المفكر العربي رضوان السيّد وتَشْريحُ الفكر الإسلاميّ: قراءةٌ في الإطار الإسلاميِّ الكلاسيكيِّ

تكوين

مقدِّمة:

استطاعت كتاباتُ المفكّر رضوان السَّيد أن تفرضَ نفسها في ميادين الدِّراسات الإسلامية عموماً، وتاريخ الفكر الإسلاميِّ ومسائله على وجه الخصوص، ومن يتتبَّعُ كتاباته سيجدُ نفسه أمام مشروع فكريٍّ تمتدُّ معالمُه لأزيد من نصف قرن من الزّمان. يعكسُ مشروعُه الفكريُّ أحدث ما توصَّلت إليه الدِّراساتُ الإسلاميَّةُ في تطوُّرها المنهجيِّ، وذلك راجعٌ – بالأساس – إلى طبيعة تكوينه الأكاديميِّ الذي زاوجَ فيه بين التَّكوين التَّقليديّ الذي تلقَّاهُ في الأزهر، والتَّكوين المنهجيّ الحديث الذي حصلَ عليه من خلال دراسته في ألمانيا. استطاعت كتاباتُ المفكِّر رضوان السَّيد أن تؤطّر نفسها ضمن تاريخية الفكر العربيّ المعاصر من خلال تسليط الضَّوء على أهميَّة العلاقات التي تربط الأنا بالآخر، وانخرطَ بشكلٍ كبير في التَّعريف بالتراث الإسلامي كما أطرتهُ الدّوائر المعرفيَّة الاستشراقيَّة، من خلال التَّعريف بمجال التَّوتُّر الذي عرفته هذه العلاقة، وقطبيتها التي ما فتئت تتراوح بين الصِّراع والحوار. تنبَّه الدكتورُ سيد ولد أباه في تعريفهِ بالمفكر رضوان السيّد إلى المجالات الفكرية التي رامها فكرهُ؛ فيتحدّث عن ذلك قائلاً:

“الإشكالية المحورية التي تنتظم أعماله هي ضبط ملامح وخلفيات الانتقال من نموذج الإسلام الكلاسيكي (الأحكام والأدبيات السلطانية) إلى نموذج “الإسلام الإحيائي” (فكر حركات الإسلام السياسيّ). ومن الواضح أن كتابات رضوان السيّد توزعت إجمالاً على هذين المحورين، وإن كانت تتناول موضوعات أخرى، كالاستشراق، ورهانات الإصلاح، والحوار مع الآخر، إلا أنّ إسهام الرجل العلميّ يتركّز في هذين المجالين.” (ولد أباه: 2010: 44)

يرتكزُ، إذن، عملُ رضوان السيّد وإشكاليتهُ – حسب ولد أباه – على التَّحوُّلات التي طرأت على العقل الإسلاميّ في تاريخيّته، ومكَّنتهُ من الانتقال من صورته الكلاسيكية إلى التي حدّدت معالمها الآداب السلطانية والأحكام، إلى النموذج الإحيائيّ، لكنه من وراء ذلك لا يسعى إلى وصف هذا التَّحول، فقط، بل يريد الكشف عن العوامل التي كانت من ورائه، والتي دفعت بالإسلام السياسيّ إلى الظهور على مسرح الأحداث في الآونة الأخيرة، وبذلك حقَّ لنا أن نتحدَّث عن رضوان السيّد لا بوصفه مفكّراً يتجرّدُ عن واقعه، بل كمثقّف ينهمُّ بقضايا أمّته، ويسعى من خلال أدوات التحليل والمعرفة إلى تشريح العقل الإسلاميّ والكشف عن مكامن العطب فيه.

كانَ جوهرُ المنهج الذي ارتضاهُ رضوان السّيد في التَّعامل مع التَّراث نتاجاً لاحتكاكهِ بهذه الميادين كلّها، فما كانَ بوسعه إلا أن يُعلن أنّه لا سبيل إلى التَّعاطي مع التَّراث إلا من خلال توسُّل المناهج المُعاصرة، والتَّفكير فيه كموضوع للدّراسة، وأخذ المسافة بيننا وبينه كي لا نغفل عن الواقع وما يمورُ به من أحداث ومتغيّرات على الأصعدة كلّها. كان رضوان السيّد على دراية، تامَّة، بأهميَّة الانفتاح على المناهج الدراسية الحديثة التي اهتدت إليها الدراساتُ الغربيّة، وساهمت كثيراً في تحقيق الازدهار المعرفيّ لدى الأوروبيين، وبالأخص في تناولهم لمسائل ترتبطُ بالتاريخ والتراث والدين، وما شاكل ذلك من المسائل التي ما نزل نرزحُ في عالمنا العربيّ تحتَ هولها وجبروتها.

لم يكُن التَّجديدُ المنهجيُّ داعياً للتحرُّر من جمالية الإبداع، وذلك ما تشي به مؤلّفات رضوان السّيد، التي تزاوجُ في بنائها بين روح التّجديد المتأتية من قراءاته للآخر ومناهجه، وروح الإبداع التي تمنحها إياهُ طبيعةُ المدروس من التّراث العربيّ الإسلاميّ. كانت أواخر السبعينيات من القرن المنصرم وبداية الثمانينيات منعطفاً حاسماً في مسار رضوان السيد الفكريّ، فعودتهُ من ألمانيا في العام 1977 لم تكن عودةً محمَّلةً بالمعرفةِ، فقط، وإنَّما تحملُ معها أسئلةً تمخَّضت في إطار تكوينه في تلك المرحلة، فانكبَّ على إعادة قراءة الفكر الإسلاميّ الكلاسيكيّ، قراءةً وسمها ب “القراءة المفهوميَّة“، وجوهرها تقديمُ تفسير جديد، قوامُهُ أساسين:

  • نشرُ النُّصوص الكلاسيكية المهمَّة في علم الكلام والفكر والفقه السياسيّ وأصول الفقه.
  • ومن ناحية ثانية، القيامُ بمهمة إعادة قراءة هذا التراث قراءة مفهوميةً.

وأمام هذه القراءة التركيبية المقارنة التي اتخذت من التّراث والواقع موضوعاً لها يمكنُ أن نتساءل: ما هي الصورة التي يتبنّاها رضوان السيد في قراءته للفكر الإسلامي؟ هل هناك فكرٌ بصيغة المفرد أم أننا أمام أنماط من التّفكير؟ ما هي مكامن العطب التي أصابت الفكر الإسلامي؟ وما هي السبل الكفيلة بإعادة قراءته قراءةً مفهوميةً؟ يمكن لهذه الأسئلة أن تكون بمثابة الخيط الناظم الذي تسيرُ عليه هذه الدّراسةُ في إطار قراءتها لهذا المشروع الفكريّ الهام.

أوّلاً: الفكرُ الإسلاميُّ الكلاسيكيّ وصورُه

في الحقيقة، يمكن أن ننظر إلى مشروع الذي قدّمهُ رضوان السيد من خلال طبيعة القضايا التي فرضها الفكر الإسلاميُّ الكلاسيكيّ، والتفكير معهُ في الأسس التي قام عليها هذا الفكر، وبالأخص ما يتَّصل بالسياسية والدولة والاجتماع، على أساس أنَّ المشروع الذي يقدّمهُ غايتهُ إعادة قراءة التراث قراءةً مفاهيميةً. وفي هذا السياق يذكر ولد أباه ما يلي:

يعتمد رضوان السيد منهجاً تركيبياً مقارناً، يفصل بوضوح بين سياقات وخلفيات نصوص الفكر الإسلامي الوسيط، مميزاً بين إشكالية الشرعية المهيمنة على الفقهاء، وإشكالية الحفاظ على السلطة في الآداب السلطانية، وإشكالية التدبير العقلي لدى المتكلمين، وإشكالية السلامة العقدية لدى المتكلمين. (ولد أباه، 2010: 44-45)

ليست إعادة قراءة المفاهيم المتعلقة بالتراث الإسلاميِّ فكرةً شاردةً، وإنَّما الأصلُ فيه يرجعُ إلى العملِ الذي قام بهِ رضوان السيد في غضون تحضيره لأطروحته في الدكتوراه: “ثورة ابن الأشعث والقراء” تحت إشراف المستشرق المرموق جوزيف فان إس المتخصص في علم الكلام الإسلاميّ، وقادهُ مباشرةً إلى التنقيب في تكوُّن المجتمع الإسلامي في مراحله الأولى. بصمت هذه الأطروحةُ مسار مفكِّرنا وقادتهُ إلى دراسة طبيعة التركيبة التي تكون هذا المجتمع، وخاصة تلك البنى القبلية التي نظمت العلاقات وأطرت نسيجها، في إطار جدلية قامت بين المراكز والأطراف، وما همَّهُ من ثورة ابن الأشعث أيضاً هو تلك الفئة التي سمَّت نفسها ب: “القرَّاء”، والذين كان لهم دور حاسمٌ في المشهد السياسيّ في تلك الفترة من تاريخ المسلمين السياسيّ.

أخذَ رضوان السَّيد على عاتقه مهمّة إعادة قراءة المفاهيم المكونة للمجال السياسيِّ في الإسلام، من خلال توسيع نطاق بحثه ليشمل الجماعات الإسلامية الطافحة في المشهد السياسيّ كلها، فكان اشتغالهُ بعد ذلك على مفاهيم أخرى: كالجماعة والأمة، والسنة والسيرة، وهو ما يظهر بجلاء في العملين الأوّلين اللذان تقدّم بهما مفكرنا أقصدُ: “مفاهيم الجماعات في الإسلام” (1984)، و”الأمة والجماعة والسلطة” (1985). وهما موضوع دراستنا في هذا المفصل من الدّراسة.

1)  مفاهيم الجماعات في الإسلام

عنوانُ هذا المفصلِ هو عينُه عنوانُ الكتابِ الأوَّل الذي نشرهُ الأستاذ رضوان السيّد: “مفاهيم الجماعات في الإسلام“؛ وهو يضمُّ تمهيداً وسمَهُ السيّد ب: “نظرة في نشوء الجماعات في الإسلام“، وفصول خمسة:

  • أوَّلها: مفاهيم الجماعات في القرآن
  • ثانيها: الجماعات في قلب الاجتماع الإسلامي الأول؛ الخوارج والشيعة
  • ثالثها: الجماعات المدينيَّة في الاجتماع الإسلامي
  • رابعها: من مفاهيم الجماعات في الإسلام المسيحيون في الفقه الإسلاميّ
  • خامسها: من مفاهيم الجماعات في الإسلام العرب في الفكر الإسلامي.

وهذه الفصول هي مجالُ نظرنا، وذلك حتَّى نتبيَّن المستوى الإبستمولوجيّ الذي يؤسس عليهِ رضوان السَّيد قراءتهُ التَّحليلية لمفهوم الجماعات في الإسلام، وذلك في ارتباطٍ بمنهجه القائم على إعادة قراءة المفاهيم المؤسسة للفكر الإسلاميِّ. وقبل أن نخوض في غمار هذا التَّحليل ليس غرضنا أنْ نقف عند أسباب نزول هذا الكتاب، بقدر ما يعنينا أن نفهم جوهر المنهج الذي اتَّبعَهُ صاحبهُ، وليس بوسعنا أن نصف عملاً أكثر مما أقدم صاحبُهُ على تعريفه:

تشكّل الفصول الخمسة لهذه الدّراسة مع التّمهيد لها محاولة في السوسيولوجية التاريخية للاجتماع الإسلامي الوسيط. إنها متابعة لدراساتي السابقة في تأمل عمل النّص الإسلامي في التّاريخ. ففي التمهيد نظرةٌ مقتضبة في رؤية المسلمين في القرن الهجري الأول لأوليات اجتماعهم، وأشكال تبلور النص القرآنيّ والتجربة التاريخية (العرف والإجماع) للجماعة في ظهور هذا الاجتماع وتطوراته المبكرة. (رضوان السيد: 2011: 14).

يشي كلامُ رضوان السّيد بتأسيس نظره على التّداخل الحاصل بين المستويات الاجتماعية والتاريخية والدينية، وذلك يتحقّق من خلال فهم أسس التفاعل بين النصّ والتاريخ، حيث يمكنُ فهم الطريقة التي تؤثر بها النصوص الدينية في تكوين المجتمع والتاريخ، وبالأخص حين يتعلق الأمر بمجتمعات النصّ، أي تلك المجتمعات التي يكونُ فيها النصُّ حاكما ومرجعاً وله سلطان، وبالمقابل من ذلك فإنَّ هذا النمط من التفكير يقتضي النظر بشكل عكسيّ في أنماط الفهم التي سمحت لهذا النصِّ نفسه بأن يتأثر بواقعه. ومن ناحية أخرى تسمحُ هذه المقاربة التي يقدّمها السَّيدُ بفهم طبيعة التجربة الدينية المبكرة التي أفرزتها الجماعة الإسلامية الأولى، وبالأخص في القرن الأوّل، والتي لم تكُن معزولةً عن النَّص القرآنيِّ، بل متداخلة معه ومنخرطةً فيه، وهو ما يؤيِّدُ حقيقة التفاعل الحاصل بين الجماعة والنَّص. وفي مستوى ثالث يراهنُ – وإن بشكل مستتر – مفكِّرنا على النظر في طبيعة التّطوُّر الاجتماعي والسِّياسيِّ، وذلك من خلال الإشارة إلى أهمية تأمُّل الأعراف والممارسات الاجتماعيَّة في ضوء علاقتها بالنصِّ المؤسّس والتّجارب التاريخية. وهذه المستويات كلُّها كفيلةٌ بفهم طبيعة العمق الذي تتسمُ به مقاربة رضوان السيِّد، وكفيلة بأن تقرِّبنا من البعد المعرفيِّ الذي تكتنهه، والقاضي بإعادة قراءة المفاهيم التي يقوم عليها الفكر الإسلاميُّ.

  1. يستهلُّ رضوان السيّد، في مطلع هذا المؤلَّف، بعرضٍ وافٍ لموضوعه حول الجماعات في القرآن، وهو في ذلك يراهنُ على تحليل مفصَّل لمجمل الدّعاوى التي قامت في هذا الصَّدد، والتي سمحت بنشوء مفهوم “الجماعة” وتبلوره في إطار الفكر الإسلاميِّ المبكِّر. لا يمكنُ فهمُ الكيفية التي بها رسخَ فهمٌ معيَّن ل “الجماعة” من دون تلمُّس المنظور التَّاريخيّ، والكشف عن العلاقة القائمة بين شروط الفهم ومرجعياته، أي في علاقة ما نفهمه بإطاره الثقافي المحدّد سلفاً بسلطة النَّص. لم يغفل المفكر رضوان السيّد – في هذا الإطار – مسألتين أساسيتين في سبيل تشريحه لأسس هذه العلاقة وهما: مسألتا التَّأويل، والاسترداد.
  • فالأولى؛ قوامها على الاجتهاد في سبيل بلوغ المعنى الكامن في النصِّ من خلال تفسيره، وفي ذلك تأوَّل الخوارجُ مبدأهم في “الحاكمية” حين اشتقوا شعارهم “لا حكم إلا لله” من خلال قراءتهم للآية 44 من سورة المائدة: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”.
  • والثانيةُ، مدارها على الرغبة في استعادة التجربة النبويَّة أو القصَّة القرآنية، بما يحملُ صاحب هذا النهج على التَّعامُل مع الوقائع المعاصرة، مثل تأكيد الخوارج على مسألة الخروج من القرية الظالم أهلها والهجرة، أو ما كان من جماعة سليمان بن صُرَد الشيعية التي اشتقَّت اسمها من قصَّة قرآنية.

ما يرمي إليه رضوان السَّيد هو بيانُ الأسس التي يقومُ عليها التَّفاعُل بين جماعة المسلمين ونصّهم المقدَّس، وفي إثر ذلك فإنَّه رام التَّفكير في عمق هذه التَّجربة وجوهرها، خالصاً إلى بوادر علاقة التَّأثير والتَّأثر التي حصلت في ضوء علاقة المسلمين بالقرآن والأثر النبويّ، فبقدر ما شكّلهم هذا النَّص شكَّلوه وتفاعلوا معه. وبقدر ما يستحضرُ السيّد البعد التفاعليّ المباشر، في تركيزه على العلاقة بين المسلمين ونصّهم المقدّس في هذه اللحظة المبكرة، فإنّه لا يغفل الجوانب المركّبة التي تفترضها هذه التَّجربة، وبالأخصّ حين يتعلَّق الأمر برغبته في إقامة نوع من “السوسيولوجيا التاريخية”، التي تقتضي قراءة النصوص في ضوء سياقيها وتفاعلها مع غيرها، قراءةً منهجيَّةً قادرةً على استيعاب الشرط الموضوعي لنشأة المفاهيم في حدِّ ذاتها، ولا تقفز على التَّاريخ أو تتجاوزه، وبحقّ فإنّ من يتتبّعُ هذا المنعطف الذي يؤسسه السيّد سيجدُ نفسه أمام قراءة قد وعت هذه الجوانب كلّها.

2. لا شك في أنَّ القرآن نفسه كان مصدراً أساسياً من أجل تبيُّن دلالات مفاهيم الجماعات في الإسلام، كما أنَّه قد حدَّد شكلها الذي انتهت إليه. ويطالعنا رضوان السيد بأهميَّة العودة إلى تبيُّن تلك المفاهيم من خلال سياقها القرآنيّ، وكذلك من خلال المصادر التاريخية التي تقدِّمُ صورة عن شكل العلاقات الاجتماعية والبنيات القرابية التي سادت في أرض الجزيرة العربية في مطلع القرن السابع الميلادي. إنّ الأساس القرآني في فهم التّحولات الاجتماعية التي شهدتها الجماعة الإسلامية في بداياتها أمر لا مفرّ منه، ففي القرآن يمكن أن يجد الباحث النواة الأساسية التي تصفُ طبيعة العلاقات القائمة بين الفرد والجماعة، وبوسعه أيضاً أن يجدَ ما أقامهُ القرآن بديلاً أو ما أقرّه وثمّنه يقول رضوان السيد في هذا الإطار:

وأساس هذه الوحدة أو الجماعة هو الدين الواحد أو الشريعة الواحدة لا الانتماء العصبيّ الواحد، لذا فإنه حتى الحلف الذي هو جامع موحد في الظاهر ممنوع منذ ذلك الحين إذ إنّ أساسه قبلي يتنافى والتضامن الديني. فإذا حدثت رغم ذلك “فتنة” بين طائفتين من المؤمنين، فإنّ على “الجماعة” أن تنهيها ولو بالقوة. وتقترن الفتنة أحيانا بالفساد، وهو المصطلح الجاهلي للنزاعات الداخلية في القبيلة. (رضوان السيد: 2011: 45)

ومن جهة أخرى فإنَّ هذا النوع من التَّحليل الذي نقف عنده في هذا السّياق يمكن أن نجد له صدًى في الروايات التاريخية، وبالأخص تلك التي تعرضُ أشكال العلاقات التي قامت بين أفراد الجماعة، إما في المراحل السابقة على الإسلام، وفي المرحلة الأولى لظهور الإسلام، وهي تعكسُ بالفعل أشكال التَّحول التي خضعت لها الديناميات الداخلية المؤسسة للجماعة، ويمكن أن تكون تلك المصادرُ نقوشاً أو نصوصاً أو شعراً جاهلياً أو حتى أيام العرب.

يؤكّد رضوان السّيد على أهمية هذه الدّراسة، ولكنّهُ يرى أنَّ هذه القراءة التاريخية لا ينبغي أن تفرط في تقدير التراث والتقاليد الفكرية نفسها؛ إذ الاعتمادُ عليها قد يأخذ القرآن في اتجاه واحد أساسهُ القراءةُ المصطلحية واللغوية، وقد يسحبُه من بيئته وامتداده الاجتماعي والثقافيّ. كما يدعو السيد إلى ضرورة التفكير في القضايا المفهومية والاصطلاحية في القرآن من وجهات نظهر العلوم المختلفة، والتي لا تجتزئ النص من سياقه، ولا تأخذه إلى جزئيات الحوادث التاريخية، بقدر ما تحفظ له قداسته وأهميته في علاقة بالجماعة الإيمانية وتاريخيتها.

3. يقودنا رضوان السيد في غمار هذا المؤلَّف إلى فهم طبيعة الأسس التي قامت عليها جماعات بعينها من داخل الإسلام، وأقصد بالذكر ههنا “الشيعة” و”الخوارج” تحديداً، حيثُ يذهبُ إلى تحليل بعض الجوانب التاريخية التي قامتا عليها وتطوّرتا في سياقها. لمْ تكُن نشأةُ الجماعتين بمبعد عن المتغيرات الاجتماعية والثقافية التي أفرزتها وقائعُ الفتنة والانقسام؛ إذ  نشأت الشيعة من أتباع عليّ بن أبي طالب الذين رأوا أنه الأحقّ بالخلافة، بل إنَّه – عندهم – الخليفة الشرعيّ الوحيد، وأمَّا الخوارج فهم الذين انشقوا عن جيش عليّ. ويقفُ السيّد عند التركيبة الاجتماعية التي ميّزت القادة الشيعة الأوائل، الذين كانوا من أسر فلاحية ذات زعامة تقليدية، وبالتالي، فإن الأساس الاجتماعي كان أساسياً عند السيد من أجل فهم نواة هذه الجماعة التي نشأت في تاريخ الإسلام. ومن ناحية أخرى فإن هذه البنيات الاجتماعية الأوّلية لم تكن لتستمرّ على النَّحو نفسه، ومن خلال تتبّع مسارها التاريخي يمكن أن يلاحظ المرء، الكيفيات التي استطاع بها هذه الجماعات التأقلم مع سياقات ديمغرافية وجغرافية مختلفة من شرق العالم الإسلامي إلى غربه.

يتساءلُ رضوان السيّد في هذا السياق عن الأسباب التي مكّنت هاتين الجماعتين (=أي الشيعة، والخوارج) من الصمود، وكذلك عن الأسباب التي مكنتهما من التحول إلى فرق داخل الإسلام، وبالموازاة مع ذلك فإنّه يستشكلُ المسائل التي لم تكن لتجعل من هاتين الفرقتين صورةً للإسلام نفسه، وهو الأمر الذي قادَهُ، مباشرةً، إلى البحث والتّفكير في العوامل التي كانت من وراءِ محدودية هذه الجماعات. فقد كانت للعوامل الفكرية والدينية أدوار حاسمة، ومنها أنّ التفسير الاجتهاديّ للنصوص الدينية الذي اتَّبعتهُ الشيعة والخوارجُ، لم يكُن يتماشى مع التَّفسير الذي تبنَّاه أغلب المسلمين، وهو ما أدّى بهما حتمًا إلى الانعزال. وكان للظروف الخارجيّة دورها الحاسمُ أيضاً في الانتصار للسنة والجماعة على حساب الفرق الأخرى، وبالأخص حين ظهر الأتراك وأثروا بظهورهم على التركيبة السياسية في الإسلام. يلخص رضوان السيد العوامل الخارجية والداخلية التي تفاعلت معاً في تشكيل واقع الفرق الإسلامية في مراحلها المبكرة. وقد حدث هذا التَّفاعلُ في مستويات معقّدة ومتداخلة، الأمر الذي أدّى إلى بقاء بعض الجماعات والفرق في المشهد السياسيّ وخفوت أو أفول بعضها الآخر.

4. يقدِّمُ رضوان السيّد جانباً آخر من جوانب التّحليل الاجتماعيِّ، ويتعلَّق الأمرُ بما يصطلحُ عليه ب: “الأصناف” أو “الجماعات المهنيَّة“، والتي كان لها دورٌ كبيرٌ في النشاطِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والثقافيِّ للمجتمعات الإسلاميَّة، وهي إلى جانب ذلك تجسِّدُ نظاماً دقيقاً في المعاملات ذات الطابع الاقتصاديِّ. يقول السيّد في معرض وصفه لوظائف الصنف ما يلي:

وأهم وظائف الصنف كما تبدو في كتب الحسبة: الاهتمام بمعرفة أسرار الصنعة، وإتقان الصنعة وجودة المصنوعات، والاهتمام بمصالح أعضاء الصنف، والعناية بالمواد الأولية، والعناية بالنظافة. (رضوان السيد، 2011: 100)

ولكلّ صنف امتدادُه التاريخي المتصوّر أو صورته الخاصة عن تاريخه في قلب الأمة والعالم، تماماً كما كان عليه الحال في التنظيمات الصوفية وتنظيمات الفتوّة. (رضوان السيد، 2011: 104)

كانت الدَّعوة إلى الهجرة نحو المدينة مفتوحةً، وذلك لم يكن إلا رغبة في تطوير الجانب الاقتصادي والتجاري المبني أساساً على تطوير هذه المهن والأصناف، كانت الأصناف تلعبُ دوراً اجتماعياً وتنظيمياً مهمًّا، وتسهرُ على الضّبط الاجتماعيِّ، غير أنَّ التَّحولات الاجتماعيَّة التي شهدتها المجْتمعاتُ الإسلاميةُ قد ألغتها وألغت ما اتصلت به من أشكالا التجارة التَّقليدية. ما يقدِّمهُ رضوان السيِّد هي فرصةٌ من أجل إعادة تأمُّل هذه النظُم والمفاهيم التَّقليدية التي تأسس عليها النظامُ الاقتصاديُّ في الإسلام، وتأمُّل تراتبيَّته التي تبدأُ من الممتهن وتصلُ إلى المحتسب، وبهِ يكون نظامُ “الحسبةِ” نظاماً معقَّداً، ويصفُ بدقَّة الشكلَ الذي ارتضاهُ المسلمون في تدبير أمور تجارتهم ومهنهم. قدَّم رضوان السيِّد، إذن، تحليلاً دقيقاً رامَ فيه الوقوف عند الدَّور الذي لعبتهُ الأصنافُ في المجتمع الإسلاميِّ، وتتبَّعها تاريخيًا إلى أنْ اندثرت وتبدّدت في ظل التحوُّلات الاقتصادية المعاصرة، ومن خلال النظر إلى العوامل الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية، يمكننا فهم الديناميات التي شكلت هذه التنظيمات التَّقليدية، وأدت إلى تهميشها واستبدالها بنظم جديدة. يفتح هذا الكتابُ بابًا من أجل فهم أعمق للعلاقات بين الأيديولوجيا والاقتصاد والسياسة في تشكيل البنية الاجتماعية والتنظيمات المهنية في تاريخ الإسلام.

5. يقفُ رضوان السيِّد عند مسألة من المسائل الكبرى في تاريخ الإسلام، وبالأخص حين يتعلَّقُ الأمر بالعلاقة بين الأنا والآخر المخالف في الدِّين، ولكن الذي كانت له حقوق وضمانات من داخل القرآن نفسه، ويعيدُ السيِّد قراءة وضع المسيحيين بوصفهم جزءاً من نسيج المجتمع الإسلاميِّ في لحظات تاريخيَّة مختلفة ومتباينة. ثمَّة تمايزٌ بين الفهم القرآنيِّ للمسيحيَّة وما نشأ من فهم في تاريخ الفقه الإسلاميِّ، وهو ما يجعلنا ندركُ جانباً من المكانة التي حظي بها المسيحيون داخل دوائر الفقه الإسلاميِّ، من خلال التَّركيز على تطوُّر الأحكام الفقهيَّة، وأيضاً بالتَّركيز على العلاقات التي قامت بين المسلمين والمسيحيين، بدءاً بالعصر النبويّ وإلى حدود العصر العبّاسيّ. ينبِّهنا السيّد إلى أهميَّة السياق التاريخيِّ في دراستنا للمواقف التي تبَنَّتها بعض المذاهبِ الفقهية إزاء المسيحية، وأيُّ اجتثاث لهذه الأحكام من سياقها يجعلنا غير قادرين على فهم أسباب نزولها، بل إننا نخطئ التَّقدير في التَّعاطي مع الصورة الكلية التي طبعت تلك المرحلة كاملةً. وثمَّة دعوى رئيسة تنبثقُ في أعقابِ ذلك، وهي أنَّ دراسة صورة المسيحية في القرآن أمر لا مفرَّ منه، حتى نتبيَّن الفرق بين المنطلقات التي يؤسسُ لها النَّصُ القرآنيُّ وما عداها من الأحكام الفقهية التي هي بنت زمانها ووليدةُ لحظتها.

لا شيء خارج التَّاريخ والخطابُ الفقهيُّ يحاورُ التاريخ بشكل مفتوح وأحكامُه إزاء المسيحية لم تكنْ صورةً مطلقةً إزاء المسيحية كمفهوم وديانةٍ، بل في علاقة بالمسيحيين وسياستهم تجاه المسلمين أو العكس، وبالتالي، فتلك الأحكام نتجت في سياق وتاريخ محدَّدين. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تلك المنظومات الفقهية بنفسها قد نشأت في سياق محدَّد، وبالتَّحديد في منتصف القرن الهجري الثاني، أي بعد الفتوحات، وكان على الفقهاء في هذا السيّاق أن يقدموا على اجتهادات موسَّعة من أجل تقنينِ السلوك الذي ارتبطَ بأهل الذمة، وبالرّغم من محدودية تأثيرهم في بداية الأمر إلا أنه صارت لهمُ المكانة الكبرى تحت تأثير المسلك العام للجماعة الإسلامية.

شهدت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في هذا الإطار تذبذباً واضحاً، ولم تكن الأحوال التاريخيَّة لتؤكِّد على وجود خطّ ثابت في أشكال هذه الرابطة، ومعلوم أنَّ المسيحية لم تكن غريبة عن العرب، وكان لها وجودٌ تاريخيٌّ في اليمن والبحرين وغيرها المناطق التي عرف عن قبائلها أنها دانت بالمسيحية، وما يتَّضحُ في بداية الأمر، وبداية الدَّعوة المحمَّدية، أنَّ المسيحية لم تكن خصماً سياسيًا، ولم يحاربها النبيُّ أو يضيِّق على وجودها. لكن الموقف تغيّر بعد الفتوحات؛ فصارت المسيحيّة خصماً سياسيًّا منذ تلك اللّحظة، ومع تقدُّم التَّاريخ بدأت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين تتحسَّن، وبالأخص حين انتقلت الخلافة إلى بغداد.

6. يناقشُ رضوان السيِّد الهويَّة العربيَّة ومنزلتها في الفكر الإسلاميِّ، مركِّزاً في ذلك على تطوُّرها التاريخيِّ، ويسلطُ الضوء على دور الفقهاء في تكوين هذه الهوية، بل ويمتدُّ نظرُه من أجل استجلاء التأثيرات المتبادلة بين هذه الهوية وما يتصلُ بنطاقات الثقافة والسياسة. يرى السيّد أنَّ أهم الدَّوافع التي ساهمت في الاهتمام بالهويَّة العربية كان من أجل مواجهة الدّعاوى الشعوبية، ويرى أنّ الوعي بالأمة والجماعة لم يكُن رهيناً بهذه الجدلية، وإنما تطوّر باستقلال عنها. لم تتطوَّر الهوية العربيّة دفعة واحدةً، ولكنّها خضعت في تطوّرها لمراحل ثلاث:

  • أوَّلها، كان أسه ردّ فعل على الهجمات الشعوبية
  • ثانيها، ما أنتجه العرب من تأملات تهمُ سياق العالم وتاريخه وأممه
  • ثالثها، تركيز العرب على تمايزهم داخل الإسلام ودورهم فيه.

وكان للفقهاء دورٌ كبيرٌ في تكوين هذه الهويَّة العربيَّة، حتى أنَّهم قد تعرّضوا في كتاباتهم إلى مسألة العرب والعروبة، وخلقوا في ضوئها أبواباً، وساهموا في بلورة مفهوم الهوية العربيَّة من خلال توسُّل الأحكام الفقهيَّة أيضاً. وبقدر ما أثر الخطابُ الفقهي في تشكيل هذه الهوية فإنه قد تأثر بها، وتوسَّع تأثيرها ليشمل الثقافة والسياسة.

2)  الأمة، والجماعة، والسلطة

لنأخذ في سبيل عرضنا لهذه الأسس التي قام عليها نهج رضوان السيّد الفكريّ كتابهُ الموسوم ب: “الأمَّة والجماعة والسلطة: دارسات في الفكر السياسي العربيّ” (1985)، وهذا الكتابُ يوحي بعمق المقاربة التي يتبنَّاها صاحبُه في قراءة قضايا التَّراث السياسيّ في الإسلام. يتوزَّعُ هذا الكتابُ على فصول عشرة، ترومُ كلُّها إعادة قراءة الأسس الأولى التي قام عليها الفكرُ السياسيُّ في الإسلام، كما تسعى إلى فهمه، أيضاً، ضمن أفقه التاريخيّ الأوسع، والكتابُ إلى جانبِ ذلك محاولَةٌ تأصيليةٌ مفاهيمية، غايتُها ربطُ مفهوم الأمة، والجماعة، والسلطة، بمركزية النصّ في الإسلام، يقول رضوان السيّد:

“إن هذا الكتاب (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)، النص الموحى به؛ وأحدث الكتب عهداً بالله عز وجل، شكَّل منذ البداية الأساس لكل شيء في الجماعة المتكونة في رحابه. فهو الفصل، وهو الحكم، وهو المأدبة والغداء اليومي لهؤلاء الذين التفوا حول النبيّ البشر. وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ أقوالاً من مثل: أنه هدى النهار ونور الليل المظلم لا تعود مجازاً بالنسبة إلى المؤمنين به نصًّا مقدَّساً للأمة الجديدة الطالعة على العالم. (رضوان السيد، 2/1984: 9. التشديد من عندي)

يحدِّدُ رضوان السَّيد في هذا المقطع الذي صدَّر به عمله ما يمكن أن نصطلح عليه بالنظرة الفينومينولوجية للقرآن، أي الكيفية التي وقع بها هذا الكتابُ في وعي المسلمين، وهذه النظرةُ – عند السيد – ليست إلا مقدّمةً من أجل التَّأكيد على “جماعة النّص”، والقول بشكل لا يدعُ المجال للشكّ، إنَّ القرآن هو النّواة التي ائتلفت حولها جماعة المسلمين، وهو ليس مجرّد تعاليم أخلاقية – كما هو الشأن بالنسبة إلى كثير من النصوص والكتابات الدينية في تاريخ البشر – بل اتخذ منه المسلمون أساساً لبناء جماعتهم وتطويرها. تتجلّى في هذا النطاق تلك الرغبةُ الأساسيَّةُ لدى رضوان السيد في إعادة قراءة المفاهيم وتأصيلها، فالجماعة لم تنشأ خارج التَّاريخ، بل لم تكن لتنشأ لولا فاعلية النص ودينامياته، حتى عُدَّ القرآن بالنسبة إلى المسلمين محرّكاً للتاريخ نفسه، لا من حيثُ هو نصّ فقط، وإنما من حيث هو تأويل وتفسير لا ينقطع.

مثل النصُّ الإلهيّ حقيقة مطلقةً استندت إليها هذه الجماعة الناشئة، ولم تكن لتستمر بغيره، وهو المبرر الوحيد والأوحد من أجل استمرارها وبقائها، تلك، هي المقدّمة الأولى التي يضعنا السيّد أمامها، فلا شرعية للجماعة إلا من بالاستناد إلى النّص. لكن من أين لنا أن نفهم أهمية التَّأويل في هذا السياق؟ وبالأخص حين يتعلَّق الأمر بتأويل نصِّ الجماعة المؤسّس، فالأمر لا يقتضي النظر إلى النص من خارج، بل النظر فيه بوصفه حركة دؤوبة للمعنى، وهذا ما يفسّر شكل الصراع الذي نشأ بين المسلمين حول من له الحق في ممارسة الدور النبوي في تأويل النصّ. نشأتْ الخلافةُ معلنةً عن القطيعة الوراثيةِ لميراث النبوّة وقيمتها الرمزية داخل الجماعة؛ إذ لو تحقق الأمرُ واستمرّت النبوّة من حيث هي إرث دمويّ، لكانَ أولى النَّاس بسلطة التأويل من انحدر من نسل النبي، وهو ما سيظهر لاحقا في تاريخ الإسلام، وهكذا سيصيرُ الصراع صراعاً حول أحقية التأويل. صارت الجماعةُ، – في اللحظة الأولى لنشوئها – إذن، المرجع والحكم في تأويل النصّ.

يكشفُ رضوان السيّد عن تميُّز كبير في قدرته على قراءة النصوص التي تؤسّس تاريخ الإسلام الديني والثقافي، بالاعتماد على منهجين أساسيين: منهج نقد النصوص، والمنهج التاريخي النقدي، وهما معاً يضفيان على طريقته بعداً تحليلياً تشريحيًّا، استطاع من خلاله الكشف عن هذه العلاقات التي قامت بين المفاهيم الأساسية المكوّنة للفكر الإسلاميّ عامَّةً، والفكر السياسيِّ منه على وجه الخصوص.

يناقشُ رضوان السيّد في هذا المؤلّف (أي الأمَّة والجماعة والسلطة) التصوّرات الاستشراقيّة التي ركّزت على تكوُّن الجماعة، كما هو الحال بالنسبة إلى آراء هاميلتون جيب، ويولويوس فيلهاوزن، ومارتن هاينز، وذلك في محاولة من هؤلاء جميعاً لتفسير أصول الصراع التي حدَّدت مسارات السياسي في الفكر الإسلاميّ، خصوصاً في العلاقة بين السلطة المركزية والقبائل. يعكسُ هذا الاستحضار/ الاستدعاء جانباً من الرهان الابستمولوجي لدى رضوان السيّد وهو، كما ألمعنا سابقاً، مشغول بالتنقيب في القراءات التي تقدّم بها هؤلاء المستشرقون عن أشكال التحليل التاريخي النقديّ، ولكنَّهُ يستدعي جانباً من الخصوصية التاريخية التي تؤسّس لجانب الفرادة في قراءته، وهو ما يندرجُ في إطار رؤيته في إعادة قراءة المفاهيم.

يسعى القرآن إلى تكوين أمة واحدة من العرب وغيرهم، وذلك من خلال الدعوة إلى “التعارف” بين الشعوب والقبائل. ويؤكد القرآن على وجود آليات توازن بين هذه العناصر البشرية المختلفة، تُفعّل من خلال “الدفع الاجتماعي“. ينشأ هذا الدفع عن اختلاف البشر في فئاتهم ومصالحهم، وعدم إمكانية الاندماج الكامل في ظلّ طبيعة خلقهم “من نفس واحدة” (الآية 56). ويُقرّ القرآن بأنّ البشر “لا يزالون مختلفين” (الآية 57) حتى بعد توحدهم في أمة واحدة. ويوضح ذلك بقوله: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” (الآية 58). وتُشير هذه الآيات إلى أنّ “الأمة المرحومة” (الآية 59) التي استثناها الله تعالى من الاختلاف هي التي أرادتها الدعوة الإسلامية. لكن ظواهر التمايز والاختلاف بين الشعوب والقبائل داخل هذه الأمة موجودة أيضاً.

يُستمدّ هذا المطمح القرآني الوحدوي من النظرة التاريخية التي يتضمنها القرآن لنشأة المجتمعات وتطورها. فالقرآن يبيّن أنّ التنوع والاختلاف هما من خصائص الطبيعة البشرية، وأنّ التوازن بين مختلف العناصر البشرية ضروري لبناء مجتمعات قوية ومتماسكة. ويُقدّم القرآن تصوّراً فريداً لتكوين أمة واحدة من العرب وغيرهم، وذلك من خلال الدعوة إلى “التعارف” واعتماد آليات “الدفع الاجتماعي” لتحقيق التوازن بين مختلف العناصر البشرية. ويُؤكّد القرآن على أنّ الاختلاف هو سمة طبيعية للبشر، لكنّه لا يُعيق تحقيق الوحدة والتكامل في ظلّ رحمة الله تعالى (رضوان السيد: 2/1984: 31).

يرى رضوان السّيد أن هناك ارتباطاً عضويًّا بين مفهوم الجماعة والأمة والأرض، حيثُ حرص عمر بن الخطاب على إبقاء أرض الأمة موحدة، كما كانت دارهم موحدة، إيماناً منه بأنّ الأرض ملك للأمة جمعاء، وإنما يملك الأفراد حق الانتفاع بها. وقد أدرك أبو عبيد هذا المعنى فخصص فصولاً في كتابه “الأموال” للأموال التي يليها الأئمة للرعية، مثل الفيء والخمس والصدقة. ورغم إمكانية تقسيم الأرض المفتوحة بين المسلمين، فضّل عمر إبقاء الأمور واضحة منذ البداية، خوفاً من التنازع على المياه، خاصةً في أرض السواد التي تعتمد نظام ري معقد. كما حرص عمر على وحدة الجماعة الناشئة، ومنع عودة القبائل إلى التنازع على الموارد، خاصةً في ظلّ نموّ الأمة الإسلامية وانتشارها. واعتبر الإمام مالك، في ضوء هذه المعاني، أنّ الأرض تُعتبر موقوفة على الأمة بمجرد افتتاحها، مراعاةً لمعنى الملكية العامة، ووحدة الأمة، ومستقبلها ودعوتها (رضوان السيد: 2/1984: 75). يبدو أن هذه الميل الوحدوي الذي شكّل نواة الأمة هو ما يعبّرُ عنه الدكتور رضوان السيّد من خلال إعادة قراءته لهذه المفاهيم الأساسيَّة، وضدًّا على كل ما من شأنه أن يكون سببًا في شتات هذه الأمة.

لم يقف رضوان السيّد في مؤلَّفه هذا عند الأسس التي انبى عليها المفهومُ الوحدويُّ في الإسلام، بل قادهُ البحث والتنقيبُ إلى الكشفِ عن العلاقات القائمة بين المركز الأطراف، فجاءَ عنوان الفصل الثالث من هذا الكتابِ تحت مسمَّى: “قضايا المركزية والوحدة وعلاقة المركز بالأطراف في الفكر السياسي العربيّ الإسلامي: نظرات في جدلية العلاقة بين النموذجين السياسيين التاريخيين الإيراني القديم والإسلامي الوسيط“؛ حيثُ ينكب على مراجعة الأدبيات السياسية في الفكر الإسلامي الوسيط التي رامت التأسيس لمنظور واحد من أجل التفكير في مسألة الدَّولة، ولا شكَّ – عندهُ – أن الأصل الذي انبنت عليه هذه الرؤية الوحدوية إنّما كان مردُّه إلى فهم معيَّن ل”الأمَّة“، يضافُ إلى توافقٌ وقع في أذهان المفكرين السياسيين في تلك المرحلة من التَّاريخ حول مفهوم “الخلافة“. ومع ذلك يتنبَّهُ الأستاذ رضوان السيِّد إلى القضية التاليةِ:

إذا كان النموذجان الساساني والعربي الإسلاميّ مختلفين إلى هذا الحدّ؛ فلماذا هذه الاستعانة الكبيرة بأجزاء النموذج الفارسي من جانب المفكرين الإسلاميين وعلى رأسهم الماوردي العربي الأصل والإسلامي الثقافة؟ لبيان أسباب ذلك لا يكفي التشديدُ على سيطرة العناصر الفارسية على الإدارة والكتابة في الدولة. لقد أسهمت هذه العناصر لا شكّ في نشر التقاليد الحضارية الفارسية والدّعوة إليها، كما أسهمت وراثة الدولة العربية للنظام الاقتصاديّ الفارسيّ في نشر بعض قيمه، بالإضافة إلى أنّ الحضارة الفارسية كانت أولى الحضارات التي عرفها العرب خارج جزيرتهم، ومن الطبيعي أن يكون تأثيرها فيهم أعمق وأبقى. (رضوان السيد: 2/1984: 122)

يُسلّط هذا الاقتباس الضوء على التأثير العميق للحضارة السّاسانية في الفكر الإسلامي الوسيط، على الرغم من الاختلاف الجوهري بين النموذجين الفكريين. يُشير السيد إلى أنّ استعانة المفكرين المسلمين، وعلى رأسهم الماوردي، بأجزاء من النموذج الفارسي لا يمكن تفسيرها فقط بسيطرة العناصر الفارسية على الإدارة والكتابة في الدولة العربية الإسلامية. ويفسّر السيد هذا التأثير العميق بثلاثة أسباب رئيسية:

  • أولاً: انتشار التقاليد الحضارية الفارسية؛ حيث ساهمت سيطرة العناصر الفارسية في نشر التقاليد الحضارية الفارسية والدعوة إليها، ممّا أتاح للمفكرين المسلمين التعرّف عليها بشكل أعمق ودراستها
  • ثانياً؛ وراثة النظام الاقتصادي الفارسي؛ إذ ورثت الدولة العربية الإسلامية النظام الاقتصادي الفارسي، ممّا أدى إلى انتشار بعض قيمه ومبادئه، مثل نظام الضرائب والتنظيم الإداري للمالية
  • ثالثاً، أسبقية الحضارة الفارسية؛ فقد كانت الحضارة الفارسية أولى الحضارات التي عرفها العرب خارج جزيرتهم العربية، ممّا جعل تأثيرها أعمق وأبقى في الذاكرة العربية.

يُظهر تحليل السيد أنّ تأثير الحضارة الساسانية لم يكن مجرّد تقليد سطحيّ، بل كان نتيجة تفاعل عميق بين نموذجين فكريين مختلفين. وتُؤكّد هذه الرؤية على أنّ الحضارة العربية الإسلامية لم تنشأ في فراغ تاريخي، بل إنها تكوّنت من خلال تفاعلها مع الحضارات المجاورة، بما في ذلك الحضارة الساسانية.

كانت المقارنة وسيلة أخرى من أجل تبيُّن الأساس الماهويّ الذي يحدِّدُ المفاهيم في سياقها الإسلاميِّ، ويجعلنا قادرين على استيعاب أشكال التأثير والتأثر الحضاري من داخل دوائر الإسلام. يذهبُ رضوان السيد إلى أنّ اعتماد الكتّاب العرب المسلمين على الأمثال والحكم والسّير الفارسية في مؤلفاتهم السياسية وكتب السمر لا يرجع فقط إلى سيطرة العناصر الفارسية على الإدارة والكتابة في الدولة العربية الإسلامية، كما سبق شرحه، بل إلى أنّ هذا الاعتماد يعود أيضاً إلى مفهوم العرب المسلمين عن العلم، والذي كان يُنظر إليه ككتلة من المعرفة تراكمت عبر العصور، ويجب الاستفادة منها دون تمييز بين مصادرها، سواء أكانت عربية أم فارسية. ويُؤكّد هذا التفسير – في رأي رضوان السيد – قول أبي حيان التوحيدي (حوالي ٤١٥ هـ) :

«الحكمة نسبتها فيها، وأبوها نفسها، وحجتها معها، وإسنادها متنها ؛ لا تفتقر إلى غيرها، ولا تستعين بشيء ويُستعان بها».

تركت هذه النظرة عن العلم آثاراً سلبية عميقة على الثقافة العربية الإسلامية، حيث أدّت إلى تقديس التراث السابق وجعله معياراً للصحة والحكمة، ممّا حدّ من إبداع المفكرين العرب المسلمين وجعلهم أسرى فنّ “نصائح الملوك“. حاول بعض المفكرين، مثل العامري والبيروني وعوا، الخروج عن هذا النمط، لكنّهم لم يُمثّلوا سوى استثناءات. ويُؤكّد السيد بأن ابن خلدون (۸۰۸ هـ) هو من حرّر الفكر السياسي العربي من تقليد “نصائح الملوك” بشكل نهائي، ومع ذلك، يُشير إلى أنّ المأثورات السياسية الفارسية لم تُلغِ تماماً الفواصل بين المنظومتين السياسية العربية والفارسية، بل بقيت هامشية نسبياً في الكتابة السياسية العربية.

*

ينبِّهنا المفكر رضوان السّيد، في معرض تحليله للمجال التاريخّيّ الإسلاميّ ومفاهيمه إلى أنَّ الباحث في التاريخ السياسي للدولة العربية الإسلامية يواجِهُ تحديًا جوهريًا يتمثل في صعوبة تحديد بدايات التفكير النظري حول مفاهيم جوهرية مثل: الشرعية، والوحدة، والجماعة. لا تنبع هذه الصعوبة من شحّ النُّصوص المُتاحة، بل من طبيعة تلك النُّصوص ذاتها، والتي تعود إلى فتراتٍ مُبكرة من التَّاريخ الإسلامي، تحديدًا في القرن الأول الهجري؛ فعلى الرغم من أن المادة التاريخية المُتعلقة بالفترة الإسلامية الأولى قد تمّ تدوينها بشكلٍ أساسي في العصر الأموي، إلا أنها خضعت لعملياتٍ مُكثّفة من التجميع والتنقيح وإعادة الترتيب خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين.

أثرت هذه العمليات على كلٍّ من كمية ونوعية المادة التاريخية المُتاحة، حيث تمّ تدوين تلك المادة في ظلّ سياقاتٍ سياسية وحزبية مُتوتّرة ومن وجهات نظر أيديولوجية مُختلفة، ممّا انعكس بشكلٍ مباشر على محتوى تلك النصوص ومصداقية تمثيلها للأحداث والمواقف التَّاريخية. يُضاف إلى ذلك أنّ المُؤرخين والمحدثين الأوائل الذين قاموا بجمع تلك النصوص وتدوينها كانوا ينتمون إلى خلفياتٍ ثقافية مُتنوّعة، واختلفت قدراتهم على استيعاب المعلومات وتنظيمها. ممّا يُؤكّد على ضرورة توخي الحذر الشديد عند التعامل مع النصوص التاريخية، والتركيز على تحليلها كأدواتٍ تقنية مُستقلّة، إلى جانب تحليل محتواها. وعليه، لا بدّ من دراسة تلك النصوص في سياقها التاريخي المُناسب، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة في تلك الفترات، وفهم دوافع المُؤرخين والمحدثين الذين قاموا بتدوينها.

يؤكِّدُ السيِّد على تساؤلٌ جوهري وله أهميّته في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، ومدارهُ حول ما إذا كان بإمكان فقهاء السياسة في الإسلام تجنب المصير الذي آل إليه الفكر السياسي الإسلامي؛ ففي حين ظلّت وحدة الأمة هدفًا مُسّلمًا به حتى النهاية، باعتبارها ركنًا أساسيًا من الدِّين، إلا أنّ هذه القضية فقدت تدريجيًا مضامينها الجوهريّة، حتى تلاشت شكليًا في نهاية المطاف. يُطرح هنا سؤالٌ حاسم: هل كان بإمكان التشبّث النظري بالفكرة بكلّ أجزائها أن يُحدث فرقًا لو كان موجودًا؟ يُوجّه بعضُ الباحثين اللوم إلى فقهاء السياسة لتنازلهم عن بعض المُثُل العليا، واتّهامهم بالانفصال عن الواقع (رضوان السيّد، 2/1984: 143)، ويُثير هذا الاتّهام – على حدِّ تعبير السيّد – تساؤلًا حول المخرج المُمكن من هذا المأزق. لا شكّ أنّ الإجابة على هذا السؤال تتطلّب المزيد من التأمل والدراسة المُعمّقة. ومع ذلك، يمكن القول منذ البداية أنّ تجربة الفقهاء السياسيين القدامى تُقدّم لنا درسًا هامًا، وهو أنّ الاهتمام بقضية الوحدة وحدها لا يكفي لتحقيقها واستمرارها. بل يجب إيلاء اهتمامٍ مُتوازٍ لوسائل تحقيقها.

بعبارة أخرى، لا يمكن فصل قضية الوحدة، وهي جوهر الإسلام نفسه، عن قضية الشرعية. وتعتمد الشرعية بدورها على جماهيرية الإمام، ممّا يعني أنّها تستند إلى الشورى والعقد والبيعة. فمن الممكن أن تستمرّ الوحدة أو تتحقّق في غياب الشرعية، وذلك عبر القوة والتسلّط. لكنّها في هذه الحالة لا تكون وحدة إسلامية حقيقية، بل تصبح وحدة استبدادية. لقد أدرك كبار الصحابة، مثل الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، خطورة هذا الانحراف عندما أرادهم معاوية البيعة ليزيد ابنه. ففي هذه الحالة، تتحوّل الخلافة إلى ملك، ويصبح علينا الموازنة بين الجماعة والطاعة. تعلمنا معاناة المفكّرين السياسيين المسلمين أنّ قبول أهون الشرّين لا يُغيّر من الواقع شيئًا. ففقدان الشرعية يُؤدّي إلى فقدان الوحدة، وخسارة القضية الإسلامية على المدى الطويل. لذلك، يجب أن تُحافظ الوحدة على شرعيتها الجماهيرية لتبقى وحدة إسلامية حقيقية. (رضوان السيّد، 2/1984: 143)

**

يُعدّ كتاب “الأمة والجماعة والسلطة” علامةً فارقةً في مسار التأريخ للفكر السياسي الإسلامي. فقد نجح رضوان السيد في ترسيم حدود الفكر السياسي الوسيط في الإسلام، مُقدّمًا إطارًا نظريًا متينًا لا يمكن تجاوزه في سبيل النظر إلى التراث. يُمثّل هذا الكتاب إنجازًا معرفيًا هامًا لعدة أسباب:

  1. نجح رضوان السيد في تحليل المفاهيم الجوهرية للفكر السياسي الإسلامي، مثل “الأمة” و”الجماعة” و”السلطة”، مُبيّنًا العلاقات المعقدة بينها.
  2. قدّم رضوان السيد قراءةً نقديةً للتاريخ الإسلامي، مُسلّطًا الضوء على التناقضات والتحولات التي مرّ بها الفكر السياسي.
  3. وفّر رضوان السيد إطارًا نظريًا مُتكاملًا لفهم التراث الإسلامي، مُتيحًا للباحثين أدواتٍ جديدةً لتحليل النصوص وتفسيرها.
  4. يتجاوز هذا الكتاب حدود الزمن، إذ لا يزال يُطرح إشكالياتٍ مُعاصرةً ذات صلةٍ بالواقع الحالي.

يُعدّ كتاب “الأمة والجماعة والسلطة” من أهمّ الأعمال المُعاصرة في مجال الدراسات الإسلامية، وعلامةً فارقةً في مسار التأريخ للفكر السياسي الإسلامي.

ثانياً: تحقيق التراث، دراسات وتوجيهات

يهتمُّ هذا الجزءُ من دراسة مشروع المفكر العربي رضوان السيّد بمنهجه في التَّعريف بالتراث العربيّ الإسلاميّ، وما حقَّقهُ من نصوص أو قدَّم لها، لكي تصيرَ جزءاً من هذا التُّراث الفكري والفلسفيَّ الذي يحدِّدُ ملامح الحضارة العربية الإسلاميَّة. سنقف بالدّرس عند عملين تراثيين حقَّقهُما الأستاذ رضوان السيِّد هُما: “قوانين الوزارة وسياسة الملك” للماورديّ (ت.450هـ/ 1058م)، و”تحفة التّرك فيما يجب أن يُعمل في الملك” للطرسوسي (ت. 758هـ/ 1357م).

  • الفقيه والسُّلطة: الماوردي نموذجاً

1 . كان رضوان السيّد مدفوعاً بهاجس قويّ نحو إعادة إعمار الثقافة العربية المعاصرة بالنُّصوص التراثية، وخاصَّةً تلك التي كانت متَّصلةً بميادين بحثه، أي تلك التي اقترنت بالتراث السياسيِّ العربيِّ الإسلاميّ. وفي سبيل ذلك تركّزتْ جهودُهُ كلُّها في سبيل تحقيق نصوصٍ مهمَّةٍ، موفِّراً بذلك الأرضيّة المعرفيّة الأساس من أجل تحقيق رؤيته المعرفية القاضية بإعادة النظر في المفاهيم الأساسية المكوّنة للتراث السياسيِّ في الإسلام. واخترنا في هذا المقامِ مؤلَّفاً من المؤلَّفات التي عُنيَ رضوان السيِّد بتحقيقها، وقيمةُ المؤلَّف بقيمة صاحبهِ، ونحنُ هنا أمام هرم من أهرام السياسية الشرعية في الفكر الإسلاميِّ، فما المكانةُ التي يحتلُّها هذا المؤلَّف ضمن باقي مؤلَّفات الماوردي؟ وما الرّهان الذي قادَ رضوان السيِّد إلى الإقدام على هذا التَّحقيق من دون غيره؟ أو تقديم هذا المُؤلِّف على غيره من المؤلِّفين الذين اشتهروا ضمن هذا المجال؟

2 . لا شكّ أن التَّحقيق بوصفه عمليَّةً معرفيَّةً وأكاديمية، تقتضي من المحقِّق الإلمام بشروط هذه الصنعة، والإلمام بما يدور في فلكها من المعارف التقنية المحض، لكنّها إلى ذلك تقتضي جهداً استثنائياً من أجل الإحاطة بالمعجم الذي ينتمي إلى مجال النصِّ المحقَّق، وهي أمور كلُّها توفّرت لدى المفكِّر رضوان السيِّد وأعانته في الولوج إلى رحاب هذا النص الفكريِّ الاستثنائيِّ، ولكن وجب أن نؤكِّد أيضاً أن جزءاً من هذا المجهود الكبير الذي يراهنُ عليه الدكتور السيد نابعٌ، أيضاً، من دافع ذاتيّ يقودُه مباشرة إلى الاحتفاء بأعلام الفكر السياسيّ الكلاسيكيّ، ومنهم أولئك الذين تركوا بصمتهم الخاصَّة في تطوير هذا التُّراث، وخصُّوه بنظر دقيق وثاقب نفذ إلى عمق الإشكاليات التي كانت تتأرجحُ فيها الثقافة السياسيةُ العربية الكلاسيكيةُ، ووقفوا منها موقفاً عقلياً ونقديًّا قلّ نظيرهُ عند غيرهم.

3 . صدرَ تحقيقُ كتاب: “قوانين الوزارة وسياسة الملك” لأبي الحسن عليّ بن محمّد بن حبيب الماوردي، بتحقيق رضوان السيّد، في طبعته الأولى، في العام 1979م، عن دار الطَّليعة للطباعة والنشر ببيروت، مقدَّماً بدراسةٍ وافيَةٍ يعنينا أن ننظر فيها حتى نتبيَّن بعضاً من الجوانب المعرفيَّة التي أسس عليها المفكر رضوان السيّد اختياراته في تحقيق النُّصوص الكلاسيكية. وكما أسلفنا، فالتحقيق عمليّة مزدوجة؛ إذ تحتاج من ناحية تحقق شروط الصنعة التقنية، ولكنها تسعى إلى فهم السياق الأساسي الذي يتنزّل فيه النصّ المُحقّقّ. ومن أجل ذلك دلف السيّد إلى جمع الدّراسات الاستشراقيَّة التي قُدّمت في سبيل التَّعريف بإرث الماوردي ومناقشتها على نطاق واسع، ويشيرُ قائلاً:

علينا في بداية هذه الدراسة أن نعود إلى لفت الانتباه للنقص البالغ في الأبحاث المهتمة بالفكر السياسي الإسلاميّ، وبمؤسساته العامة، إنّ النظريات الإسلامية وآثارها على مستوى الواقع، كل ذلك لم يلق الاهتمام اللائق به دراسياً، وأبو الحسن الماوردي خير دليل على ما نقصدُه بالنقص البالغ في الأبحاث والدراسات في هذا المجال. (الماوردي، 1979: ص5)

وهذا فيه مؤشّرٌ على ما في الثقافة العربية من نقص وحاجة إلى مثل تلك الدِّراسات القيمة، حتّى أن أغلب ما يمكنُ أن يستند إليه الباحثُ، في التَّعريف بهذا المبحث، لم يكن ضمن اللسان العربي، وإنّما بغيره من الألسن، وخاصة بالألمانية، والإنجليزية، والفرنسية.

4 . يشيرُ رضوان السيّد في مستهلّ هذه الدراسة إلى اعتمادِه الكبير على هنري لاووست، وما قدّمهُ في دراسته القيمة سنة 1968، ولم يكنْ هذا المجال خفيًّا على الدّارسين المستشرقين، وربّما يرجعُ السببُ في ذلك إلى رغبتهم الدّائمة في فهم أسباب القوة التي ساهمت في تقدّم المسلمين في مراحل تاريخية سابقة، لكنَّ رضوان السيد لا يجعل من أحكام المستشرقين قطعيةً في قراءة الماورديّ أو ما جاء على سبيل النظر في تراثه، ولكنّه يعملُ على تصويبها والإشارة إلى ما أخطأت فيه، ففي الوقت الذي ظن سوفاجيه مثلاً – سيراً على نهج بروكلمان – أنّ “الأحكام السلطانية” للماوردي تعرضُ تصوُّراً مناقضاً للواقع، أو رؤيةً مثالية للدولة الإسلامية، صحّح هاميلتون جب هذا التَّصور من خلال النظر في الفاعلية السياسية العملية للماوردي والسياق الذي عاش فيه، وتبعَهُ في ذلك روزنتال وجورج مقدسي. ومن هنا يتبيَّن لنا أن السيد لا يأخذُ بالمواقف الاستشراقية مثل هذه القضايا الحاسمة، بل يرجّح جانب المعقولية والصّحة فيها، وهو من الأمور التي تميّز الباحث الناقد.

5 . هل بوسع السياق الاجتماعي تفسير أهمية الكتاب الذي بين أيدينا؟ جواب الدكتور رضوان السيد على جهة الإيجاب؛ لأن الجوانب التاريخية أساسية من أجل تبيُّن حقيقة التَّأليف، وكفيلة بأن تطلعنا على قيمة المؤلَّف الذي نحن بصدده، وبالأخص إن هو صدَحَ بمعرفة أو فكرة تجسِّدُ تطلُّعاً لواقع أفضل، أو تقوِّمُ واقعاً قائماً. ليس الماوردي شخصيَّةً مغمورةً، ولا بعيدةً عن السيّاسة، بل كانت له صلةٌ وثيقةٌ بالسلطة، “كان الماوردي واحداً من أولئك الفقهاء والمتكلمين الذين عاشوا في البلاط وكانوا يتمتعون بثقة الخليفة، ويحصلون على الألقاب والمناصب التي كان الخليفة ما يزال يستطيعُ منحها، وليس مصادفةً أن يكون الماوردي تلميذاً لأبي حامد الاسفرائيني (- 406هـ) أحد كبار الفقهاء الشافعية في عصره، ومن المقربين للخليفة، ومن أولئك الذين لعبوا دوراً هاماً في الحياة السياسية لذلك العهد بوصفه أحد المتحدثين باسم السنة والجماعة”(الماوردي، 1979: 7-8). وكان دخول الماوردي بشكل صريح إلى البلاط في عهد القائم بالله الذي خلفة القادر بالله في الحكم، ظلَّ تأثيرهُ السياسيُّ في هذه المرحلة قويًّا، وكانت كتاباتُه ذات صدًى كبير في تلك المرحلة.

6 . ينبِّهُنا رضوان السيِّد إلى أهميّة فكرة الخلافة لدى الماورديّ، فهي أمر جوهريٌّ من أجل استيعاب بنية الفكر السياسيِّ الذي ينشُدُه؛ إذ يرى الماوردي بأنَّ الخلافة: “موضوعٌ لخلافة النبوَّة في حراسةِ الدِّين وسياسيةِ الدُّنيا” (الأحكام السلطانية والولايات الدِّينية). ولمَّا كان النَّبيُّ مكَلَّفاً بتبليغِ الرِّسالة وتوجيه الأمَّة، فالخليفةُ، أيضاً، يَعْقُبُه في أداء المهامِ الدينية والدنيويَّة. ولم يقعْ في ذهن الماوردي أيُّ تأويل يفصلُ بين مجال الدّينيِّ والسياسيِّ، بل رأى فيهما امتداداً لبعضهما البعض. يمثِّلُ هذا التَّرابطُ بين الدين والدنيا “حراسة الدين وسياسة الدنيا” مفتاحاً أساسيًّا من أجل فهم نظرية الماوردي السياسيَّة؛ إذ الخليفةُ بصفته نائباً وتابعاً للنبيِّ، فهو الضامن الأساس من أجل استمرارية الشَّريعة الموحى بها، ومن أجل ضمان التَّقيُّد بها وتنفيذها. وتبعاً لذلك فللخلافة في منظور الماوردي مهامٌ محدَّدة: فمن حيث حراسة الدِّين؛ تهتم بضمان استمرار الشَّريعة الموحى بها، والاعتراف بها، وتنفيذُ أحكامها.  ومن حيثُ سياسة الدنيا؛ فهي تعملُ على مراقبة تطبيق حقوق الله وحقوق العباد، وضمانُ تنفيذ الواجبات القانونية والأخلاقية، وتسيير أمور الدَّولة.

7 . مثَّل كتابُ: “الأحكام السلطانية” منعطفاً جوهريًّا في فهم النظريَّة السياسيَّة كما ارتضاها مفكِّر مثل الماوردي، وكان الكتابُ مرجعاً من أجل فهم نظريتهُ في الخلافة وخصائصها، وسلطتها وحدودها، وفق نظام فقهيّ مستمدٍّ من الشَّريعة، وزادها عمقًا ما أضفاهُ عليها من تأمُّلاته في المناصب، والولايات، والجهاد، والحرب، والحدود، وشؤون الدولة المالية، وقضايا امتلاك الأرض، والجرائم. إلخ. تأتي أهميَّةُ الماوردي من إدراكه ووعيه بالسياق المذهبيّ والفقهيّ وما يكتنزُهُ من اختلافات ظاهرة بين المذاهب الأربعة: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنبليَّة. وكان الماوردي صاحب ذهن ثاقب، فبالرَّغم من تأييده للمذهب الشَّافعيّ إلا أنَّهُ لم يكنْ يسعى إلى جعله المذهب الرَّسميّ للدَّولة، ودافع عن مبدأ الاجتهاد، مع اشتراطه للمعرفة الجيّدة بأصول التَّشريع الإسلاميِّ في المذاهب الأربعة، كما أكَّد على ضرورة كفاءة الخليفة في الفقه، وأن يختار للدولة من المذاهب ما يكونُ متوافقا مع المصلحة العليا للدين والدّولة.

8 . يندرجُ اهتمامُ رضوان السيِّد بالماوردي ضمن سياق دراسة العلاقة بين الفقيه والسلطة، ويؤكِّدُ من خلال هذا التَّحليلِ الذي قدَّمهُ، والذي ألمحنا إلى بعض معالمه، على أنَّ الفقه لمْ يَكُن تابعاً للسُّلطة كما فهمهُ بعض المستشرقين، وإنَّما كان مؤسَّسةً قائمةً بذاتها. وبالإجمال، فقد كانَ سؤالهُ متمحوراً على الكيفيَّة التي كان يتعامَلُ بها الفقيهُ السنيُّ مع السُّلطة، ويرى أنَّ المؤسَّسة الفقهيَّة مكمنُ قوَّتها في أنَّها التي تمنحُ الشرعيَّة للسلطة السيَّاسيَّة. استطاع رضوان السيِّد النَّفاذ إلى هذا المشروع الذي قدَّمهُ الماورديِّ في مختلف مستوياته الفقهية، مبيِّناً ومبرزاً سلوكه بوصفه فقيهاً أمام السُّلطة القائمة، يقولُ رضوان السيِّد: “يقودنا التنويهُ ب”الحاوي” إلى التأكيد على أنَّ الماوردي كان فقيها أصولياً، بالدّرجة الأولى، وقد أطلق عليه في عصره لقب “أقضى القضاة” لولايته القضاء في بلدان عدة، ولشهرته بالفقه وتزعمه للمذهب الشافعي في عصره حتى لقد طلب إليه الخليفةُ القادر بالله تصنيف مختصر في الفقه الشافعي فصنَّف له “الإقناع” فهنَّأهُ الخليفةُ عليه، وقال: “حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا ديننا“. (الماوردي، 1979: 89-90). ويتَّضح من هذا الكلام أنَّ للماوردي مكانة كبيرةً لدى صاحب السّلطان.

9 . عُنِي رضوان السيِّد بدراسةِ شقٍ من كتابات الماورديِّ وخصَّصَ جزءاً من هذه الدِّراسة للعنايةِ بمسائل مهمَّة، وعلى رأسها موضوع الوزارة التي هي أساسُ هذا التَّحقيق ونواتُهُ. أثارَ السيِّد في معرض مناقشته لموضوعِ الوزارة في التراث الفقهي الإسلاميِّ جلَّ الجوانبِ المرتبطة بهذا المنصب، وعرض في خضمِّ ذلك مختلف التَّصوُّرات الاستشراقية التي ناقشت المسألة باستفاضة، وبالأخص تلك التصوُّرات التي رامت الوقوف عند أصل التَّسمية إمَّا بردِّها إلى السياق العربيِّ أو إلى السياق الفارسيِّ. لكنَّ أهمَّ ما في الأمرِ أنَّ رضوان السيِّد يؤكِّد على ضرورة النَّظر إلى المفهوم في سياقه التاريخيِّ، وكل محاولةٍ للقفز على هذا المعطى يجعلُ الدَّارس يتخبَّطُ في معطيات لا طائل منها، فتتبُّع الشكل الذي به تطوَّرت فكرةُ الوزارة في السياق الكلاسيكيِّ يجعلنا قادرين على فهمِ سياق تطوُّر المفهوم، وما يمكِنُ استخلاصُه من خلال ذلك هو أنَّ منصب الوزارةِ مزيجٌ – كما نظر إليه في تلك المرحلة – مزيجٌ من التّأثيرات العربيَّة والفارسيَّة، أضف إلى ذلك أن هذه الوظيفة تطوَّرت في استجابة لاحتياجات الدولة الإسلامية وتعقيداتها المتتالية عبر العصور.

10 .  لفت المفكر رضوان السيد الأنظار إلى أهمية دراسة الجانب السياسي في فكر أبي الحسن الماوردي، أحد أهمّ علماء المسلمين في القرن الرابع الهجري. ويرى السيد أنّ الماوردي لم يقتصر على كونه فقيهًا دينيًا فحسب، بل كان مفكرًا سياسيًا عميقًا قدم نظريات هامّة حول الحكم والسلطة في الإسلام. يؤكّد السيد على ضرورة الاعتراف بأهمية التراث السياسي الإسلامي وفهمه بشكل صحيح. ويُشير إلى أنّ هذا التراث غنيٌّ بالنظريات والأفكار التي يمكن أن تُساهم في فهمنا للحكم والسياسة في العالم المعاصر. تمثّل دراسة السيد للجانب السياسي لدى الماوردي منعطفا هامًا في شكل التعاطي مع إشكالية العلاقة بين الفقيه والسلطة في الإسلام. فقد كان يُنظر إلى الفقهاء تقليديًا على أنّهم خبراء في المسائل الدينية فقط، بينما يُنظر إلى السلاطين على أنّهم حكام مطلقون. لكنّ السيد يُظهر أنّ الماوردي قدّم نظرة أكثر تعقيدًا لهذه العلاقة، حيث رأى أنّ للفقهاء دورًا هامًا في تقييد سلطة الحاكم ومنع استبداده. يركز السيد على التطوّرات التي خضعت لها المفاهيم السياسية في الإسلام على مرّ التاريخ. ويُشير إلى أنّ هذه المفاهيم قد تأثّرت بالعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة التي واجهها العالم الإسلامي. وقصارى القول، تُقدّم دراسة رضوان السيد للجانب السياسي لدى الماوردي مساهمة هامّة في فهمنا للتاريخ الفكري الإسلامي وللعلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام.

  • الآداب السلطانية: الطرسوسي نموذجاً

1 . استطاعَ المفكِّرُ رضوان السيد تتبع مسارات الفكر السياسي الإسلامي، فقد واصل مسيرةَ الماوردي، أحد أعلام هذا المجال، مُتجهًا بعد ذلك إلى دراسة شخصية بارزة أخرى هي شخصية “الطرسوسي“؛ إذ كتابه “تحفة الترك في ما يجب أن يُعمل في الملك” نصًا ذا ثقلٍ كبيرٍ في هذا التراث السياسيّ الإسلاميّ، ولأهمية هذا الكتاب، خصصه السيد بدراسةٍ تحليليةٍ شاملةٍ، مُقدّمًا مدخلًا بعنوان “صراع الفقهاء على السلطة والسلطان في العصر المملوكي“. وتُمثّل هذه الدراسة القيّمة مساهمةً جليّةً في فهمنا للتفاعلات السياسية والفكرية في تلك الحقبة التاريخية، مُسلّطةً الضوء على دور الفقهاء وصراعاتهم على السلطة.

2 . يتغيَّا رضوان السيد من خلال دراسته هاته تحليلًا دقيقًا للسياق التاريخي الذي برزت فيه المدرسة الحنفية، مُسلّطًا الضوء على العلاقة المعقدة بين الفقه والسلطة في ذلك العصر، ويُبيّن في مستهلها الدور المحوريّ للقضاة الأحناف في الأمصار الإسلامية، مُشيرًا إلى السلطة التي تمتعوا بها في ظلّ الخلافة العباسية. ويوضّح أنّ المدرسة الحنفية لم تنحصر في بغداد بعد القرن الثالث الهجري، بل شهدت نهضةً ثانيةً في أوساط آسيا؛ حيث دخلت تلك البلدان من خلال إيران. ويلقي السيد الضوء أيضًا على طبيعة العلاقة بين الأحناف والمماليك، مُحلّلًا التفاعلات السِّياسية والفكرية بين الطرفين، كما يُبيّن أنّ الأحناف تمكنّوا من إقامة علاقاتٍ وثيقةٍ مع المماليك، ممّا مكّنهم من تعزيز نفوذهم والسيطرة على العديد من المناصب الدينية والقضائية. يُشير رضوان السيد في دراسته إلى أنّ الطرسوسي نظّم رسالته “تحفة الترك في ما يجب أن يُعمل في الملك” على غرار كتب نصائح الملوك التي كانت شائعةً في عصره. ويُبيّن السيد أنّ الطرسوسي لم يكتفِ بتقديم نصائحٍ سياسيةٍ للسلطان المملوكي، بل خاض صراعًا فكريًا عنيفًا ضدّ المذهب الشافعي، ممّا انعكس على منهج رسالته ورؤيته العامة.

3 . يرى رضوان السيد في دراسته أنّ الطرسوسي لم يقتصر في رسالته “تحفة الترك” على تقديم نصائحٍ سياسيةٍ للسلطان المملوكي، بل سعى إلى تأصيل شرعية حكمهم من خلال نقاشٍ فقهيٍّ عميقٍ مع المذهب الشافعي؛ وكان الطرسوسي يُدرك أنّ الشافعية، الذين يُمثّلون أحد أهمّ المذاهب الفقهية في عصره، لا يُقرّون بشرعية حكم المماليك، ممّا يُشكّل تحديًا كبيرًا لسلطتهم. لذلك، يردّ الطرسوسي على حجج الشافعية، مُبيّنًا أنّ شروطهم للخلافة، والتي تشترط كون الخليفة قرشيًا، لا تنطبق على الواقع السياسيّ المُعاش. ويُشير إلى أنّ عدم إضفاء الشرعية على حكم المماليك من قبل الشافعية يُمثّل انتقاصًا من قدرتهم هم أنفسهم، ممّا يُظهر تناقضًا في موقفهم. ولم يكتفِ الطرسوسي بمجادلة الشافعية على المستوى الفقهيّ فقط، بل تناول أيضًا الجوانب السياسيةّ في هذا الصراع، وأدرك أنّ رفض الشافعية للسلطة المملوكية له أبعادٌ سياسيةٌ تتجاوز الخلافات الفقهية، ولذلك سعى إلى إقناعهم بقبول الواقع السياسيّ المُعاش، مُؤكّدًا على أهمية الاستقرار والأمن في ظلّ حكم المماليك.

4 . يُخطئ من يعتقد أن المذهب الشافعي كان خصماً للسلطة، بل كان يُمثّل تأويلاً معيناً لدورها ووظائفها، وفي الوقت الذي سعى الطرسوسي إلى التقرب من السلطة وإقرار المذهب الحنفي كمذهب رسمي للدولة، لم تكن الشافعية على المسافة عينها من السلطة. يعود ذلك جزئياً إلى أنّ الشافعي نفسهُ عاش في فترة تميّزت بعلاقة قوية بين المذهب الحنفي والخلافة العباسية. وتجلى ذلك بوضوح في مسألة الزكاة، حيث خالف الطرسوسي الشافعية في رأيهم بكونها حقاً للفرد لا تُجبى من قبل الدولة. سعى الطرسوسي من خلال هذا الموقف إلى تأكيد سيطرة الدولة على الأمور المالية، بينما حافظ الشافعي على مبدأ توزيع الزكاة بشكل مباشر بين الفقراء والمحتاجين. لذلك، يمكن القول إنَّ موقف المذهب الشافعي من السلطة لم يكن عداءً، بل كان تأويلاً مختلفاً لدورها ووظائفها، تميّز بالاستقلالية والفصل بين الدين والسياسة.

5 . لم يواجه الطرسوسي الشافعية بشكل مباشر في المسائل الفقهية البحتة، بعيداً عن التجاذبات السياسية؛ فالمذهب الحنفي، في عهده، اتّخذ منحىً يُشبه تأييد السلطة المطلقة، بينما حافظت الشافعية على موقف أكثر اتّزاناً، رافضاً ربط الدين بالسياسة بشكل مطلق. لكن من المهم الإشارة إلى أنّ هذا التوصيف لا يُنصف كلا المذهبين بشكل كامل؛ فلم تكن الشافعية ضد الدولة بشكل مطلق، كما لم يكن الأحناف مع السلطة بكلّ تجلياتها. فقد واجه بعض الحنفيين، على غرار الإمام أبو حنيفة نفسه، مواقف رافضة للسلطة عندما تعارضت مع مبادئهم الدينية. وبالمقابل، اعترفت الشافعية بشرعية الدولة ووجوب طاعتها في الأمور المُتفق عليها. لذلك، فإنّ صراع الطرسوسي مع الشافعية لم يكن صراعاً فقهياً بحتاً، بل كان صراعاً على النفوذ والتأثير في ظلّ صراع سياسي أوسع بين مختلف القوى في الدولة العباسية. وإنّ فهم هذا السياق التاريخي ضروري لفهم دوافع كلّ طرف ومواقفه، وتجنّب الوقوع في تبسيطات مُضلّلة.

6 . رأى الطرسوسي أنّ المذهبين المالكي والحنبلي قد انحطّا في عصره بمصر والشام، بينما حافظ المذهب الشافعي على ازدهاره. ويعود ذلك، في نظره، إلى أنّ المذهب الحنفي هو الوحيد الذي فهم الشريعة الإسلامية بشكل صحيح، وبالتالي فهو المذهب الوحيد القادر على تأسيس الدولة الإسلامية. ويُرجّح أنّ هذا الرأي كان مدفوعاً برغبة الطرسوسي في تعزيز مكانة المذهب الحنفي وجعله المذهب الرسمي للدولة، خاصة في ظلّ صراعات سياسية ومذهبية شهدتها تلك الفترة. ولعلّ من أبرز الأدلة على ذلك سعيه الحثيث لتطبيق أحكام المذهب الحنفي في مختلف مجالات الحياة، مستفيداً من كتاب “الأحكام السلطانية” للماوردي في بناء كتابه وتنظيمه. يُشار إلى أنّ الطرسوسي لم يُغفل دور المذهب الحنفي في تأسيس الدولة المملوكية، لكنّه اعتبر أنّ تلك الفترة شهدت فشلاً في تطبيق أحكام المذهب بشكل كامل. بينما رأى أنّ العثمانيين نجحوا في ذلك بشكل أفضل، ممّا عزّز من مكانة المذهب الحنفي ودوره في الدولة.

7 . شكّل كتاب الطرسوسي أهمية بالغة بالنسبة للمفكر رضوان السيد، حيث مثّل أداةً استثنائية لفهم تطور الأفكار السياسية في التاريخ الإسلامي. فبينما نُشرت دراسته الأولى حول الماوردي عام 1979، تأخرت دراسته حول الطرسوسي حتى عام 1992، ممّا يتركنا بفترة زمنية طويلة تفصل بين العملين. لكن على الرغم من هذه الفجوة الزمنية، فإنّ كلا العملين يتناغمان في حوار فكري عميق حول مفاهيم السلطة والحكم في الإسلام. يُدرج هذا العمل الجبار الذي قدّمه رضوان السيد ضمن مساعيه الدؤوبة لإعادة بناء مفاهيم التراث السياسي العربي الإسلامي. فمن خلال تحليله المُتعمّق لنصوص الطرسوسي، يُسلّط السيد الضوء على تطور الأفكار السياسية خلال فترة زمنية حاسمة من التاريخ الإسلامي، ويكشف عن التفاعلات المُعقدة بين الفقه والسياسة. ولم يقتصر جهد السيد على الطرسوسي والماوردي فحسب، بل سعى إلى تعميم هذه المحاولة لتشمل قطاعات معرفية أخرى داخل التراث الإسلامي، ممّا يُساهم في إعادة قراءة شاملة لهذا التراث وفهمه في سياقه التاريخي والثقافي.

على سبيل الختم:

سعت هذه الدراسة التي قدّمناها مقدمةً من أجل فهم المشروع الفكري الضَّخم الذي قدمه المفكر العربي الكبير رضوان السيد. ورامت هذه الدراسة إلى تحليل منهجية السيد في التعامل مع التراث العربي، بالتركيز على دراساته النظريةِ وتحقيقاته التراثية المُتعددة. حاولت هذه الدراسة أن تجد لنفسها صدًى في الحوار المباشر مع نصوص السيد وأفكاره، مُتعمّقةً في تفاصيل مشروعه الفكري بهدف الكشف عن أبعاده المعرفية المختلفة. إنّ رهان رضوان السيد على التراث العربي الإسلامي لا ينحصر في الماضي، بل يتجاوزه ليمثل إرثاً مُستقبلياً يُمكن البناء عليه وتطويره. ومن خلال إعادة قراءة التراث وتأويله بشكل نقدي، يُساهم السيد في إثراء الفكر العربي المعاصر، وهو ما سنعرضُ له في الجزء المتمم لهذه الدِّراسة.

 

لائحة بيبليوغرافية بأعمال المفكر رضوان السيِّد:

  1. السيد، رضوان. الدولة والسياسة والإصلاح في الوطن العربي. القاهرة: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، 2004.
  2. السيد، رضوان. مقالة في الاصلاح السياسي العربي. بيروت: دار النهار للنشر، 2004.
  3. السيد، رضوان. الأمة والجماعة والسلطة. بيروت: دار اقرأ للنشر والتوزيع والطباعة، 1984.
  4. السيد، رضوان. سياسات الإسلام المعاصر: مراجعات ومتابعات. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997.
  5. السيد، رضوان. الشورى بين النص والتجربة التاريخية. أبو ظبي: مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1997.
  6. السيد، رضوان. حركات الاسلام السياسي والمستقبل. أبو ظبي: مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1997.
  7. السيد، رضوان. الصراع على الاسلام: الاصولية والاصلاح والسياسات الدولية. بيروت: دار الكتاب العربي، 2004.
  8. السيد، رضوان. مفاهيم الجماعات فى الاسلام: دراسات فى السوسيولوجيا التاريخية للاجتماع العربي الإسلامي. لبنان: دار المنتخب، 1993.
  9. السيد، رضوان. الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الايديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997.
  10. السيد، رضوان. العرب والإيرانيون: والعلاقات العربية- الإيرانية في الزمن الحاضر. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014.
  11. السيد، رضوان. مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين المسلمين في الأزمنة الحديثة. أبو ظبي، الامارات العربية المتحدة: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2003.
  12. السيد، رضوان. الصحوة والإصلاح والخيارات الأخرى: صون الدين في أزمنة التغيير. أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2014.
  13. السيد، رضوان. المسألة الحضارية: الصراع والحوار والتواصل. القاهرة: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، 2002.
  14. السيد، رضوان، وأحمد برقاوي. المسألة الثقافية في العالم الإسلامي. بيروت، لبنان: دار الفكر المعاصر، [تاريخ غير متوفر].
  15. السيد، رضوان، وعبد الإله بلقزيز. أزمة الفكر السياسي العربي. دمشق: دار الفكر، [تاريخ غير متوفر].
  16. (الشبكة العربية للأبحاث والنشر (المحرر). الأمة والدولة والتاريخ والمصائر: دراسات مهداة إلى رضوان السيد بمناسبة بلوغه الستين. بيروت، لبنان: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011.
  17. السيد، رضوان (المحرر). الأسد والغواص: حكاية رمزية عربية من القرن الخامس الهجري. بيروت: دار الطليعة، 1992.
  18. متحدة، روي، ترجمة رضوان السيد. بردة النبي: الدين والسياسة في إيران. القاهرة: المجلس الاعلى للثقافة، 2003.
  19. سوذرن، ريتشارد. صورة الاسلام في اوروبا فى العصور الوسطى. ترجمة رضوان السيد. بيروت: دار المدار الإسلامي، 2006.
  20. لورانس، بروس ب. تحطيم الاسطورة: الاسلام والعنف. تعريب غسان علم الدين. مراجعة رضوان السيد. الرياض: مكتبة العبيكان، 2004.
  21. كورتن، فيليب. العالم والغرب: التحدي الأوروبي والاستجابة فيما وراء البحار في عصر الامبراطوريات. ترجمة رضوان السيد. الرياض: مكتبة العبيكان، 2007.
  22. زيادة، معن، ورضوان السيد (محرران). المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين: لابي رشيد النيسابوري المعتزلي سعيد بن محمد بن سعيد. طرابلس: معهد الانماء العربي، 1979.
  23. هاردت، مايكل، وانطونيو نيغرى. الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة. تعريب فاضل جتكر. مراجعة رضوان السيد. الرياض: مكتبة العبيكان، 2002.
  24. هاغمن، لودفيغ. مسيحية ضد الاسلام: حوار انتهى الى الاخفاق. ترجمة محمد جديد. مراجعة زياد منى. تقديم رضوان السيد. دمشق: قدَمس للنشر والتوزيع، 2004.
  25. الطرسوسي، إبراهيم بن علي. تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك. تحقيق ودراسة رضوان السيد. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1992.
  26. الماوردي، علي بن محمد. قوانين الوزارة وسياسة الملك. تحقيق ودراسة رضوان السيد. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1993.
  27. ميخائيل، حنا. السياسة والوحى الماوردي وما بعده. تعريب شكرى رحيم. مراجعة رضوان السيد. تقديم ادوارد سعيد. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1997.
  28. رستون، جيمس (الابن). مقاتلون فى سبيل الله: صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الاسد والحملة الصليبية الثالثة. ترجمة رضوان السيد. الرياض: مكتبة العبيكان، 2002.
  29. تركة، محمد بن حبيب الله. التدبيرات العقلية في السياسات المدنية. دراسة وتحقيق أحمد عطية. تقديم رضوان السيد. [مكان النشر غير محدد]: مركز ابن الأزرق لدراسات التراث السياسي: شركة ابن الأزرق للنشر، [تاريخ غير متوفر].
  30. شتاينغر، رولف. ألمانيا والشرق الأوسط: منذ زيارة القيصر فيلهلم الثاني إلى المشرق في العام 1898 حتى الوقت الحاضر. ترجمة لورنس الحناوي. مراجعة رضوان السيد. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، [تاريخ غير متوفر].
  31. هورويتز، نيمرود. أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي: الورع في موقع السلطة. ترجمة غسان علم الدين. راجع النص على المصادر وقدم له رضوان السيد. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011.
  32. روزنتال، فرانتز. مفهوم الحرية فى الاسلام: دراسة في مشكليات المصطلح وابعاده في التراث العربي-الاسلامي. ترجمة وتقديم معن زيادة، رضوان السيد. بيروت، لبنان: معهد الانماء العربي، [تاريخ غير متوفر].
  33. الربعي، مفرح بن أحمد، ورضوان السيد، وعبد الغنى محمود عبد العاطي (محررون). سيرة الاميرين الجليلين الشريفين الفاضلين القاسم ومحمد ابنى جعفر ابن الامام القاسم بن على العياني: نص تاريخي يمنى من القرن الخامس الهجري. بيروت: دار المنتخب العربي، 1993.

ملاحظات:

  1. ولد أباه، السيد. أعلام الفكر العربي: مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010.

[1] – نريدُ لهذه الورقة أن تكون الجزء الأول الذي يروم دراسة القراءة الكلاسيكية التي عُني بها المفكر العربي رضوان السيّد، على أن تعقبها دراسةٌ أخرى تتأملُ إنتاجهُ الفكريّ المعاصر؛ فتكون الورقتان مقسّمتين على النحو التالي: الأولى، تهتمُ بالقراءة الكلاسيكية الفكرية وتحقيق التراث، والثانية تهتمُ بالإنتاج المعاصر والترجمات.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete