تكوين
بقدر ما كانت الخلافة نظرية كتبتها السلطة للسلطة… كانت تجميعًا لمجمل الردود التي أطلقها الكلام والفقه نيابة عن السلطة” عبد الجواد ياسين [1]
مقدمة
تنطلقُ مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية للعقل بوصفه مجموعةً من المفاهيم التي كَوَّنت بِناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي. وتعمل مجموعة المقالات لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، زاعمةً أنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤية بخصوص إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المُكونة له والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهْزم حضاريًا. يرتكن تحديد هذه المفاهيم في الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطرح عليها وتتسلل داخلها، إن لم تعد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي والاتحاد مع المُقدس لتضمن لنفسها البقاء والتأبيد، وتضمن الدفاع عنها الذي يأخذ بُعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس. وفي الزاوية الثانية إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي، الذي يغلب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المتمحور حول الذات، نتيجة للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه. وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المُؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأسست لهذا مجموعةً من المفاهيم الصارمة التي قدمتها بوصفها المفاهيم المكونة للضمير الإلهي من جانب، والمُعبرة عن الذات العربية الإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية، وبُعد أنها مقاومةً للتفكك المُمنهج وحفاظًا على الهُوية.
ويأتي الجهاز المفاهيمي المُكون للعقل العربي المعاصر من مفهوم الهُوية النقية والمُهددة، ويستدعي مفاهيم الماضي وانجازاته ويستحضرها في الراهن، ويضعها في حالة تماهي مع الهُوية ومُحددًا لأدوات بناءه وتعامله الواقعي. وتأتي المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر من أفق الانهزام والتهديد الحضاري الذي مَثَّله الاستعمار بقيمه الحداثية وتكنولوجيته العسكرية. تحت ضغط المطالبة بالحضور النِدِّي، نجدُ عديدًا من المفاهيم التي بُنيت بنزوع مقاوم، فتحت ضغط الواقع المنهزم المُلح على التجديد، ورسوخ مفهوم البدعة في الذهنية العربية الذي أخذ بُعد المقاومة في حالة الانهزام الحضاري والعسكري التي عانتها المجتمعات العربية، تكون مفهوم الشريعة بوصفها الحل لكافة الأزمات والمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية على الإطلاق، وقُدمت بوصفها الحل الإلهي والأصيل الذي يضمن صون الهُوية العربية وحمايتها.
وبالكيفية التي جاء بها مفهوم الشريعة بوصفها حلًا سحريًا لكافة الأزمات والمشكلات التي تعانيها المجتمعات العربية، بل والتي سوف تعانيها فيما بعد، جاء مفهوم التراث بوصفه بوصلة الوجود والاعتراف، وبالكيفية نفسها ومن داخل التراث وضعت الذات/النحن العربية الخلافة في الفروض الدينية، وأصبحت تُمثل نظام الحكم الإسلامي الذي فرضه الله، ومن طريقها تُطبق الشريعة التي تُمثل الحل النهائي لجميع المشكلات. وبناء مفهوم الخلافة بوصفها الحكم الإلهي والشرعي خرج من التدخل الإمبريالي والاستغلال السياسي للسلطنة العثمانية له، ودفع إلى ترسيخ مفهوم الخلافة بوصفها أخر أدوات حماية الهُوية العربية الإسلامية وعناصر تمثيلها وحضورها، ومن ثم عمل العقل السياسي العربي من طريق مفهوم الخلافة، وأنتج أنماطًا مختلفةً من الاستبداد السياسي، تنطلق في مجملها من العمل بمفهوم الخلافة.
التجربة السياسية الإسلامية
يختلف النمط السياسي الإسلامي عن أي نمط سياسي آخر في أنه وُجِدَ من طريق الدين وخرج من بنيته لا العكس، فعادة ما تستهلك السياسة الدين بعد ظهوره، ولكن في حال التاريخ الإسلامي، فإن الإسلام جاء مُكونًا رابطة تختلف عن الرابطة التي كانت تعرفها شبه الجزيرة العربية، وهي صلة الدم والنسب. فقد جاء الإسلام مُكونًا رابطة جديدة مبنية على الانتماء للدين الإسلامي، أجبرها السياق الثقافي على التعامل بالمنطق القَبَلي. ومن داخل رابطة الدين الإسلامي خرج البناء السياسي الهادف إلى الحفاظ على هذه الرابطة، والبناء العقائدي والاجتماعي، وكان البناء الاجتماعي والسياسي حينها مبنيان على البناء العقائدي. ومن طريق رابطة الإسلام خرج النظام السياسي ونمط الدولة -الذي لم يكن معروفًا في شبه الجزيرة العربية[2]– فتماهى النظام السياسي مع الدين الإسلامي، وصيغت السياسة بوصفها خادمة لأهداف الدين. وكان لهذا النمط من التفكير المازج بين السياسي والديني، السيطرة في مراحل تكون الدولة الإسلامية وبعد تكونها، لذا عَرَفَت السياسة مشروعيتها من طريق الدين، وَرَسَخَ داخل الأذهان أن الدين هو الذي يخلع المشروعية على السلطة السياسية.
وعُرفت السياسية بوصفها أحد مضامين البنية الدينية الإسلامية، بل يُمكن القول إنها أضحت العنصر الرئيس في البنية الدينية، فالخلاف الأول في الإسلام جاء على الإمامة، وأنشئ أكبر انقسام في تاريخ الإسلام على أساس سياسي، فقد انقسم المسلمين إلى سنة وشيعة للخلاف على الإمامة، وقام النسق الفكري والعقائدي الشيعي كله على الإمامة ونظرية الإمام المعصوم، ولم يختلف الفكر السني عنه في المضمون، فنجده تعامل مع الإمامة من داخل المدونة الفقهية السنية، وتجمعت النظريات الفقهية حول الإمام وأوصافه وكيفية توليه. ويتماهى مفهوم الجماعة ذا المضامين والنتائج الفقهية مع مفهوم الدولة صاحب المضامين والدلالات السياسية، وكذا يتماهى مفهوم الإمام صاحب القيادة الروحية مع مفهوم الحاكم صاحب القيادة السياسية، ويعود هذا الاتحاد والتماهي إلى طبيعة شبه الجزيرة القبلية التي فرضت على النبي محمدﷺ التوحيد بين السلطتين في شخصه، وعليه بُنيت التجربة السياسية والنسق الفقهي، وأصبح الحاكم هو الإمام والقائد والمرشد للحياة في الدنيا والآخرة.
إقرأ أيضا: تاريخ الفرق الإسلامية: قراءة سوسيولوجية الشيعة الجزء الأول
وإذا كان الإمام -وهو مصطلحٌ ذا دلالة دينية يُمكن أن نستقيها من الصلاة خلف الإمام واتباعه- هو الحاكم -وهو مصطلح سياسي ذا أبعاد دنيوية- ويقود الأمة إلى صلاح الدنيا والأخرة، فإنه بذلك يُعد قائد الجماعة، أو بلغة الطبيعة القبلية البدوية راعي الجماعة، وهو مفهوم يجعل الإمام بطريقة أو بأخرى متداخلًا مع الجماعة ليمثلها هو، ويعرف ما ترغب فيه الجماعة وما يجب أن يكون لها. ومن داخل البنية الفقهية السنية يتماهى الإمام مع الجماعة، فيمثل القائد العارف والمرشد الروحي الذي دونه تتفرق الجماعة ولا تكون، وعلى هذا أكتمل التماهي الفقهي بين الإمام والجماعة، وأصبحت معارضة الحاكم انشقاقًا عن الجماعة، وهو الأمر الذي يُوصف فقهيًا بالبدعة، ومُرَوِّجُ البدعة وجب قتله وفقًا للنسق الفقهي المالكي، وعُد أساسًا قُنن من طريقه قتلُ المعتزلة والإباضية وغيرهم[3]. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن أصبحت طاعة الإمام/الحاكم ركنًا من أركان الدين، بل أحد أهم عناصر العقيدة التي يسقط الإيمان بسقوطها، رغم مراعاة الفرد للأركان الأساسية للدين، فأضحى من لا يتمسك بأمين الله (المؤتمن على الرعية – الخليفة) لن يفوز بالصلوات الخمس[4]، وهو نزوع سياسي سمح بتمرير الثقافة القبَلَية وصياغتها في البناء الديني، ليأخذ الإمام مميزات وصلاحيات شيخ القبيلة، ولكن بصورة دينية ذات إلزام إلهي.
ويمكن القول إن التجربة السياسية الإسلامية تبلورت في صورتها النهائية مع الأمويين، فلم تكن هناك تجربة سياسية تعرفها شبه الجزيرة العربية قبل ذلك، وفترة حكم الراشدين كانت غير كافية لبلورة تجربة سياسية تسهم في بناء الوعي العام، ولم يعرف نمطًا غير النمط المعهود حينها وهو النظام الملكي بوصفه النظام الطبيعي للحكم، ولكنه رُفِضَ للمباهاة والمفاخرة التي كان الإسلام يرفضها، ويظهر هذا فيما ظهر من استهجان ورفض للتجربة الفارسية فيما كان يقال عن الأمويون بأنهم يريدونها قيصرية وملكًا، فلم يكن معروفًا غير القيصرية والمُلك وكانا مرفوضين. وصاغ الأمويون حكمهم صياغة ثيوقراطية ممزوجة بالقوة العسكرية، فالأمويين الذين بدأوا الصراع السياسي ثم أدخلوه في نطاق الدين وألبسوا الخلافات السياسية ثوب الدين، وأعطوا إلى نفسهم حق الخلافة وقيادة الأمة بناء على تعاليم الدين، وذلك بعد حادثة رفع المصاحف على أسنة الرماح الشهيرة، وبداءة التأميم السياسي للقرآن[5]، بَنَى الأمويين حقهم في الخلافة على ثلاثة قواعد:
- أولها، أنهم وارثو الخلافة عن عثمان الذي أخذها بالشوري، وقُتِلَ ظلمًا وخرجت الخلافة عنهم ثم استردوها.
- وثانيها، أنهم أحق بالخلافة لقرابتهم للنبي محمدﷺ.
- وثالثها، أن الله اختارهم للخلافة، وأن هذا قدر الله الذي لا فرار منه، فهم جاءوا بقضاء الله وقدره ويحكمون بأمره[6].
وجاءت قواعد بنائهم لشرعية حكمهم لتُعبر عن المنظومة الفكرية القائمة التي تعمل بمنطق التوريث القَبَلي، والحضور الديني القوي والامتثال لأمر الله. وتوضح في الجانب الآخر إدراك الأمويين لطبيعة المرحلة، وكيفية صياغة مشروعيتهم من طريقها.
والواقع أن الإسلام في بداءته جاء بما يمكن أن نُطلق عليه نزوعًا ديمقراطيًا حينها، أو وعيًا بحق الشعب في تحديد مصيره، وأنتج دائرة أهل الحِل والعَقد، وهي دائرة تشبه البرلمان في عملها، ولكنها لا تشبهه في بنائها، فقد جاء بنائها من بنية الثقافة القَبَلية ليكون أعضاء هذه الدائرة هم كبار القبائل، أو المُقابل لهذه الصفة بعد الإسلام وهي “القِدَمُ في الإسلام” والعلم بالشريعة. ومع الأمويين أصبح أهل الحِل والعَقد هم الطبقة التي تمتلك النفوذ في المجتمع، وتضمن الطاعة للحاكم الجديد[7]. وكذا صاغ الأمويون الوعي السياسي الإسلامي من طريق النظام الملكي، ولكنهم أعطوه بعدًا ثيوقراطيًا (دينيًا) فقد أصبحت وظيفة الدولة هي حماية الدين، ولكن نظام الحكم لم يختلف عن نظام المُلك، فيقول ((معاوية)) في خطبة الجمعة: “أيها الناس اعقلوا قولي فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني”[8]. ووفق ما يذكر المفكر المصري عبد الجواد ياسين: “من منظور الفقه كانت وظيفة الحكم واحدة في الحالتين (الخلافة الراشدة والدولة الأموية)، في ممارستها للسلطة بغرض حراسة الدين وتطبيق الشريعة”[9]، وعلى هذا الأساس بنى الأمويون دولتهم بوصفها حامية للدين، وحَرَّموا الخروج على الحاكم بواسطة الفقه، وصوروا سبب الفتنة في الخروج على الحاكم فقط، وكانت الفتنة أشد أمر يُستعاذ به في هذا الحين، ومن ثم أضحى الخروج على الحاكم خروجًا عن الشريعة وما سَنَّهُ الله.
ومن طريق التجربة السياسية الإسلامية التي جاءت مع الأمويين وتبلورت بواسطتهم، أصبح نظام الحكم الملكي هو النظام الشرعي الذي أقره الإسلام، ولكن تحت مُسمى الخلافة، وهو مُسمى ذا شقين: الأول، أن يكون فيه الحاكم خليفة للنبيﷺ وحاملًا للراية النبوية الإرشادية الحامية للدين والدنيا. والشق الآخر، بوصفه خليفة الله في أرضه والحافظ لدين الله المُؤتَمن على الرعية. وكانت الحروب المعروفة بالفتنة انتهت باعتراف الحسن بن علي بخلافة معاوية بن أبي سفيان، شريطة أن يترك معاوية الأمر للأمة بعد ذلك، لكن معاوية خالف هذا الشرط ونقل الحكم من بعده لابنه يزيد[10]. وكان نظام تولي الحكم قبل الأمويين يمكن أن نقول إنه كان يُسمى بالبيعة، ويبدأ ببيعة النخب الاجتماعية ثم بقية الشعب، ولم يختلف في السياق الأموي في مُسماه، ولكن اختلف في مضمونه، إذ كانت البيعة تتم للابن بنزوع قًبًلي لا يفهم غير التوريث، والنمط الملكي للحكم الذي لم يُعرف غيره. وتستمد الخلافة كما صاغتها السلطة الأموية شرعيتها من الدين، إذ تعد هي نمط الحكم الذي جاء به الإسلام، خاصة أن الأمويين صاغوا حكمهم من طريق الفقهاء، ومن داخل البنية الدينية، وعليه أصبح التوريث ضمن أصول العقيدة والدين.
وانطلاقًا من الخلط بين الدور العقائدي للإمام ودور شيخ القبيلة في قيادة الجماعة جاء الفكر السياسي الإسلامي، وأصبحت طاعة الإمام/الخليفة ووجوده أمرًا دينيًا به تصلح الجماعة ويصلح الدين والدنيا، وفي هذا الخصوص يقول أستاذ العلوم السياسية المعاصر أندرو مارتش Andrew March: “يرى الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي أن الله لم يفرض على المسلمين طاعة أولي الأمر فقط، بل فرض عليهم نصب الخليفة. وقد بدأ المنظرون من أهل السنة تحقيقهم بالقول نصب خليفةٍ واحدٍ هو من فروض الكفايات الواجبة على الأمة المسلمة. بل إن ضرورة نصب الخليفة مسألة من مسائل العقيدة لا الفقه وحده، ولذلك عد بعضهم إنكار وجوب الخلافة بدعة، إن لم يكن رِدَّةً وكُفرًا”[11]. ومن داخل البناء الديني أُسست الخلافة بوصفها أصلًا من أصول الدين، والخليفة يُولَّى بأمر من الله وهو خليفة الله على أرضه.
وفي نظام الخلافة تجتمع السلطة بكل أشكالها في يد الخليفة، فيكون هو المُتحكم وإرادته نافذة في كافة الحقول، ولا يوجد مصدر لشرعية جميع المناصب غير الخليفة، وكان هو المُوكل بتطبيق الشريعة الإلهية وله سلطة تقديرية في الشريعة وتطبيقها وفقًا لتقدير المصلحة، وله الحق في الفصل النهائي في النزاعات الشرعية والفقهية[12]، والشاهد تاريخيًا أن تحريم الفكر المعتزلي وتجريم القول به ونصرة الفكر الأشعري تم بأمر الخليفة المتوكل. ولم تقف سلطة الخليفة عند هذا الحد، بل كان له صورة التشريع، رغم الاعتراف بأن التشريع من الله وبيد الله وحده، والأمناء على الشريعة وحراسها هم العلماء، ولم يتحدث الخليفة إلا من طريق العلماء، فكانت رغباته وأوامره تُصاغ في قوالبَ فقهيةٍ وتشريعيةٍ[13]. وهذا ليس غريبًا خصوصًا أن الخليفة هو المُلقب عادة بِظِلِّ الله على الأرض، ولفظة الخليفة نفسها تتضمن حمله الراية النبوية وحماية المسلمين وضمان خلاصهم في الدنيا والأخرة.
الخلافة ورهان التقدم
إذا قلنا إن العقل العربي المعاصر تَكَوَّنَ بمفاهيمه بوصفه ردَّ فعلٍ على الحداثة وما مثلته من تهديد هُوياتي لديه، فلا نكون مبالغين في هذا أو جانبنا الصواب، فمجمل المفاهيم المُكونة للعقل العربي المعاصر جاءت من أفق التهديد الهُوياتي المتمثل في الحداثة الذي جعل الذات/النحن العربية تفر إلى ماضيها لتستدعي مفاهيمه وتضعها كأدوات إثبات الذات وأدوات تقدم مقابل ما تطرحه الحداثة. واختلفت أدوات الذات/النحن العربية عن الحداثة في أنها تُعطي نفسها تفوقًا دينيًا مقابلًا للتفوق الحضاري الذي تملكه الحداثة. والخلافة من ضمن المفاهيم التي قُدمت بوصفها قاطرة التقدم، مقابل النظام الديمقراطي الذي فرضته الحداثة بوصفه نظام الحكم النهائي والصحيح، ووضعته في صورة الغاية، تقسم من طريقه المجتمعات إلى مجتمعات ديمقراطية ومجتمعات ترغب في أن تكون كذلك، وربما تكون محقة في هذا التصور، لكن طريقة فرضها لنفسها التي جعلتها تُمثل تهديدًا هُوياتيًا فرض على الذات النحن العربية البحث عن حيل دفاعية ورفض ما تُقدمه الحداثة.
والطابع العالمي الذي جاءت به الحداثة مع الثورة الفرنسية، مُستندة في ذلك إلى المنطق الإنساني وسيادة كل فرد وأدواته[14]، وتقديمها لنفسها بوصفها مُمثلة الإنسانية، وخضوع الدولة العثمانية لعديدٍ مما تطرحه وتفرضه الحداثة والدول الأوروبية، جعلها تُمثل تهديدًا صريحًا للذات/النحن العربية/الإسلامية حينها. واستغلت السلطنة العثمانية هذا التهديد لصالحها، وسعت في بناء شرعية دينية لها، لافتقادها الشرعية الواقعية التي تُقرها الأفراد من وجود نظام حكم وإدارة مُرضي لهم. ومن طريق تدخل الدول الأوروبية وسعيها في بلورة التقدم في صورتها سعت السلطات العثمانية في صياغة نمط الخلافة بوصفه نمطَ حكمٍ إسلاميٍ يُحافظ على الهُوية العرقية الإسلامية، وسبيل التقدم الحضاري للمجتمعات الإسلامية[15]. ومثل هذا التصرف الذي سعت فيه السلطنة العثمانية يُوضح مدى غياب الشرعية الواقعية للسلطنة العثمانية، ويتضح هذا مع الفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد (1872-1963) وموقفه من السلطنة العثمانية والأتراك، فقد رأى أنهم لا يختلفون كثيرًا عن أي قوة استعمارية تنهب ثروات البلاد لمصلحتها، ويقول صراحة: “سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها مضرة، ولا تستطيع ان تنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلا بتضافرنا والاعتماد على أنفسنا”[16]، وهي رؤية توضح الغياب الفعلي للسلطنة العثمانية التي دفعتها للبحث عن مُبرر ديني لحكمها، وهي حيلة معروفة لأي سلطة غير مُرضية لشعوبها.
وعلى الرغم من الغياب الفعلي للسلطنة العثمانية، إلا أن حالة التهديد التي مَثَّلتها الحداثة والتوغل الإمبريالي ومساعي السلطنة العثمانية إلى صياغة حكمها بوصفه الحكم الشرعي، خلقت تعاطفًا كبيرًا وإيمانًا بالسلطنة العثمانية، إلى درجة دفاع الطائفة الإسماعيلية الشيعية عن السلطنة العثمانية السنية بوصفها مُمثلة لنظام الحكم الإسلامي. وربحت السلطنة العثمانية هذا السجال إلى أن أصبح موضع الشك في الشرعية الدينية للخلافة العثمانية عام 1914 نادرًا[17]، وهذا الإيمان جعل الحدث الأعظم في الفكر الإسلامي الحديث كما يقول أندرو مارتش هو إلغاء الخلافة باسم السيادة الوطنية[18]، فقد مَثَّلت هزيمة للدين الإسلامي وهُوية الأمة، وتراجعًا تجاه الحضارة المنشودة للأمة، وجاء مردود ذلك نشأة أكثر الجماعات السياسية الإسلامية تأثيرًا في الحقبة المعاصرة وهي جماعة الأخوان المسلمين التي عرضت مشروعًا سياسيًا موازيًا لسقوط الخلافة يسعى في الحفاظ على العقيدة الإسلامية وإحياء نمط الخلافة الإسلامية، وظهر في هذه الأثناء أيضًا كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق الذي يُعلن فيه عدم ورود الخلافة بوصفها نمطًا للحكم الإسلامي في الإسلام.
فقد وَضعت إلغاء الخلافة العثمانية في 3 مارس 1924 الذات/النحن العربية في مستوى آخر من التهديد الهُوياتي، فقد مَثَّل إلغاء الخلافة لديها هزيمة سياسية ومعرفية وعقائدية، وذلك لم كَرَّسته السلطة طوال تاريخها من استهلاك للقرآن لإثبات صلاحيتها الدينية، حتى أضحت الخلافة تُمثل ركنًا من أركان العقيدة. وعَرَفَ العقل الإسلامي نمط الدولة من طريق الدين الإسلامي، بل أُنشئ من أجل الدين، وزرعت الدولة الأموية، ومن بعدها العباسية مفهوم الدولة بوصفها حاميةً للعقيدة والعرق. في هذه الأثناء رأى محمد رشيد رضا (1865-1935) في تحويل الخلافة السياسية إلى خلافة رُوحية وإعطاء كل دولة سيادتها الوطنية بدعة يمكن أن تُؤدي إلى الفتنة، وفي أثناء بحث رشيد رضا عن مخرج للأمة الإسلامية من أزمة سقوط الخلافة، وقد تزامن مع سقوط الخلافة التحالف بين شيوخ الوهابية وآل سعود، تبلور في ذهنه التجربة الوهابية بوصفها تجربةً ناجحة في مواجهة بدعة السيادة الوطنية التي سوف تُشتت الأمة[19].
ورأى رضا في الخلافة صونًا للهُوية وللحياة الإسلامية فيقول: “إن السبب الأول لكون الدولة البريطانية هو الخصم الأكبر الأشد الأقوى من خصوم الخلافة الإسلامية، هو أنها تخشى أن تتجدد بها حياة الإسلام”[20]، من هنا صيغت أنماط الحكم التي تعمل بمبدأ السيادة الوطنية بوصفها أنماطًا تبلورت للتآمر على الإسلام والحياة الإسلامية والنيل منهما، لذا جعل رضا نواة مشروعه الأساسية تأسيس حكومة إسلامية خالية من كل التقاليد والقوانين الأفرنجية التي ما أنزل الله ها من سلطان[21]. وعليه أصبح إنقاذ الأمة الإسلامية في عودة الخلافة، خاصة أن الإنجليز هدفهم الرئيس تفتت الأمة وتغريبها، ومن ثم عليها أن تقف لهذا الهدف وتعود إلى أصولها الدينية، وأعاد الاعتداد للوهابية وتبنى الدفاع عنها في الوقت الذي كان يسعى فيه إلى عقلنتها بعض الشيء، وكان تحوله من حالة العقلانية والتجديد إلى الوهابية ودعمها والدفاع عنها يخرج من الدفاع عن الخلافة.
وخرج دعم رضا للوهابية أيضا من علاقة الشريف حسين (1853-1931) الوثيقة مع بريطانيا، ولم يكن يُسميه رضا إلا خائنًا تغاضى عن احتلال بريطانيا واستعبادها للعرب مقابل مكسبه الشخصي، ورأى أنه يُحرف القرآن ويضع الأحاديث لمكاسبه الشخصية كذلك[22]. ورأي رضا في غزو الوهابية لأرض الحجاز إعادة فتح إسلامي لها كما زعمت الوهابية، وقال إنه لو كان قد حدث أيام الدولة العثمانية لأنكره الجميع لقوة الدولة والخلافة، “أما وقد حدث في هذا العهد فإننا نرى ضلع الرأي الإسلامي العام مع الوهابيين، لأن ما كان خفيًّا من قوة دينهم واعتصامهم بالسنة ورفضهم للبدع وكراهتهم للسلطة والنفوذ الأجنبي قد ظهر لخواص المسلمين وبدأ يظهر لعوامهم”[23]. وكان هدف رضا الرئيس توحيد البلاد وهذا ما عرضه على الشريف الحسين ورفضه، لذا دعم عبد العزيز بن آل سعود (1876-1953) مؤسس دولة السعودية، ورأى فيه الخليفة المُنتظر لتوحيده البلاد، ويقول في كتابه الوهابيون والحجاز “إن إنكلترا ترى من أعظم الخطر على سياستها في البلاد العربية أو الإسلامية أن يوجد في المسلمين أمير مسلم قوي ولا سيما إذا كان مؤمنًا معتصمًا مؤيدًا بشعب صادق الإيمان كابن سعود وقومه“[24]، ورأى رضا في الوهابية تمثيلًا وانقاذًا للأمة، خاصة أنها زعمت انطلاقها من السنة النبوية والقرآن، وبهذا تُعد ممثلة للإسلام والمسلمين.
وفي هذه الأثناء كتب رجل الفقه والقانون المصري عبد الرازق السنهوري (1895-1971) مؤلفه الأشهر ((فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية)) ويميز فيه الخلافة عن الدولة الحديثة، بأن الخلافة لا تزعم أهليتها للتشريع وتحتفظ بمبدأ سيادة الشريعة واستقلالها الذي يراه أكثر تقدمًا من مبدأ الفصل بين السلطات الذي تقدمه دولة القانون الوضعي التي تزعم خضوعها للقانون وهي التي تصنعه[25]. وما يقدمه السنهوري بوصفه رجل قانون يُعبر عن حالة الانهزام التي تُمثلها سقوط الخلافة، لأنها تُمثل في نظر الوعي حينها تفريغَ الشريعة الإسلامية من دورها ومضمونها، وإعطاء حق التشريع الإلهي إلى مجموعة من البشر واستبدال بالقانون الإلهي المؤبد اللانهائي، القانون الوضعي المؤقت الجزئي. رغم أن الحكام العثمانيين تمتعوا بسلطة تشريعية مستقلة عن أي مصدر تشريع، وكان لهم حق التشريع وفق إرادتهم[26]، إلا أن رفض التدخل الإمبريالي والانتصار للهُوية الإسلامية تمثل للوعي حينها في الخلافة الإسلامية المتمثلة في السلطنة العثمانية.
وحالة التهديد الهُوياتي التي مثلتها الحداثة أسهمت كثيرًا في تبلور مفهوم الخلافة بوصفه رؤية نهضوية للأمة فيها صلاح الأمة السياسي والعسكري والاجتماعي… وانتصارًا للشريعةِ الربانية التي يُعتدى عليها باستخدام نمط دولة القانون الحديثة التي تُبيح للإنسان التشريع، وهو أمر غير مسبوق في الفكر الإسلامي في صراحته ووضوحه، ربما اعتاد عليه الفكر الإسلامي مُتخفيا خلف الستار الديني، بيد أن نمط الدولة الحديث قد عراها من هذه الغطاء. والانتصار للخلافة في جزء منه انتصارًا للشريعة، أو بالأحرى في الذهن الإسلامي العام المفهومين متداخلانِ إلى حد يشبه التماهي والتوحيد بينهما، فتُمثل الخلافة أمرًا ربانيًا ومن ثم ركنًا من الشريعة، ومن طريقها تُطبق الشريعة الربانية، فتكون هي السلطة الموكلة في الأرض، ومن ثم من طريقها تتقدم الأمة الإسلامية أمام الأمم الأخرى التي ترغب في النيل منها.
العقل السياسي العربي المعاصر
إذا عملنا بالقاعدة التي يطرحها المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010) أن “العقل السياسي في أية حضارة يرتبط ضرورة بالنظام المعرفي أو النظم المعرفية التي تحكم عملية التفكير في هذه الحضارة”([27]) ومن طريق النظم المعرفية العربية/الإسلامية “محورها الرئيس هو الحفاظ على ((بيضة الإسلام))، وحرمة المجالس التشريعية التي تُشرع بدل الله”([28])، يتضح أن العقل السياسي العربي المعاصر مأزومًا يُعاني التخبط وعدم الاستقرار، فقد أتى البناء السياسي العربي/الإسلامي ذا شقيين أساسيين: أولهما، تبني نظرية سياسية تسعى في الحفاظ على العقيدة الإسلامية، كونها تُمثل الغاية في نهاية الأمر. وآخرهما، رفض التشريعات الإنسانية المُقدمة والمجالس التشريعية الإنسانية. في الشق الأول، يتبني العقل العربي (الخلافة) بوصفها نظامَ حكمٍ تُقدمه العقيدة الإسلامية، فـ (الخلافة) أحد المفاهيم الرئيسة المكونة للثقافة العربية، وتُمثل نمطَ الحكم الشرعي الذي فرضه الله في مقابل أنماط الحكم الإنسانية المُعتدية على هذا النمط، فالثقافة العربية/الإسلامية “ترى أن اتباع الإسلام يعني الخضوع لحاكمية الله والتسليم لأمره ونهيه، وأما الديمقراطية فهي حاكمية الرغبات والشهوات”([29]).
وبناءً على وجود الخلافة بوصفها نمطَ حكمٍ تفرضه العقيد الإسلامية، بما للعقيد من قوة خضوع تفرض على معتقديها الإيمان المطلق يأتي الشق الآخر، في تحريم إنكار الخلافة وهو ما وضعه رشيد رضا في موضع البدعة، والبدعة وفق محمد بن عبد الوهاب، شِرْك، ومع الرأي الذي يُعلن نفسه متوحدًا مع طبيعة الدين والتهديد الهُوياتي أصبحت نظم الحكم الأخرى غير مُؤمنة، فإذا كانت (الخلافة) جزءًا من البناء العقائدي، فإنكارها يمثل تفريطًا في العقيدة، وفي بعض الأحيان تعديًا عليها، وعليه توضع أنظمة الحكم الأخرى في باب عدم الإيمان، أو في الصياغة الأقل حدة الفسق والزندقة، وتُستقبل الديمقراطية داخل أيديولوجيا الثقافة العربية/الشرقية الإسلامية بوصفها نظامَ حكمٍ يعتدي على الحق الإلهي في الحكم وعلى العقيدة الإسلامية، فتنظرُ إليها هذه الثقافة بوصفها طرحًا إنسانيًا يعتريه النقصان البشري، في مقابل الطرح الإلهي الصحيح على الدوام، وبهذا الشكل تُمثل تعديًا على العقيدة.
والديمقراطية لم تقدم نفسها بوصفها عقيدة، ولا تسعى في منافسة الأديان بأي شكل من الأشكال، ولا تُناصب العداء لأي حضارة من الحضارات، فالديمقراطية تُصر على أنها منهج إداري للدولة ونظام حكم لاتخاذ القرارات العامة[30] بطريقة تضمن مصلحة الشعوب، فهي في أبسط تعريفاتها، تعني حكم الشعب نفسه بنفسه. على الرغم من الصورة التي تقدم بها الديمقراطية نفسها يرى (محمد بن شاكر الشريف) أن “قاعدة الإسلام الأساسية هي توحيد الله تعالي التي تعني أن يكون المسلم عابدًا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى”[31] ويُعد الديمقراطية خرقًا للقاعدة الأساسية في الإسلام، كونها تُعطي للشعب حق سن القوانين وتشريع التشريعات، وهو ما يعني خروجًا عن الدين الإسلامي.
وترجع الصورة المطروحة عن الديمقراطية في الثقافية العربية في جزء كبير منها إلى ظروف طرحها وتقديمها، فجاءت إثر سقوط (الخلافة)، والخلافة كانت تُعبر بشكل أو بأخر عن رمزية للهُوية الثقافية والدينية للمسلمين بوصفها أمة في مواجهة حضارات ودول أخرى، لذا مثلت طرحًا دخيلًا على الثقافة العربية جاء ليطمس هُويته الثقافية وعقيدته الدينية، وعزز هذه الصورة الغزو الاستعماري الذي واكب سقوط الخلافة[32]، والاستغلال السياسي له من السلطنة العثمانية. ويُقر آلان تورين أن: “ليس في واقع الأمر من ديموقراطية دون اختيار حر للحاكمين من المحكومين ودون تعددية سياسية”([33]) وهما أمران لم يُطرحا داخل الثقافة العربية/الشرقية الإسلامية، فمن ناحية الاختيار الحر للحاكمين، لم يكن لجمهور المسلمين دورًا في هذا الأمر وينوب عنهم ((أهل الحِل والعَقد)) أو ((أهل الشورى)) وهم مجموعة غير محددة، بالفرض تأتي سلطتهم التمثيلية من علمهم بالشريعة، لكن واقعيا كانوا هم النخب والأعيان الذين يملكون القوة والنفوذ التي تضمن الطاعة للحاكم.[34] أما من ناحية التعددية السياسية، فالنظرية السياسية الإسلامية قوامها (الخليفة) الإمام العارف والمعصوم؛ الحامل للراية الإرشادية بعد وفاة النبي ﷺ، لذا جاءت أداة الاستحقاق السياسي لإدارة شؤن الدولة –ولا تزال في الذهن العربي العام- للشخص الأكثر تُدينا والتزامًا بالأمور الدينية، وهكذا أصبح الحاكم هو المُرشد للحياة الآخرة، ووظيفته قيادة جموع المسلمين إلى الحياة الآخرة (كونها المُستقر)، لذا أخذ شكل الأب (المُربي) وبالصياغة الفقهية راعٍ مسئول عن الرعية، أو قائد ومُلهم، ودارت النظريات السياسية في شأن الإمام وأوصافه وأخلاقياته، فلم يكن ثمة مجال للحديث عن أو طرح التعددية بأي شكل من الأشكال.
وتبعًا لنظرية محمد عابد الجابري التي تُفضي بأن العصر العباسي (عصر التدوين) يُمثل الأفق للعقل العربي الذي من طريقه يقرأ الماضي ويصنع الواقع الفكري للذات/النحن العربية إلى يومنا هذا([35])، فإن النظام السياسي العربي اليوم لا يختلف عن سابقه، فهو “ينتمي في أغلبيته إلى الأنظمة السياسية التقليدية، لأن الملك أو الرئيس يمتلك دورًا مركزيًا فاعلًا، يظل الملك أو الرئيس المصدر الرئيس للشرعية، إضافة إلى ذلك هو الذي يتولى المُلك والحكم”[36] فالعقل العربي لا يزال يعمل بنظرية المُخلص أو المُنقذ المُرشد، وهي نظريات بدائية تفتقد إلى المبادئ الأساسية للديمقراطية.
فالديمقراطية حالة من الوعي بالحرية وحق تحديد المصير، تعجز عن تحقيقها ذهنية ترى مصيرها مُحددًا سلفًا ولا تحتاج غير العودة إليه، ومن ثم هي في حاجة إلى زعيم أو فارس* أو مرشد أو المستبد المستنير وفق تعبير الكواكبي. ووفق تعبير الباحث والمفكر الفلسطيني أحمد برقاوي “فمجتمع ذو بُنى تقليدية عشائرية مناطقية ومستوى اقتصادي رعوي زراعي إقطاعي مجتمع تغيب عنه المدنية لا يمكن أن يُنتج سلطة إلا على شاكلته سلطة تُعبر عن توافق القوى في هذا المجتمع”[37]. وهذا يفسر اختزال الديمقراطية في السياق العربي/الشرقي الإسلامي إلى العملية الانتخابية فقط، مُفتقدة إلى النظرة البنيوية للديمقراطية، منحازةً إلى النظرة الأداتية، فتحصر الديمقراطية في إحدى أدواتها ولا تنظر لمهمتها الرئيسة بوصفها ثقافة بنيوية تُمكن الشعب من اختيار مصيره، وينبع هذا في أغلب الظن لأنها لم تكن بنت الثقافة العربية بقدر ما هي مستوردة بوصفها حلًا جاهزًا من الثقافة الغربية.
وترجع عملية اختزال الديمقراطية في العملية الانتخابية إلى استقبالها في البناء المفاهيمي العربي الذي استقبلها في وعاء الخلافة، فقد فرضت الديمقراطية نفسها بواقع ما تعطيه من حرية للشعوب في تحقيق مصيرها على المجتمعات العربي، وذلك من طريق مطالبة الشعوب بها. والعقل العربي استقبلها في بنائه المفاهيمي واختزلها في العملية الانتخابية فقط، وقبل بالوجود الصوري للنظم البرلمانية، لكنه لا يزال يتمحور حول الحاكم، الراعي، المُرشد، الزعيم، المُنقذ، وكل هذه المُسميات التي تُعلن استقالة الشعب وغيابه في عملية بناء الدولة أو البناء السياسي. والديمقراطية حين تُختزل في الانتخابات لا يتعدى دورها سوى أداة للصعود للسلطة، فـ “لقد اعترف علماء السياسة بأن الانتخابات (حتى التنافسية منها) تعمل أحيانًا بوصفها وسيلة تتحكم بها النخب المحلية في المطالب الشعبية وتوجيهها، إذ إنها وسائل يمكن للمصالح المجتمعية الوصول من طريقها إلى صُنع القرار السياسي”([38])، وذاك ما يعانيه الشارع العربي، من شراء أصوات الناخبين ببعض السلع الاستهلاكية، أو شرائها من قوى الرأسمالية بضمان وظائفهم، أو أن تقدم السلطة الدعم للشعوب كرشوة مقابل بقائها في السلطة. والديمقراطية بهذا الشكل تُعد فاقدة لطابعها الوظيفي وفي حكم الغياب الفعلي شبه التام.
المراجع:
[1] – السلطة في الإسلام ج2، ص 110
[2] – راجع، لؤي صافي، الحرية والمواطنة والإسلام السياسي (التحولات السياسية الكبرى وقضايا النهوض الحضاري)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2013، صـ 55، 65، 80.
[3] – راجع، عبد الجواد ياسين، الدين والتدين (التشريع والنص والاجتماع)، ط 1، التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2012، صـ 190.
[4] – جولد تسيهر ، دراسات إسلامية، ج 1، ترجمة شيحة عطية، مراجعة خيري قدري، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر والدراسات، الجيزة، 200875.
[5] – راجع ثلاثية التأميم السياسي للقرآن التي قدمتها بمؤسسة تكون.
[6] – راجع، إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية (دراسة في فلسفة الحكم لصور من الاستبداد السياسي)، نيو بوك للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، صـ 274-276.
[7] – اندرو مارتش، خلافة الإنسان (السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث)، ط 1، ترجمة أسامة عباس، مركز نهوض للدراسات والبحوث، بيرت، 2021، ص 89.
[8] – ابن كثير (أبو الفداء الحافظ)، البداية والنهاية، ج8، مكتبة المعارف، بيروت 1992، ص 134
[9] – عبد الجواد ياسين السلطة في الإسلام، ج2، التنوير للطباعة والنشر، ط2، بيروت، 2012، ص150.
[10] – الأندلسي (أحمد بن محمد بن عبد ربه)، العقد الفريد،ج5، ط1، تحقيق. عبد المجيد الترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت 1983، ص 119. أيضا الفتوح لابن الأعثم الكوفي، ج4، ص 333. أيضا، البيان والتبيين للجاحظ، باب من السجاع في الكلام، ص 247.راجع أيضًا، أحمد زكي صفوت جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، ج2، المكتبة العلمية، بيروت 1933، خطبة يزيد بن المقنع، ص 245. أيضًا، كتاب، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج20، ذكر من وفد إلى معاوية من أهل الأمصار في شأن البيعة. وما تكلم به بعضهم وبيعة أهل العراق والشام ليزيد، ص 354 وراجع أيضًا، ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج2، باب التلطف في الكلام والجواب وحسن التعريض، ص 229. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ثم دخلت سنة ست وخمسين، ص 101
[11] – مارتش (أندرو)، خلافة الإنسان (السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث)، ط 1، ترجمة أسامة عباس، مركز نهوض للدراسات والبحوث، بيرت، 2021، صـ 88.
[12] – مارتش، خلافة الإنسان، ص 80.
[13] – المرجع السابق، ص 76.
[14] – (فيليب) توماس، من حكم القانون إلى دستورية السياق العثماني للفكر السياسي العربي، دراسة منشورة ضمن كتاب الفكر العربي بعد العصر الليبرالي، سبق ذكره، صـ 274.
[15] – راجع، (أيدين) جميل، ظهور الفكر الإسلامي العالمي، دراسة منشورة ضمن كتاب؛ الفكر العربي بعد العصر الليبرالي، سبق ذكره، ص.ص 256-264.
[16] – أحمد لطفي السيد، قصة حياتي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2013، ص 79.
[17] – جميل أيدين، ظهور الفكر الإسلامي العالمي (1774-1914)، دراسة ضمن كتاب الفكر العربي بعد العصر الليبرالي، تحرير، دجنس هانسن- ماكس وايس، ترجمة فؤاد عبد المطلب، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، 2019، ص257.
[18] – مارتش ص111.
[19] – علي مبروك، مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، 207، صـ 276.
[20] – (رضا) محمد رشيد، الخلافة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، د.ط، د.ت، ص110.
[21] – راجع، المرجع السابق، صـ 113.
[22] – محمد رشيد رضا، الخلافة، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1988، ص 82-83.
[23] – المرج السابق، ص9.
[24] – رشيد رضا، الوهابيون والحجاز، مطبعة المنار بمصر، 1344ه، ص 50.
[25] – (السنهوري) عبد الراوق، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، تحقيق توفيق محمد الشاوي ونادية عبد الرازق السنهوري، ط4، مؤسسة الرسالة ناشرون، د.ت، ص.ص 308-311.
[26] – مارتش، ص80.
[27] – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ط 4، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، صـ 8.
[28] – عبد الرحيم العلام، الديموقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر، ط 1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، صـ 73.
[29] – عبد الرحيم العلام، الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر، صـ 68.
[30] – راجع، علي خليفة الكواري، الديمقراطية طوق نجاة للمجتمعات والدول العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2021، صـ 37.
[31] – محمد بن شاكر الشريف، أسلمة الديمقراطية حقيقة أم وهم؟، صـ 32-33.
[32] – راجع، علي فهد الزميع، في النظرية السياسية الإسلامية (دراسة تحليلية نقدية لمسارات تطور تاريخ الفكر السياسي السني والشيعي)، ط 1، نهوض للدراسات والنشر، الكويت، 2018، صـ 211-212.
[33] تورين (آلان)، ما الديمقراطية؟، ترجمة عبود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 2000، صـ 11.
[34] – مارتش (آندرو)، خلافة الإنسان، صـ 89.
[35] – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ط 6، مركز دراسات الوحدة العربي، بيروت، 1994، صـ 62.
[36] – عماد مصباح مخيمر، أزمة السلطة السياسية (دراسة في الفكر السياسي العربي)، ط 1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020، صـ 62.
* – يمكن مراجعة ما كتبه بارثا تشاترجي تحت عنوان، أنا الشعب: تأملات حول السيادة الشعبية في عالم اليوم، ترجمة بدر الدين مصطفى، ط 1، مركز نهوض للدراسات والبحوث، بيروت، 2021، في التجربة الهدية تحت عنوان الزعيم، صـ 154.
[37] – أحمد برقاوي، في الفكر العربي الحديث والمعاصر، ط 1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2015، صـ 426.
[38] – باراني (زولتان)، موزر (روبرت)، هل الديمقراطية قابلة للتصدير؟، ترجمة جمال عبد الرحيم، ط 1، جداول، الكويت، 2012، صـ 209.