تكوين
“علاقتنا بالحداثة ليست علاقة تقليدية بأمة أخرى، بل هي اصطدام رُوحي بأفق تاريخي لم يقع التهيؤ له أصلًا. وفي هذا الأفق لا معنى إلا للدهشة بوصفها واقعةً رُوحية لا يبدو أننا أفلحنا اليوم في الانفلات منها” فتحي المسكيني [1]
مقدمة
تنطلقُ مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية للعقل بوصفه مجموعةً من المفاهيم التي كَوَّنت بِناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي. وتعمل مجموعة المقالات لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، زاعمةً أنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤية بخصوص إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المُكونة له والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهْزم حضاريًا. يرتكن تحديد هذه المفاهيم في الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطرح عليها وتتسلل داخلها، إن لم تعد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي والاتحاد مع المُقدس لتضمن لنفسها البقاء والتأبيد، وتضمن الدفاع عنها الذي يأخذ بُعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس. وفي الزاوية الثانية إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي، الذي يغلب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المتمحور حول الذات، نتيجة للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه. وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المُؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأسست لهذا مجموعةً من المفاهيم الصارمة التي قدمتها بوصفها المفاهيم المكونة للضمير الإلهي من جانب، والمُعبرة عن الذات العربية الإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية، وبُعد أنها مقاومةً للتفكك المُمنهج وحفاظًا على الهُوية.
إقرأ أيضًا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر: الجزء الأول الهُوية النقية والمُهددة
ويأتي الجهاز المفاهيمي المُكون للعقل العربي المعاصر من مفهوم الهُوية النقية والمُهَدَّدَةِ، ويستدعي مفاهيم الماضي وإنجازاته ويستحضرها في الراهن، ويضعها في حالة تماهي مع الهُوية ومُحددًا لأدوات بناءه وتعامله الواقعي. وتأتي المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر من أفق الانهزام والتهديد الحضاري الذي مَثله الاستعمار بقيمه الحداثية وتكنولوجيته العسكرية. وتحت ضغط المطالبة بالحضور النِدِّي، نجد عديدًا من المفاهيم بُنيت بنزوع مُقاوم، فتحت ضغط الواقع المُنهزم والمُلح على التجديد وتقديم الحداثة الأوروبية لنفسها في صورة أداة التقدم والتحضر وقاطرة التاريخ، جاء مفهوم الحداثة في العقل العربي المعاصر ليكون ردَّ فعلٍ، فقد انحصرت الحداثة في بُعدٍ أداتي يُفقدها حيويتها، لتُمثل لدى مجموعة أداة التقدم والتحضر، ولدى مجموعة أخرى أداة استعمارية جاءت لسلب الهُوية العربية حقها في الاستقلال وهدم عقيدتها الدينية. والمردود في ذلك أن الحداثة لم تُقدم نفسها بطريقة حضارية حوارية مع المجتمعات غير الحداثية، ولكنها جاءت بمنطق القائد المتفوق المالك للمعرفة وعلى الجميع اتباعه، وهو منطق يحمل عنفًا رمزيًا يستوجب المقاومة، أكده العنف الصريح الذي جاء به الاستعمار السياسي شاهرًا تفوقه الحداثي مُبررًا لاستعمارهِ.
في الحداثة وبنائها
في تحديد الحداثة وبنائها ينطلق المقال من رؤية الفيلسوف الألماني فريدريش هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770 —1831) التي يقول فيها إن الفلسفة مرآة العصر مُلخصة في الفكر[2]، بُمحاذاة النظرية الإبستمية المعرفية التي يُقدمها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو Michel Foucault (1926 – 1984) ومفادها أن “داخل كل ثقافة ما وفي لحظة بعينها، ليس ثمة سوى الإبستمية التي تُحدد شروط إمكان أي معرفة”[3]. وعليه تحمل كل فترة تاريخية داخلها إمكان بناء المعرفة والنسق التصوري لمطلقاتها ونمطها المعرفي ورؤيتها للحقيقة، وتطبع المعارف المُقدمة بطابعها الإشكالي، إذ تنطلق المعارف عادة من الحاجة الملحة التي تدفعها إلى البحث نحو أفق آخرَ لمعالجة المشكلات، ومن ثم تُفضي إلى نتائج ومعارف جديدة.
ووفق منهج ((أركيولوجيا)) أو علم الحفريات الذي يقدمه فوكو، الذي يحفر من طريقه في الخطاب المعرفي لفترة تاريخية معينة باحثًا عن مجموع القواعد المُؤسسة للبنى المعرفية الموجودة، التي يضعها فوكو لتكون شروطَ إمكانٍ للمعرفة، والتي تتمكن المعرفة من الظهور والنشوء في هذا العصر من خلالها[4]، تُعد الحداثة شاهدةً على عصرها مثل أحفور على صخرة يشهد ويدل على وجود حيوانات منقرضة في هذه المنطقة في زمنٍ ما. والحداثة بوصفها شاهدًا على مرحلتها التاريخية بموازاة رؤية هيجل للفلسفة، تُمثل مُنجزًا خرج عن مطالب واقعية، جاء من طريق إرهاصات عديدة واختمار معرفي وتبني مشكلات الواقع ومحاولة الخروج منها بحلولٍ تأتي من الأفق المعرفي المعاصر لها، والبنية الذهنية المُتكونة حينها.
وطبقًا للتاريخ الإنساني تُعد الحاجة هي المحرك للفكر الإنساني، فلم يعرف الفكر الإنساني مُحركًا أفضل من الاحتياج، والحداثة بقيمها ومنجزاتها ما هي إلا جوابًا أو صدى لحاجة ألحت على الفكر الإنساني، فالحداثة تعد ثورة على العقل اللاهوتي الذي كان مُسيطرًا على الفكر الأوروبي، وجعل نفسه مرجعية لكافة مناحي الحياة، العلمية، والحياتية، والمعرفية، والسياسية والاجتماعية… وحالة السيطرة هذه دفعت الإنسان إلى العمل على إعادة حريته وذاتيته، التي سلبها إياه رجال اللاهوت، من جديد. وكانت أولى خطوات الإنسان الأوروبي نحو التحرر من الاستعباد والتحكم اللاهوتي، السعي نحو وجود منهج يعمل على تقنين وتسيير عملية الفهم والتفسير، وذلك للخروج من الأفق اللاهوتي المُسيطر على عمليات التفسير، والرقيب على عمليات الفهم.
في إطار الاستعباد الديني ومحاكم التفتيش، وجد العقل الإنساني (في هذه البقعة) نفسه أمام تحديات عديدة، من أهمها: تقنين ومَنْهَجَةِ عملية التفسير العلمية والكونية، ومحاولة تحجيم العنصر اللاهوتي داخلها، ووجود تأويل وقراءات مختلفة للنص الديني الذي تسيطر به الكنيسة ورجال الدين على الوعي، وتعمل لتقنين العمليات الفكرية والعلمية وفق تفسيرها. وكانت عملية المنهجة التي جاء بها النزوع الإنساني نحو الحرية، صورة مهمة لتحديد ملامح العصر الطامح نحو الموضوعية والحد من ذاتية، وتحكم الأفراد، ليكون الحكم للمناهج المقبولة للعقل الإنساني والتي يُقرها رجال العلم، ومَثلت عملية التقنين هذه جزءًا كبيرًا من آليات الحد من سلطة رجال الدين المُتفشية داخل الاجتماع الإنساني في هذا العصر. وقد ظهرت الحاجة إلى وجود مناهج وقواعد للتفسير مع ظهور نزعة الاستقلال عن الكنيسة، بعد أن أصبحت الكنيسة تقف عائقًا أمام الإنسان وحاجاته، وتعمل على بناء رؤية ووعي عام يخدمها ويخدم مصالحها، ومن ثم فقدت وظيفتها الروحية وأضحت تمثل عبءً على المجتمع يهدف للتخلص منه والاستقلال عنها.
إقرأ أيضًا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر المفهوم السادس: الخلافة؛ نظام الحكم الشرعي والإلهي
وانطلاقًا من سيطرة الرؤية اللاهوتية على الفكر الأوروبي، ورغبة الاستقلال عنه، جاء الفكر الحداثي محاولًا عقلنة الوجود وليس تأمله، ويستبدل المرجعية اللاهوتية بالعقل الإنساني، ويعدُّ الدارسون ديكارت (René Descartes) (1596_ 1650) مؤسس الحداثة الفلسفية، وهو صاحب الكوجيتو “أنا أفكر إذن أنا موجود” الذي ربط الوجود بالفكر، وجعل العقل الأساس لكل شيء. ويكمل الرؤية الحداثية التي بدأها ديكارت ليبنتز (Gottfried Wilhelm Leibniz) (1646- 1716) مؤسس العقلنة في الحداثة الفلسفية كونه صاحب المبدأ القائل: “لكل شيء سبب معقول”[5]. ونتيجة لوضع العقل اللاهوتي نفسه مرجعية عامة وشاملة، جاءت الحداثة محاولة تقديم مرجعية بديلة في كافة النواحي الحياتية، فأنتجت الحداثة الفكرية، والحداثة الاقتصادية، والحداثة السياسية، والحداثة الأدبية، والحداثة العلمية … وعبرت هذه المرجعيات عما كان يمثله العقل اللاهوتي من ضغط على هذا المجتمع وهذه المعارف، حيث أنتجت كم هائل من القوانين والمناهج المعارف التي أجبرت العقل اللاهوتي على التنازل عن سلطته.
والعقلانية والنزعة الإنسانية يمثلان عمودي الحداثة وبنيتها التأسيسية، ويأتيا بوصفهما عودة الإنسان إلى معادلة الوجود مرة أخرى، حيث كان حق الرؤية وتحديد الأبنية الفكرية والاجتماعية حصرًا للكنيسة ورجالها، وتتعامل الرؤية اللاهوتية مع الإنسان كذلك بوصفه أحد أملاكها، أو رعيةً للراعي وموضوعًا لصكوك غفران الكنيسة[6]. وتجد الرؤية اللاهوتية مشروعيتها في وضع الإنسان ضمن أملاكها بواسطة التنزيه الإلهي وانحصار الفكر الإنساني بالعموم حول الله، وكيفية العبادة، وجعل الإنسان موجودًا من أجل الله لا أكثر، وتُعطي إلى نفسها التفويض الإلهي، ومن ثم يُصبح الإنسان في عداد ممتلكاتها. وبالثورة على هذه الهيمنة يأتي الإنسان كمرجعية أولى للوجود، حيث يُعد العقل المرجعية الوحيدة للوجود، والإنسان هدفًا للتحرر والتقدم وتخدمه المعارف والعلوم والقوانين، والنظم الاجتماعية، ومن ثم خلع القدسية عن هذه النظم التي كانت تسجن الإنسان داخلها، وجعلها خاضعة لإرادته وما يطرأ عليه من احتياجات وتغيرات، واعادت للبنى الاجتماعية طبيعتها الدينامية، وللإنسان حق قيادة واقعه.
من هذه الزاوية تُعد الحداثة مُنجزًا بشريًا في رحلة الإنسان وبحثه عما هو أفضل، فالتاريخ الإنساني ما هو إلا سعي الإنسان في سبل أكثر راحة ورفاهية، واستجابة لحاجاته الإنسانية. فنتجت الحداثة عن اختمار معرفي لما قدمه العقل الأوروبي (لوثر، كالفن، ميكافيلي، هوبز إسبينوزا، لوك، روسو، فولتير، كانط) حيال أزماته، وبدأت في محاولة كسر “احتكار الكنيسة للإيمان الديني، وذلك برده إلى الذات البشرية”[7] التي كانت تُمثل رحلة البحث عن حرية الاعتقاد، وإعادة تكونٍ للعلاقة بين الزمني والديني، ليتحرر الزمني من الديني وتستقل البنى الفكرية والمعارف والعلوم الإنسانية، والبنى الاجتماعية، والاقتصادية عن الرؤية الدينية، ويكون لها مرجعيتها المنهجية. وجاء هذا الاستقلال من طريق البحث عما هو أفضل في الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية. وكشف هذا البحث الستار عن “الاستغلال الفاضح للدين من أجل خدمة أهداف العرش”[8] وهذا ما دفع الأمر للانتهاء باستقلال السياسة عن الدين، وبلورة النظريات العلمانية ومحاولة العقلنة، وإنتاج الحداثة بمرجعيتها العقلية التي تسعى نحو أفق مقبول للإنسان، يُرضي احتياجاته وطموحه.
ويُمكن القول مع الفيلسوف اللبناني المعاصر علي حرب “إن الحداثة قد تكونت بالثورة على ما سبقها والعمل لإقصائه إلى حظيرة التقليد أو إلى دائرة الظلام أو إلى عالم الخرافة وغير المعقول”[9]، فالحداثة في حضورها وضعت نفسها مقابلة للتقليد. وجاءت الحداثة بوصفها منظومة للتغيير وقوامها: العقلانية والحرية والنزعة الإنسانية والتنوير، وكان عذرها في ذلك سيطرة الرؤية اللاهوتية التي تُعلي من قيمة التقليد وتُقدسه، لذا عدت الحداثة النقد أداتها الأولى أو إن صح القول مضمونها الرئيس، لما يعطيه لها من حق تفنيد الرؤى التي تفرض نفسها بقوة البديهة، وطرحها للنقاش والدراسة والقبول والرفض، وما يعنيه من غياب التقديس لأي منظومة أو تقليد ما. وعليه فإن غياب النقد يعني وجود التقديس والتقليد المُفتقد إلى الفحص والتمحيص، وغياب التغيير، ومن ثم غياب الحداثة وحضور التقليد.
الحداثة وحضورها في الواقع العربي المعاصر
أتت الحداثة الأوروبية كثورة على التقليد والعقل اللاهوتي بما يتبناه من عادات يفرضها على أنها عقائد دينية، وأصبحت تمثل عائقًا أمام المجتمع ومعالجة مشكلاته وصياغة واقعه، فهي ثورة خرجت من الاختمار المعرفي وبنية المجتمع، وبوعي من داخله بعدم صلاح عاداته وتقاليده، ومرجعياته الفكرية والعلمية والحياتية، مما دفعه إلى تقديم القيم الحداثية والثورة على مرجعياته التي لم تعد صالحة لبنائه العقلي، والاجتماعي، والسياسي، والمعرفي …إلخ. ولكنها في السياق العربي لم تأت في هذه الصورة، بل فُرضت على المجتمعات العربية في صورة الصوابية المُطلقة التي يجب أن تعمل بها كافة المجتمعات والعقول، وتحمل هذه الصورة تهديدًا ضمنيًا وعنفًا رمزيًا، حيث إنها لا تعطي البُعد الثوري الذي تأخذه الحداثة في السياق الأوروبي، ولكنها تأخذ بُعد التآمر على الذات/ النحن ومحاولة اقتلاعها من أصولها، وذلك لعدم خروجها من بنية المجتمع وبوعي منه، هذا من جانب، ومجيئها مع رايات الاستعمار منن جانبٍ آخر.
تاريخيًا عرف المشرق العربي الحداثة مع حملة نابليون على مصر عام 1798 [10]التي جاءت تحمل راية المستعمر النبيل، وقدم نابليون نفسه في صورة السلطان الكبير ومحرر الشرق[11]، مما يعطيها طابعًا تبشيريًا بما يحمله من الزعم بامتلاكه الصوابية الكاملة، التي تجعله يرى في نفسه حق الوصاية على البشر. ويذكر المؤرخ الفرنسي المعاصر هنري لورنس Henry Laurens (1954) أن نابليون بونابارت في مشروعه الاستعماري نحو مصر يُعلن أنه يسعى في تخليص مجتمعات الشرق ولا سيما مصر من الآراء اللاهوتية والدينية الجامدة، وتحريرها من أغلال الاستبداد[12]، وهي صورة ربما تكون واقعية عن المجتمع المصري، بيد أن التحرير لا يكون باستبدال منظومة قيمية بمنظومة أخرى بديلة يتم فرضها، ولا تخرج من بنية المجتمع، بل إن المنظومة اللاهوتية المنغلقة، في هذا الحين، تأخذ دور المنظومة البديلة لما يُفرض على المجتمع من استعباد، وتصبح هي طريق التحرير. وهذا ما حدث حيث أفضت هذه الطريقة التي تسعى لفرض الحداثة على المجتمع المصري، الذي كان يمثل قوام المجتمعات العربية حينها، إلى شرنقة المجتمع حول ذاته والتمسك بآرائه اللاهوتية الجامدة وعاداته وتقاليده.
والحداثة حين قدمت نفسها بمدافع نابليون فإنها فرضت مقاومتها كألية لحفظ الذات واستقلالها، خاصة أنها جاءت حاملة قيم جديدة وتطالب المجتمع بالتنازل عن قيمه ومرجعياته وتبني ما تطرحه من قيم. واستقبلت الثقافة العربية الحداثة بمقاومة الاستعمار الذي هو ضرورة إنسانية، ويظهر نزوع الرفض والمقاومة في صدور كتاب للمؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (1754-1822) المُعنون بـ “مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس” ويروي فيه الجبرتي مظاهر مقاومة المصريين للغزو الفرنسي[13]، ووصفهم بغزاة أرض الخلافة.
وقد فشل الاستعمار في أن يكون أداةَ تحديث أو نقل ثقافة، ولم تكن هذه مهمته؛ فلقاؤه عادة ما يكون بالرفض له وما قدمه من قيمه، انتصارًا للهُوية، وذلك لما يُمثله الاستعمار من تهديد هُوياتي صريح يستوجب الدفاع عن الذات. ووضع الاستعمار الفكر الإسلامي في موضع الدفاع عن النفس والنضال، حيث كان الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر ظروفه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية مختلفة اختلافًا نوعيًا، فلم يعد أمامه مستجدات تطرحها المجتمعات الإسلامية عليه ويبحث عنها مستعينا بالثقافات الأخرى، بل أضحى “أمام حقائق تفرضها عليه مجتمعات وحضارات أخرى ألحقت به الهزيمة”([14])؛ خاصة أن المجتمعات الأخرى في طرحها لثقافتها لم تطرحها من باب التلاقح الثقافي بقدر ما طرحتها من باب السيادة والقيادة من خلال هذه الثقافة، مما يجعل اعتراف الذات/النحن العربية/الإسلامية بهذه الثقافة يتضمن بشكلٍ أو بآخر احتقارًا للذات، وتبعية الذات وفقدانها استقلالها.
والشاهد تاريخيًا أن تبني الحداثة في المجتمع الأوروبي الذي خرجت من بين أطره الاجتماعية والمعرفية لم يكن سهلًا على الإطلاق، بل كان حصيلة عقود وتراكمات معرفية واضطهادات ودماء كذلك، وذلك لتقديمها مرجعيات جديدة ومختلفة داخل المجتمع الأوروبي. ومن الضروري أن يكون رد فعل المجتمعات العربية التي تُفرض عليها أن يكون أكثر قوة، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية أولها؛ ما يحمله فرض الحداثة لنفسها بوصفها قاطرة التقدم والاعتراف بالإنسانية من عنفٍ رمزيٍ وانتقاصٍ للآخر وعدم رؤيته بصورة موازية ومساوية للآنا. وثانيها حضورها مع مدافع الاستعمار التي تستوجب المقاومة. وثالثها خروجها عن العقل اللاهوتي المسيحي، وتقديم مرجعيات بديلة له، تجعلها تظهر مظهر العقيدة البديلة، بما تمثله من تهديد عقائدي صريح.
وحصر أسباب رفض الحداثة وعدم قابليتها في المحيط العربي داخل الاستعمار وما جاء به فقط، غير دقيق، فلا يقف خلف أي ظاهرة ما سبب وحيد، ويوضع في المرتبة الثانية من جملة أسباب رفض الحداثة في السياق العربي بعد الاستعمار تعامل الحداثة مع الدين بوصفه تقليدًا ظلاميًا، ولها مبرراتها من سيطرة رجال الدين والوقوف أمام الإبداع الإنساني في كافة مستوياته، وهذا ما جعلها تمثل تهديدًا عقائديًا بجوار التهديد الهوياتي الذي مثله الاستعمار، فقد كان هناك جزءًا كبيرًا من رفضها، ليس لأنها نتاج الغرب المسيحي فحسب، وإنما لأنها تُمثل قطيعة ومردودًا على اللاهوت المسيحي. ويُعد الموقف العدائي للحداثة مع العقل اللاهوتي مُبررًا كافيًا لاستقبالها استقبال التهديد العقائدي في الثقافة العربية، فالحداثة تم التعامل معها داخل المجتمعات الأوروبية التي أنتجتها على أنها تهديد عقائدي، ورفضها المجتمع بما لديه من نزوع نحو المحافظة على التقاليد وعدم التغيير، بيد أن ما قدمته من قيم أعادت للفرد القدرة على تجاوز الأطر التي تحكمه، وأصبحت عائقًا أمام قيادة حياته وواقعه، جعلها تمثل ثورة إحياء تبناها المجتمع للثورة على العقل اللاهوتي.
ومثلما كان للحداثة من أثر الانبهار في السياق الأوروبي الذي قضى بانتصارها على المرجعيات الحاكمة للفكر الأوروبي حينها، كان لها هذا الأثر في الثقافة العربية الإسلامية، واستقبلها العقل العربي بمقوماته وأدواته، فمع منجزات الحداثة المبهرة والاعتقاد بعدم وجود منهج للتقدم وقيادة البشرية غير الإسلام، ظهرت الحداثة في صورة تجعلها تمثل حقيقة الإسلام. وصورة لأوروبا على أنها الصورة الفعلية للمجتمع الإسلامي، بمفارقة غير مفهومة تجعل سكانها غير مسلمين، وهذا ما يظهر في تعبير محمد عبده “وجدت إسلاما بلا مسلمين ورجعت فوجدت مسلمين بلا إسلام”، وهي مفارقة توضح موقف العقل العربي حينها المرتبط بالوعد الإلهي بالتفوق[15]، وفي الوقت نفسه يرى القيادة والتفوق في أوروبا؛ ومن ثم خلع عنها منجزاتها ونسبها للإسلام، وأضحى يُطالب المسلمين بالعودة للإسلام. وأضحت أوروبا قبلة المعارف والعلوم في هذا الحين، أو على حد قول الباحثة والمؤرخة أمل غزال (مكة الجديدة)[16]، التي تطمح المجتمعات الإسلامية للوصول إليها.
بلورة المفهوم الأداتي للحداثة
طبقًا للمعطيات التاريخية لم يكن هناك مانعٌ من التعاطي المعرفي مع البلدان الأوروبية ومع الحداثة، بعد احتكاك العقل العربي/الإسلامي بها مع مدافع نابليون بونابارت، ويظهر هذا في تعاون محمد علي باشا (1769-1849) مع الطبيب الفرنسي أنطوان بارتليمي كلو، الذي عُرف بـ “كلوت بك” لإنشاء أول مستشفى ومدرسة للطب بصحراء أبو زعبل، ونقلها بعد ذلك إلى منطقة القصر العيني[17]. وعُرف عن محمد علي محاولته للتحديث، وإرسال البعثات التعليمية إلى فرنسا. بيد أن السياسات الاستعمارية التي ترجمت الحداثة إلى أداة لاستعمار الشعوب، واستعادة نظم العبودية من طريق جلب الزنوج من إفريقيا، وإقامة نظم استعمارية عنصرية[18]، صنعت صورة للحداثة تستوجب الرفض والمقاومة، تنحصر فيها الحداثة بوصفها أداةَ إخضاع واستعباد. والواقع أن السياسات الأوروبية رأت في الحداثة أداة تفوق سعت من طريقها إلى قيادة الشرق، وتقديم تجربتها الحديثة بوصفها تجربةً كونيةً، أي بوصفها طريقًا وحيدًا للتقدم لدى كل الأمم[19]، ومن ثم يُطالب كافة المجتمعات وأولها الشرقية بطبيعة الحال، بالخضوع له بدعوى امتلاكه الحداثة التي يقدمها بوصفها أداةَ بناء الحضارة.
فالحداثة حين قدمتها السياسات الاستعمارية قدمتها في صورة وحيدة للوجود لا مفر منها، حيث يوجد نوع واحد من المجتمعات، وهو المجتمعات الحداثية، ومجتمعات أخرى متأخرة عن الركب الحضاري وعاجزة عن أن تكون حداثية، ومن ثم فالاستعمار يقودها نحو الحداثة، وكانت هذه ذريعة الاستعمار لتبرير احتلاله لبلدان الشرق، ويظهر هذا في قول اللورد كرومر: “كان الرجل الإنجليزي مقتنعًا أن مُهمته تتمثل في إنقاذ المجتمع المصري، وأنه قادر على إنقاذ المجتمع المصري”[20]. والاستهلاك السياسي الاستعماري لقيم الحداثة ومنجزاتها، وسعيها لبلورة التقدم في صورتها مَثَّلَ تهديدًا واضحًا وصريحًا للذات/النحن العربية الإسلامية، بوصفها ذاتًا تسعى لحضورها واستقلالها من ناحية، وأنها لم تعرف نمطًا للتقدم غير الإسلام من ناحية أخرى، والحداثة بادعائها الصوابية على إطلاقها تُعد تهديدًا واضحًا لاستقلال الذات/ النحن العربية وعقيدتها، خاصة إذا كانت تمتلك أدواتها التي تُمكنها من فرض رؤيتها وقيمها.
ومن بين محاولات فرض الحداثة واستخدامها في الاستعمار، والمُنجزات المُبهرة للحداثة جاء المفهوم الأداتي للحداثة؛ فيرى فريق أنها أداة هدم للهُوية العربية والحضارة الإسلامية والدين الإسلامي، في حين يرى الفريق الآخر أن الحداثة هي أداة التقدم والتحضر المُثبتة تاريخيًا وواقعيًا، وعلينا أن نمتثل لها ونبني واقعنا وَفقها. وعلى الرغم من أن الحداثة تزعم أن فاعليتها الأساسية هي النقد، إلا أن الصورة التي قُدمت في السياق العربي لا تقبل النقد المُقدم لها بحجة أنها مشروعٌ لم يكتمل، وأنها تجربة كونية أتت ثمارها الباهرة، من ثم لديها مبرراتها لقيادة الكون، لتخلق بذلك وفق تعبير عالم الاجتماع المصري المعاصر أحمد زايد “هيمنة مضادة للفكر الحداثي”[21]. والحداثة إذا نفت النقد من ميدانها فإنها بذلك تفرغ الحداثة من حداثيتها وتطالب العقل بالتخلي عن قدراته النقدية، والخضوع للتقليد، وتنفي قدرة النقد على البناء، وتقضي على استمراريتها والقدرة المعرفية على التطوير، وتسحب حق التحديث من المجتمعات الأخرى، وتحصر صور الحداثات فيما تقدمه، وتقدم مشروعها بوصفه الحداثة بألف لام التعريف الذي يجب أن يحكم كافة المجتمعات، وعلى هذه المجتمعات أن تمتثل إليه.
واستغل العقل الأوروبي ما له من تفوق وعمل عل فرض قيمه الحداثية، وطريقته الحداثية في تناول المشكلات، وصاغ مشكلات المجتمعات العربية والإسلامية، بمضامينه ومن داخل بنيته المعرفية والاجتماعية وكذلك الحلول، وطالب المجتمعات العربية الإسلامية بأن تعيش هذه المشكلات وتخضع لهذه الحلول. مما جعل هذه المجتمعات تعمل على حل مشكلات ليست مشكلاتها، ولا تخرج من أزماتها، ومن ثم تعيش واقع غير مقبول بالنسبة لها، حيث يصبح غير مُرضي بالنسبة للمجتمع أو الفرد، وفي الوقت نفسه لا يؤشكل أزماته ويدرسها ليخلق واقعًا أفضل، وإنما يعيش مشكلات تفرض عليه، وحلولًا كذلك. وتحت ضغط القوى المتقدمة، لجأت المجتمعات العربية إلى محاولات التحديث التي أفضت إلى تحديث شكلاني؛ فارغ من مضمون الحداثة ومقوماتها بوصفها عرضًا أفرزه تعامل العقل الأوروبي مع مشكلاته. وعلى غرار العقل الأوروبي تكون عملية التحديث العربية من طريق تعاطي العقل العربي مع مشكلاته، بيد أن المحاولات التبشيرية للحداثة التي جعلتها تفرض نفسها عليه، كان لها دورًا في الوقوف أمام عمليات التحديث، وتشرنق الذات/النحن العربية حول نفسها، وذلك لما مَثلته الحداثة من تغريب وتهديد هُوياتي للذات/النحن العربية.
الإسلام والحداثة (الحداثة بين الحق والباطل)
تعد قراءة الحداثة في السياق العربي بمعزل عن ثنائية الإسلام والحداثة قراءة ناقصة وغير دقيقة، لم تمثله هذه الثنائية من الرفض العقائدي للحداثة، والرفض الاجتماعي كذلك، والوعي بأنها مرجعية بديلة عن المرجعية الفكرية القائمة. وكان الإسلام يُمثل المرجعية الفكرية الرئيسية في هذا الحين بالنسبة للعقل العربي، ويرى فيما يقدمه الإسلام المرجعية البشرية لبناء الحضارة، ولا يمكن بناء حضارة إلا من خلاله، والواقع أن شبه الجزيرة لعربية لم يعرف النمط الحضاري وبناء الدولة إلا من خلال الإسلام. ورؤية العقل العربي للإسلام المرجعية الإنسانية لبناء الحضارة جعلته يرى فيما تقدمه الحداثة من حضارةٍ تهديدًا واضحًا وصريحًا، وراح يُنكر تمثيل الواقع المنهزم للإسلام ويبحث عما يمثل الذات/ النحن العربية، ليضعها ندًا للحداثة. وأجبر التفوق الحضاري للحداثة المجتمعات العربية في بعض الأحيان على الاعتراف بها، وعدها مضمون الإسلام، أو أنها لا تتعارض معه.
وتمثلت الحداثة في الآخر بما تلحقه الذات من انتقاصات وعيوب للآخر، خاصة أنها جاءت تفرض نفسها على أنها العقل والحضارة والتقدم، وهي صورة تحمل تهديدًا لاستقلالية الذات العربية من جانب. وتحمل دعوى الحداثة التبشيرية وتزعمها قيادة الحضارة والصوابية المطلقة تهديدًا عقائديا واضحًا من جانبٍ آخر. ومن ثم استقبلتها الثقافة العربية الإسلامية بمضامينها العقائدية، لأنها في الأخير ثقافة عقائدية تحمل في طياتها ما يحمله النزوع العقائدي الإيماني (غير العقلاني) ذو الطابع الغيبي في أغلب الأحيان، ومن ثم عوملت في سياق العقيدة البديلة، ويظهر هذا في ثنائية الإسلام والحداثة التي تُظهرهما على أنهما على طرفي النقيض.
وقد دخلت الحداثة الوعي العربي من باب السؤال عن عدم التقدم الحضاري بالنسبة لأوروبا، وانحصار العقل العربي داخل دائرة المعارف الدينية وانعزاله عن الوعي العالمي، وبتقديم أوربا تفوقها وتقدمها في ثوب الحداثة وقيمها المعرفية والسياسية، والاقتصادية، .. راح العقل العربي يُترجم التقدم الأوروبي في الحداثة، ومن ثم عمل على استيرادها أو استعارتها وإثبات عدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية. ويظهر الانبهار العربي بالحداثة فيما قدمه رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهما، من محاولات للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والقيم الحداثية، ومحاولة إثبات أنها تُمثل صحيح الإسلام، وتأويل الإسلام ليوافق القيم الحداثية. وقد كانت أوروبا في هذا الحين تُمثل الوجهة الأساسية في الفكر العربي، وحول الحداثة والتقدم الأوروبي يدور الفكر العربي: إما برفضهما، أو السعي نحوهما، ووفق ما يُقر الطهطاوي في كتابه تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، فإن التقدم الحضاري حينها كان يتمثل في أوروبا مما جعل العقل العربي يضعها قبلة ووجهة له، ويقتفي أثرها لتتقدم بلاده على منوالها[22].
ومن تقديم الحداثة لنفسها في ركاب الحملات الاستعمارية وعدم خروجها من البنى المعرفية والمنظومات الفكرية السابقة، أصبحت الحداثة تُمثل فرضًا يُقولب المجتمع ويطالبه بالانقلاب الفوري على قيمه وأبنيته المعرفية ومنظوماته الفكرية، وجاءت كما يذكر المفكر المغربي المعاصر عبد الإله بلقزيز “في صورة انقلاب خارجي فُرض بالعنف المادي والرمزي، هذه المنظومات الجديدة في مجتمعات لا يُسعفها تاريخها باستقبالها بوصفها تحولات طبيعية وموضوعية في أنساق تطورها الذاتي”[23].
ونتيجة لهذا الفرض استقبلها العقل العربي في بنائه المثنوي البسيط المبني على ثنائية الحق والباطل، وبنى مفهومه عن الحداثة في صورة غير قادرة على عزلها عن الاستهلاك الاستعماري لها، ومن ثم انبنت صورة تشيطن الحداثة وتراها باطلًا صرفًا، وتضع رفضها ضمن دائرة النضال والحفاظ على الهوية والعقيدة، وتضعها ندًا ونقيضًا للإسلام. وعلى صعيد آخر صنع التقدم الحضاري المبهر، والمنجزات الحداثية، صورة للحداثة بوصفها الحقيقة النهائية والصوابية المطلقة التي يجب على الجميع اتباعها، وأخذ أنصاره تبني الحداثة والدفاع عنها من الزاوية النضالية، وذلك بوصفها حق يجب أن يتم قيادة المجتمع إليه، وعمدوا إلى التأويل لإثبات عدم تعارض الإسلام مع الحداثة، وفي بعض الأحيان يعمدون إلى استنطاق الإسلام بالحداثة وعدها روح الإسلام.
الحداثة وفقدان الذات العربية ذاتيتها
يتفق علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) على أن لكل عصر طريقته في التعبير عن ذاته ولغته التي يفهمها، كما أن له مشاكله التي يسعى في فهمها وحلها بأساليب التحايل على الحياة مندفعًا بنزوعه نحو البقاء، لذا كان لكل عصر خصوصيته وأدواته ومنطقه الذي يفكر من طريقه. وفرض الحداثة لنفسها على المجتمعات العربية وامتلاكها أدوات الفرض المعرفية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، جعل منها مرجعًا لقراءة الواقع العربي وتفسيره[24] أفقدت الواقع وعيه بنفسه، وفرضت عليه إبستيمية غريبة عنه وطالبته بأن يفكر من طريقها، فقد أصبح الحداثيون يتبنون المشكلات الحداثية، ويُؤَشْكِلُون واقعهم وفق الرؤية الحداثية، ويرون الحداثة نموذجًا يُفرض على الاجتماع العربي، ويطالبونه بالتخلي عن مشكلاته وتساؤلاته وتبني مشكلات الحداثة وتساؤلاتها. وفي المقابل يستحضر الفريق الآخر التراث للبحث عن حلول لمشكلات الحاضر في الماضي الإسلامي، ووضع الماضي موضع نِدي للحداثة، وإثبات امتلاكه لعديدٍ من القيم الحداثية قبل الحداثة بطرق تلفيقية تخلوا من الوضوح المنهجي في أغلب الأحيان، أو وضعه موضع الحل الأصيل لأزمات الواقع المُنهزم حضاريًا مقابل الحداثة/الحل الدخيل، بجانب تبنيه بوصفه حلًا إلهيًا مقابل الحداثة البشرية المعتدية على الدين.
إقرأ أيضًا: الحداثة بين الفكر والممارسة
ومن البنية الإبستمية المهددة وزعم الحداثة الصوابية المطلقة في كافة الأصعدة، ظهرت محاولات الانكفاء على الذات، وكرد على التطور العلمي ظهرت عمليات خلع الجنسية العقائدية على العلوم، وأسلمة العلوم للخروج من أفق العلوم الحداثية، وحالة الهيمنة التي تفرضها الحداثة، ويمتد الإسلام منها بوصفه نظامًا من العقائد الثابتة القادرة على قيادة الواقع المعاصر في سياق نِدِّيٍ للحداثة. وسعت الذات/النحن العربية في أن يُصبح للعقل العربي فِكرًا مزودًا بكل المبادئ المنطقية والمناهج والعلوم المنطقية والاستدلالية وكل الأجهزة المفهومية للتفحص والضبط، وتَمثَّلت كل هذه المجريات والمنهجيات في التراث الإسلامي العظيم، انطلاقًا من مطلب الاستقلال والخروج من هيمنة الحداثة وعجز الذات/ النحن العربية عن انتاج مماثلٍ للحداثة، حيث إنها ليست نتاج لحظة وانما مردود لعصور من التفكير والنضال ضد العقل اللاهوتي[25].
وعليه فإن محاولة فرض الحداثة أفقدت الحداثة قيمتها ومضمونها وطبيعتها، وفي الوقت نفسه أفقدت المجتمعات العربية الإحساس بواقعها وتبني مشكلاتها وأزماتها، وانحصرت في موضع رد الفعل وأصبحت تعيش مشكلات الحداثة وأزماتها، وليس الحداثة بمضامينها المعرفية والقيمية، بل ما يُمكن أن نقول عليه مع عبد الإله بلقزيز الحداثة المزيفة؛ التي تُقَولِبُ المجتمع وتُفقده طبيعته الديناميكية، وتطالبه بالامتثال إلى نموذجها والتخلي عما يدور داخله من تساؤلات يفرضها واقعه المعاش، وأزماته التي تُحصنه داخلها. وتقديمها مرجعية بديلة لا تخرج من بنية المجتمع في صورة استعمارية جعلها تُهدد المطلقات الإيمانية القائمة داخل البنى الاجتماعية، ودعوتها الكونية تُهدد استقلالية هذه المجتمعات، خاصة أنها استُغلت سياسيًا لأبعادٍ استعمارية، لم لها من منجز معرفي وتكنولوجي باهر لدى العقل المعاصر.
وانحصار التقدم التاريخي في نمط اجتماعي وثقافي محدد هو تهديد واضح للاستقلالية، ولا تُفرز محاولة فرضه إلا تَغريبًا أكثر للذات/النحن التي تُفرض عليها هذه القيم، وهذا ما تعيشه الذات/النحن العربية؛ حالة من التغريب على صعيدين مختلفين يُطالبانها بالعيش من أجل قيمهم، فيطالبها التيار الحداثي العيش من أجل الحداثة وقولبة الواقع فيما قدمته أوروبا من حداثة، بوصفها الحداثة بألف لام التعريف ولا حداثة غيرها. وترى أخرى أن التراث هو المُعبر عن الذات/النحن، وتسعى في الاحتماء به من طُغيان الحداثة وقهرها، بطريق يجعل الحياة وفق قول الفيلسوف اللبناني المعاصر ناصيف نصار في خدمة التراث وليس العكس[26].
المراجع:
[1] – فتحي المسكيني، الهوية والزمان: تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن، دار الطليعة بيروت، 2001، ص 56.
[2] – ج. ف. ف. هيجل، أصول فلسفة الحق (المجلد الأول)، ت إمام عبد الفتاح إمام، ط 3، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، 2007، صـ 84 – 88.
[3] – فوكو (ميشيل)، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفيدي – سالم يفوت – بدر الدين عرودكي – جورج أبي صالح – كمال اسطفان، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1989 – 1990، صـ 153.
[4] – راجع، عبد الرازق الدواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر: هيدجر، لفي شتراوس، ميشيل فوكو، ط 1، دار الطليعة بيروت، 1992، صـ 140.
[5] – راجع، محمد الشيخ، ياسر الطائري، مقاربات الحداثة وما بعد الحداثة: حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر، دار الطليعة بيروت، صـ 13.
[6] – عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة دراسة في مقالات الحداثيين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2007، ص 61.
[7] – عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية: تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب،2016، صـ 254.
[8] – عبد الرحيم العلام، مرجع سبق ذكره، صـ 328.
[9] – علي حرب، الأختام الأصولية والشعائر التقدمية مصائر المشروع الثقافي العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، ص 27.
[10] – إبراهيم الحيدري، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، دار الساقي، بيروت، 2012، ص 421.
[11] – هنري لورانس، الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر: الاستشراق المتأسلم في فرنسا (1698-1798)، ترجمة بشير السباعي، دار شرقيات للنشر والتوزيع، 1999، ص184.
[12] – المرجع السابق، ص184-185.
[13] – عبد الرحمن الجبرتي، مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس، تحقيقي عبد الرحيم عبد الحمن عبد الرحيم، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1998.
[14] – عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السياسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2001، ص 66.
[15] – استنادًا إلى قوله تعالي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، آل عمران أية 110.
[16] – أمل غزال، الفكر “المتزمت” في العصر الليبرالي يوسف النبهاني (1849-1932) قصص الأحلام والمجادلات الصوفية في مواجهة العصر الحديث، دراسة ضمن كتاب (الفكر العربي بعد العصر الليبرالي نحو تاريخ فكري للنهضة، تحرير: دجنس هانسن -ماكس وايس، ترجمة فؤاد عبد المطلب، مؤمنون بلا حدود للدراسات والنشر، بيروت، 2019، ص 374.
[17] – خالد فهمي، السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة، ترجمة حسام فخر، دار الشروق، القاهرة، 2022، ص 66-69.
[18] – B Abazivic, A Critiqne of Global Ethics, prodgorica: Nova Knjica, 2022, pp. 90-102. نقلا عن أحمد زايد، سؤال الأخلاق في مشروع الحداثة جدل الحضور والغياب، مؤسسة السلطان بن علي العويس الثقافية، دبي، ط1، 2024، ص 128.
[19] – عبد الرحمن اليعقوبي، الحداثة الفكرية في التأليف الفلسفي المعاصر (محمد أركون- محمد الجابري- هشام جعيط)، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2014، ص 22.
[20] – اللورد كرومر، مصر الحديثة، ج 2، ط 1، ترجمة صبري محمد حسن، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015، صـ 160.
[21] – أحمد زايد، سؤال الأخلاق في مشروع الحداثة جدل الحضور والغياب، مؤسسة السلطان بن علي العويس الثقافية، دبي، ط1، 2024، ص 128.
[22] – رفاعة رافع الطهطاوي، تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2018، ص292.
[23] – عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة، ص 64.
[24] – علي حرب، الاختام الأصولية والشعائر التقدمية، ص 127.
[25] – محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي)، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1999، ص 94
[26] – ناصيف نصار، باب الحرية انبثاق الوجود بالفعل، دار الطليعة بيروت، ط2 2013، ص 31.