

[15] – المرجع السابق، ص 84.

[16] – هنري لوزيير، صناعة السلفية الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ترجمة أسامة عباس- عمرو بسيوني، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية- ناشرون، بيروت، 2018، ص324.

[17] – المرجع السابق، ص 109

[18] – محمد حافظ دياب، نقد الخطاب السلفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017، ص320.

[19] -ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3، قدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج: أبو عمر أحمد عبد الله أحمد، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، ١٤٢٣ هـ، ص97.

[20] – ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج3، وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، 2004ص 169

[21] – محمد أركون، تحرير الوعي الإسلامي (نحو الخروج من السياجات الدوجمائية المغلقة) ط1، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة بيروت، 2011، ص 146

[22] – فاطمة سعد بادي الجفالي النعيمي، سيد قطب وتوظيفه لقواعد التفسير من خلال تفسيره في ظلال القرآن من سورة التوبة إلى سورة يوسف جزء 12-11 من القرآن، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، ع1، مجلد 33، مايو 2019، ص 63 https://search.mandumah.com/Record/982822

[23] – سيد قطب، معالم في الطريق، ط6، دار الشروق، بيروت، القاهرة، 1979ص 14-16

[24] – الفكر الإسلامي الجهادي المعاصر، إعداد مختار قنديل، مراجعة أحمد عبد ربه، دار المرايا للإنتاج الثقافي، القاهرة، 2016، ص 74

[25] – يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن، ط3، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 405

[26] – القرضاوي، من أجل صحوة راشدة، دار الشروق، القاهرة، 2001، ص 120

[27] – يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة كيف جنت على أمتنا، ط5، مكتبة وهبة، القاهرة، 1993، ص13

[28] – القرضاوي الإسلام حضارة الغد، مكتبة وهبة القاهرة، 1995، ص 149

[29] – القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن، ص 405- 431. راجع أيضا، القرضاوي، الحل الإسلامي فريضة، ص 207

[30] – المرجع السابق، ص 401

[31] – المرجع السابق، ص 411-412

[32] – القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن، ص 410-411

[33] – https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2006/08/31/54563.html

[34] – يمكن أن تراجع في ذلك، كتابي، استراتيجيات التأويل وأصول العنف الديني في الفكر الإسلامي المعاصر، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2024.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete