تكوين
الوعي هو أساس ماهية الإنسان في الفلسفة والدّين
مهما تختلف التّيّارات الفلسفيّة ومها تتنوّع، فإنّها جميعها تُعمل الفكر لتطرح أسئلة جوهريّة حول الإنسان والواقع. وليس فعل التّفلسف إلاّ تساؤلا عن فعل الوجود وماهية الإنسان. ومن هذا المنظور فإنّ الفلسفة تتّفق مع الدّين لأنّ الدّين هو أيضا يتساءل عن الوجود وماهية الإنسان ويحاول أن يقدّم لهما تفسيرا. وما تكرار عبارة: “يسألونك” في القرآن إلاّ دليل على ذلك، وهذه التّساؤلات تبلغ أقصاها عند السّؤال عن الرّوح (الإسراء، 85).
وقد قدّم البحث الفلسفيّ أجوبة كثيرة عن ماهية الإنسان لعلّ أهمّها الجواب الدّيكارتيّ من خلال “الكوجيتو”: “أنا أفكّر، إذن أنا موجود”. ويبدو هنا أنّ ديكارت يجعل الفكر أساس الوجود. فهل يعني هذا أنّ ذاك الّذي لا يفكّر ليس موجودا؟ هل من المنطقيّ حصر الإنسان في ملكة من ملكاته وهي ملكة التّفكير؟ ليس هذا المقصود طبعا. فديكارت لم يبلغ الكوجيتو إلاّ من خلال الشّكّ. إذ أصل العبارة هي: أنا أشكّ إذن أنا أفكّر إذن أنا موجود. وأهمّ ما في هذه العبارة هو الضّمير: أنا، إذ لئن كان الشّكّ والتّفكير أنشطة عرضيّة قد تحضر وقد تغيب، فإنّ الأنا، أو بالأحرى ما يحيل عليه الأنا، هو الموجود بذاته. صحيح أنّ الأنا هو ضمير متحوّل بتحوّل مستعمليه من البشر، ولكنّ هذا التّحوّل يستند إلى ثبوت جوهريّ وهو الماهية البشريّة المشتركة الّتي تمثّل واحدة من أهمّ القضايا الّتي تهتمّ بها الفلسفة. وليس إقرار الاشتراك في الماهية الجوهريّة بين البشر إقرارا فلسفيّا فحسب، وإنّما تعبّر عنه الأديان أيضا. فهي إذ تتّجه إلى النّاس جميعا دون أيّ إقصاء تخاطب المشترك البشريّ فينا. فالخطاب القرآنيّ مثلا يتّجه إلى النّاس عموما، وحتّى توجّهه إلى الّذين آمنوا يظلّ توجّها عامّا لأن لا أحد قادر على تحديد المؤمنين سوى الله تعالى وحده.
الفلسفة والدّين إذن يخاطبان المشترك البشريّ فينا. فما هو هذا المشترك؟ وإلى أيّ ماهية جوهريّة يستند؟ وكيف يتجسّم في الفلسفة وفي الدّين؟
ليس المرء في حاجة إلى عميق نظر ليلاحظ أنّ كلّ شيء في الكون يمضي ويتحوّل. عقارب السّاعة التي تدور، أو ثوانيها المتراقصة على شاشة الهاتف الجوّال، أفعال اللّغة توزّع وفق الزّمن إلى ماض وحاضر على الأقلّ، كتب التّاريخ وحكاياه، رحيل الأحبّة والأصدقاء. على أنّ أقرب ضروب التّغيير إلينا وأشدّها حميميّة هو تغيّر أنفسنا. الصّور الفوتوغرافيّة القديمة المهملة في أحد الأدراج تحمل وجه طفل قيل لك إنّه أنت، تلك الشّعرات البيض نراها ذات صباح في المرآة، ولا نعرف كيف تسلّلت في غفلة منّا إلى خصلات شعرنا، تلك الصّور تغزونا كلّما مررنا بمكان وُشم في ذاكرتنا: مدرسة الصّبا، طريق سلكناه مع الأصدقاء، شجرة كان لنا تحت ظلالها الموعد الغراميّ الأوّل…
ومع ذلك، فما الّذي يسمح لكلّ واحد منّا بأن يقرّ أنّ الأنا هو الأنا رغم كلّ ضروب التّغيّر وصنوف التّبدّل؟ ما الّذي يسمح لنا بتحديد ماهية واحدة للإنسان؟ ما الّذي يسمح لنا بأن نقول إنّ ذاك الشّاب الضّاحك الممشوق القوام مرتديا بزّة الرّياضة ناظرا إلى الحياة نِظرة تحدّ ورهان، هو نفسه ذاك الشّيخ المنحني الهرم الّذي ألقى كلّ أسلحته ورفع رايته البيضاء أمام تصاريف الزّمان؟ من يسمح لنا بأن نكون موقنين يقينا لا يزعزعه شكّ ديكارتيّ بأنّ هناك استمراريّة مّا، بأنّ هناك تسلسلا مّا يشدّ جميع مراحل حياتنا ويخوّل لنا أن نقول: “أنا”…
من يسمح لنا بذلك هو ما لم يتغيّر فينا. من يسمح لنا بذلك هو من شهد الحكاية كلّها من بدئها إلى منتهاها في هذه الحياة. هذا الّذي لا يتغيّر هو الشّاهد الوحيد، هذا الّذي لا يتغيّر هو العين الّتي أبصرت الحكاية. هي ليست عين الحسّ ولكنّها عين الرّوح، الأولى تُرى في المرآة، والثّانية لا تُرى لأنّها هي الّتي تَرى كلّ شيء.
المنزلة البشريّة: خصوصيّة دون سائر الكائنات
هذا الشّاهد الّذي يدرك كلّ شيء هو ما تسمّيه الفلسفة الوعي، وهو ما تسمّيه الأديان الرّوح. إنّه الوجود الجوهريّ أو هو الذّات المدرِكة القصوى. وتعريف الإنسان فلسفيّا بالاعتماد على ماهيته كذات واعية هو تعريف جامع مانع. فإذا كان الحيوان يدرك ما تمكّنه حواسّه من إدراكه، فإنّ هذا الإدراك لا يشمل وعي الحيوان بنفسه، إذ الحيوان ليس واعيا بأنّه حيوان في حين أنّ الإنسان واع بأنّه إنسان. ولذلك كانت للإنسان في المنظومة الدّينيّة منزلة مخصوصة بالنّسبة إلى سائر الكائنات. وهو ما يضفي على الإنسان بعض سمات المقدّس، إذ أنّه هو الّذي يحمل الوعي البشريّ من المنظور الفلسفيّ، وهو الّذي يحمل نفخة الرّوح الإلهيّة من المنظور الدّينيّ.
اقرأ أيضا: الإنسان ومفهوم الشخص البشري بين الفلسفة والدين
فلسفيّا، الإنسان أكبر من أيّ موضوع من المواضيع الّتي يدركها. فلا يمكن حتّى تلخيصه في جسده، فمن الشّائع أن يتماهى الإنسان مع جسده، فيقول: هذه يدي، أو هذه رجلي. لكن ماذا لو تصوّرنا شخصا فقد يده أو رجله في إحدى الحروب، هل يكفّ عن أن يكون إنسانا؟ هل تضيع هويّته الأصليّة؟ لو أصابت إنسانا جلطةٌ أو فَقَدَ السّمع، أو حقن وجهه مرّات ومرّات ب”البوتوكس”، هل سيكتسب هويّة مختلفة؟ في أيّ موضع بالضّبط من الجسد نجد هويّة المرء، أفي عينيه أم في أنفه أم في معدته؟ يمكن أن يتماهى الإنسان مع انفعالاته، فيقول: أنا حزين أو أنا غاضب. ولكن، هل يختفي الإنسان عندما يسكت عنه الغضب أو يمرّ حزنه؟ بعض النّاس يتماهى مع أفكاره. يتصوّر أنّه المخترع الفلاني أو صاحب النّظريّة العلاّنيّة. لكن لو تصوّرنا أنّه أصيب بالآلزهايمر، ونسي كلّ ما “ابتكره” من أفكار عبقريّة، فهل يفقد هويّته؟
ما نودّ التّذكير به هو أنّ الجسد والانفعالات والأفكار هي مجرّد صور وأشكال، في حين أنّ الوعي البشريّ الجوهريّ هو ما يهب المرء قيمته. ولذلك فإنّ الإنسان دالّ لا يحيل إلاّ على نفسه، ولذلك يظلّ الإنسان جديرا بالكرامة البشريّة حتّى وإن فقد كلّ شيء. وفي هذا المجال يقارن كانط بين قيمة الإنسان والأثمان المادّيّة، ويؤكّد أنّه لئن أمكن أن نعطي للثّمن نظيرا له ويمكن أن نتبادلهما، فنقول مثلا إنّ كمّيّة من الدّولارات تساوي مثلا كمّية من الأورو أو تساوي بضاعة من البضائع، فإنّ ذلك التّبادل مستحيل بالنّسبة إلى الإنسان لأنّ قيمة الإنسان الجوهريّة تتجاوز أيّ ثمن من الأثمان. ويقرّ كانط بأنّ الكرامة البشريّة ليست عرضا ولا اختيارا وإنّما هي جوهر الإنسان نفسه.
وتؤكّد الأديان أيضا هذه القيمة المخصوصة للإنسان الّذي خُلق في أحسن تقويم (التّين، 4) والّذي اختار قبول الأمانة والاضطلاع بها رغم عسر المهمّة وصعوبتها (الأحزاب، 72). بل إنّ هذا الكائن الواعي متميّز عن سائر الكائنات إلى حدّ أنّ الله تعالى أمر الملائكة بالسّجود له (الكهف، 50). إنّ الأديان تحتفي بالوعي البشريّ إذ تجعل من الإنسان خليفة الله في الأرض من منظور الإسلام، وإذ تعتبر أنّ الإنسان خُلق على صورة الله من المنظورين المسيحيّ واليهوديّ.
الأنا والآخر/الوعي الأخلاقيّ
لمّا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الواعي بنفسه، فإنّ بإمكانه أن يرقّي تلك النّفس أو أن يرذّلها. “ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها”(الشّمس، 7-8). والكائن الواعي بنفسه يمكن أن يساءَل عن أفعاله، وهذه المساءلة هي من مقوّم أساسيّ من مقوّمات الأديان.
ومسألة الفعل تمرّ بنا من السّؤال الفلسفيّ الكانطيّ: ماذا يمكن أن أعرف؟ إلى سؤال الفلسفة البرغماتيّة، وهو ماذا يجب أن أفعل؟ وهذا السّؤال متّصل أشدّ الاتّصال بوعي الإنسان بنفسه ذلك أنّ الوعي بالذّات يفترض بالضّرورة الوعي بالآخر. ولا نعني الآخر هنا بصفته موضوعا ينتصب أمام الذّات شأنه في ذلك شأن جميع الموضوعات الّتي تقع تحت طائلة الوعي أو الإدراك. وإنّما نعني بالآخر هنا تلك الذّات الأخرى الّتي تنتصب أمامنا بخصائصها وسماتها ورغباتها وتمثّلاتها، وهي قد تختلف مع خصائصنا وسماتنا وتمثّلاتنا ورغباتنا بل وقد تتعارض معها. والوعي الفلسفيّ لا يطرح في هذا المستوى العلاقة: ذات/موضوع، وإنّما يطرح العلاقة: ذات/ذات، وهو يحملنا بالضّرورة إلى ما يسمّى الوعي الأخلاقيّ.
وقد طُرحت قضيّة الغيريّة في الفلسفة من منظور الوعي الأخلاقيّ. وأهمّ من طرحها هو الفيلسوف ليفيناس الّذي أقام أبحاثه على نقد هوسيرل وهيدغر على أساس أنّ فلسفة الوعي لديهما لا تركّز على الاعتراف بالآخر من حيث هو وجه آخر منّي. فما معنى ذلك؟ معناه كما يقول ليفيناس أنّ: “الإنسان هو الكائن الوحيد الّذي لا أستطيع أن ألتقي به دون أن يكون هذا اللّقاء جوهر علاقتي به”. مرّة أخرى، نتأكّد أنّ الإنسان ليس موضوعا بالنّسبة إلى الإنسان الآخر، وذلك بحكم الوعي المشترك بينهما. وهذا الوعي يحيلنا وفق ليفيناس إلى مفهوم هامّ لديه، وهو مفهوم المسؤوليّة، فكلّ واحد منّا هو بشكل من الأشكال مسؤول عن الغير. ألا يمكن أن نقرأ في هذا المنظور حديث الرّسول الشّهير: “كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته”، بعيدا عن منطق التّراتبيّة الاجتماعيّة المعياريّة ليكون ذلك الحديث إشارة إلى الرّعاية في معناها الإطيقيّ، تلك الرّعاية الّتي يفرضها علينا المشترك البشريّ الّذي أسلفنا الإشارة إليه؟
إنّ المسؤوليّة الّتي يحتفي بها ليفيناس هي مسؤولية أخلاقيّة، وهو يجعل من الوجه محملا رمزيّا لهذه المسؤوليّة. ولا يفيد الوجه في هذا المستوى معناه المادّي، فقد أسلفنا أنّه لا يمكن اختزال الإنسان في أيّ من أبعاده المادّيّة. وإنّما الوجه يفيد في فلسفة ليفيناس الهشاشة البشريّة الجوهريّة الّتي تخاطب الآخر، وتطلب منه جوابا بل تطالبه به. الوجه لا يني يذكّر بالمسؤوليّة الّتي يحملها كلّ منّا تجاه الآخر وتجاه أنفسنا بما هي آخر للآخر. إنّ الوعي الأخلاقيّ يجب أن يكون أساس العلاقات والمعاملات البشريّة. وذاك الّذي يخرق هذا الوعي الأخلاقيّ لا يُلحق ضررا بذات واحدة أخرى، وإنّما هو يُدخل اضطرابا عميقا على الجامع البشريّ بين البشر. وليس من الصّدفة أن تؤكّد الأديان نفسها ذلك. فالقرآن يشير إلى أنّه “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل النّاس جميعا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا…” (المائدة، 32). إنّ الوعي الجوهريّ أو نفخة الرّوح الإلهيّة مشتركان بين كلّ النّاس، وإكرام الآخر هو إكرام لهما. بل لعلّنا نؤكّد أنّ الفلسفة تعدّ الوعي الإنسانيّ وجها من وجوه تجسّم المطلق، وأنّ الأديان تعدّ نفخة الرّوح وجها من وجوه تجسّم الألوهيّ فينا. ومن هنا نفهم أنّ المسيحيّين يعتبرون أنّ رفض استضافة الفقير ورفض قبوله هو رفض لله تعالى نفسه (وفق إنجيل متّى)، ونفهم أنّ الإسلام يعتبر أنّ العمل يجب أن يكون عملا لوجه الله (الإنسان، 9).
إنّ الفلسفة والدّين كليهما، وإن اختلفت منطلقاتهما، يجعلان الوعي جوهر ماهية الإنسان، ويتّفقان في اعتبار أنّ هذا الوعي هو الّذي يعطي للإنسان منزلة متميّزة بين سائر الكائنات. وكلّ من الفلسفة والدّين يجعلان الوعي الأخلاقيّ احتفاء بالمشترك البشريّ بما هو في نهاية المطاف المطلقُ أو الرّوح الموجودة بين ظهرانينا، والّتي تتجاوز جميع مكوّناتنا المادّية الفانية. أليس هذا كفيلا بأن يجعلنا نتذكّر دوما أنّنا أغصان شجرة واحدة، أو أعضاء جسد واحد، وأنّنا جميعا مهما نختلف ونتنوّع ونتعدّد نشير ضرورة إلى الأصل الواحد الّذي لا ثاني له؟