تكوين
تروم هذه المقالة التوقف عند بعض الإكراهات التي تواجه أغلب أنظمة المنطقة العربية المنخرطة في تصفية الإرث الإسلامي الحركي، بعد عقود من تبني ودعم وترويج المشاريع الإسلامية الحركية، بل وصل الأمر إلى فتح أبواب المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية للرموز الإسلامية الحركية في عدة دول عربية، مشرقية ومغاربية وخليجية، على الأقل حتى منعطف 2011، لأنه مباشرة بعد هذا المنعطف الذي مرت منه المنطقة، سوف نعاين انخراط بعض دول المنطقة في مراجعات بخصوص احتضان الإسلاموية، وأفرزت عدة قرارات سياسية، مقابل إبقاء أنظمة أخرى على السياسات نفسها، أو تبني خيار وسط بين السياسات القديمة والسياسات المعاصرة، وقائم على علاقة مد وجزر بين دوائر صناعة القرار والمشاريع الإسلاموية.
يهمنا هنا حالة الأنظمة السياسية التي كانت صريحة في الإعلان الرسمي عن أخذ مسافة من التحالف مع الإسلاموية، بل انخرطت في عدة مشاريع مضادة، هدفها إصلاح ما يمكن إصلاحه، بعد عقود من تغذية مخيال شعوبها بخطاب الإسلاموية، عبر أدبيات ومنصات ومؤسسات.
هناك عدة مبادرات تصب في طرق مرحلة ما بعد الطلاق بين مشروع الدولة الوطنية الحديثة، ومشاريع تنص أو تدعو أدبياتها إلى “إقامة دولة الخلافة”، من قبيل إعادة النظر بخصوص الحضور الإسلاموي في المؤسسات الدينية والتعليمية وغيرها، إطلاق مشاريع ثقافية وفكرية وترفيهية وغيرها، من باب تغذية خيار الطلاق بين المشروعين، عدم التساهل مع ترويج الخطاب الإسلاموي، ضمن مشاريع أخرى.
ثمة محددات نزعم أنه يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار من قبل صانع القرار في الدول المعينة بهذا الخيار، وتصب في مصلحة التحالف القائم بين الإسلاموية والدول المحتضنة لها، داخل وخارج المنطقة العربية، ونتوقف عند ثلاثة منها على الأقل:
ــ يُفيد الأول أن انتظار نتائج هذا الطلاق البائن بين المشروعين، لن يتم بين ليلة وضحاها، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها أن مخيال شعوب المنطقة تعرض لعملية شحن بخطاب الإسلاموية طيلة عقود مضت، بسبب إكراهات سياسية وجيوسياسية، محلية وإقليمية ودولية، ويكفي التذكير بما جرى أثناء تفاعل بعض الدول العربية مع الحرب الأفغانية الأولى بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان في 1978، أو تبعات غزو العراق للكويت في صيف 1990، أو ما جرى بعد اندلاع أحداث 2011، عندما كانت بعض دول المنطقة تفتح الباب لمشاريع إسلاموية جهادية بهدف الإطاحة بهذا النظام أو غيره، قبل انقلاب الأنظمة نفسها ضد الجماعات نفسها، ووصفها بأنها إرهابية، مع أنها إلى وقت قريب كانت في خانة الحلفاء، ومن كانت ذاكرته قصيرة، بإمكانه البحث قليلاً في شبكة الإنترنت عما قامت به تركيا في هذا المجال، ضمن أمثلة أخرى.
ــ يُفيد المحدد الثاني أن استعجال ظهور نتائج مرحلة ما بعد الطلاق البائن، ومن ذلك نتائج المبادرات التي انخرطت فيها الدول المعنية بهذه المراجعات، من شأنه أن يساهم في تأزيم المشهد عوض تغذية مؤشرات الانفراج، لأنه كان علينا انتظار بضعة عقود حتى نعاين نتائج التحالف بين الأنظمة نفسها والإسلاموية، الدعوية والسياسية، والحال أنه لا يمكن معاينة أولى نتائج مرحلة ما بعد الطلاق في بضع سنوات، وحتى أولى البوادر الإيجابية التي كشفت عنها الساحة تبقى نسبية، لأن هناك معركة سوف تستغرق وقتاً كبيراً في سياق الجواب على تأثير سياسات ما بعد الطلاق، عنوانها تأثير “أسلمة المخيال”، بما يحيلنا على المحدد الثالث.
ــ يهم هذا المحدد تأثير أدبيات الأسلمة على مخيال شعوب المنطقة بشكل عام، وهو التأثير الذي أنتج لنا ما قد نصطلح عليه “أسلمة مخيال” شعوب المنطقة.
المقصود بأسلمة المخيال، أن يُصبح مسلماً مّا، لا علاقة له بأدبيات إسلامية حركية ما ــ كأن تكون أدبيات إخوانية أو أدبيات جهادية ــ من المتأثرين بالأدبيات نفسها، رغم عدم وجود أي علاقة تنظيمية مع هذه الجماعات والتيارات، ومن بين أهمّ أسباب ذلك، تعرضه لتأثير ودعاية الخطاب الإسلامي الحركي، إمّا عبر الفضائيات أو عبر شبكة الإنترنت أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر المنابر الإعلامية والبحثية، ومنها العديد من مراكز “أسلمة المعرفة”.
ويعتبر خطاب هذه الفئة المجتمعية من بين الهدايا المجانية التي تصب في مصلحة المشاريع الإسلاموية، ما دام الأمر يهم فئة مجتمعية تتبنى خطاب حركات إسلامية دون أن تكون منتمية بالضرورة إلى المرجعية الإسلاموية. وأن يكون هذا المحدد من بين أسباب فوز الأحزاب السياسية الإسلامية في الاستحقاقات الانتخابية، فالأمر هنا تحصيل حاصل بتعبير المناطقة.
قد يعترض نقاد الإسلاموية، بصرف النظر عن ماهية هذا النقد كأن يكون نوعياً أو متهافتاً، بالإحالة على نتائج عدة استحقاقات انتخابية جرت في المنطقة خلال السنوات الماضية، وأفضت أو أكدت تراجع الأحزاب الإسلاموية، من قبيل ما جرى في تشريعيات المغرب وتونس ودول أخرى، والحال أن هزيمة الإسلاميين في هذه الانتخابات لا يفيد هزيمتهم في العمل الأهلي والإعلامي والنقابي والطلابي والنسائي، أو قل إن تراجع الإسلاميين انتخابياً لا يُفيد تراجعهم مجتمعياً.
في هذا السياق الخاص بتأثير أسلمة مخيال شعوب المنطقة، يصعب أو يستحيل حصر عدد الأمثلة التي تترجم تأثير أسلمة مخيال الشارع، من قبيل العديد من القضايا التي تندلع بين الفينة والأخرى، وتتميز باختلاط محددات السياسة والدين والإيديولوجيا، دون أن ينتبه إلي ذلك الرأي العام، ولا يمكن لومه على ذلك، لكن المعضلة هنا أن عدم الانتباه لدور أو ثقل هذه المحددات، نعاينه حتى عند الباحثين والمتتبعين، وما أكثر الأمثلة في هذا السياق.
في خريف 2006، أصدر الشيخ يوسف القرضاوي رأياً فقهياً، وصفته جريدة “التجديد” ــ وهي يومية مغربية ناطقة باسم حركة “التوحيد والإصلاح” الإخوانية ــ بأنه “فتوى”، يجيب فيها عن سؤال بشأن التعامل الاضطراري بالقروض البنكية من أجل الحصول على مسكن، منتهياً إلى إباحة التعامل بحجة أن المغرب يغلق الأبواب أمام البنوك والمعاملات الإسلامية. وقد استدل الرجل بفتوى “المجلس الأوروبي للإفتاء للأقليات المسلمة في أوروبا”، تجيز لهم شراء بيوت للسكن عن طريق القروض البنكية، وقال “أعتقد أن الأساس الذي بنيت عليه الفتوى للأقليات المسلمة في أوروبا ينطبق على الإخوة بالمغرب، ما دامت الأبواب مسدودة أمامهم لامتلاك بيت بطريق غير طريق البنك التقليدي، فيجري عليهم ما يجري على إخوانهم في دار الاغتراب”.
سوف نصرف النظر عن عدة خلاصات من وحي هذا النموذج، أقلها أنه يكشف طبيعة تفكير العقل الإخواني في التعامل مع مؤسسات الدولة الدينية، لأنه في نهاية المطاف، المغرب (وأي دولة مسلمة)، ليست جمهورية موز، تفتقد إلى دار إفتاء حتى ينتظر الرأي العام رأياً فقهياً من الخارج، إلا أن العقل الإخواني المعني، لم يتردد في نشر الرأي الفقهي لأحد رموز المشروع.
الذي يهمنا هنا أن مثل هذه القضايا ساهمت في تكريس أسلمة مخيال المجتمع المعنين وهذا عينُ ما جرى طيلة أربعة عقود على الأقل، والأمر نفسه مع العديد من القضايا التي تكشف عنها وسائل الإعلام أو في مواقع التواصل الاجتماعي، ولن تكون آخرها القضية التي أثيرت في مصر حول “تربية الحيوانات والإنفاق عليها”.
ونزعم أن عدم اشتغال الباحثين في المنطقة العربية على الأقل ــ فالأحرى في السياق الأوروبي حيث توجد جاليات أو أقليات مسلمة أو في سياقات أخرى ــ على معالم أسلمة المخيال هذه كما هي سائدة ومهمينة في مواقع التواصل الاجتماعي، مؤشر دال على عدم الوعي بأهمية الموضوع، هذا إن لم يكن في مقام اللامفكر فيه.
أسلمة المخيال هذه، مقام من مقامات تزييف الوعي، ومؤكد أن هناك عدة أنماط من تزييف الوعي الذي تعرض له العقل الإسلامي الجمعي في المنطقة العربية منذ حقبة ما بعد الاستقلال، وعن عدة مرجعيات، وليس هذا مقام المقارنة التفصيلية بين هذه الأنماط، إلا أن المعضلة مع تزييف الوعي باسم الدين الذي جرى مع الحركات الإسلامية، أنه كان ينهل من المقدس، وكان مفترضاً أن يبقى الأمر شأناً إسلامياً حركياً، خاصاً بهم، هم أدرى بترويج أدبيات “المفاصلة الشعورية” و”الجاهلية” و”الخلافة على منهاج النبوة” في التنظيم، لكن الإشكال أن هذا الخطاب تسرب شيئاً فشيئاً إلى مخيال المجتمع، وأصبحت نسبة من خطاب هذا المجتمع تفكر بعقلية إسلاموية كما لو كانت تابعة لها، مع أن الأمر ليس كذلك.
إذا كانت أربعة عقود من الأسلمة أفضت إلى هذه النتائج التي نعاينها في المنطقة العربية، دون الحديث عن نتائج نعاينها في الساحة الأوروبية أيضاً ومجالات أخرى، ذات صلة بأسلمة مخيال فئات مجتمعية يصعب حصرها، فلنا أن نتخيل كم ستستغرق عملية التقليل من آثار الظاهرة.