تكوين
استيقظ الفكر العربي من سبات القرون الوسطى مع بداية القرن التاسع عشر على صراع اشكالي بين أزواج مفهومية متناقضة في السياسة والمجتمع والدين. ورغم انصرام قرنين من الزمن تقريبا لم يحسم اي من الاشكاليات الرئيسية التي شكلت عناصر هذا الصراع، فلا مفهوم الدولة الديمقراطية الحديثة بات من المسلمات في الفكر السياسي، ولا سيطرة العقل وأولويته والاحتكام اليه أصبحت من الأمور النهائية، ولا اشكالية الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية أمكن الخروج منها بموقف يوائم بين الدين والحداثة، ولا أسس الدولة القومية العربية جرى الاتفاق عليها، ولا العلاقة مع ” الآخر ” التراث أو الغرب، وضعت في اطارها الصحيح الذي لا يتهدد معه أي طرف من طرفي الثنائية.
الدولة والديمقراطية والقومية
ان الدولة والديمقراطية والقومية والتراث والغرب والعقلانية والعلمانية والحداثة، كلها اشكاليات ما برحت تتفاعل بشكل سجالي في الفكر العربي، بل انها في المرحلة الراهنة بدأت تتجه نحو المزيد من التعقيد والعنف والقطيعة بما يندر بالسقوط في حرب أهلية حقيقية يتهدد معها كل الذي تحقق منذ بداية نهضتنا الى اليوم. أليس ما جرى ويجري في السودان واليمن وسوريا والعراق ولبنان وأكثر من قطر عربي، من معالم هذا السجال الذي خرج من القاعات الى الساحات، ومن صراع الأفكار والعقائد الى صراع البنادق والسكاكين، مع ما يعنيه ذلك من انقلاب حتى على الشكل الأبسط من مظاهر الدولة الحديثة؟ أليس صدور الأعداد الكبيرة من المؤلفات والدراسات والمقالات في الدوريات والصحف العربية تحت عناوين الأصالة والمعاصرة، الشورى والديمقراطية، الدين والعلمنة، العقل والنقل، العرب والغرب، دلالة واضحة تجذّر الطرح الاشكالي واحتدامه في الفكر العربي المعاصر؟
ويمكن القول ان أكثر الدراسات العربية المعاصرة في هذا الشأن لا تزال تدور في حلقة مفرغة. فكل المسائل الرئيسية في الفكر العربي الراهن ما ترال تطرح كإشكاليات لم تسفر حتى الآن عن مواقف حاسمة ونهائية، بدءا من المسألة القومية ومسألة الهوية، وصولا الى المسألة الثقافية ويبدو الطرح الاشكالي للمسألة القومية واضحا في المؤلفات السياسية والقومية واضحا في المؤلفات السياسية والقومية والايديولوجية الصادرة في الثمانينيات. فالوحدة العربية من خلال هذا الطرح هي احتمال تاريخي دونه حواجز وعوائق، وتحققه رهن بعوامل هي الأخرى مشكوك في فعاليتها. يقدم علي أومليل مثالا على هذه الوضعية الاشكالية التي حشر فيها الخطاب القومي اذ يعلّق الوحدة العربية بمجموعة من الانتظارات: “انتظار دولة ثورية وحدوية على راسها قائد تجود به الأقدار (…) وانتظار ثورة الجماهير التي تستطيع الاطاحة بالحكومة الاقليمية المعيقة للوحدة، وانتظار أن تفشل الاقليمية في الاستمرار أمام الضغط الخارجي الصهيوني”. اما محمد عابد الجابري اذ يعجز عن ايجاد مبرر واقعي للوحدة، يدعو الى وحدة عربية أساس “تآلف القلوب”. ويقف المفكر القومي خائبا أمام تحديات الوضع الراهن، ولا يجد غير الصيغ التوفيقية للخروج من مأزقه النظري. فالواقع الوحدوي كما نقرأ في تقرير عن ندوة ” الوطن العربي وتحديات الوضع الراهن ” عام 1987، مطروح على هذا الشكل: “ان الوحدة تحتاج الى نظرة واقعية (…) الوحدة الشاملة بالمفهوم الناصري ليست من المنظورات الممكنة (…) النزعة القطرية السافرة مرفوضة ومخاطرها شديدة (…) اذا المطلوب صيغة وسطى بين المنظورين “.
الوحدة العربية
وإذا كانت الوحدة العربية مطروحة كإشكالية في الفكر العربي الراهن، فان القومية العربية هي الأخرى احدى اشكاليات هذا الفكر. فهل تتحدد القومية العربية بالدين أم أن الدين هو مقوّم من مقوماتها؟ هل العروبة قبل الاسلام أم الاسلام قبل العروبة؟ هل الانتماء الى العروبة يعني الانتماء الى الاسلام بشكل من الأشكال أم أن الانتماء الى الاسلام هو غير الانتماء الى العروبة؟ تساؤلات اشكالية غطت مساحة كبرى من الفكر القومي في العقدين الأخيرين. وبين قول زين نور الدين زين في كتابه ” نشوء القومية العربية “: فقد ظل العرب يشعرون أنهم عرب لأنهم يتكلمون العربية ولأنهم يؤمنون بدين واحد :”الاسلام “وبين قول الجابري في “مسألة الهوية ” : ثنائية قائمة على اللبس، على عدم تحديد دقيق للمفاهيم (…) الانتماء الى وطن والى قومية شيء واعتناق دين من الأديان شيء آخر “. بين هذين القولين تستمر العلاقة بين العروبة والاسلام مطروحة في صورتها الاشكالية.
ومسالة التراث ما تزال تطرح اشكاليا من خلال عشرات المؤلفات والدوريات في العقود الأخيرة. فالمشكلة كما عبر عنها عبد المجيد بوقرية في كتابه ” الحداثة والتراث ” هي ” كيف يوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يغلب منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟ “. بقاء التراث في الوعي العربي على هذا الشكل بعد قرابة قرنين على صدمة الحداثة يعني أن علاقتنا بالتراث لم تستقم. اذ المشكلة الحقيقية ليست في هذه المؤامة بل في تجاوز هذه الوضعية الاشكالية الى علاقة غير متوترة بالتراث، علاقة طبيعية به، كتراث.
إقرأ أيضا: المفاهيم المؤسسة للعقل العربي المعاصر
وتدخل العقلانية أيضا في سياق الطرح الاشكالي، فحدود العقل ومسلماته والاحتكام اليه وموقعه في الفكر العربي وعلاقته بالنقل، كلها موضوع أخذ ورد وتساؤل ونقاش، كأن الأجواء التي رافقت صراعات المعتزلة والأشعرية ما تزال سائدة الى لآن، وكأن سيادة العقل ما برحت أمرا قابلا للجدل، فهل الحكم للعقل أم للنقل، للنقد أم للتسليم، للأصل أو للاجتهاد؟ تساؤلات هي بعد مشروعة ومقبولة.
حتى “النهضة ” هي ذاتها مفهوم اشكالي فهل ” النهضة ” بالعودة الى الوراء (التراث) أم بالقفز الى الأمام (الحداثة)؟ هل هي في احياء الأمس أم في الغرب استحضار “حاضر” الغير بعملية قيصرية؟ هل النهضة باعتناق مبادئ ليبرالية الغرب أم في الاخلاص لروحية “الأصول ” التراثية؟ أسئلة لا اتفاق في الاجابة عليها ولا تصور موحد في التعامل معها.
أما العلمانية فهي الاشكالية الأكثر احتداما في الفكر العربي الراهن. فالاختلاف على تحديد معنى الكلمة واسع، والتناقض حول مضامينها كبير. هل تعني فيما تعنيه “المادية” و”الالحاد” أم انها تعني “العلمانية ” أو “الدنيوية ” التي لا تتنافى مع الدين والايمان؟ هل هي “الموقف الحر للروح أمام مشكلة المعرفة “كما يقول محمد أركون، أم أنها “نتوء ” شاذ نظرت اليه الأمة دائما باعتباره رمزا للخيانة الحضارية ” كما يعتقد محمد عمارة؟ اشكال دارت حوله مؤلفات ودراسات واسعة في أكثر من دورية، من دون أن يحسم وما تزال الشقة عميقة بين أنصار العلمانية وبين من يرون فيها تهديدا أكيدا للحضارة والتراث.
السجال الدائر حول الديمقراطية
ولم يستقر السجال الدائر حول الديمقراطية حتى الآن، فطرح الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر جاء مصحوبا بتوتر اشكالي عنيف. ذلك أن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، بقوانين مدنية تسنها الأكثرية الشعبية وتعني أيضا قيام مجتمع مدني مستقل بقوانينه وأعرافه ومؤسساته. وليست الصيغ التوليفية التي خرج بها “الديمقراطيون ” في المرحلة الأخيرة سوى افتراضات وتقديرات قد لا ترضي أحدا في العمق، لأنها تبقى عاجزة عن حل الاشكال الأساسي العميق في تحديد المرجعية الأخيرة للأحكام والقوانين: المجتمع المدني أم القانون المتعالي؟
وتأخذ مسالة الآخر (الغرب) أبعادا اشكالية خاصة في الفكر العربي الراهن. فالغرب قد طرح منذ فجر النهضة العربية كتحد حضاري لقيمنا ومفاهيمنا، وتأخرنا أيضا. وهو يطرح الآن بحدة أكبر مع اتساع الفجوة الحضارية بيننا وبينه. يطرح كآخر حضاري وكآخر استعماري في الوقت ذاته، كنموذج يجب الاقتداء به وكإرادة سيطرة وهيمنة يجب أن تقاوم. ووسط هذا التناقض تبقى صورة الغرب غير محددة وغير واضحة، وتبقى علاقتنا به مهتزة وغامضة وملتبسة.
أساس كل هذه الاشكالات وخلاصتها أن ثقافتنا ذاتها هي ثقافة اشكالية. مفهومنا للثقافة متناقض في العمق. فهل الثقافة الحقيقية هي رفض الماضي جذريا أم اعادة انتاجه؟ هل هي تكريس المفاهيم والقناعات السائدة أم هي تقويضها باستمرار لإقامة مبادئ ومفاهيم أخرى متساوقة مع العصر؟ هل المثقف هو المدافع عن الأعراف والمؤدلج للأفكار والمعتقدات السائدة أم هو الثائر على هذه الأعراف والأفكار والمعتقدات المشفوف أبدا بهاجس التقدم والتحول؟ كل هذه التساؤلات تتفاعل مع الفكر العربي الراهن ولم يصل أكثر الذين كتبوا في هذا الموضوع الى تصور يمكن أن يبدد الصورة الاشكالية للثقافة العربية.
هذه الاشكالات كلها ما هي في النهاية سوى مظاهر مأسوية لحداثة عربية متعثرة، حداثة قيد الدرس لأمة لم تبلغ سن الرشد، ولم تستطع بعد أن تملك زمام حاضرها وغدها. ان الانسان العربي ما برح رهين تاريخه ولم يتسنّ له بعد أن يفلت من ربقة القيود التي كبلت عقله وارادته واحلامه، لينجز مشروع حداثته وينظر الى التراث والآخر من مواقع ثابتة، وليس كمحددات “لأناه ” على حد اعتقاد محمد عابد الجابري، بحيث يمكنه أن يتخلص من أسر الاشكاليات التاريخية لينطلق في فضاء العقلانية الرحب.
ان العقلانية التي بدأت تباشيرها في الفكر العربي مع محمد أركون وناصيف نصار وهشام شرابي وآخرين، مع ما بين هؤلاء من اختلاف، هي السبيل الأكيد لإنجاز مشروع حداثتنا المتعثر الذي بدأه روّاد نهضتنا الحديثة، وهي الأمل الوحيد لبناء فكر عربي جديد. فتأسيس العقلانية وتأكيد سيادة العقل وارساء ثقافة ثورية مسكونة بهموم التطور والتحول والصراع الحضاري هي نقطة الانطلاق في نظرنا للخروج من مأزق المنحى الاشكالي الذي حشر فيه الفكر العربي. أما محاولات التوفيق والتلفيق والمواءمة والتبرير، فهي في صيغتها السلفية أم في صيغتها الليبرالية، تأبيد للإشكاليات التاريخية ولمأزق الأمة في صراعها مع تاريخها.