تكوين
مقدمة:
تنطلق مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية للعقل بأنه مجموعة من المفاهيم، تُكوِّنُ بناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي، وتعمل لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، وأنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤيةً بخصوص إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يُمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المُكونة له، والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهزم حضاريًا.
وفي تحديد هذه المفاهيم ترتكن في الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطرح عليها وتتسلل داخلها، إن لم تُعيد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي والاتحاد مع المُقدس لتضمن لنفسها البقاء والتَأبِيد -أي أن تكون أبدية- والدفاع عنها الذي يأخذ بعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس. وفي الزاوية الأخرى إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي الذي يغلب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المُتمحور حول الذات، نتيجة للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه.
العقل العربي المعاصر
وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المُؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأسست بهذا مجموعة من المفاهيم الصارمة التي قدمتها بوصفها المفاهيم المُكونة للضمير الإلهي من جانب، والمُعبرة عن الذات العربية الإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية وبُعد أنها مقاومةً للتفكك الممنهج وحفاظًا على الهُوية.
وتأتي المفاهيم عادة من أُفق الهُوية وتحديد ملامح الذات/النحن وما ترغب في أن تكون عليه والصراع على الحضور في العالم، والمفاهيم المُؤسسة للعقل الإسلامي المعاصر تخرج كذلك من الصراع على الحضور وتأكيد الهُوية ومكوناتها، وانطلاقًا من الاستعمار وما يُمثله الاستعمار من تهديد هُوياتي بوصفه زعمًا بعدم أهلية المجتمع لحكم نفسه، ورؤية المُستعمِر لثقافته على أنها ثقافة متفوقة ويعمل لفرضها أو قيادة الدول المحتلة إليها، جاء نمط تحقيق الذات/النحن في الماضي الذي سارعت للوذ به والحفاظ على هُويتها بواسطته وإشهاره في وجه الحضارة التي تشعر حيالها بالعجز والتهديد، وليس الماضي على صورته، بل صورة أسطورية مُتخيلة عن الماضي تُنزهه عن كل النقائص، وتستعيد أجهزته المفاهيمية بصورة أكثر قدسيةً وتجريدًا خوفًا من المساس بها.
وتمخضت المفاهيم المُكونة للعقل العربي المعاصر من حالة التهديد الهُوياتي التي فرضت عليها استعادة الماضي وتنزيهه، ومن ثم جاء جهازها المفاهيمي يُؤكدُ صلاحية هذه الصورة القديمة التي تُقدمها بوصفها هُوية تُعبر عنها وتُمثلها، وليس الراهن الذي تقع فيه وسَخَّرت جُهدها في الدفاع عن مثل هذه المفاهيم والانحصار داخل الماضي وقدمته بوصفه تأكيدًا وحفاظًا على الهُوية. وبالنظر إلى أفق بناء مفاهيم العقل العربي المعاصر المُنحصر في بُعد تأكيد الهُوية والصراع على الحضور النِّدِّي للحضارات الأخرى، تبدأ سلسة المقالات المقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” بمفهوم الهُوية، لأنه يُمثل المفهوم الذي تخرج من بنيته المفاهيم الأخرى.
في مفهوم الهُوية
تاريخيًا يُعد أول من طرح السؤال عن ماهية الشيء وهُويته هو الفيلسوف اليوناني سقراط Socrates 470-399) ق.م) ولهذا يُطلق عليه فيلسوف الماهيات، وعرفت فلسفته بالتهكم والتوليد فقد قال عدة مرات أن وظيفته مثل وظيفة أمه التي كانت تعمل قَابِلةً، وهي توليد الأفكار، وكان منهجه في هذا التوليد هو طرح السؤال عن ماهية الشيء ومكونه الثابت فيه والذي يُعرف به، فكان سؤاله عادة: ما الخير؟ ما الفضيلة؟ ما الجمال؟ ما العدالة؟[1] ويبدأ رحلة البحث مع من سأله ليصل به في النهاية إلى معنىً ثابتًا ومحددًا، ويحمل المنهج السقراطي رؤية للهُوية بوصفها ثابتة ونهائية ومعروفة، وبها تُحَدُّ الأشياء وتُعرف بالمعنى الفلسفي للتعريف الجامع المانع وعلى الإنسان أن يكتشفها. وترجم تلميذه أفلاطون Plato (427- 347 ق.م) التحديد المُسبق للماهيات في عالم المُثل الذي اخترعه، وهو عالم مفارق يحمل ماهيات الأشياء التي تُعرف بها والعالم الذي نعيش فيه هو ظلال لعالم المُثل، وعرض أفلاطون نظرية المُثل في محاورته الأكثر شهرة وهي محاورة (الجمهورية) في الكتاب السابع، من طريق أسطورة الكهف التي تزعم أننا مثل مجموعة من الأشخاص المقيدين في كهف وخلفهم نيران ولا يمكنهم الحركة أو تحريك رؤوسهم، ولا ينظرون إلا أمامهم فيرون ظلال النيران ويبنون تصوراتهم عليها[2]، والنيران وفق أفلاطون هي عالم المُثل (عالم الحقيقة) والظلال التي ينظر إليها السجناء هي العالم الواقعي.
وبنيت فلسفة أفلاطون على عالم المُثل ومن طريقها، فوضع جمهوريته أساسًا لقيام مجتمع سليم ومتزن ودولة قادرة على مواجهة المخاطر، وجاءت جمهوريته مُنطلقة من الطبيعة السابقة والمحددة للأشخاص، تُمثل فيها العدالة إعطاء كل فرد ما يلائمه ويوافقه، وما يلائمه محدد سلفًا بوجوده في الطبقات الثلاث التي وضعها أفلاطون على غرار تقسيمه لقوى النفس، وهي طبقة الفلاسفة الحكام وتقابلها النفس العاقلة، وطبقة الجنود المُوكلين بحماية الدولة وتقابلها النفس الغضبية، وطبقة العمال والحرفيين وتقابلها النفس الشهوانية. وتُحدد الطبقات بتحديد الولادة وتُربي الدولة أبناء الجنود ليكونوا جنودًا والفلاسفة الحكام ليكونوا حكامًا، ولا يحق لأي فرد أن ينتقل من طبقة لأخرى لأنه يُعارض طبيعته وهُويته المُحددة سلفًا[3]. وتقوم فلسفة أفلاطون ثم دولته على تمييز الشيء وقولبته في هُوية لا يخرج عنها، فهو يَبني نظام عدالته على أن هذا الشخص هُويته وكينونته هكذا، هو هو، هُويته محددة سلفًا في عالم المُثل ومغلقة، وعليه أن ينفذها.
وظل مفهوم الهُوية سجين ما طرحه سقراط بوصفه الصفات الثابتة التي لا تتغير وتجعل الشيء هو نفسه مهما تغيرت صفاته الأخرى، إلى أن تحول معنى الحقيقة على يد الفيلسوف الدنماركي سيرون كيركيجارد Søren Kierkegaard (1813-1855) وأصبحت الحقيقة “الفرد الموجود” بتعبير كيركيجارد، وهي تعني الفرد الفاعل الذي لا يقف عند المشاهدة فقط، وربط كيركيجارد الوجود بتحقيق الذات والفعل، فيمكن القول أن الكوجيتو الكيركيجاردي “أنا أفعل إذًا أنا موجود”، فالفرد الموجود هو الذي يسعى جاهدًا وبعزم في غاية لا يمكن تحقيقها في الحال أو إلى الأبد، وهو بذلك يكون في حالة صيرورة دائمة[4].
وعُنيت فلسفة كيركيجارد بتحقيق الإنسان لذاته والخروج عن الإكراهات التي تُحددها له الجماعة أو القوالب المُسبقة، ليفتح بذلك أفقًا جديدًا لمفهوم الهُوية، يكون من طريقه الإنسان في حاجة إلى تحقيق هويته والخروج عما ورثه ولا يكون مُحدد الهُوية مسبقًا، وتبلور بعد ذلك هذا المفهوم للهُوية مع الفلاسفة الوجوديين، وقدمت الوجودية الهُوية في قالب الوجود الأصيل، والوجود الأصيل بمعنى ما صناعة الفرد لنفسه وهُويته، فهو لا يملك هُوية مُعطاة مسبقًا لأنها لا تُمثله، وعليه أن يسعى في تحقيقها وربما ينجح أو يفشل، ليصبح هو المسئول عن هُويته وتكوينها، ولا تمتلك البشرية نمطًا عامًا للوجود الأصيل، بل إن مثل هذا النمط يعني نفيًا للوجود الأصيل وتدمير لإمكان الوجود البشري، فالوجود الأصيل يكون كذلك بقدر مسئولية الإنسان عنه[5].
وضعت الوجودية مفهومًا للهُوية معاكسًا لِمَا وضعهُ سقراط وبلورهُ تلميذه أفلاطون، تُعبر الهُوية فيه عن الانخلاع من التحديدات المُسبقة والمُعدة سلفًا والأعراف والتقاليد وعمليات القولبة وصياغة الذات لنفسها وهُويتها، وتحقق وجودها الأصيل الذي يُمثلها. ويقدم أحد مُنظري الفلسفة الوجودية وهو الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر Martin Heidegger (1889-1976) في كتابه الكينونة والزمان، الهُوية بوصفها إمكان زماني، ويرى أن الانفتاح الزماني هو انفتاح على ممكنات الذات/النحن، فيقول: “يُمثل الاعتزام الذي خصص بالنظر إلى معناه الزماني انفتاحًا أصيلًا للدازاين. ويُكونُ هذا الانفتاح كائنًا من نوع بحيث إنه موجود يستطيع أن يكون هو ذاته ((الهناك)) التي تخصه”[6]، وعلى هذا يرى أن الفهم مرتبط بتحديد الذات/النحن لكينونتها الآن انطلاقًا من البحث عن المستقبل وما يُمكن أن تكون عليه في المستقبل، ومن طريق المد الزماني تَفهم الذات/النحن أين هي من ذاتها الماضية والمستقبلية، ويُفهم طرح هيدجر من طريق فلسفته بوصفها وجودًا نحو الموت، وأن الموت هو نهاية تحقيق الدازاين، والدازاين هو الموجود هناك في زمان ما ومكان ما، ويسعى في تحقيق ذاته، بهذا المعنى تُعبر الهُوية عن إمكان الذات/النحن في مكان ما وزمان ما، ويخرج هذا الإمكان من فهم الذات/النحن ووعيها بنفسها وكينونتها، وما يمكن أن تكون عليه وما تسعى فيه.
وتخرج مفاهيم الهُوية المعاصرة بصورة أكثر نضجًا من نظرة الجدل الهيجلي*، لأنها تعمل بالهُوية الثابتة التي يُعرفُ بها الذات/ النحن، بوصفها مجموعة من السمات التي تحد جماعة ما بعينها وتجعل لها خصائصها التي تُميزها، ويخرج منها الأفراد حاملين صفاتها ويُعبرُ عنها في الهُوية السياسية والجغرافية، وبوصفها إمكان زماني للذات/النحن، لتُعبر اللحظة الراهنة عن هُوية هذه الذات/النحن، وعن قدرتها على تحقيق هُويتها وذاتيتها، وتعرف المجتمعات والسياسات الأوروأمريكية بالفردانية والليبرالية، وهي بمعنىً ما حق الفرد/الجماعة في صناعة هُويته/هُويتهم. والواقع أن الهُوية اليوم لا تخرج عن هذا الأفق، بسبب أن البيئات عادة ما تقدم للفرد مجموعة من الصفات والخصال تجعله بمعنى ما من المعاني ينتمي إليها، وتعطيه منظومة معرفية يمكنه بواسطتها أن يعي العالم ويتعامل معه، وفي الوقت عينه يُعامل بوصفه ذاتًا غير مكتملة في حاجة إلى الاكتمال والبناء، وعليها أن تتسم بالتفرد والأصالة وفقًا للعقل المعاصر.
مفهوم الهُوية في العقل العربي المعاصر
التمييز بين مفهوم الهُوية الذي تطرحه الفلسفات والسياسات والمعارف الأوروبية والأمريكية ومفهوم الهُوية في العقل العربي المعاصر لا يتضمن عزلًا للعقل العربي المعاصر عن هذه الفلسفات والسياسات والمعارف، ولكن تمييزًا معرفيًّا لطريقته التي يتعاطى بها معها، لأنه يعيشها من جانب أنها تُعبر عن روح الحضارة السائدة وفي الوقت نفسه يعمل من أفق التهديد الذي تُمثله هذه الحضارة المتفوقة على هُويته التي يتوارثها وخصوصيته الثقافية، خاصة أن هذه الحضارة حين قَدمت نفسها إليه قَدمت نفسها في صورة المُسَتَعْمِرْ وهي صورة تستوجب المقاومة، فقد تبلور مفهوم الهُوية في العقل العربي المعاصر من طريق الأفق المعرفي المعاصر، لأنه يُعبر عن الذات/النحن القديمة والأصيلة التي تُعرف بها الذات/النحن العربية، وفي الوقت نفسه بوصفه تكوين للذات/النحن العربية وما يجب أن تكون عليه، وتحدد الذات/النحن العربية ما يجب أن تكون عليه من أفق حضارة ترى أنها تُهدد أصالتها وتُلزمها بالتبعية، بوصفها تمتلك شروط التقدم والحضور الحضاري الذي لا تمتلكه الذات/النحن العربية، مع تاريخ استعماري جاءت به هذه الحضارة يُبرر للذات/النحن العربية مخاوفها.
جاء مفهوم الهُوية في الذهن العربي المعاصر كما يصفه الأنثربولوجي الفرنسي اليسوعي ميشال دو سارتو Michel de Certeau (1925-1986) بأنه “من ناحية ما يدوم، وما يُبتكر من ناحية”[7]، أي أنها القديم الذي يجب أن يدوم والجديد الذي سوف يُبتكر، فهو يعبر عن الماضي الذي يرى فيه نسخة مُكتملة للهُوية وللذات، والمستقبل الذي عليه أن يكون على غرار هذه النسخة، والراهن ربما في حالة غياب عن التحديد، فهو غير مهتم بتحديد الراهن بقدر ما هو مهتم بإنكاره أو بالأحرى يُريحه إنكار الذات/النحن الراهنة (المُنهزمة حضاريا) أكثر من تحديدها والعمل لها.
وبالعودة إلى مراحل بلورة العقل العربي المعاصر بمفاهيمه يتضح أنه جاء من رحم الانهزام الحضاري تجاه الآخر، والتهديد الهُوياتي الذي جاء مع الاستعمار الأوروبي المُنطلق من تفوقه الحضاري، وأهليته لإدارة الشأن الدنيوي في المنطقة العربية، فقد جاء الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، يزعم قدرته على الحكم الذاتي وعجز البلدان الإسلامية عن ذلك، ومن ثم فقد جاء لإصلاحها بوصفه الأكثرَ قدرةً على حكمها وفهمًا لأزماتها وإدارة أمورها([8])، والاستعمار كما يرى الأكاديمي الفرنسي جان فرنسوا بيار Jean François Bayard (1950) لا يؤدي إلا إلى تجميد التقاليد وتمجيدها في المجتمعات التي يستعمرها، ردًّا على حالة الانقياد التي يعمل بموجبها، بوصفه الحضارة الرشيدة التي يجب أن تُفرض على هذه المجتمعات[9]. وفي حال الاستعمار وجدت الذات/النحن العربية أنها مُطالبة بإثبات الندية الحضارية ولم يكن لديها ما تضعه ندًا للحضارة الغربية، فراحت تستدعي الماضي بانتصاراته لتضعه كندٍّ حضاري للآخر المستعمر، وتُطالب الراهن بالامتثال للمعارف التي أنتجها الماضي وتضع الماضي مستقبلًا تسعى فيه.
وأسهم وضع الذات/النحن العربية موضع التهديد في صياغة مفهوم الهُوية بوصفه ملاذًا، فكانت مردودًا لحالة التغريب التي يمارسها الاستعمار عادة انطلاقًا من تفوقه الحضاري الذي يَصُوغ مبررات استعماره من طريقه. وأخذ المفهوم بعدًا عقائديًا لأن التاريخ العربي لم يعرف نمطًا للبناء والحضارة غير النمط الإسلامي، وجاءت الدولة من طريق الإسلام وزعمت أنها لأجله وللدفاع عنه، بل الحضارة حين قدمت نفسها قدمت نفسها بوصفها حضارة إسلامية، وجاءت دفاعًا عن الإسلام، ومن ثم فإن وجود نمط إدارة آخر أو تفوق حضاري آخر، يُعبر بطريقة أو بأخرى عن تهديد عقائدي يُهدد العقيدة الإسلامية خاصة مع الوعد الإلهي بالنصر، وهذا ما صاغه الأفغاني في سؤاله “هل نرتاب في وعد الله بالنصر؟ ويجيب حاشا لله([10])، فالله لم يخلف وعده ولكن الأمة تخلفت عن الإسلام الصحيح. ومن ثم ظهر إنكار الذات/النحن الكامنة في الراهن، ومطالبتها بالامتثال إلى هُوية قديمة مغلقة ومعدة سلفًا بوصفها ذاتًا/نحن أكمل مما عليه الآن.
وتُعبر إجابة الأفغاني عن خطر التوغل الإمبريالي الذي يعطي إشارة لأفول الحضارة العربية الإسلامية وتفوقها، فلم يكن خطر التوغل الإمبريالي الأوروبي هو الخطر المُحيق بالإسلام في نظر المسلمين حينها، بل كان التفوق الحضاري هو العنصر الأهم، فكان التوغل الأوروبي لبلاد الإسلام يحمل في معناه تفوقًا حضاريًا للغرب المُستعمِر على الحضارة الإسلامية، فالإسلام لم ينتشر على أنه دين فقط، بل انتشر بوصفه دينًا ونظامًا للحياة في حالة من التماهي والتداخل([11])، ومن ثم جاء إنكار الذات/النحن الراهنة في صورة تُنزه عن الإسلام نفسه الفشل وتلوم المجتمعات العربية الإسلامية بعدم التزامها بمنهاج التقدم وهو الإسلام، وعليه أخذت المطالبة بالعودة إلى الهُوية والذات القديمة المُغلقة والمُحددة سلفًا عودة إلى العقيدة.
وأدى الانهزام الحضاري للذات/النحن العربية الإسلامية إلى صعود دعوى غياب الإسلام الصوري الجوهري المختلف جذريا عن حال المسلمين القائم بالفعل على الساحة، وسعى التيار الإصلاحي في سد الفجوة القائمة بين ما سماه بالإسلام وما سماهم بالمسلمين، وذلك من طريق عودة المسلمين إلى منهج الإسلام وجوهره، وتمثل الجوهر الإسلامي داخل الذهن الإصلاحي في التقدم الغربي، فاتخذ الغرب ذاته نموذجًا يحل به أزمته، ويسعى في تحققه([12])، بوصفه المسيطر حضاريًا، ومن ثم فارضًا للمعايير الإنسانية من طريق تفوقه، بيد أنه مع إلغاء الخلافة العثمانية وظهور الدولة الوطنية حدثت ردة إلى التراث الإسلامي وإثبات صلاحيته للراهن والمستقبل، أكثر من الحضارة الأوروبية، فوفق أندرو مارتش* Androw F.March يُعد إلغاء الخلافة باسم السيادة الوطنية الحدث الأعظم في الفكر الإسلامي الحديث([13])، فقد مَثلت هزيمة للدين الإسلامي وهُوية الأمة وتراجعًا تجاه الحضارة المنشودة للأمة، وجاء مردود ذلك نشأة أكثر الجماعات السياسية الإسلامية تأثيرًا في الحقبة المعاصرة وهي جماعة الإخوان المسلمين، التي عرضت مشروعًا سياسيًّا موازيًا لسقوط الخلافة يسعى في الحفاظ على الهُوية الإسلامية المتداخلة مع العقيدة وإحياء نمط الخلافة الإسلامية.
ورأى محمد رشيد رضا (1865-1935) في تحويل الخلافة السياسية إلى خلافة روحية وإعطاء كل دولة سيادتها الوطنية بدعة، يمكن أن تُؤدي إلى الفتنة وتفكك الأمة وضياع هُويتها، وفي أثناء بحث رشيد رضا عن مخرج للأمة الإسلامية من أزمة سقوط الخلافة -وقد تزامن مع سقوط الخلافة التحالف بين شيوخ الوهابية وآل سعود- تبلور في ذهنه التجربة الوهابية بوصفها تجربةً ناجحةً في مواجهة بدعة السيادة الوطنية التي سوف تُشتت الأمة([14])، ورأى رضا في الخلافة صَوْنٌ للهُوية والحياة الإسلامية فيقول: “إن السبب الأول لكون الدولة البريطانية هو الخصم الأكبر الأشد والأقوى من خصوم الخلافة الإسلامية، هو أنها تخشى أن تتجدد بها حياة الإسلام”([15])، وراح الفكر العربي الإسلامي حينها يحتمي بالشريعة الإسلامية، ووضعها الأفغاني درعًا يحمي من خلفه هُويته الإسلامية التي تهددها الحداثة بالاقتلاع[16]، ومن ثم تبلور أفق مِلِّي/عقائدي للهُوية في الذهن العربي الإسلامي، وفق تعبير الفيلسوف التونسي المعاصر فتحي المسكيني (1961)[17]، ونصبت التيارات الأصولية نفسها حامية على هذه الهُوية ومناضلة من أجلها، وأهمهم جماعة الإخوان المسلمين والوهابية دولةً ومذهبًا، ومثلت هذه التيارات بديلًا لحالة الانهزام، أو إن شئنا الدقة نمطًا للمقاومة، يُعبر عن حضور ما للذات/النحن العربية التي أصبحت تتشرنق داخل ذاتها، وتضع كافة المنجزات المعرفية والحضارية موضع العداء معها، وتحاول أن تجد في تراثها ما يوازيها، أو تَلْوِي التراث وتُلَوِنُه لتخرج من طريقه بنتائج الحضارة المسيطرة.
هُوية عربية إسلامية
وفق الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur (1913-2005) ثمة أحداثًا يدعوها بـ ((صانعة الحقبة))، وهي أحداث ذات دلالة تكون لها القدرة على تأسيس شعور الجماعة بهويتها وتعزيزه[18]، وبخصوص البيئة العربية فإن مجيء الإسلام يُمثل الحدث التأسيسي لهذه البيئة التي لم تعرف نمطًا حضاريًا متسقًا قبله، كما أنه أعطاها مُمكنات بناء الدولة والمعارف وتفوقًا حضاريًا وعسكريًا على بقية البقاع الجغرافية والثقافية، وكانت البيئة العربية حريصة على التوحيد بينها وبين الإسلام، ويمكن أن نقول إنها في البداية عملت لتُنحي طبيعتها القَبَلِية والنُزوع للعرق العربي والانحياز للإسلام، وفضلت أن تُعرِف نفسها بواسطة الإسلام، ولكنها سرعان ما أعادة تكوين نزوعها القبَلي وانحيازها العرقي بواسطة الإسلام، وعملت للتوحيد بين العروبة والإسلام، وأخذت اللغة العربية قُدسيتها لنزول القرآن بها، وأخذ العرب تفوقهم الحضاري من وجود الإسلام فيهم، وجاء الإسلام مُتبنيا بعض أعرافهم وتقاليدهم ورافضًا للبعض الآخر، وسعت السلطة السياسية فيما بعد في صياغة نزوعها القَبَلي من داخل الإسلام، وميزت العرب عن غيرهم من الموالي، وكانت الأكثر حرصًا على التوحيد بين العربية والإسلام، كي يستمر لها الحكم، وبناء على حالة الخلط وربما الذوبان بينهما نجد أن مُجمل المُشتغلين بالمعارف الإسلامية قديمًا، من تفسير وفقه وأحاديث، عَدُّوا اللغة العربية مدخلًا في هذه المعارف، ووضعوها ضمن بنية المعارف الدينية والدين والتدين، ليوحدوا بين اللغة والمعرفة الدينية والعرق والعقيدة، وهو نزوع الثقافة نحو البقاء من طريق تقديم نفسها في القالب الديني المُقدس الذي طرأ عليها.
والعقل العربي المعاصر لا يفصل بين العربية والإسلام، خاصة أنه يُقدم بناءه الهُوَوِيْ من طريقهما وبوصفهما وحدةً واحدةً، فأجبرته حالة التهديد والانهزام التي يعيشها على بناء هُويته من خلال العقيدة والعرق، ووضعهما قوامًا يضمن بقاء هُويته والدفاع عنها بوصفها عقيدةً من جانب، وبنزوع قَبَلي بوصفها عِرقًا من جانبٍ آخر، وفي حالة خلطٍ مشوشةٍ بتشوش منطقه الدفاعي وحالة التهديد التي يعيشها. ويُعطي صياغة مفهوم الهُوية في مفردات العرق والدين دلالة على غياب إنجاز حضاريٍ موازٍ للحضارة التي تفرض نفسها بقوة الحضور، فصياغة الهُوية بواسطة العرق والدين لا يُعبر عن شيء أكثر مما يُعبر عن حالة الإفلاس الحضاري التي تضع الذات/النحن العربية موضع التهديد وتطالبها بالوجود النِّدِّي، ولا تجد ما تُقدمه غير الهرولة نحو العِرق والدين، وتقدمهما بوصفهما امتيازًا وجوديًا تمتلكه يكفيها عن التقدم الحضاري السائد، وهي حيلة مفهومة في إطارها، إذ ترفع بواسطتها الذات/النحن حالة التوتر بينها وبين العالم الذي تعيش فيه، وتبرر بها حالة التبعية والانهزام والإفلاس التي تعانيها، لذا يُعد السؤال عن طبيعة الهُوية وعن إذا كانت عربية أم إسلامية بعيدًا عن الذهن العربي العام، وربما يكون هذا السؤال/التمييز مُفيدًا معرفيًا، خاصة في التمييز بين العادات العربية والمقاصد الإسلامية، ولكنهما في السياق العربي الإسلامي في حالة تداخل واتحاد، لا تنفصل فيه العربية عن الإسلام ولا ينفصل فيه الإسلام كذلك عن العربية.
ومن طريق الخلط بين العرق والدين واتخاذهما هُوية تُعبر عن كينونة الذات/النحن العربية، وإنكار الراهن بوصفه ممثلاً للذات، جاءت الذات/النحن مُحَقَقَةً في الماضي وتسعى في تعزيز أواصر الانتماء لهُويتها بواسطة سرديات مُتخيلة وقصص وحكايات رمزية[19]، تجعل من الماضي صورة متكاملة لا يشوبها أي نقصان وخالية من أي أخطاء، وهو نزوع مفهوم في حال التهديد الهُوياتي والتركيب القَبَلي للعقل العربي. وكي نُشرعَ أكثر للمفهوم الذي تتبناه الذات/النحن العربية عن الهُوية ونُبرره من البناء العقائدي، فهي ترى وحدانية الهُوية انعكاسًا لوحدانية الربوبية –دون الانتباه للاختلاف بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية- ووفق عادتها تَسْدِلُ على ذلك من القرآن، وتجعل مفهومه للهُوية أحد أركان الإيمان[20].
والتحديد العرقي الديني للهُوية يجعلها هُوية مُسبقة وجاهزة ونهائية، وإنكار الراهن ورفضه يجعل من هذه الهُوية أفقًا للمستقبل ويضعها موضع الهُوية التي يجب أن تُنجز، ومن ثم فإنها تُملي عليها أدوات وأليات تعاملها مع واقعها وشروط تقدمها كذلك، ومن ثم فإن مفهوم الهُوية في العقل العربي المعاصر يُؤمن بالهُوية المُسبقة التي تُحدد كينونة الإنسان والمجتمع، وفي الوقت نفسه يؤمن بالهُوية المُنجزة التي تُمثل الذات، ويُطالب الراهن بأن يستحضر الماضي ويرضخ لآلياته وأدواته ويضع الماضي هُوية يجب أن تُنجز.
إقرأ أيضاً: العقل بوصفه وحيًا داخليًا عند بيير بايل
يمكن القول إنه بنزوع المقاومة وَضعت الذات/النحن العربية والإسلامية مفهومها عن الهُوية مرجعية لكل شيء، أو ما يُمكن أن نقول إنه يُمثل الآلة التي يفكر بها العقل العربي والإسلامي المعاصر، ويكون هذا مفهومًا في إطار وضعها لهذه الهُوية بوصفها تمثيلاً للذات/النحن في الماضي وما يجب أن تكون عليه، ومن ثم فإنها تدور في فلكه وتفكر من طريقه، وفي مقابل تفوق الحضارة الأوروأمريكية وحضورها الطاغي -وفي المستوى السياسي يمكن أن نقول الأمريكية فقط- تضع الذات/النحن العربية مفهومها عن الهُوية بوصفه مفهومًا عن الإنسانية وما يجب أن تكون عليه، وانطلاقا من خلطها مفهوم الهُوية بالعقيدة الدينية يأخذُ الأمر طورًا تبشيريًا لتصبح هذه الهُوية قوام الإنسانية، ومن ثم لا تُوضع بوصفها نِدًّا للحضارة القائمة، بل تُمثل التعبير الصحيح والسليم والكامل عن الحضارة، والحضارة القائمة لا تعد كذلك وما هي غير حضارة قشرية مزيفة.
وهو ردٌّ على الاتهام بالتخلف الحاضر دائمًا من الحضارة السائدة والحداثة والدعوى التبشيرية التي تقوم بها النظم السياسية لهذه الحضارة، ومحاولاتها استغلال التفوق المعرفي والحضاري لمد نفوذها السياسي واستنزاف البلاد، والادعاء الدائم بالصوابية وامتلاك قاطرة التقدم، فلا يقف مفهوم الهُوية عند الآلة التي تُفكر الذات/النحن العربية بها وتبني مفاهيمها تأسيسًا عليها، بل تُطالب العالم أن يُفكر من طريقها ويتبنى ما تتبناه من مفاهيم.
المراجع:
[1] – يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، د.ت، صـ 68.
[2] – أفلاطون، الجمهورية، ترجمة شوقي داود تمراز، الكتاب السابع، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1994، ص 319-323.
[3] – أفلاطون، الجمهورية، ص 326- 327.
[4] فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، الجلد السابع، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، محمود سيد أحمد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016، ص431-432.
[5] – جون ما كوري، الوجودية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986، ص 298.
[6] – هيدجر (مارتن) الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني،ط1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012، صـ 583.
* – الجدل الهيجلي : هو الجدل الذي وضعه الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، ومفاده أن التاريخ الإنساني يسير بجدل بين الفكرة وضدها ثم فكرة تتألف من كلتا الفكرتين السابقتين.
[7] -M, de Certeau, La Culture au pluriel, paris, Christian Bourgios, 1980. PP. 238.
[8] – راجع، سعيد (إدوارد)، الاستشراق(المفاهيم الغربية للشرق) ت محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، صـ 86-87، 94.
[9] – جان فرنسوا بيار، أوهام الهوية، ترجمة حليم طوسون، مؤسسة هنداوي المملكة المتحدة، 2024، ص 67.
[10] – الأفغاني (جمال الدين)، خاطرات الأفغاني، تقرير محمد باشا المخزومي، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2002، صـ 240.
[11] – راجع، محيي الدين (شريف)، الإسلاميون ولآليات التغيير في الدولة، سلسلة الندوات 4-5 يناير 2013، بعنوان، الخطاب الإسلامي وإعادة تأسيس المجال العام، مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي، القاهرة، 2014، صـ 127.
[12] – راجع، المغربي (عبد القادر)، جمال الدين الأفغاني: ذكريات وأحاديث، ط3،دار المعارف، القاهرة، 1987، ص89. نقلا عن جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة، صـ 17.
* – أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية بجامعة ماساشوستس، وتتركز دراساته على النظرية السياسية المعاصرة والفكر القانوني الإسلامي.
[13] – راجع،(مارتش) أندرو، خلافة الإنسان: السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث، ترجمة أسامة عباس، مركز نهوض للدراسات والبحوث، بيروت، 2021، ص111.
[14] – راجع، مبروك، مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، 207، صـ 276.
[15] – (رضا) محمد رشيد، الخلافة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، د.ط، د.ت، ص110.
[16] – علي مبروك، مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، 2017، ص239.
[17] – فتحي المسكيني، الهُوية والزمان تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن، دار الطليعة، بيروت، 2001، ص 10-11، ص 156
[18] – بول ريكور، الزمان والسرد ج3، ترجمة سعيد الغامني، ط1، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2006، ص 281.
[19] – عبد الستار جبر، الهُوية والذاكرة الجمعية إعادة انتاج الأدب العربي قبل الإسلام أيام العرب نموذجًا، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص80.
[20] – https://www.youtube.com/watch?v=g4G9te9Xw7Q
محاور تشكيل الهوية لدى الفرد والمجتمع
مقومات الهوية الإسلامية محمد عمارة
الشريعة والحياة | خطاب الهوية ومآلاته
راجع أيضا محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهُوية الثقافية، صـ 11.