منذ وفاة النبي محمد، أمسّى الإسلام في اكتماله من ناحية انتهاء عملية الوحي، قبل تجميعه في مصحف، بينّما هو ما زال قرآنا شفاهياً تتعدد نسخ تلاوته وقراءته، بحسب اللهجات المتفاوتة للمنتمين للدعوة المحمدية (وهم من خلفيات قبلية وقومية متباينة)، داخل الحيّز الزماني بما فيه من صراعات وتنافس على مسألة الإمامة والحكم أو الخلافة والسياسة.
فيما يحفل التاريخ الإسلامي بالعديد من الوقائع التي تؤشر إلى هذا الصراع الذي سيتشكل على تخوم محاولات مأسسة الدين، وتوظيفه في إطار شرعنة الممارسات والإجراءات السياسية البراغماتية. وذلك من خلال إعادة إنتاج النص الذي ستلحق به المدونة الحديثية وسيتم تضخيمها لتكون مصدراً في التشريع إلى جانب النص المؤسس، الأمر الذي سيصل ذروته في فترة الخلافة العباسية. ومن مصحفة القرآن إلى نشوء الفقه وتشكيل سلطة الإجماع كان، حتماً، الجهاز الثقافي يتولى تحديد نطاق رؤية الجماعة المتسيدة للحكم، وتأويلها للدين، وشكل الإيمان كما في نموذج الوثيقة القادرية. الأمر الذي يتجاوز مسألة تعميم رؤية إكراهية لا يمكن الخروج عليها أو الطعن في مشروعيتها إلى تشكيل كتل صلبة ممانعة في مواجهة مسار الجبرية الدينية والسياسية ومركزية الدولة/ الخلافة التي تحكم باسم “الإسلام”.
استدارة الإسلام القصوى مع معضلة الخلافة ووضعه في إطار الجدل بين الإمامة والسياسية، لإدارة الحكم بواسطة المقدس، قد تسببت في نزاعات جمّة للحصول على شرعية وتفويض إلهي لتحقيق التمكين والملك. وقد تفاوتت هذه النزاعات وخلفت معها تكتلات متباينة، بداية من حروب مانعي الزكاة، مثلا، في عهد أبي بكر الصديق والتي عرفت كذلك بحروب الردة على خلفية رفض بعض القبائل تأدية الزكاة للخليفة أبي بكر وقد اعتبرت الأولى تمردها وعصيانها يعني أن خضوعهم للنبي محمد كان بمثابة خضوع إيمان وليس إذعانا سياسيا.
من هو مؤسس الاسلام السياسي؟
وهنا رفض الانتقال من الوحدة الدينية وسلطة النبي إلى الولائية السياسية وسلطان الخلافة. مع الاخذ في الحسبان أن قتال أبي بكر كان لحماية الدولة ومركزيتها. فيما لم يكن هناك أي ملمح للردة والكفر بين هذه القبائل، وقد وقعت خلافات عنيفة بين الخليفة وعمر بن الخطاب على مسألة قتاله لهؤلاء الذين ينطقون بالشهادتين حتى قال أبو بكر لعمر: “والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه”.
وفي كتابه “حد الردة”، يشير المفكر المصري أحمد صبحي منصور إلى أن “حروب الردة هي مجرد حركة مسلحة استهدفت القضاء السياسي على الدولة الإسلامية، وقد واجهها أبو بكر الصديق بالسلاح نفسه، ليدافع عن الدولة الناشئة، وبعد إخمادها دخل أبو بكر الصديق بالعرب، عصراً جديداً بالفتوحات في العراق والشام”. فيما ألمح صبحي منصور إلى أن موقف بكر الصديق، لا يعد مرجعية تشريعية يمكن الاستناد إليها، وقد اصطدم بموقفه عمر بين الخطاب وبعض الصحابة الآخرين، وذلك في ما يمكن اعتباره اجتهادا سياسيا. بيد أنه “أصاب في موقفه السياسي والحربي، واستطاع أن ينقذ المسلمين من تلك الهجمة القبلية المتخلفة”.
إقرأ أيضاً: الإنسان بين الدين والتديّن
ويكاد لا يختلف رأي صبحي منصور عن مقاربات المؤرخين والمفكرين والمستشرقين، منهم خليل عبد الكريم وإلياس شوفاني وهشام جعيط أو المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن أو الانجليزيين برنارد لويس ومونتغمري وات. فكل هؤلاء اجتمعوا على فكرة مفادها أن الصراع كان تمرداً سياسياً قبلياً وأن القبائل المتمردة اعتبرت وفاة النبي نهاية للاتفاق معه، والأمر يحتاج لصيغة جديدة مع الخليفة الجديد. الاستثناء الوحيد مع المستشرق منتغمري وات الذي اعتبر في إطار تعاطيه التام مع المصادر الكلاسيكية للتاريخ الإسلامي أن النزاع في حروب الردة له هذا الوجه السياسي، إنما أيضاً كان انقلاباً على مجمل البنية الاجتماعية والدينية الإسلامية.
غير أن المستشرق برنارد لويس ألمح إلى أن استعمال كلمة “ردة”، مراوغة لغوية وتوظيف حمولاتها المعنوية في إطار تأبيد التصور الديني للأحداث باعتبارها خروجاً عن الدين.
وفي كتابه: “شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة”، ينقل خليل عبد الكريم بيتا من الشعر لطلحة الأسدي يؤكد فيه المعنى والافتراض السابقين. ويقول الأسدي:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا … فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثنا بكرا إذا مات بعده … وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
الخلافة الاسلامية
التطورات التي لاحقت الخلافة الإسلامية وتسببت في نشوء “الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية التي قام بها حرفيون وفلاحون وعبيد ضد نظم إقطاعية وربما عسكرية لا تقبل إلا الولاء المطلق”، كما يوضح الباحث المصري محمود إسماعيل، في كتابه: المهمشون في التاريخ الإسلامي”. المهمشون في الإسلام هم في الحقيقة أفكار ومذاهب وشخصيات رافقتها أحداثا ليست بالهينة. بل إنها نجحت بحسب أحمد صبحي منصور في تحقيق “إسهاماتها الصغيرة في إجبار النظم الإسلامية على إصلاحات نسبية في بعض الأحيان”. ومن بين الثورات التي قادها المهمشون ثورة الزنج “الأولى” بالعراق في فترة عبد الملك بن مروان، لكنها تعرضت للتشنيع نتيجة سيادة “القومية الأموية العربية كمبدأ للسيادة في العصر الأموي”، فضلاً عن رغبة الخلافة في تلك المرحلة بنفي أي “وجود مشكلات اقتصادية واجتماعية في ذلك الحين”.
والثورة “الخشبية في العراق” في الفترة ذاتها، وقد طاولت الأزمة الاقتصادية فئات متباينة منهم النجارون. وبينما شملت هذه الثورة كما غيرها أوصاف منها أنها “شيعية” إلا أن صبحي منصور يقول إنها بمثابة حراك احتجاجي اجتماعي وثورة بغض النظر عن طبيعة المذهب. بالتالي يرفض صاحب “المهشمون في التاريخ الإسلامي” الأوصاف الشائعة على هذه الحركات التي يمكن اعتبارها هبات أو ثورات بهدف شيطنتها ووصف أصحابها بمسميات طائفية وفي خانة الهرطقة. ويطابق حديثه بمقاربات عديدة أنه في الفترة الأموية كانت هناك ثورات تحدث في عدة مناطق منها الأندلس نتيجة سياسات تعسفية للعمال والحرفيين تتصل بالأجور الشحيحة أو التمييز العنصري فضلا عن العمل بالسخرة. وفي بلاد المغرب، ظهر التصوف وقد صعد في فترتي حكم المرابطين والموحدين، حيث كان نموذجا للاحتجاج على الأوضاع الصعبة اجتماعيا وسياسيا.
ويمكن القول إن الشيعة الإسماعيلية كانت المرجعية الأيدولوجية للعديد من الثورات في الفترة العباسية. وتقوم دعوتهم على مبدأ الإمامة بحمولته السياسية والمذهبية. واصطدم المذهب بحالة الإقطاع العسكري في تلك الفترة، الأمر الذي خلق تناقضات طبقية نجح أن يتسلل من خلالها القرامطة لتعبئة المضطهدين من العوام والمنبوذين اجتماعيا وسياسيا ودينيا وفئويا وحتى هوياتيا. نسبتهم ترجع إلى الإمام السابع إسماعيل بن جعفر الصادق. وفي خلافة المعتمد العباسي اندلعت ثور القرامطة التي حملت الأيدولوجيا السابقة الإطار المرجعي لتحقيق العدل وإنهاء الظلم والجباية التي يقوم بها الولاة العباسيون. قائد الثورة حمدان بن الأشعث، أحد أبرز مروجي مذهب الشيعية الإسماعيلية. وانطلقت الحركة السرية سياسيا ودينيا في نشر دعوتها والتحريض ضد العباسيين من جنوب العراق وتسيدت مناطق جغرافية أخرى في بلاد الشام التي خضعت لسيطرتهم.
ومن بين الحوادث المهمة لتلك الفترة، هي انتشار الأوبئة في غالبية الإمارات الإسلامية لكن المناطق الخاضعة لنفوذ القرامطة لم تفتك بها هذه الامراض المتفشية. بل إنها تمتعت برخاء اقتصادي وامتد نشاطها التجاري بين الهند والصين.
غير أن حادثة أخرى ربما تكون لها أهمية ودلالة أخرى، تتصل بالاستيلاء على الحجر الأسود عام 317 هجريا، وذلك أثناء تواجد القرامطة في مكة، تحت قيادة أبي طاهر الجنابي. ولا تحمل عملية الاستيلاء على الحجر الأسود بقداسته المعروفة أي أغراض دينية كما تروج بعض المصنفات الإسلامية ضمن تشنيعها على المهمشين والمعارضين (منها بناء كعبة جنوب اليمن). بل إن ذلك كان وسيلة ضمن وسائل الضغط لتحقيق أهداف سياسية تفاوضية. وقد عاد لمكة عام 340 هجرياً. وقد استمر أكثر من ربع قرن تقريبا دون أي يشرع القرامطة في بناء الكعبة.
بقى القرامطة في الحكم لقرنين، واعتبر مؤرخون هذه الفترة تشي بـ”تجربة اشتراكية” في الإسلام على نحو ما يقول المفكر المصري أحمد عباس صالح في كتابه: اليمين واليسار في الإسلام”. وقد شهدت تلك الفترة تأسيس ما يمكن اعتباره ممثليات أو هيئات تنظيمية نقابية للعمال والحرفيين حسب التخصص.
إذاً، نحن أمام عدة حركات ثورية، منها ثورة الزنج الأولي والثانية، الخشبية بالعراق، الحدادين بالأندلس، عمر بن حفصون بالأندلس، حميم المفتري بالمغرب الأقصي، والحرافيش بمصر، والصقورة بالمغرب والأندلس. وقد جاءت، مثلاً، ثورة عمر بن حفصون بجنوب شرق الأندلس، والتي بدأت في الظهور أواخر القرن الثاني الهجري، وسط ملابسات سياسية وتاريخية معقدة، إذ أدى الظلم الاجتماعي والخلافات على أساس قومي إلى احتراب أهلي وتمزيق الأندلس إلى 23 إمارة. وامتدت ثورة بن حفصون لنحو نصف قرن ضد السلطة الأموية لدرجة أن هددت السلطة المركزية في قرطبة. ونجح بن حفصون مع المولدين أن يلملم شتات الفئات الضعيفة والمهمشة فضلا عن البربر وغير العرب. فأسس دويلات مستقلة في عدة مناطق منها بنو موسى وبنو مروان. ورغم محاولة قرطبة هزيمتهم عبر ثلاث جيوش متتالية إلا أنها أخفقت في محاولاتها. انبعث الصراع بسبب تهميش المولدين في الدولة الأموية وقد قال أمير الدولة الأموية في الأندلس، محمد بن عبد الرحمن: “إن مذهبنا أن نقصر خططنا هذه النبيهة على أبناء موالينا، وأهل السابقة في خدمتنا”.
هذه الصراعات ولدت جدالات واسعة لا يمكن فهم بعض تداعياتها من دون استيعاب مسألة أن الدين في لحظة ما بعد وفاة النبي قد تحول في يد الفئات المنخرطة في التنافس السياسي إلى أداة ينبغي تطويعها السياسي بحيث تضمن نفوذ أو بالأحرى تشرعن مركزية الدولة/ الخلافة. بالتالي، كانت الحركات السرية في الإسلام والفرق الباطنية والمهمشين بسردياتهم الدينية والسياسية احتجاجاً على مركزية السلطة ونزاعا مع ما يمكن تسميته بالدين الرسمي. وقد استمر هذا الجدل على مدار التاريخ الإسلامي.
ومثل أي سلطة لها خطابها الديني أو السياسي وجهازها المفاهيمي، كان في المقابل هناك الخصوم والمعارضين بسردياتهم المعارضة وغير الرسمية والهامشية. فيما يقول الدكتور أحمد سالم في كتابه: “إقصاء الآخر”، إن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة في مسائل الفكر والاعتقاد هي البداية الفعلية لقضية إقصاء الآخر. ويبرر أصحاب المعتقدات المغلقة أنهم أصحاب الحق والهداية بناء على توظيف المقدس في تبرير موقفهم. من ثم، سعت معظم أقطاب الفرق الإسلامية سواء أهل السنة، أو الشيعة، أو الخوارج، أو المرجئة، أو المعتزلة، إلى الاستشهاد بالسنة في تعضيد وتدعيم كون الحق في معتقد فرقتهم دون غيرها. ويعتبر أهل السنة هم أهم فرقة وظفت السنة في تبرير صدق مواقفها، وتدعيماً لعقيدتها في مواجهة أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى.
وتعد من بين أبرز الأحاديث التي وظفت أيديولوجياً في قضية الإقصاء بين المذاهب الإسلامية، حديث (الفرقة الناحية ). ويروي أبو هريرة عن الرسول: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة”. ولقد لعب هذا الحديث دوراً مهماً ورئيسياً في مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة. فكان لهذا الحديث دوره البارز في ترسيخ الإقصاء للآخر لدى أهل السنة في مواجهتهم للفرق الإسلامية المخالفة لهم. وقد وظف عبد القاهر البغدادي حديث الفرقة الناجية في كتابيه: (الملل والنحل ) و(الفرق بين الفرق) ليدلل على أن الحق في جانب أهل السنة. فيقول: “إن النبي لما سئل عن الفرقة الناجية قال: ما أنا عليه وأصحابي، وليس اليوم فرقة على ما كان عليه أصحاب النبي سوى أهل السنة وفقهاء الأمة ومتكلميهم، دون أهل الأهواء من القدرية، والرافضة، والخوارج، والجهمية، والنجارية، والمجسمة”. ويستند الشهرستانى إلى السنة أيضاً لإقصاء الفرق الأخرى وتشويهها فيقول: “شبه النبي كل فرقة ضالة من هذه الفرق بفرقة ضالة من الأمم السالفة فقال: “القدرية مجوس هذه الأمة”.
فيما اعتمدت مدونات الملل والنحل على آليات للتشهير والتسفيه برموز وشخصيات وأفكار الفرق والمذاهب الإسلامية المغايرة لهم، وفق الدكتور أحمد سالم. بل تحمل فضائح وتشنيعات وليست آراء لمذاهب مغايرة. فيرى البغدادي، مثلا، أن القدرية أو المعتزلة عشرون فرقة، وحين يعرض آراء كل فرقه نجده يقول: “سنذكر فضائح كل فرقة ما يكشف عن كفرها إن شاء الله”.
كما أن ابن حزم اعتبر آراء الفرق المغايرة لأهل السنة عبارة عن “فضائح” و”ضلال” بالجملة، ومنهم الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة. ويقول ابن حزم: “قد كتبنا في ديواننا هذا من فضائح الملل المخالفة لدين الإسلام الذين في كتبهم من اليهود والمجوس ما لا بقية لهم بعدها، ولا يمترى أحد وقف عليها، أنهم في ضلال وباطل، ونكتب إن شاء الله على هذه الفرق الأربع من فواحش أقوالهم ما لا يخفى على أحد أنهم في ضلال وباطل، ليكون ذلك زاجراً لمن أراد الله توفيقه عن مضامينهم، والتمادي فيهم”.
بالتالي يبدو هدف ابن حزم واضحاً في التشهير بهذه الفرق، وفضح آرائهم لمنع الناس من الانضمام إليهم، أو ترغيبهم في الخروج عن عقائد تلك الفرق، ومحاصرة تلك المذاهب المغايرة للسنة.
وعلى الرغم من أن الزيدية هم أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة فإننا نجد الملطى ينتقد الزيدية من الشيعة، ويرى أن الفرقة الأولى منهم “أعظمهم قولاً، وهم الذين يكفرون الصدر الأول، وسائر من يَنشَئوا أبداً إذا خالفهم، ويرون السيف والسبي، واستحلال الأموال، وقتل النساء، وليس في الإمامية أكثر ضرراً منهم في الناس، إنما بقدر ما يخرج الواحد منهم يضع السيف والحريق، والنهب، والسبي، وكان منهم على بن محمد صاحب البصرة سبى العلويات، والهاشميات، والعربيات، وباعهن مكشفات الرؤوس بدرهم ودرهمين، وأفرشهم الزنوج والعلوج، واستباح دماء المسلمين، وأموالهم، وإهراق الدماء، وقتل الأطفال، وإحراق المصاحف والمساجد”.
ويُشهر الملطى بالطائفة الإسماعيلية من الشيعة في تشبيههم بممارسات اليهود في الملبس وأنهم “يتحنون بالحناء، ويلبسون خواتيمهم في أيمانهم، ويشمرون قمصانهم وأرديتهم كما تصنع اليهود”.
ويقول أحمد سالم: “مهما كان الخوارج مجتهدين في الطاعة، وفى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فقد وصُفوا في دائرة أهل السنة والسلف بأنهم أنجاس أرجاس، ولا يمكن أن يتطهروا أبداً”. ففي إحدى روايات كتاب “الشريعة” للآجرى (360 هـ) يقول: لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء عصاه لله – تعالى – ولرسوله وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ليس بذلك بنافع لهم، لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون ، ويموهون على المسلمين، والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس”.
وتكاد لا تختلف الأوصاف التي طاولت الجهمية سابقتها، فاتهم جهم بن صفوان بأنه يشتق معظم معتقداته من السمنية وأنهم “إنما سموا جهمية لأن جهم بن صفوان كان أول من اشتق كلامه من السمنية، وهم صنف من العجم بناحية خراسان، وكانوا شككوه في دينه حتى ترك الصلاة أربعين يوماً، وقال: لا أصلى لمن لا أعرفه، ثم اشتق هذا الكلام وبني عليه من بعده”.
وطاول المعتزلة التشويه ذاته في مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة. فيما باتت آراء المعتزلة عند علماء الأشاعرة بمثابة فضائح يستوجب كشفها، والرد عليها، ويبدو أن بعض أعلام الأشاعرة مثل البغدادي الإسفرايينى وغيره قد استعانوا بكتاب ابن الراوندى “فضائح المعتزلة” لتشويه آراء المعتزلة والنيل منهم، فنجد الشهرستانى يطلق على المعتزلة “مخانيث الخوارج”. إذ “سميت المعتزلة بمخانيث الخوارج، لأن الخوارج لما حَكموا من تأييد عقاب الفاسق سموه كافراً، وزعمت المعتزلة أنه موحد مطيع، وفيه إيمان وطاعات كثيرة، وهو مع ذلك مخلد في النار، إنما لم نسمه مؤمناً لأن هذا من أسماء المدح، ولا يوصف الفاسق باسم المدح”.
وعمدت كتب الملل والنحل لأهل السنة إلى تشويه رموز المعتزلة والقدح في شخصياتهم وأعلامهم، وذلك رغبة في محاصرة المذهب، وإقصاء الناس عن إتباعه، فنجد البغدادي يعيب على واصل بن عطاء (ت131هـ) أنه كان ألثغ. فيقول: “وأما لثغته في الراء فمن مثالبه، لأنها تمنع من كونه مؤذناً وإماماً للقارئين لعجزه عن القول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن يقول: “الله أكبر، وكان لا يصح منه قراءة آية فيها الراء ، وكفى المعتزلة خزياً من لا يصلح صلاتهم خلفه”.
وفي المقابل، هناك من كتب الشيعة نفسها من يكفر أهل السنة، ومن ذلك ما ذكره أحد أبرز عالم الشيعة الأثنى عشرية محمد بن يعقوب الكلينى ( ت 329 هـ ) في كتابه: “الكافي” من أن كل المسلمين ارتدوا بعد رسول الله وأكدوا صراحة على كفر كل من لم يؤمن بأئمة الشيعة الأثنى عشرية. وأما الخوارج فقد ظهر أيضاً تطرفهم وتعصبهم مبكراً عندما كفروا علياً وعثمان، والحكمين عمرو بن العاص، وأبى موسى الأشعري، وأصحاب الجمل، وكل من رضي بتحكيم الحكمين. كما أنهم كفروا أيضا مرتكب الذنوب فما كان من أهل السنة إلا أن كفروهم كما يكفرونهم، وكان الخوارج أكثر عنفاً في مسألة التكفير، ولهذا لم يكتب لمذهبهم الانتشار إلا في جبال عمان، وفى بعض جبال شمال أفريقيا، وفق صاحب: “إقصاء الآخر”.
الخوارج السياسيين
وكان أهم مبادئ الخوارج السياسية هو “وجوب الخروج على السلطان الجائر، وإن كان على رأيهم”. وفي كتاب: “إقصاء الآخر” يقول الدكتور أحمد سالم إن آراء الخوارج كانت أيضا متطرفة إزاء الخلفاء والأمراء والسلاطين. فكانت “أول فرقهم المُحَكمة يكفرون سيدنا عثمان بن عفان لأنه ولى رقاب المؤمنين ولاة الجور، ويكفرون سيدنا عليا لأن علياً حكم المحكمين، وخلع نفسه عن إمارة المؤمنين، فحكم بغير ما حكم الله فكفر وقد قتلوا سيدنا علياً على يد عبد الرحمن بن ملجم”.
ويردف: “لعل أهم المبادئ الثورية –من الناحية السياسية– هو موقف الخوارج من الإمامة لأنهم (جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم، وبايعه الناس على العدل واجتناب الجور كان إماماً، ومن خرج عليه يجب نصب القتال ضده، وإن غير السيرة، وعدل عن الحق، وجب عزله أو قتله، وجوزوا ألا يكون في العالم إمام أصلاً، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبداً أو حراً، أو نبطياً، أو قرشياً). وهذا الرأي الثوري في الإمامة يتعارض مع دعوة أهل السنة أن يكون الإمام حراً، وأن يكون من قريش”.
إثر وفاة على بن أبى طالب، كان الخوارج بمثابة الحزب السياسي المناهض للأمويين بسبب أفكارهم الجريئة في نظام الحكم حيث يرفضون مبدأ الوصاية، والإمامة ونظام الوراثة، وهو أمر أدى بهم إلى ترك بصمات واضحة على المسار النضالي الثوري الذي استهدف بني أمية وأطاح بهم. وخاضت فرق الخوارج حروباً عدة ضد الدولة الأموية ساعدهم فيها الموالى من كافة الأجناس، وكان أول موقف يتخذه الخوارج في العصر الأموي “هو التحالف مع عبد الله بن الزبير حين شارك نافع بن الأزرق (أحد أبرز زعمائهم، ومؤسس فرقة الأزارقة المتطرفة المنسوبة إليه) في الدفاع عن مكة ضد القائد الأموي الحصين بن نمير. غير أن هذا التحالف كان مرحلياً فقط، حيث وقع الانفصال المرتقب بين الطرفين وأدى إلى عودة بعضهم إلى البصرة بقيادة ابن الأزرق، والآخر إلى اليمامة مع نجدة بن عامر الحنفي زعيم الفرقة النجدية”. وحدث أن خرج عبد الله بن الزبير ضد الأزارقة، وقامت الحرب بين ابن الزبير والأزارقة في موقعة كان نصيبها النصر في أغلبها للأزارقة مما زاد من فزع أهل البصرة إلى أن استطاع المهلب بن أبى صفرة القضاء عليهم، وطردهم من ناحية نهر دجلة سنة 66 هـ، وانتصر المهلب انتصاراً حاسماً، بعد أن ظل الموقف يتأرجح طويلاً بين الفريقين، وقد قتل في هذه المعركة عبد الله بن الماحوز قائد الأزارقة”. يقول أحمد سالم في كتابه: “إقصاء الآخر”.
إقرأ أيضاً: إشكالية الدين والدولة الحديثة 6
رغم أن المرجئة بفرقها المتنوعة تعتبر فرقة عقائدية أكثر منها سياسية، إلا أنها تخالف الخوارج في تكفيرهم الخلفاء الثلاثة عثمان وعلى ومعاوية وأنصارهم. وقد ذهبوا إلى القول بأن كل من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر، وأن ذلك متروك لله وحده مهما كانت الذنوب التي اقترفها، وهم يرجئون أمر الحكم على إخوانهم إلى الله وحده. ولهذا فقد “لعبت المرجئة دوراً مهماً في التوفيق بين المصالح المتعارضة، بين العرب وغيرهم من المسلمين، حيث كان هناك تمييز بين العرب وباقي طوائف المسلمين من العجم والموالى.. وذهبت المرجئة إلى أنه لا يحل للحكومة أن تعامل هؤلاء كما لو كانوا لا يزالون على كفرهم بعد أن أصبحوا مسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وعلى هذا كانوا لا يتحرجون من قتال أية حكومة تقر بمثل تلك المظالم، ومن ثم لا ندهش بعد أن وقفنا على أحداث الشدة والعسف في بلاد ما وراء النهر، أن نرى هؤلاء يحرمون سفك الدماء البريئة، ويجهرون بأن جميع المسلمين أخوة في الدين، وكان ما ينشده المرجئة إنما هو العودة إلى مبدأ المساواة بين الشعوب الذي أقره الإسلام، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”.
ولقد خرج قطاع من أعلام المرجئة وعلى رأسهم سعيد بن جبير وغيره مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته ضد بني أمية، وضد ظلم الحجاج بن يوسف. فيقول المقدسي: “إن عبد الرحمن بن الأشعث جمع الجموع، ودعا القراء إلى مناجزة الفاسق الحجاج بن يوسف، وصاحبه عبد الملك بن مروان فأجابه الخلق، وأقبل إلى الطرق في جمع مثل عدد النحل فيهن الشعبي، وسعيد بن جبير، وابن أبى ليلى، وسويد بن غفلة ، وجعفر الجعفى، وواقع الحجاج في ثمانين وقعة بالكوفة والبصرة، وقتل من جيش الحجاج ثمانية آلاف رجل، وأمد عبد الملك بن مروان الحجاج بأخيه محمد وابنه عبد الله، وأسر الحجاج من أصحابه ثلاثة آلاف رجل فضرب أعناقهم، وهرب ابن الأشعث إلى سجستان، وعند ربة رتبيل قبض عمارة بن تميم على ابن الأشعث، ولكن ابن الأشعث رمى نفسه من أعلى قصر فمات”.
ومن مشاهير المرجئة القدرية غيلان الدمشقي، وهو قبطي مصري أسلم، ثم نزل بالشام واستوطنها، وأخذ القول بالقدر عن معبد الجهنى البصري، عندما زار مكة في العقد الثامن من القرن الأول الهجري، واختاره عبد الملك بن مروان مؤدباً لولده سعيد، وكان غيلان من خاصة عمر بن عبد العزيز فقد قربه واستمع إلى مواعظه، واعتمد عليه في تنفيذ خطته الإصلاحية، ولكن عمر لم يلبث أن جفاه، حين ظهر من غيلان ما ظهر من العدل والتوحيد، فقد كان يدعو إلى القدر بقوله ورسائله، فاستدعاه عمر وجادله في مقالته، واستتابه ثم كان من خاصة هشام بن عبد الملك، وفى أيامه رجع إلى القول بالقدر، ودعا الناس إليه وحرضهم على الثورة على بني أمية، ورفض نظريتهم في الخلافة، وأنكر سياستهم المالية، فقبض هشام عليه وأعدمه.
غيلان الدمشقي كان مقرباً من خلفاء بني أمية لما عرف عنه من تقواه وورعه، وبلاغته، وكان يؤتمن على تربية أولاد الخلفاء، وصحبه البعض الآخر منهم، ولكن كانت قضية غيلان الدمشقي الأساسية في خروجه على الخلفاء، وكان يرى أن الإمامة أو الخلافة تجوز في غير قريش، ولهذا قتل لا بسبب معتقداته الدينية، كما ترى مدونات الملل والنحل لأهل السنة. فـ”غيلان كان لا يكف عن التعرض لخلافة بني أميه وسياستهم، مقارناً بينها وبين سيرة الرسول الكريم، ومبيناً خروجهم عن الإسلام ومحاربتهم له، وتعطيلهم لحدوده، واستقطابهم لأهل البغي والضلال، واعتمادهم عليهم، وإبعادهم لأهل التقوى والفضل وقهرهم لهم”.
ويرجح الرأي التاريخي في تصفية المرجئة القدرية في عهد بني أمية أن تلك التصفية، لم تكن لأسباب دينية كما تُظهر كتب الملل والنحل لأهل السنة، بل كانت لأسباب سياسية، وذلك على الرغم من قرب بعض أعلام القدرية الأوائل من خلفاء بني أمية فترة من حياتهم، فقد أهدر الخلفاء الأمويون دماء القدرية، ولم يتحرجوا من إعدام رؤسائهم الذين عظم أمرهم، وتفاقم خطرهم، وإن كان بعضهم من أصدقائهم المقربين، فمع أن عبد الملك بن مروان عين معبداً الجهنى معلماً ثم سفيراً إلى بلاد الروم، فإنه لم يحجم عن الإذن في حبسه وقتله. وعلى الرغم من أن غيلان الدمشقي كان صفياً لهشام بن عبد الملك إلا أنه لم يتورع عن الأمر بإعدامه حين تمرد عليه وجرده من حقه في الخلافة المطلقة ، فقد قتله هو وصاحبه صالح بن سويد ومزقهما تمزيقاً.
ومن أتباع الجهمية كان الجعد بن درهم وقد قتله خالد بن عبد الله القسرى فيقول الدارمى: “ألا ترى أن الجعد بن درهم أظهر بعض رأيه في زمن خالد القسرى، فزعم أن الله تبارك وتعالى لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فذبحه خالد بواسط، يوم عيد الأضحى، على رؤوس من حضرة المسلمين، لم يعبه به عائب، ولم يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك وصوبوه”. وكان الجعد بن درهم أيضاً من الخارجين على بني أمية، فالجعد بن درهم كان من مرجئة الجبرية الذين انضموا إلى يزيد بن المهلب الأزدى عندما ثار على يزيد بن عبد الملك في العراق في مطلع القرن الثاني، وأعلن خلعه، ونادي بأن تكون الخلافة شورى بين المسلمين، وبأن يعمل الخلفاء بالكتاب والسنة”.
طبيعة علاقة المعتزلة بالسياسة قلقة وقد ظهرت في الفترة بين عامي 100-110 هـ في عهد الدولة الأموية، ولم يكن لهم أية مواقف معلنة من الدولة الأموية، نتيجة المآلات التي انتهت إليها فرق مثل القدرية والخوارج والشيعة في العصر الأموي من تصفية. ولهذا لم يكن هناك ظهور يذكر للمعتزلة في العهد الأموي.
ولكن ومع بداية العهد الجديد للدولة العباسية فإن صداقة وطيدة، كانت قد نشأت بين عمرو بن عبيد وأبى جعفر المنصور. وقد بدأت قبل خلافة المنصور، واستمرت بعد خلافته. بدأ الذيوع والانتشار للمعتزلة في العصر العباسي الأول بصفة عامة، وفى عهد المأمون بصفة خاصة، ومع ذلك تبرز كتب الملل والنحل لأهل السنة أنه كان هناك سجن وتضييق على أعلام المعتزلة قبل المأمون. فيقول الملطى “عن معتزلة بغداد، وعن بشر بن المعتمر أنه حمل الاعتزال والأصول الخمسة إلى بغداد، ودعا إليه الناس، فتفشى قوله، فأخذه الرشيد وحبسه في السجن، فجعل يقول في السجن رجزاً مزاوجاً في العدل والتوحيد والوعيد، حتى قال أربعين ألف بيت لم يسمع الناس بشعر مثل ذلك فألهم الناس بنشدها، فقيل للرشيد: ما يقوله في السجن من الشعر أضر على الناس من الكلام الذي بينه”.
ورغم الحوادث الجزئية البسيطة من الاضطهاد فقد استطاع المعتزلة قبل تولى المأمون الخلافة أن يقدموا إنجازاتهم الفكرية، وقد تهيأت الظروف لانبثاق عقليات معتزلية جمعت بين استيعابها للفكر الإسلامي الأصيل، وبين إطلاعها على الفكر الأجنبي، ولقد شهدت تلك الفترة تفتح رجال مثل أبى الهذيل العلاف، والجاحظ، وبشر بن المعتمر، وثمامة بن الأشرس، ومعمر بن عباد، وغيرهم من فحول المعتزلة ذوى المذاهب بطاقة أصيلة من فكرهم، وهيأوه أيضاً للسيطرة السياسية بعد ذلك في عصر المأمون.
وتواصلت مرحلة السيطرة المعتزلية بقوة السلطة السياسية، منذ عهد المأمون حتى نهاية عهد الواثق. وفي هذه الفترة حاول المعتزلة بقوة السلطة السياسية فرض عقيدة خلق القرآن، وتعذيب من يرفض أن يقربها، وتعاملوا مع شريحة الحنابلة كما كان يتعامل أهل السنة مع الفرق المغايرة لهم في عهد الدولة الأموية من الإقرار بالتعذيب والقتل مع أعلام القدرية والخوارج والشيعة. ولذا يرى جمال الدين القاسمى في كتابه: تاريخ الجهمية والمعتزلة”، أن “ما فعله المعتزلة في الأثرية – السلف – كان انتقاماً لاضطهاد سابق، ومقابلة له بالمثل، إذ كان للأثرية – السلف – دولة في عهد الأمويين، وكانت أقوالهم في تكفير مخالفيهم من الجهمية، ورميهم بالزندقة وهدر دمهم، تغرى بهم، وتحفظ الأغراء عليهم”.