تكوين
مقدمة
انطلقت مجموعة المقالات المُقدمة تحت عنوان “المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر” من رؤية للعقل بوصفه مجموعةً من المفاهيم التي كَوَّنت بِناءه وطريقة تعاطيه وإدارة شأنه الدنيوي. وعملت مجموعة المقالات لتحديد المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر، زاعمةً أنها تُسهم في بناء رؤية بشأن العقل العربي المعاصر، ومن ثم رؤية بخصوص إدارة شأنه الدنيوي وممكنات المستقبل التي يمكن أن يُفضي إليها هذا العقل بالمفاهيم المُكونة له والتي تنعكس على واقعه المأزوم والمُهْزم حضاريًا.
وارتكنت لتحديد هذه المفاهيم في
- الزاوية الأولى إلى قدرة الثقافة على تمرير نفسها داخل القوالب الجديدة التي تُطرح عليها وتتسلل داخلها، إن لم تعد صياغة نفسها في هذه القوالب من جديد، ومهارة التخفي والاتحاد مع المُقدس لتضمن لنفسها البقاء والتأبيد، وتضمن الدفاع عنها الذي يأخذ بُعدًا عقائديًا يضمن لها القدسية وعدم المساس.
- وفي الزاوية الثانية إلى المؤثرات الخارجية في بناء هذا الجهاز المفاهيمي، الذي يغلب عليه الطابع السلفي/الوهابي الدفاعي المتمحور حول الذات، نتيجة للتاريخ الاستعماري والاستغلال السياسي للتفوق المعرفي والحضاري لفرض النظم السياسية هيمنتها على العالم من طريقه. وبصمة التيار السلفي/الوهابي في المفاهيم المُؤسسة للعقل العربي المعاصر التي لها الحضور الأقوى، لأنها جاءت بنزوع ودعوى إعادة إحياء الذات الإسلامية القديمة ومقاومة الثقافات المختلفة، وأَسست لهذا مجموعةً من المفاهيم الصارمة التي قدمتها بوصفها المفاهيم المكونة للضمير الإلهي من جانب، والمُعبرة عن الذات العربية الإسلامية من جانب آخر، وكلا الجانبين أسهما في انتشارها وبسط سيادتها من بُعد أنها دعوى عقائدية، وبُعد أنها مقاومةً للتفكك المُمنهج وحفاظًا على الهُوية.
إقرأ أيضًا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر: الجزء الأول الهُوية النقية والمُهددة
ويأتي الجهاز المفاهيمي المُكون للعقل العربي المعاصر من مفهوم الهُوية النقية والمُهَدَّدَةِ، ويستدعي مفاهيم الماضي وإنجازاته ويستحضرها في الراهن، ويضعها في حالة تماهي مع الهُوية ومُحددًا لأدوات بنائه وتعامله الواقعي. وتأتي المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر من أفق الانهزام والتهديد الحضاري الذي مَثَّله الاستعمار بقيمه الحداثية وتكنولوجيته العسكرية. وتحت ضغط المطالبة بالحضور النِدِّي، نجد عديدًا من المفاهيم بُنيت بنزوع مُقاوم، فتحت ضغط الواقع المُنهزم والمُلح على التجديد وتقديم الحداثة الأوروبية لنفسها في صورة أداة التقدم والتحضر وقاطرة التاريخ، وعدم إمكان إنتاج مفاهيم موازية للمفاهيم الحداثية التي تطرح نفسها بالقوة الواقعية، لجأ العقل العربي إلى استدعاء المفاهيم التراثية الجاهزة، ووضع هذه المفاهيم في حالة توحيد بين الهُوية والعقيدة، فأضحت المفاهيم التراثية تُستدعى بطريقة أداتية تفتقد الحيوية والفاعلية، وتُعتمد بوصفها ممثلًا للعقيدة وللهُوية وللاستقلالية، وكذا الحداثة أيضًا، تُستدعى بطريقة أداتية تفقدها حيويتها، وتعطيها صورة الحقائق النهائية التي يجب تأكيدها الدفاع عنها.
ومن هذا الأفق الهُوياتي المُهدد جاء مفهوم المعرفة داخل العقل العربي بوصفها حفظ الحقائق وتأكيد صلاحيتها، خاصة في حالة السجال الندي بين الحداثة والتراث، ليقع العقل العربي بين منظومتين تفرضان نفسيهما بوصفهما عقلًا يجب أن يُفكر من طريقه. ومن بنية العقل المهزوم الذي يحد معرفته بمنظومتي التراث والحداثة يأتي مفهوم المستقبل مُنحصرًا في نموذج يفرض نفسه بوصفه الحتمية التاريخية والمصير المحتوم، يُقولبُ فيه الواقع ومشكلاته وَفق ما تقدمه الحداثة بوصفها نموذجَ الحضارة بألف لام التعريف، وفي المقابل يُستدعى نموذج الماضي الإسلامي وعصر النبوة بوصفه النموذج المثالي للحضارة في مقابل الحداثة، والنهاية الحتمية للوجود الإنساني، ونصرة الحق على الباطل.
في مفهوم المستقبل
“إن الفهم ف كونه انفتاح الهناك، إنما يمس دومًا جملة الكينونة -في- العالم”
هيدجر([1])
مُجمل الأحاديث والأدبيات المقدمة عن المستقبل تقدم نفسها في صورة توقع أو تخطيط للراهن يتفادى ما يحمله المستقبل؛ فالمجهول أحد اهم مكونات المستقبل، ويعدُ تناول الإنسان للمستقبل بالدراسة أحد أوجه مواجهة المجهول، في التنبؤ به من معطيات الراهن ليبدو معروفًا، ومن ثم التخطيط لمواجهته وتجاوزه. فالمستقبل هو مُمكن الراهن، ولعل هذا ما نفهمه من عبارة الفيلسوف الألماني هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770-1831):
“إن مبدأ التطور يتضمن كذلك وجود بذرة كامنة، أي قدرة أو وجود بالقوة يُكافح، كي يتحقق”[2]
لذا فإن السؤال عن طبيعة المستقبل هو سؤال عن الذات (النحن) ونمط الوجود القائم وما سيكون عليه تبعًا لمعطيات الراهن أو ما هو قادر عليه أو موجود فيه بالقوة[3]. ويعبر عن هذا الباحث والمفكر المصري زكريا إبراهيم (1924-1976) في كتابه مشكلة الحياة قائلا:
“وليست الشجاعة في الحقيقة سوى تلك الإرادة الحرة التي تأخذ على عاتقها مواجهة ((الحاضر))، واثقة من أن ((المستقبل)) سوف يكون -في جانب منه- امتدادًا لهذا الحاضر”[4].
والمستقبل هو امتداد للراهن أو بالأحرى هو نمط من تجاوز أزمات الراهن يفرز نوعًا آخرًا من الأزمات يسعى في تجاوزها، ويذكر الباحث والمفكر المصري زكي نجيب محمود (1905-1993) في كتابه مجتمع جديد أو الكارثة: أن
“المستقبل المدروس المحسوب، يصبح مثل الحاضر مرئيًا للعين، فيخطوا السائرون وهم على علم بمواضع أقدامهم”[5]
ودراسة المستقبل وحسابه عند نجيب محمود تنبني على مدى إدراك الذات/النحن وعلمها بالواقع الذي تعيش فيه، واعتمادها على الاستدلال العلمي الصحيح الذي تحكمه المناهج والعلوم المعاصرة[6]، وما يقدمه نجيب محمود في جانب منه ملموس في الواقع، في قدرة الإنسان على التخطيط لمستقبله من طريق معطيات الراهن والقدرة على مواجهة ما ينتظره من تحديات، ولكنه في الوقت عينه لا يكون مرئيًا وفق ما يقول نجيب محمود، ويخالفه كارل بوبر Karl Raimund Popper (1902-1994) في هذا ويرى أن “التنبؤ الاجتماعي لا بُد وأن يكون أمرًا عسيرًا جدًا“[7]؛ فإذا كان المستقبل هو امتداد للراهن فإنه في جانب منه مجهول رغم قدرة العلم المعاصر وأدواته، وهذا ما اثبتته أزمة كوفيد 19 (كورونا) التي فاجأت العالم ووضعته في وضع متأهب ما يزال يعاني أثاره إلى اليوم.
ووفق الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر Martin Heidegger (1889-1976) حضور المستقبل في الراهن سمة الذات الواقعية التي تفهم كينونتها وقدراتها، ويتبين هذا فيما يقوله داخل مؤلفه الأكثر شهرةً الكينونة والزمان:
“إن الدازاين الواقعاني هو بذلك متوقع لمستطاع – كينونته انطلاقا مما يشغله، هو يستطيع أن ينتظر وأن يتطلع لأمر ما”[8]
فضمن شروط الكينونة عند هيدجر التزمن (الشعور بالزمن) وهو يعني وعي الذات/النحن بالراهن وموقعها من الماضي والمستقبل، وتحديد ممكنها (المستقبل) من طريق الراهن القائم. وهذا ما يعرضه هيدجر بدقة قائلًا: “يعني الفهم: كينونة- مُستشرفة نحو مستطاع كينونة، من أجله يوجد الدازاين في كل مرة. فشأن الفهم أن يفتح مستطاع الكينونة الخاص على نحو بحيث أن الدازاين، بفهمه، هو يعرف في كل مرة، بوجه ما، أين هو من ذاته”[9]. والفهم كما يقدمه هيدجر في مقولته هذه يعني معرفة الذات لنفسها من خلال الراهن الذي تكونه، وتحدد من خلاله أين هي من ذاتها المستقبلية وملامح ذاتها المستقبلية، وكيف يُمكن أن تسعى لتجاوز ما ينتظرها في المستقبل من طريق تغيير الواقع.
والمستقبل كونه امتدادَ الراهن والمجهول المُنتظر، تعمل الذات/النحن عادة لاستشرافه من طريق الراهن، والتخطيط لتفادي صورة المستقبل المبينة من طريق الراهن، أو تطويرها بالسعي نحو تغيير الراهن وإعادة ترتيبه وصياغته. ولا توجد فكرة مسيطرة على الذات/النحن أكثر من فكرة المستقبل، وكيف يُمكن أن يكون، فهي أحد أهم المحركات للتاريخ وفق فلسفة هيجل، فالأنسان تُسيطر عليه الحاجة إلى الفرار من سجن الراهن، وتأمين مستقبله من غذاء قديمًا، وتعليم وعمل والحفاظ على بيئته الاجتماعي في الوضع المعاصر[10]، وتنشغل الجماعات والدول بالمستقبل ويسيطر على راهنها، وتسعى في صياغة راهن أفضل يُفضي إلى مستقبل أفضلٍ لها. ولا تخلوا الخطابات السياسية عادة من الحديث عن المستقبل، بل مجمل هذه الخطابات يسيطر عليها الحديث عن المستقبل وكيفيته.
ويمكن القول إن الإنسان هو الكائن المستقبلي على الأرض، فمجمل الكائنات لا تسعى في تجاوز الراهن وتظل أسيرة له، بيد أن الإنسان عادة ما يسعى في مستقبلٍ أفضل من راهنه، ومن ثم يسعى إلى تطوير أدواته وتغيير واقعه، ويترجم انشغاله بالمستقبل فيما قدمه من حضارات، وانتقال من أفقٍ لآخر، في سعيه الدائم نحو التطور. وتتوقف الترجمة الواقعية لتصور الإنسان/الجماعة عن المستقبل المنتظر، أو الصورة التي تطمح إليها الذات/النحن على وعيها بالراهن وأدواتها، وما يُمكن أن تسعى في تغييره من أدواتٍ ومفاهيم تمثلها وتكونها فهي من تُمثل الراهن، وليست المسؤولة عنه فحسب، فالراهن هو أحد صور الذات/النحن ويوضح ممكناتها وصورها المستقبلية.
مفهوم المستقبل في العقل العربي المعاصر
“المستقبل مستقبل لأنه لم يحدث، فحين حدوثه/مثوله، يصير حاضرًا، وبعبور الزمن يصير ماضيًا” عبد الواحد أية الزين[11]
يعاني العقل العربي المعاصر إشكالًا بنيويًا يظهر في بنائه المفاهيمي، وهيمنة الماضي على وعيه، وانشغاله بصراعات تاريخية وثقافية تمنعه من قراءة الحاضر بموضوعية، وينحصر في موضع رد الفعل والدفاع عن الماضي مقابل حالة الهيمنة الحداثية، وإثبات صلاحيته المطلقة لقيادة الراهن نحو المستقبل، بل وضعه ليكون صورةً نهائية للمستقبل تُمثل الذات/النحن وعليها أن تفرضها على واقعها. وفي مقابل الرؤية الماضوية التي تفرض الماضي على المستقبل، تأتي الرؤية الحداثية التي تفرض الحداثة بوصفها المستقبل المحتوم، ومن ثم فإن الرؤية الماضوية والحداثية داخل العقل العربي لا يُلغيان الواقع فحسب، وإنما يُلغيان المستقبل كذلك، فالمجهول جزءٌ رئيس ضمن بنية المستقبل ويدفع الذات/النحن نحو البحث عن المعلوم والخروج من أفق الراهن، بيد أن الرؤيتين الماضوية والحداثية في هذه الحالة يُلغيان المجهول، إذ يصبح كل شيء معلومًا في الماضي أو جاءت به الحداثة، ويُلغي المستقبل بمضامينه ومجهوليته ويَفرض الماضي أو الحداثة بوصفهما الصورة الأكمل التي يجب ان يسعى فيها البشر جميعًا، ومن ثم يُصبح المستقبل منحصرًا بين الحداثة والماضي.
إقرأ أيضًا: تأثير التيارات الفكرية في العقل العربي
والمستقبل هو أفق منتظر يحضر في الراهن من طريق التوقع أو التنبؤ، وكلما صار في طور الحضور الراهني والإدراك فقد الاتصاف بدلالة المستقبل، فهو ما يُطمح إليه، كي يكون، وبالمفردات الأرسطية يُمكن أن نقول إن المستقبل هو الوجود بالقوة، وحين يتم هذا الوجود فإنه يُصبح الوجود بالفعل وليس الوجود بالقوة. ويخرج الحديث عن المستقبل والتنبؤ به، ومحاولة صناعة مستقبلٍ مختلف عن الراهن يتجاوز مشكلاته، من دراسة الواقع الراهن والاقتناع بدور الإنسان في صناعة المستقبل ودوره في الحياة، ولا تكون حياته مُقدرةً ومُصاغةً سلفًا، فإذا كانت حياته بماضيها وراهنها ومستقبلها مُقدرة سلفًا، فإنه لا يملك حيالها غير الانتظار لما قُدر له. فإن أولى المقومات التي تحتاجها الذات/النحن لبناء المستقبل وتصورها عنه، الحرية والإرادة، الحرية في تصور هذا المستقبل دون إكراهات وتصورات مُسبقة، وإرادة فاعلة لتحقيق هذا المستقبل، وكما يذكر الفيلسوف اللبناني المعاصر ناصيف نصار:
“المسألة ليست مسألة انتقال ميكانيكي من حاضر قائم إلى حاضر آخر جاهز سلفًا، بل مسألة تحقيق ما يطمح إليه الكائن الذاتي من أعماق كيانه بتوظيف المخيلة من أجل تصوره وتصور شروط تحقيقه ومراحله ونتائجه”[12].
المستقبل والنموذج
إذا قلنا إن المجهول هو ضمن أبنية المستقبل الرئيسة، إذ يتضمن الانفتاح على الممكن، فإن فرض أي نموذج بما يملكه من منجزات واقعية باهرة، يُعد بمنزلة قولبة مُسبقة للذات تسحب منها حق تحديد المُستقبل، وتفقدها واقعها المعاش والشعور به، إذ تؤشكل أزمات هذا المجتمع وفق الحلول التي يطرحها النموذج، وتعمل لفرض هذه الحلول، دون الانتباه لأزمات المجتمع التي يسعى بتلقائية وميكانيكية في تبنيها وحلها. والعقل العربي المعاصر تدفعه الحاجة إلى الوجود الندي للحالة الحضارية التي تمثلها الحداثة وما بعدها، إلى البحث عن حلول فورية جاهزة، وتأتي حلوله في فرض الحداثة بوصفها الحضارة الرشيدة، والنموذج الباهر صاحب المنجزات الواقعية المشهودة والقيم المهيمنة. وعلى الصعيد الآخر يأتي التراث بما له من منجزات مشهودة تاريخيًا، مع حالة التهديد الهُوياتي التي تُمثلها الحداثة والاستهلاك الإمبريالي لها، بوصفه النموذج الممثل للذات العربية الإسلامية، في مواجهة النموذج الذي يسلبها أصالتها. وكلا الموقفين لا يُمثلان المستقبل الذي تطمح إليه الذات/النحن، لأن المستقبل عادة ما يكون طموح نحو راهنٍ أفضل خالي من أزمات الراهن المعاصر، وكلا الموقفين لا يخرجان من الراهن وأزماته.
وتخرج سيطرة النموذج على العقل العربي المعاصر من حالة الفقدان الهُوياتي التي يعانيها داخل الأفق الحضاري المعاصر له، إذ تُنكر الذات/النحن العربية الراهن بوصفه ممثلًا لهُويتها، ومن ثم تبني تصور متخيل عن الذات ينقسم إلى فريقين يعملان بثنائية العقل العربي ويتحدثان بلغة الحق والباطل: فيرى فريق أن هذه الذات متحققة في الماضي وما أنجزه من تراث معرفي، ويرى آخر أنها متحققة في الحداثة وما تقدمه من قيم ومنجزات مُسيطرة حضاريًا. ويعمل كلا الفريقين من طريق ذات مُتخيلة، طوباوية، خالية من الأزمات والأبعاد الواقعية، ويسعيان في فرض رؤيتهما بوصفها حلولًا مجربة ولها فاعليتها، أكثر مما يسعيان في فهم الراهن وأزماته، والسعي نحو إنتاج هُوية تمثل الذات الراهنة وتخرج من بنية أزماتها.
ويرى ناصيف نصار أن باب الحرية والوجود بالفعل والحضور الفعلي لما يُسميه بالنهضة الثانية في السياق العربي، هو تحرير النهضة داخل العقل العربي من فكرة النموذج[13]. وتجد نظرية نصار ما يساندها في الواقع، فمفهوم المستقبل في السياق العربي أزمته الرئيسة في النموذج (الحداثة)، الذي يحاول أن يفرض نفسه عليه بوصفه الممثل للحقل وللصوابية المطلقة، ويضعه في حالة دفاع ورد فعلٍ دائمة، ويحصر العقل العربي في حالة رد الفعل وينشغل في كيفية الرد وحماية هذه الذات الماضية (المُتخيلة) التي يراها ممثلة للراهن والمستقبل، وهي الذات التي يراها خالية من كل الانحيازات الإنسانية، يرى فيها ذاتًا طوباويةً لا تكون موجودة واقعيًا. وعلى صعيد آخر يجد فريق النموذج في الحداثة، وينطلق نحو الدفاع عن هذا النموذج وكيفية الوصول إليه ويصيغ أزمات المجتمع في عدم التزامه بهذا النموذج.
والعقل العربي المعاصر لا يشغله الواقع الفعلي على الحقيقة بقدر ما يشغله الرد وحماية الذات المُتخيلة (بشقيها: التراثي والحداثي)، وإثبات صلاحيتها للمستقبل، بل حتميتها بصورة دينية يُغذيها من حالة الانهزام وما يلحقها من التمني بالتفوق الحضاري، أو الندية الحضارية، وتأويل النصوص الدينية وفق رؤيته، وإنتاج مخيلة وتصور عن الغيبيات تنتصر فيها الذات المُتخيلة في النهاية، في حالة الرؤية الماضوية. وفي حالة الرؤية الحداثية تأتي الحالة الدفاعية عن الحداثة وقيمها ومنجزاتها الحضارية، وتقريع المجتمع ولومه على تخلفه وعدم عمله بالحداثة، وفرض الحداثة بوصفها ممثلة لهُوية الذات/النحن العربية ونموذجًا للراهن والمستقبل، من طريق سيطرتها الحضارية وامتلاكها الأفق الحضاري المعاصر الذي يجعل العقل العربي منعزلًا عن هذا الأفق برفضه إياها. ويغيب الحديث عن المستقبل وكيف يمكن أن يكون، فالذات/النحن العربية واقعة في حالة الدفاع عن الذات المتخيلة (الماضي/التراث، الحداثة) التي ترى فيها هُويتها التي تمثلها ويجب أن تفرضها على الراهن، ومن ثم فهي ليس واقعة في الراهن، بل واقعة في أزمتها الهُوياتية التي تفقدها راهنها ومستقبلها، وتجعلها مشغولة بأدوات وكيفية رد الفعل.
النموذج والبدعة
يتضمن مفهوم البدعة كما ذُكر سلفًا في المفهوم الثالث (البدعة) عدم الخروج عن نموذجٍ ما يطرح نفسه بوصفه مُمثلًا للعقل، وللحق والحقيقة، ومفهوم البدعة من المفاهيم الأساسية التي يعمل من طريقها العقل العربي المعاصر، ويسحب منه حق الاستقلالية والتجريب والانفتاح على الممكن. ويظهر دور مفهوم البدعة داخل العقل العربي في سعيه نحو الارتكان إلى نموذج مجرب ومضمون يتخفى خلفه، ويستقيل عن التفكير وتولي شأنه الدنيوي، ويولي النموذج الذي يتبناه مهمة التفكير وشأنه الدنيوي. ويرتبط حضور النموذج (التراث، الحداثة) ارتباطًا وثيقًا بمفهوم البدعة الذي يحدد عادة الطريق نحو المستقبل، ويتضح هذا في الحضور الكثيف لمفهوم البدعة عند البحث عن أفق جديد للمستقبل، ليعبر عن مجموعة من المحاذير التي يجب مراعاتها وعدم الوقوع فيها للسعي نحو مستقبلٍ أفضل.
ويأتي مفهوم البدعة في صورته الواضحة مع الاتجاه الإسلامي، إذ يرى العمل بها والقول بها كفرًا، وتكون البدعة هنا الخروج عن الخطاب القرآني والسنة النبوية وما تركه السلف، ويحضر الماضي بوصفه النموذج الذي تسعى في الذات/النحن، وذلك لما يُمثله من مرحلة اكتمال الذات وحضورها التام. وفي الاتجاه الحداثي يحضر مفهوم البدعة بمضامينه، ولكن في صورة الاستبداد العقلاني، ليصبح من لا يؤمن بالحداثة والنموذج الذي تطرحه الحداثة بوصفها الحضارة الرشيدة، يكون خارج الحضارة والعقلانية والتفكير المنطقي، وكلا الحاليين يُمثل تهديدًا ضمنيًا يجعل الاستقلالية مغامرة غير مأمونة عواقبها، خاصة في حال التكفير الإيماني وخروج الفرد من الدائرة الإيمانية. ومفهوم البدعة في هذه الحالة يجعل النموذج منطقة ملاذًا للذات، تتخفى خلفه وتتنصل من مسؤوليتها خاصة في حالة الانهزام الحضاري التي يسودها اللوم والتقريع، والاتهام المتبادل بقيادة العقل العربي نحو الانغلاق والغياب الحضاري.
المستقبل والمصير المحتوم (الماضي، الحداثة)
يفترض تحديد نموذجٍ ما بوصفه المستقبل المحتوم، سواء كان دينيًا عقائديًا كما يرى أصحاب الرؤية الدينية/الماضوية أو حضاريًا يخرج من بنية الحضارة المُسيطرة كما يرى أصحاب الرؤية الحداثية، وجودًا سابقًا للمستقبل، وتحديدًا للمصير يُفقد الذات طبيعتها، وحقها في بناء مستقبلها وتحديد مصيرها، إذ يكون مُحددًا سلفًا وعليها فقط السير نحوه، ومن ثم تظهر حالة اللوم الشديدة بعد الالتزام بالنموذج المطروح، سواء من أصحاب الرؤية الديني/الماضوية أو أصحاب الرؤية الحداثية. وإذا انطلقنا مع ناصيف نصار من الطموح لتحديد أشكال المستقبل[14]، وذلك لما يُمثله من رغبة الذات نحو تجاوز راهنها إلى مستقبلٍ أفضل تطمح إليه وتسعى فيه إلى تخيل مستقبلها، ومن ثم تخطط له، نجد أن الطموح العربي يقف عند طرح هُويته في قالب/نموذج جاهز يفرضه على الواقع القائم، سواء كان هذا القالب/النموذج هو الماضي المُتخيل الخالي من أي بُعدٍ واقعي، أو الحداثة الطوباوية التي لا تقبل النقد وتحمل الحلول الفورية للأزمات بجميع أنواعها، وجميع أمنيات الفرد من الحرية والعدل والمسواة، وغيرهم.
ويُهيمن النموذج الديني من طريق الحنين إلى الماضي، وسعي الذات نحو تأكيد قدراتها الحضارية من طريق التركيز على حادث مؤسس وجوهري في تاريخها، ولم تعرف الجزيرة العربية حادثًا مؤسسًا أو جوهريًا غير الإسلام، إلى ذلك الحد الذي يجعلها تضعه ليكون ممثلًا لهُويتها. ومع حالة التهديد والهشاشة الهُوياتي يُستدعى عصر النبوة بوصفه العصر الذهبي الذي تحققت فيه كل الفضائل الإنسانية، ويعد ما بعده نُكوصًا عن الضمير والأخلاق والقيم التي حملها هذا العصر، وتخلق هذه الحالة من الهيمنة صورًا مختلفة لعودة هذا العصر من جديد، منها عودة الراية النبوية الإرشادية مرة أخرى مع المهدي المُنتظر. ومن داخل الخطاب الديني تظهر محاولات عديدة لعودة هذا العصر، والمطالبة بالامتثال له وما جاء به أصحاب النبي ﷺ، ولم تكن الحركة الوهابية غير محاولة لعودة هذا العصر من جديد، وأدت حالة التهديد الهُوياتي إلى هيمنتها على المجتمعات العربية بصورة كبيرة، لما تحمله من تمثيل للذات التي تميل لعصر النبوة، وعطش الذات المنهزمة أمام الحداثة لأفق ورؤية مختلفة تؤكد ذاتيتها وقدرتها على الوجود الحضاري.
وينظر كثير من المفكرين العرب إلى الماضي لا بوصفه خبرة يجب البناء عليها وتجاوزها، بل بوصفه مصدر للشرعية والتفوق. ويتحول التاريخ إلى معيار للحكم على الحاضر، ويُستدعى دائمًا لتفسير الإخفاقات والبحث عن المجد الضائع، في هذا السياق يُستحضر الماضي لا بهدف النقد أو التحليل، بل من أجل تمجيده والاحتماء به، في تجاهل واضح للتغيرات التي شهدها العالم، والتحولات العميقة في نظم الحياة والمعرفة والتكنولوجيا. ويعتمد الخطاب الديني على وعد الله بالتفوق والحالة الحضارية التي خلقها الإسلام للعرب لإثبات رؤيته، ومن طريق الحديث النبوي “يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها” تُوضع بعض الاجتهادات بوصفها تجديدًا للدين، وحفظًا لقيمه وتعاليمه. وتظهر عديدٌ من السرديات التي تفترض انتصار المسلمين على أصحاب الديانات الأخرى وتفوقهم في نهاية التاريخ التي تجعل هذه الذات منتصرة لا محالة سواء حاولت أو لم تحاول، ولا يكون للذات دورًا أو فاعلية، وهي رؤية تتفق مع الرؤية الأشعرية المهيمنة على العقل العربي التي ترى أن الإنسان أحد ممتلكات الله، والله حر فيما يملك، وترى أن كل الأفعال خلق لله كسب للإنسان، وتسحب من الإنسان القدرة على الفعل، وعلى صياغة مستقبله وتحديد مصيره.
وتستند الرؤية الحداثية إلى المنجزات الحضارية للحداثة، والهيمنة القيمية والحضارة التي تجعلها الأفق المعاصر الذي تدور في فلكه جميع المجتمعات، وتقدم الحداثة نفسها بوصفها الحضارة الرشيدة ونهاية التاريخ المحتومة، وهذا ما يتضح في مؤلف الفيلسوف الأميركي صاحب الأصول الأسيوية فرانسيس فوكوياماYoshihiro Francis Fukuyama (1952)) الأكثر شهرة (نهاية التاريخ والإنسان الأخير (The End of History and the Last Man عام 1992. ويعمل فوكوياما في هذا الكتاب على تقديم رؤية للتاريخ الإنساني ومراحل تقدمه، ويرى أن التاريخ الإنساني يسعى نحو الاعتراف، وينتهي هذا الصراع وفق ما يرى فيما يُسميه مملكة الحرية التي يرى أنها تلك المملكة التي تصنعها الديمقراطية والرأسمالية والتي تتمثل في المجتمعات الأوروأمريكية. والديمقراطية الليبرالية عند فوكوياما هي نهاية التاريخ، وعلى كافة المجتمعات الأخرى أن تتبعها، كما يتبع الأطفال أباءهم وأمهاتهم، لأنها قادرة على حل جميع الأزمات الإنسانية المعاصرة. والمجتمعات الأوروأمريكية هي القادرة على قيادة العملية التاريخية للأمام، وأن هناك مجتمعات ودول سوف تتوه في الطريق، ومنها من سيصنع له خيمة في الصحراء، والغالبية العظمى ستصل إلى نمط المجتمع الأوروأميركي، وهناك من سيظل على النمط البدائي للإنسان الأول طبقًا لما يعرض[15]، ويقولها بوضوح: “يُقر كل شخص عاقل بعد تفحصه الوضع، أنه لا توجد إلا رحلة واحدة ووجهة وحيدة”[16].
وتتمثل رؤية فوكوياما في السياسات الأوروأمريكية وتعامل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وشريحة عريضة من هذه المجتمعات مع العالم على أنه مجتمعات ودول أوروأمريكية ناجحة ومُسيطرة، ومجتمعات أخرى متخلفة عن هذا النمط الاجتماعي وعليها أن تسعى في تكون أوروبية أمريكية. وتستند هذه المجتمعات إلى تفوقها الحضاري، وتزعم أنها تُمثل نهاية التاريخ، والاحتذاء بها واقتفاء أثرها يُمثل فرضًا عقلانيًا ومنطقيًا، ويتضح هذا أكثر في السياسات الأمريكية التي تتعامل مع العالم ولا سيما الشرق الأوسط بوصفه أحد ممتلكاتها، فالخطاب الأمريكي عادة ما يأتي بلهجة الهيمنة والتقدم الحضاري الذي يُعطيها هذه الهيمنة. ومن ثم فإن الحديث عن الحضور العربي يتضمن عدم الحضور الندي أو المساواتي مع المجتمعات الأوروأمريكية، بل يضمن الحضور التابع لهذه المجتمعات، والاعتراف بقيادتها للعملية التاريخية وتفوقها، ولا يرى أي عنصر آخر مُكملًا لهذه الحضارة التي يراها مكتملة في ذاتها.
من هذا الأفق الذي يُحدد المصير العربي بين الحضارة الرشيدة ونهاية التاريخ التي تزعم الحداثة ومجتمعاتها أنها تمثلهم، واستدعاء التاريخ والتراث للحضور الندي مع الحداثة ومجتمعاتها، يأتي مفهوم المستقبل في العقل العربي بوصفه نتيجة محتومة ومحددة سلفًا. ويحضر هذا في السياقات العربية من غياب التحديد والتخطيط المنهجي للمستقبل، فلا نجد أي طرحٍ منهجي وواعٍ يتحدث عن المستقبل وأدوات تجاوز الراهن ومشكلاته، بل إن المؤسسات القائمة على عمليات الإدارة المعرفية والوزارات المختصة لا نجد لديها رؤى بعيدة المدى، وخطط تسعى في وتعمل لتنفيذها وتُحاسب وفق هذه الخطة، وما نجده محاولات تقليد واضحة للمناهج الأوروأمريكية تفضحها الشكلانية المفرطة غير الممنهجة. وعلى الصعيد الآخر فإن تحديد العصر النبوي بوصفه أتم العصور وصورة المستقبل المنتظرة، يجعل ما قدمه السابقون كافيًا ووافيًا، ومن ثم تأتي الرؤى والخطط المستقبلية في صورة استهلاك لهذا المنجز التاريخي والحضاري، لتوليه أزماتها ومشكلاته وتستورد حلوله بطريقة لا تختلف في شكلانيتها عن استيراد الحلول الأوروأمريكية.
المستقبل والهوية
يُحدد المستقبل عادة بواسطة الهُوية التي ترغب الذات/النحن في أن تكون عليها، إذ يمثل المستقبل الصورة التي ترى الذات أنها تمثلها وتسعى فيها وتخطط لحضورها الواقعي في الراهن، وترى الذات/النحن العربية أن هُويتها حاضرة ومتحققة سلفًا؛ وذلك في الذات العربية القديمة التي تملك جميع أنواع المعارف والحضور القوي والحضارة المكتملة. وتحت عجز الذات/النحن العربية عن إنكار ما للحداثة من حضور وقوة ومنجزاتٍ حضارية تأتي الحداثة بوصفها مُمثلة للهُوية العربية الإسلامية ومستقبلها المحتوم، ويُعبر عن هذه الرغبة من التيارات السلفية والدينية في الزعم بامتلاك القرآن والتراث الإسلامي العلوم والمنجزات الحداثية، ومحاولة استنطاق القرآن والتراث بالحداثة تُمثل اعترافًا ضِمنيا بتفوقها الحضاري. ويبرر التيار الحداثي حضور الحداثة بوصفها ممثلة للهُوية العربية بمنجزاتها الحضارية، وقيمها الباهرة وحضورها القوي الذي يُهيمن على الأفق المعاصرة، مما يجعلها صورة حتمية تُمثل ما يجب أن تكون عليه الذات/النحن.
والهُوية كي تكون كذلك عليها أن تراعي الذاتية والانطلاق من رغبات الذات وأزماتها، لتكون ممثلة للذات ولا تعطيها شعورًا بالاغتراب، والمستقبل كذلك لا يمكن أن يكون ممكن التحقيق دون الانطلاق من الراهن والاعتراف به وبأزماته، فالراهن لا يُكون الذات/النحن، بل يُمثلها، فالراهن هو مرحلة من مراحل الذات وهي التي تُكونه، وعليها أن تسعى في تجاوزه نحو مستقبل ونسخة أفضل لهُويتها، يكون لها الحق بالزعم أنها تمثلها بالفعل من طريق حضورها الراهني. ولا يُمكن للذات/النحن أن تكون حاضرة من طريق نموذج يطرح نفسه بوصفه نهاية التاريخ أو الحتمية التاريخية، فحضورها يشترط الانفتاح على الممكن وعلى الأفق المختلفة التي تسمح لها بالتعبير عن ذاتيتها، وعدم التخفي خلف منظومات لا تعطيها غير مزيدًا من الاغتراب وعدم الحضور.
ومن المؤسف أن العقل العربي ينطلق من أفق الهُوية وحالة التهديد الهُوياتي ويسعى نحو تأكيد هُويته، وينتج جهازه المفاهيمي من أفق التهديد الهُوياتي والبحث عما يقدمه ليكون مُمثلًا لهُويته، ويرتكن إلى الحداثة مرة ويسعى في حضورها الشكلاني، ويرتكن إلى الماضي والتراث مرات ويسعى نحو حضوره في الواقع والمستقبل، ويوليه مشكلاته وأزماته ويستقيل عن المسؤولية. وحالة التخبط والشتات الهُوياتي وما يحايثها من تهديد دائم يضعه في حالة الدفاع ورد الفعل يجعلان النقد يمثل أداة هدم للذات والهُوية المطروحة، خاصة أنها تمثل استيرادًا لهُوية جاهزة سواء من التراث أم من الحداثة لا تمثل الذات، ومن ثم لا تصمد أمام النقد، ليتم نفي النقد وشيطنته داخل الجهاز المفاهيمي العربي المعاصر، ليخلوا من أي نقد، ومن ثم من أي رؤية قوية وواقعية تسعى في نقد نفسها للوصول إلى ما هو أفضل.
خاتمة
وفق بنية العقل الإنساني التي نستكشفها من طريق تاريخه وواقعه المعاش، فإنه ينطلق من الهُوية وينتهي إليها، إذ يبدأ بتصور ما عن الهُوية وما يرغب في أن يكون عليه، ويضع هذا التصور ليكون نسخةً مستقبلية من ذاته يسعى في الوصول إليها، وفي رحلته للوصول إلى ذاته المستقبلية يُنتج مفاهيمه التي تُكونه وتحدد مساره وما سوف يؤول إليه. وكذا العقل العربي يبدأ بمفهوم الهُوية وأزمة تحديدها، بيد أن مشكلته الرئيسة تقع في حالة التهديد الهُوياتي التي وضعته بين فرضين لا ثالث لهما: إما أن يسلم للحضارة المسيطرة التي جاءت في صورة الغزو والاستعمار تقدم نفسها بوصفها الحضارة الرشيدة والحتمية التاريخية، أو يستدعي ذاته القديمة وتراثه ليواجه حالة التهديد الهُوياتي التي يعيشها. ولم يكن بوسع العقل العربي في ظل حالة التهديد هذه إلا البحث عن نموذجٍ جاهز، خاصة أن الحداثة كانت جاهزة ولديها التفوق الذي يمكنها من فرض نفسها نموذج الحضارة الأوحد، ووجد نموذجه هذا في تراثه الذي يحمل أبعادً حضارية، وعقائدية جعلته يقدمه في صورة نضالية لصون الهُوية والعقيدة.
ومن أفق التهديد الهُوياتي وفرض الحداثة لنفسها بوصفها صورة الهُوية الإنسانية، وبحث العقل العربي عن بديل يسعفه يأتي تصور الهُوية على أنها جاهزة وليست في حاجة إلى البناء، ويخرج العقل العربي من هذا التصور محاولًا تأكيد ما يطرحه من هُوية، خاصة النموذج التراثي المنتشر في السياق العربي، بصورة تجعل تقديم الحداثة والدفاع عنها يأتي بصورة اعتذارية يغلب عليها طابع إثبات عدم تعارضها مع التراث، أو اثبات صلاحيتها باستخدام التراث. ويستدعي العقل العربي مفاهيمه التراثية بصورة نضالية داخل الأفق المفاهيمي الحداثي المسيطر، ويسعى بواسطة هذه المفاهيم في إثبات صلاحية ما يقدمه من نسق هُوياتي، سواء أكان من الحداثة أم من التراث. ومن ثم فإنه ينطلق من التصور الهُوياتي الذي يُفرض عليه من الحداثة، ويُفرض عليه من أفق التهديد الهُوياتي الذي يضطره إلى استدعاء الماضي، ويدور في فلك تأكيده تمثيل أي من المنظومتين لذاته ويعمل لفرضها لتكون صورةً ونموذجًا للمستقبل. ليبدأ العقل العربي من تصور جاهز لهُويته يُفرض عليه، ويبني جهازه المفاهيمي لتأكيده، وينتهي إليه، ويدور حول ذاته، ويُعيد إنتاج نفسه من جديد بصورة تجعله في حالة ثبات تاريخي.
وقد بدأت سلسلة المقالات هذه من مفهوم الهُوية النقية والمُهددة، مرورًا بالمفهوم الأداتي للقرآن الذي يضع القرآن ليكون منظومةً معرفية تملك كل الإجابات، في صورة تأكيد الندية للحداثة وزعم الأصالة وامتلاك المعرفة. مرورًا بمفهوم البدعة وسحب حق الخطأ والتجريب ودوره في صياغة العقل العربي، ووضعه موضع القاصر؛ المحتاج -عادةً- إلى الإرشاد، ومن ثم فإنه يرسم له الطريق الذي يسلكه، ويضع له المحاذير التي عليه أن يتجنبها، ويسحب منه حق الخطأ والتجريب. ويخرج من بنية مفهوم البدعة مفهوم الشريعة بوصفها الحل الأصيل والسحري لكل المشكلات، وهو مفهوم تبلور في صورة الحضور الندي التي فرضتها حالة التهديد الهُوياتي، وتحت ضغط مفهوم البدعة الذي يفرض عدم الخروج عن الشريعة الربانية، ومن ثم فإن الذات/النحن العربية وجدت نفسها مُجبرة على البحث عن حلول لمشكلاتها من داخل الشريعة، وتأكيد صلاحيتها وأصالتها.
ومن أفق الانهزام الحضاري والتهديد الهُوياتي جاء مفهوم التراث بوصفه بوصلة الوجود والاعتراف، إذ تُمثل حالة السيطرة الحداثية اغترابًا للذات/النحن العربية، خاصة أن الحداثة جاءت بمدافع الاحتلال، ومن ثم انبنى مفهوم التراث بوصفه بوصلة الوجود والاعتراف. ومن داخل مفهوم التراث بوصفه بوصلة الوجود والاعتراف يأتي مفهوم الخلافة ليكون نمطَ الحكم الإلهي والشرعي، وهو النمط الذي عرفه التاريخ الإسلامي، ولكن لا يُقدم بوصفه نمطًا تاريخيًا من الحكم السياسي، بل بوصفه فرضًا إلهيًا وصورة فرضها الله للإدارة السياسية. ولم تتمكن الذات/النحن العربية من إنكار الحداثة وما لها من أبعادٍ وانتصاراتٍ حضارية، فراحت تستدعي الحداثة في صورة أداتية تُفقدها حيويتها وتجعلها أداة تقدم تُفرض على المجتمع، ويرجع تصور العقل العربي للحداثة وبناء مفهومه الأداتي عنها للطريقة التي قدمت بها نفسها، والاستغلال الإمبريالي لها، لأنها لم تقدم نفسها بوصفها مجموعة من القيم الحضارية التي يتعاطى معها المجتمع، بل بوصفها أداة التقدم والتحضر التي يجب أن تُفرض على جميع المجتمعات.
وإذا كان العقل منحصرًا في حالة الدفاع وتأكيد صلاحية ما يستدعيه ويقدمه من مفاهيم، فإن النقد هنا يُمثل تهديدًا واضحًا وصريحًا للبناء الذي يقدمه، لذا يأتي النقد في صورة الدفاع عن الاتباع، أي نقد الآخر وما يُقمه من حضارة بهدف الدفاع عن الذات التاريخية المتخيلة، وإثبات صلاحيتها، أو نقد الذات باللوم والتقريع بهدف الدفاع عن النموذج الحضاري الذي يقدمه الآخر، ومن ثم جاء مفهوم النقد مُغتربًا عن النقد يُمثل دفاعًا عن الاتباع. وإذا كان النقد دفاعًا عن الاتباع فإن المعرفة هنا تنحصر في الاتباع، وتضع إثبات صلاحية ما تتبعه من منظومات تفرض نفسها عليه بوصفه أيديولوجية تسعى فيها، ومن ثم فإنها تدور داخل منظومتي التراث والحداثة اللتان تُفرضان عليها، لتثبت تمثيل واحدة منهما لهُويتها على حساب الأخرى، وتضع المقارنة لتكون قوامًا وحدًّا لها، ومن ثم فإن مفهوم المعرفة ينحصر في تأكيد المنظومة المرجعية (التراث والحداثة). وانحصار المعرفة في تأكيد المنظومات المرجعية، وإثبات تمثيلها الهُوياتي للهُوية العربية المُفتقدة، فإن هذه المنظومات تُمثل نموذجًا يؤطر المستقبل ويحدد بصورة مُسبقة، ويضع المنظومات المرجعية (التراث والحداثة) لتكون مصيرًا محتومًا، ولكل اتجاه مبرراته وتأكيداته. وهكذا يبدأ العقل العربي بأزمة هُوياتية تفرض عليه تصورًا مسبقًا للهُوية النقية والمُهَدَّدَةِ، ويسعى لتأكيده، وينتهي إليه بوصفه المستقبل المحتوم، ويُعيد إنتاج ذاته عبر منظوماته المعرفية، ليدور حول نفسه في حالة ثباتٍ تاريخي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] – هيدجر (مارتن) الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني،ط1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012، صـ 298.
[2] – هيجل (فريدريك)، العقل في التاريخ (المجلد الأول من محاضرات في فلسفة التاريخ)، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ط3، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2007، صـ 127.
[3] – راجع، المسكيني (فتحي)، الهوية والزمان: تأويلات فينيمينولوجية لمسألة ((النحن))، ط1، دار الطليعة بيروت، 2001، صـ 36.
[4] – إبراهيم (زكريا)، مشكلة الحياة، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، 138.
[5] – محمود (زكي نجيب)، مجتمع جديد أو الكارثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2007، صـ 51.
[6] – راجع، محمود، المرجع السابق، صـ 50-51.
[7] – بوبر (كارل)، بؤس الأيديولوجيا (نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي)، ترجمة عبد الحميد صبره، دار الساقي، بيروت، 1992، صـ 24.
[8] – هيدجر، الكينونة والزمان، صـ 586.
[9] – هيدجر، الكينونة والزمان، صـ 584. راجع أيضا صـ 584.
[10] – كولن ولسون، جون جرانت، فكرة الزمان عبر التاريخ، ترجمة فؤاد كامل، عالم المعرفة، الكويت، عدد مارس 1992، ص6.
[11] – عبد الواحد أية الزين، الإنتاج الفلسفي في الفكر العربي المعاصر في أطروحات ناصيف نصار، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2020، ص 239.
[12] – ناصيف نصار، الذات والحضور (بحث في مبادئ الوجود التاريخي)، دار الطليعة بيروت، ط1، 2008، ص542.
[13] – ناصيف نصار، باب الحرية (انبثاق الوجود بالفعل)، دار الطليعة بيروت، ط2، 2013، ص26.
[14] – ناصيف نصار، الذات والحضور، ص543.
[15]– فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة فؤاد شاهين، جميل قاسم، رضا الشايبي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1993، ص310
[16] – المرجع السابق، ص 311.