تكوين
يمكن القول إنَّ إقصاء المُتخيل بوصفه لونًا من ألوان الخرافة، أفقد المعرفة الإنسانية مكونًا حيويّا من مكوناتها الثقافية الفاعلة، فالقول بأنَّ التاريخ حلَّ محل الأسطورة ينفي ذلك التكامل الضمني بينهما، لأن الأسطورة تحاكي التاريخ الرسمي، من ناحية طبيعة الأبنية المتكاملة في هيكل السرد، والقدرة على تقديم مقاربات حيوية لتساؤلات مُلحة.
هذا التعالق بين الأسطورة والتاريخ ربما هو ما دفع ليفي شتراوس إلى إحالة أحداث التاريخ إلى عالم الأسطورة، وارتهن فعاليته -أي التاريخ- لحساب البنية (Structure)، وذهب إلى القول إنَّ التحليل البنيوي للأسطورة يستطيع حل بعض الإشكاليات التي يعجز التاريخ عن حلها، رافضًا المقولات التي حاول فلاسفة التاريخ فرضها مثل افتراض وجود تاريخ واحد وفق نموذج واحد، ذلك أنَّ نمو المعارف ما قبل التاريخية يكشف عن أشكال حضارية متنوعة “فالتاريخ البشري لا يشبه شخصًا يتسلق سلمًا، فيضيف بكل حركة من حركاته درجة جديدة إلى بقية الدرجات”[1].
في كتابه المعجزة في المُتخيل الإسلامي، يذهب باسم المكي إلى عدِّ المُخيلة نوعًا من الوهم والزيف أسهم في إقصاء الجانب الرمزي في الإنسان، وهو ما حدث بفعل الفكر الأرثوذكسي وعقلانية النخبة في الإسلام، ما أدَّى إلى “رمي المُتخيل والأسطوري داخل دائرة العقائد الخرافية والأدب الشعبي، أي ضمن مستوى من الفعالية الثقافية المتدنية”[2]، وبمعنى أكثر وضوحًا، ثمَّة علاقة بين التاريخ والمُتخيل أشبه بوجود ممر سحري يسمح بالانتقال بينهما، وفق آليات وتقنيات يمكن بواسطتها الانتقال بين الحقيقة التاريخية والمُتخيل الجمعي.
ويُفضي الانتقال من الحقيقة التاريخية تجاه الصور المُتخيلة، إلى عوالم فريدة تتماهى وحاجة الاجتماع إلى تأسيس صور تتجاوز ما في التاريخ الرسمي من وقائع محبطة، فالاقتصار على التاريخ الرسمي وحده مُخيب للآمال دومًا، ومن ثم يجد الانتقال إلى المُتخيل ما يُبرره، ممَّا يؤدي إلى اكتساح عدد من العناصر غير التاريخية وسط حضور مكثف وواسع للمواد المنتمية إلى دائرة المُتخيل الديني[3]، هذه العناصر بدورها تؤدي إلى فهم أكثر عمقًا لحوادث التاريخ وإدراك الأبعاد النفسية المحيطة بالوقائع.
التغريبة ودلالات المتخيل
كان الجدب هو التحدي الذي صادف القبائل فقررت الارتحال غربًا حيث تونس الخضراء، وكانت التغريبة كالتيه في منافي العرب وصحاريهم المترامية، تبدأ بالريادة من الجزيرة إلى العراق فبلاد الشام حيث مرَّ الهلايل بحلب وطرابلس والقدس وغزة عبر طريق القوافل القديم، ومنها إلى مصر ثم إلى تونس، وهو يبدو طريقًا ملتويًا غير منطقي تَحُفُّه التجاذبات السياسيَّة، وربما نكون بصدد نوع آخر من المُتخيل هو المتخيل الجغرافي، فمسارات الرحلة في السيرة تختلف تمامًا عن دروب السفر آنذاك.
خرج أبو زيد مُتنكرًا في زي الشعراء الجوالين وبصحبته الأمراء: مرعي ويحيي ويونس، في رحلة استكشاف المجهول واستشراف المستقبل، وسرعان ما يقع الأمراء في أسر خليفة الزناتي حاكم تونس القوي، ويتمكن أبو زيد من الإفلات ليعود إلى القبيلة ويقود قومه في التغريبة الأهم في التاريخ العربي لفك الأسرى واستيطان تونس.
استلهمت التغريبة قصة الصراع بين الخير والشر لتتخذ الأحداث مسارًا آخر عبر الثنائية المعروفة في القصص الديني: يوسف/إخوته، موسى/فرعون، المسيح/يهوذا، لأن إدراك المعنى يتطلب الوقوف عند ضده، وعليه يمكن إدراك المعنى الكامن لنبل السلطان حسن في لحظة القسوة المطلقة التي يُمارسها دياب بن غانم، وبالدلالة نفسها التي تتجلى بها حكمة أبو زيد في وقت جموح دياب وتهوره.
حاولت السردية تشبيه دخول الهلايل الثقيل إلى تونس بدخول بني إسرائيل إلى مصر، بعد أن نجا يوسف من مكيدة امرأة العزيز ونجا يونس من مكيدة عزيزة، وعليه مضى الراوي يصنعُ عوالم البشارات والمفارقات العجائبية، لشرعنة ما قام به الهلايل من فظائع وإلباسها ثوب البطولة والفروسية.
السرد المُتخيل يقطع خط التاريخ
كانت التغريبة الهلالية مثالًا حيًا على كيفية عمل التاريخ الموازي، وفعاليته ضمن أحداث التاريخ الرسمي، من طريق استعادة ذاكرة أيام العرب قبل الإسلام، فقد انخرط الهلاليل في حروب طويلة إثر عبورهم إلى تونس، في امتداد تاريخي للروح العسكرية التي صاحبت حرب البسوس وداحس والغبراء وغيرها من صراعات العرب القديمة.
ونتيجة لجملة من العوامل النفسية والاجتماعية قطع السرد خط التاريخ الرسمي من أجل بناء فضاء أكثر اتساعًا، لتمثيل المعتقدات والتصورات والتطلعات الموجودة عند الجماعة، من أجل صياغة ذاكرة تحفظ هُوية الجماعة وتماسكها، ومن ثمّ تُعيد إنتاج الهيمنة والسلطة “ذلك أنَّ كلَّ ذاكرة ترتبط بمجال معين، بقوة مغيِّرة تقودها، وتتحكم بتفعيلها أو تثبيطها أو مسحها أو إعادة إنتاجها”[4].
ويمكن القول إنَّ فعالية المتخيل الديني، تجلّت تجليًا أكثر وضوحًا في الملحمة الهلالية، لأن الإسلام قد دخل بوصفه متغيرًا جديدًا في قلب المعادلة، ليصنع من طريق عملية معقدة من التكيف البنائي سردية حافلة بحضور المُتخيل الديني ضمن مفاصل التاريخ الموازي للجماعة الهلالية.
ووفق ضياء الكعبي فإنَّ “النسق الثقافي الذي تَصدُر عنه السيرة الهلالية، هو نسق الجمـــــاعة، وتبرز البطولة الجماعية في تغريبة بنى هلال، إذ ينعقد لواء البطولة في هذه التغريبة للجماعة الهلالية، التي يُمثلها كلٌّ من: أبي زيد ودياب بن غانم ومرعي والجازية وغيرهم، وهم يرتبطون بهذه الجماعة التي تؤطر حركتهم في المكان”[5].
لكن البطولة الجماعية لم تمنع ظهور خط موازٍ للصراع بين النخبة الهلالية نفسها، بعد أن تحقق الهدف الأول من التغريبة وأسقط الهلايل مُلك خليفة الزناتي في تونس الذي قتله دياب بن غانم، إلِّا أنَّ هذا الصراع ربما لعب الدور الرئيس في عدم تمكن الهلايل من إقامة مُلك مستقل لهم، وعَطَّل كذلك كثيرٌ من غايات التغريبة وأهدافها، ما يتفق مع ما طرحه عبد الحميد يونس من تصور بخصوص الأمر ذاته إذ يقول: “الصراع الداخلي بين عناصر الجمع الهلالي يؤخر هذا النصر، ويعوق بلوغ الغاية إلى حين[6]“، وهو إشكال فطن العقل الجمعي إلى التساوق معه باستدعاء عالم القداسة المفارق بالإحالة على المُتخيل الديني.
ويمكن القول إنَّه ما بين الريادة والتغريبة والصراع الداخلي استلهمت السيرة الهلالية مادتها الخصبة من المُتخيل الإسلامي، بالإضافة إلى مؤثرات متعددة عَبَّرَ فيها الراوي عن مدى تفاعله مع النص القرآني والنصوص الثواني وكذا أساطير الأولين.
أثر النبي يوسف
يبدو ما يمكن أن نطلق عليه أثر يوسف ظاهرةً تصاحبنا في كثير من المواضع المركزية في السيرة الهلالية، والمقصود هنا هو التأثر الواضح بقصة النبي يوسف والتناص معها إلى درجة التطابق في معظم الأحيان.
في البداءة يتخذ الهلايل قرار الهجرة من موطنهم تحت ضغط الجفاف الذي استقر في المنطقة لسنوات سبع، تطلق عليها السيرة “المحل السبع”، حيث بات لزامًا على القبائل وهي تواجه خطر أكبر مجاعة تعرضت لها، أن تتخذ قرار الرحيل بعد أن أمحلت الأرض ووقع البلاء[7].
من الواضح أنَّ مُخيلة الراوي استدعت المفهوم القرآني “السبع العجاف”، الوارد في قصة النبي يوسف في مصر، كدلالة على القحط الذي أصاب موطن الهلالية، ومن ثم تبرير الهجرة نحو الغرب بكل ما صاحبها من صراعات وحروب وسفك للدماء.
هذا الاستدعاء الحزين ربما يؤدي نوعًا من “مزايحة الضمير”، دفعًا للثقل الذي يُمثله تأنيب الذات جراء الاقتتال مع المسلمين وقتلهم، وهو الأمر الذي كان يؤرق السلطان حسن ابن عم أبو زيد منذ مرحلة مبكرة وقبل رحلة الريادة، حيث “التفت السلطان حسن إلى الأمير أبو زيد، وقال له يا ابن العم، غدًا تجينا السلاطين، ويصير سفك الدم بيننا، ونحن إسلام، وهم إسلام… فالأوفق أن نحقن دماء المسلمين[8]“، في إشارة منه إلى الصراع المُحتمل مع ملك نجد وميله إلى دفع الجزية إليه.
ويتجلى البحث عن مبرر أخلاقي لما أحدثه الهلايل في تونس من خراب بالترويج لرواية تزعم أنّ خليفة الزناتي استخف قومه، وأنَّهم كانوا قوم سوء، أكلوا الربا وعاشوا بالحرام وانحرفوا عن طريق الدين القويم، وأنَّ ما حلّ بهم كان انتقام الله فيهم، في تناص ربما يبدو مشابهًا لحديث القرآن عن قوم فرعون.
جدل المُتخيل بين رؤيا الملك في القرآن ورؤيا الزناتي
كان عالم الأحلام دائمًا لدى الإنسان البدائي هو ذلك العالم الغامض والمربك، يعيشُ الإنسان فيه حياة موازية في أثناء نومه دون أن يعرف كيفية حدوث ذلك، فلجأ إلى محاولة تفعيل آلية عمل هذا العالم الموازي، وعدَّهُ أداة لإرسال جملة من إشارات ذات مغزى تستشرف المستقبل وتتنبأ بالغيب، ربما بطريق مباشر، مثل رؤيا خليفة الزناتي أو بطريق معقد بعض الشيء، مثل رؤيا ملك مصر في قصة النبي يوسف.
في الأساطير البابلية القديمة أحال العقل البشري الحائر والمُرتجف من الأحلام المفزعة على رابيسو شيطان الكوابيس ومُحركها، والذي يُرسل الإشارات إلى الأرواح المُثقلة بفعل الخوف أو تأنيب الضمير[9]، وربما هو الخوف نفسه الذي حرك تلك الإشارات داخل نفس خليفة الزناتي، لكن الرؤيا هنا تتجاوز مجرد حالة تفريغ الخوف والتوتر إلى استشراف المستقبل تمامًا كما حدث مع النبي يوسف وإخوته.
استدعت السيرة الهلالية كذلك دلالات الرؤيا في المنام في محاكاة لرؤيا ملك مصر الشهيرة التي حدثنا عنها القرآن في الآية 43 من سورة يوسف (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، فمع احتدام القتال بين الهلايل والزناتية حول أسوار قلعة تونس، واللجوء إلى المبارزة الفردية (حرب النصفة) بين خليفة الزناتي وأمراء بني هلال والتي أسقط فيها الزناتي كل من واجهه حان الدور على دياب بن غانم، وحدث أن حطَّ الزناتي رأسه ونام “فرأى أنه في بحر من دم يفيض ويمتلئ… فقام من منامه مُصفر اللون، مُرتعدَ الجسد، وبات الزناتي تلك الليلة وأصبح وهو متفكر في حرب دياب”، وأرسل في استدعاء الرمالين والمنجمين من كل صوب، لكن الملأ لم يفته بما يطمئن إليه[10]، ليلقي بالسؤال نفسه الذي طرحه الملك في النص القرآني: “يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) سورة يوسف/ 43.
هذه المرة تتولى سعدة ابنة الزناتي مهمة تأويل الرؤيا، تقول السيرة: أصيب الزناتي بالهم والغم فرأى منامًا فقام منه مرعوب، وهو يقول يا حماية الله المانعة، فقالت له ابنته ما الذي أهَمَّكَ يا والدي، فحكى لها ما رأى:
قال أبو سعدة الزناتي خليفة
رأيتني قناص في واسع الخلا
أقنص وحوش البر في وسط الجبل
جا سبع أروع من الحما مشمشم
فعيناه تقدح من نار تشتعل
وهما على همزة لينوشني
قتل الحصان مني فما كيف العمل[11].
فما كان من سعدة ابنة الزناتي إلّا أن قامت بتأويل الرؤيا دامعةً:
دا السبع اللي رأيته في واسع الخلا
وأضحى فؤادك من قتاله يشتعل
هذا دياب الخيل عيهور العرب
طعنه يجي كالنار لما تشتعل
والعلم لله غدًا في وسط الضحى
يظفر عليك والمهر منك ينقتل[12].
وحدث أن صدقت الرؤيا وصدق تأويل سعدة، وجاءت حربة دياب في لبة حصان الزناتي الأدهم، “فوقع قتيلًا، وفي دماه جديل[13]” في حين نجح الزناتي في الفرار إلى قلعته قبل أن يسقط قتيلًا برمح دياب بن غانم بعدها بأيام.
المرأة بين الحكمة والغواية
انحلت صورة المرأة في التغريبة الهلالية إلى نموذجين: الأول، نموذج المرأة الحكيمة التي تمثلها شخصية الجازية، في محاكاة لصورة بلقيس ملكة سبأ، والأخرى، النموذج التقليدي للغواية والذي تجلى في شخصية عزيزة ابنة السلطان معبد الوهيدي ملك تونس، التي تُمثل المُتخيل في لحظة التناص مع امرأة العزيز.
ويمكن القول إنَّ صورة المرأة بثنائيتها المعتادة (الغواية /الحكمة) قامت بتأطير حركة السرد التخييلي منذ القدم، لتكريس نوعٌ من هيمنة الرؤية التقليدية، التي صاغت بدورها إرثًا أخلاقيًا ميَّز تاريخ المرأة انطلاقًا من لحظة التأسيس لديانات الشرق القديمة مرورًا بالأديان الإبراهيمية، ليسير الخط على استقامته مُخترقًا الأدب الشعبي بالعنفوان البنيوي نفسه، وذلك عبر مستويان: الأول، يُحيل إلى الغواية الأولى التي أخرجت آدم من الجنة وصولًا إلى امرأة العزيز التي شغفها يوسف حبًا، والآخر، يُحيل إلى العفة المريمية وحكمة ملكة سبأ التي فاقت أقرانها من الملوك، وما بينهما نلحظ حالة من الفراغ فقد تجاهل الشكل السردي في تعاطيه مع الحكاية وما تحمله من خطاب، ذلك التفاوت الأخلاقي في سلوكيات النفس البشرية الواحدة.
من الملاحظ كذلك أنَّ صورة المرأة في المتخيل الديني وتمثلاته النصية والشفاهية، تُعبر عن خطاب يرتبط بالسياق السوسيو-ثقافي المهيمن على المجموعات البشرية التي تداولت تلك السرديات فيما بينها، بفعل القوة البنيوية التي يحملها الخطاب وقدرته على إزاحة الذات، وإحالتها إلى مجرد حامل لعمليات تنتظم خارجها وفق توصيف فوكو[14].
وإذا كانت السرديات الأدبية الحديثة ترى أنَّ الشكل السردي يتألف من مكونين مركزيين هما: القصة والخطاب بحيث تكون القصة هي المادة الحكائية ويمثل الخطاب طريقة الحكي[15]، فإنَّ صورة المرأة في غالبية عناصر المُتخيل السردي شهدت ارتباطًا وثيقًا بين الحكاية والخطاب، لأن النص في نهاية الأمر منتج ثقافي (خطاب) يعبر عن أولويات لحظة التأسيس المتصلة بالقيم الذكورية وحساسيتها تجاه المرأة، ومن ثمَّ لم تظهر المنطقة الرمادية ليحافظ السرد على ثنائيته الضدية فيما يتعلق بالمرأة، بوصفها مرادفًا للغواية، أو منبعًا للحكمة والأمومة المجردة، وهو ما يمكن تتبعه بوضوح في السيرة الهلالية.
وربما يمكن المرور سريعًا على ذلك الجناس اللغوي اللافت بين اسم “عزيزة” ابنة السلطان معبد بن باديس، وامرأة “العزيز” التي تحدثت عنها سورة يوسف في القرآن الكريم لتبدو كلمة عزيزة هي أحد اشتقاقات لفظة “امرأة العزيز”، لكن الباحث يتوقف هنا أمام ذلك التناص المدهش بين الروايتين، والتي شقَّ فيها النص القرآني طريقه ليستوطن السيرة الهلالية بمرونة هائلة، وتجلَّت كلُّ عناصر المخيال الديني في تكوين حالة الغواية بحكاية ذات تيمة واحدة وعدة تمظهرات يمكن الاشتباك مع بعضها.
ربما كانت أسطورة ليليث أحد أقدم الإشارات إلى غواية المرأة وهي أسطورة تتصل ببابل القديمة، وجدت طريقها إلى المرويات والكتابات اليهودية فقد كانت ليليث هي الزوجة الأولى لآدم، لكنَّها تمردت على سيطرته عليها فهربت منه وأصبحت معشوقة الشيطان، كما تُصور ليليث أيضًا على أنَّها الحية التي أغوت آدم للأكل من الشجرة المحرمة، وكانت توصف بجمالها الفتان وصفاتها المغرية، حتى قيل إنِّها كانت تتجسد ليلًا أمام الرجال كي تغريهم ثم تقتلهم[16].
وتحكي أساطير بلاد الرافدين القديمة عن الجميلة عشتار إلهة الحب والخصوبة زوجة تمّوز إله المراعي، التي يفتنها الفتى إيشولانا الذي يعمل في حدائق القصر منذ جاء إليه وهو طفل صغير، وكان شابًا في ريعانه حباه إله الشمس بالحسن والجمال، وأسبغ عليه إله الرعد من الفتوة والقوة الجسدية، حتى أنَّ النسوة كن يدرن رؤوسهن لتتملى عيوهن من جماله وفتوته، وتمضي الأسطورة لتحكي تفاصيل شغف عشتار بفتاها فلجأت إلى الحيلة لتختلي به فيأبى، وتكرر غوايتها مرة بعد أخرى حتى استدرجته ذات يوم إلى غرفتها ووقفت أمامه عارية تدعوه بكل فتنتها، فجرى من أمامها وهرعت هي تجري وراءه حافية القدمين، لكنَّه فرَّ واختفى، كما تحكي الأسطورة عن تهامس النسوة والخدم بقصة عشق عشتار لفتاها، حتى بلغ الأمر مسامع أبوها الإله آنو، الذي كان يحتضن إيشولانا مذ جاءه طفلا فقيرًا، فقرر أن يحبس ابنته في القصر ثلاثين يومًا. وفي نهاية الأمر تغضب عشتار لكرامتها وتقرر الانتقام من إيشولانا[17].
ويبدو حضور المؤثر الميثولوجي لقصة عشتار وإيشولانا في الرواية التوراتية الخاصَّة بالنبي يوسف لافتًا، فقد “كان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر” التكوين: [5-6]، فنال من قلب امرأة فوطيفار والتي لم تستطع مقاومة شغفها، “وحدث بعد هذه الأمور أنَّ امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت: اضطجع معي. فأبى وقال لامرأة سيده: هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت، وكل ما له قد دفعه إلى يدي. ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئًا غيرك؛ لأنك امرأته، فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟ التكوين [8-10]. وهنا قررت زوجة فوطيفار أن تستخدم غوايتها وتنفرد به في غيبة زوجه، فما إن دخل يوسف إلى البيت ليعمل عمله، “ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت، فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي. فترك ثوبه في يدها وهرب، وخرج إلى خارج التكوين [11-12]، وهنا قررت أن تنتقم واتهمت يوسف بمحاولة الاعتداء عليها، وانتهى الأمر بسجنه، قبل أن تشمله عناية الله في آخر القصة المعروفة.
وإذا كانت القصة في النص القرآني أضافت إلى الهم الجسدي وازعًا أخلاقيًا، لأن يوسف همَّ بامرأة العزيز مثلما همَّت به، قبل أن تحتم الطهرانية في نهاية الأمر أن يرى يوسف برهان ربه فيفلت من الغواية، لكن التعالق النصي يبقى حاضرًا بقوة في عناصر الغواية التي تُمثلها المرأة ( عشتار /زوجة فوطيفار/امرأة العزيز) في حين يرمز البطل هنا إلى معنى الصمود بدافع الوازع الأخلاقي، ويبقى الانتقام هو العنصر الثالث الذي تحيل إليه السردية في ذروة الصراع الدرامي بدافع الثأر لأنوثة المرأة وكرامتها، بعد أن جُردت من أهم أسلحتها، ألا وهي الفتنة.
في ملحمة الهلايل فرض النسق الذكوري البدوي هيمنته على الراوي، فقد كان من المحتم ألّا تصمد الأميرات في تونس أمام فحولة فرسان العرب، فسقطن الواحدة تلو الأخرى في دوامة العشق بكل تناقضاتها وفي بعض الأحيان لا معقوليتها.
في هذا السياق حفلت قصة عزيزة ويونس بتنويعات مختلفة وهي تتداخل مع حكاية أخرى للحب والغواية كانت بطلتها سعدة ابنة الزناتي خليفة، التي وقعت في غرام مرعي الهلالي، وعلى مسافة منهما وقعت قصص أخرى مشابهة عكست جانبًا من صورة المرأة في المُتخيل الشعبي.
كانت محاكاة يونس للنبي يوسف شديدة الوضوح في سردية التغريبة الهلالية “ولولا يونس عفيف من الحنا… لكن أسى النسا من كل جانب”[18]، وفي الوقت نفسه شُغِفَت عزيزة حبًا بالفتى الهلالي كشغف امرأة العزيزة بيوسف”، هامت عزيزة في حب يونس… قالت عزيزة آه يا كبر بلوتي… نار قلبي زادت لهايب”[19]، ولتمنعه ألقت به في السجن مثلما فعلت امرأة فوطيفار مع يوسف بن يعقوب.
من جهة أخرى كانت الجازية نموذجًا للأنثى “البلقيسيِّة”، التي ورثت الحكمة فكان لها ثلث المشورة في قومها، يستمع إليها الرجال ولا يعصون لها أمرًا، حتى دياب بن غانم المعروف بجموحه وجبروته لم يسلم من تحديها له في أحيان كثيرة، وكانت جلستها المعهودة في الديوان بين الأمراء والفرسان[20].
ويمكن القول إن حضور المتخيل الديني بهذا الزخم وتموضعه داخل أشهر الملاحم الشعبية، أدى وظيفة مركزية في مستويين: الأول أفقي، منح التغريبة مسحة ربانية كرست بدورها لمصداقية شعبوية منحت الملحمة القدرة على الاستمرار عبر قرون طويلة. والثاني رأسي، مدَّ جذورًا نحو عمق الثقافة العربية بتنويعاتها ومعطياتها المختلفة، ليستدعي من ذلك المخزن المتجدد طاقة هائلة، وظَّفَت الأسطوري لصالح الاجتماعي من أجل الحفاظ على هُوية الجماعة.
كما عكس التناص مع القصص القرآني قدرة الرواية الشفاهية على تجديد نفسها باستمرار، كما عكس كذلك طبيعة العقل الشفاهي في تفاعله مع النص المُدون (القرآن)، وقدرته على الاقتباس والتعديل وإعادة الإنتاج وفق طبيعة الحاضنة الاجتماعية للنص المدون، واحتياجها إلى مد خط القداسة، من طريق تكوين نصوص جديدة، تستلهم روح النص المؤسس وتبني عليها وفق القوانين التي تحكم حركة الاجتماع في التاريخ، وبطريقة يصبح معها التاريخ الموازي رافدًا لا غنى عنه لفهم طبيعة الرواية الرسمية والمجال النفسي المحيط بأحداثها، الأمر الذي يُعيد تكوين الوقائع وفهمها من أسفل إلى أعلى، لأن التعالي على المُتخيل ودوره في إنتاج الأحداث يقصي من المشهد التاريخي احتياجات الجماعة البشرية التي صنعت هذا التاريخ، ويُغفل ممرًا سحريًا غاية في الروعة صنع بدوره تاريخًا موازيًا، حاول من طريقه العقل الجمعي تجميل الوقائع من أجل الحفاظ على هُوية الجماعة ودعم قدرتها على البقاء.
المراجع:
[1] Levi Strauss, Claude: Structural Anthropology, Vol.2, London,1976, pp.337-339.
[2] باسم المكي: المعجزة في المتخيل الإسلامي، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2013، ص 23.
[3] باسم الجمل: جدل التاريخ والمتخيل، سيرة فاطمة، مؤمنون بلا حدود، 2016، بيروت، ص ص 38-42.
[4] عبد الستار جبر: الهوية والذاكرة الجمعية، إعادة إنتاج الأدب العربي قبل الإسلام، أيام العرب أنموذجًا، المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص 47.
[5] ضياء الكعبي: السرد العربي القديم، الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل، مؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، ص258.
[6] عبد الحميد يونس، مجلة الفنون الشعبية، دفاع عن الفولكلور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ع ديسمبر 2010. ص192.
[7] محمد رجب نجار: أبو زيد الهلالي، الرمز والقضية، دراسة نقدية في الأدب الشعبي، دار القبس، 1989، ص35.
[8] المؤلف المجهول: سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية، مكتبة الأندلس، بيروت، د.ت، ص 216.
[9] محمود أبوزيد: الإنسان والكون وميثولوجيا الشرق الأدنى القديم، دار غريب، القاهرة، 2010، ص 40.
[10] سيرة العرب الحجازية، الدرة المنيفة في حرب دياب وقتل الزناتي خليفة، دار الطباعة اليوسفية، القاهرة، د.ت، ص 62.
[11] نفسه، ص 64.
[12] نفسه، ص64.
[13] نفسه، ص64.
[14] سارة ميلز: الخطاب، ترجمة غريب إسكندر، دار الكتب العلمية، بيروت، 2012، ص 98.
[15] عبد الستار جبر: المرجع المذكور، ص 228.
[16] أحمد الزيني: ديمون، إبداع للترجمة والنشر، القاهرة، 2018، ص93.
[17] محمود أبو زيد: المرجع المذكور، ص ص 186-195.
[18] سيرة العرب الهلالية، الريادة البهية الأصلية الكبرى، مكتبة الجمهورية العربية، القاهرة، د.ت. ص100.
[19] نفسه: ص 100.
[20] نفسه: ص 30.