لطالما شكَّل البحثُ في علم الماورائيات هدفًا أساسًا لمعظم الفلاسفة الذين تطرَّقوا إلى المسألة، إما عن طريق نظرياتهم الخاصة، وإما عن طريق تقييم نظريات سواهم من الفلاسفة. والميتافيزيقيا الأرسطية هي مجموعةٌ مؤلَّفةٌ من أربعة عشر مقالًا وضعها الفيلسوفُ الإغريقي أرسطو Aristote (384 ق. م- 322 ق. م)، وجُمعت بعد وفاته. والحقيقةُ أن عنوان “ميتافيزيقيا” لا يعودُ إلى فيلسوفنا، بل إلى الفيلسوف الإغريقي أندرونيقوس الرودسي Andronicos de Rhodes (في القرن الأول ق. م)، فهو الذي جمعَ الكتب ونظَّمها، فأصبح مصطلح “الميتافيزيقيا” (ميتا: ما بعد، وفيزيقيا: علم الطبيعة)، عُنوانًا لمقالات أرسطو المصنَّفةُ بعد مؤلَّفاته عن الفيزياء أو البحوث الطبيعية. أما هو فاستخدم مفهومَ “الفلسفة الأولى”، وهي العلمُ الذي يبحثُ في الوجود كما هو، أي من ناحية المبادئ الكلِّية التي تجعلُ الوجود موجودًا. وقد أُطلق على هذه الفلسفة أسماءٌ مثل “العلم الإلهي” أو “الحكمة” لأنَّ مبحثها يتضمنُ مفهومَ “المحرّك الأول”، وهو المبدأ الأول للوجود.
أولاً: الردُّ الأرسطيُّ على نظرية المُثُل الأفلاطونية
“الأفلاطونيون أصدقاؤنا، لكنَّ الواجبَ المقدَّس يُملي علينا، في المفاضلة بين الحقيقة والصداقة، أن نختار الحقيقة دومًا”.
وقد ترجمَ أرسطو رأيهُ هذا في كلِّ ما بحثَ من موضوعاتٍ، ومن أبرزها “الفلسفة الأولى”. فقيَّم نظرية المُثُل الأفلاطونية واعتبرَ أنها لا تعطينا توضيحًا عن كيفية العلاقة بين المثال والأشياء، ولا تفسِّر منطقيًا أساس الوجود. فالقول إنَّ الأشياء صورٌ للمُثُل وأنَّ المُثُل تشاركها في الوجود، هو قولٌ أقربُ إلى الشاعرية التي رفضها أرسطو مضيفًا: إذا كانت هذه المُثُل ثابتةٌ، فينبغي أن تكون صُورها كذلك ثابتة، لكنَّ العالم في تغيِّرٍ مستمرٍّ وفي الأمرُ تناقضٌ واضحٌ.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ ماهية الشيء يجب أن تكون فيه لا خارجهُ، بينما تعمَّدَ أفلاطون Platon (427- 348 ق.م.) فصلَ المثال عن الشيء وهذا خطأٌ، فهو بنى نظامًا يزيد فيه التعالي La transcendance بقدر ما نعلو في الهرم الميتافيزيقي الذي ينقلنا من عالم المحسوسات إلى بلوغنا مثال “الخير الأعلى”. فالعالم الذي نعيشُ فيه لا يمتلك في ذاته أيَّ ثباتٍ، بل تأتيهِ قيمتهُ من المُثُل.
وبخلاف أفلاطون، لم ينطلق أرسطو من علم الرياضيات. فكان ذاك الطبيب والعالم بالطبيعيات والبيولوجيا والفيزياء، المنتمي إلى أسرة أطبَّاء على علاقةٍ وثيقةٍ ببلاط الملك فيليبوس الثاني المقدوني (382- 336 ق.م.)، والد الاسكندر الأكبر (356- 323 ق.م.) الذي كان أرسطو يُدرِّسهُ منذ عامه الثالث عشر… أرسطو، الذي أبى إلَّا أن يعطيَ الأهمية الكبرى للحياةِ الفردية المحسوسة، بنى فلسفةً محايثةً Une philosophie de l’immanence، فتكونُ القيمةُ المتعاليةُ متضمَّنة داخل المحسوس ذاته وليس خارجه. وهكذا يكونُ الفرد، ليس انعكاسًا لمثالٍ ثابتٍ إلى الأبد، وإنِّما هو جهد للعيش من أجل تحقيق أقصى ما يمكنه لذاته الفردية. “الطريقة الفلسفية الأرسطية كانت تعني الصعود من دراسة الظواهر الطبيعية وصولًا إلى تحديد الكلِّي وتعريفهُ، أما عند أفلاطون، فكانت تبدأ من الأفكار والمُثُل لتنزل بعد ذلك إلى تمثُّلات الأفكار وتطبيقاتها على أرض الواقع.”1
ثانياً: الركائز الأساسية للفلسفة الأولى
عندما تركَ أرسطو مقالاته الميتافيزيقية دون عناوين، فقد حملَ كلُّ مقالٍ حرفًا من الحروف. في المقالة الأولى تعريفُ الفلسفة وعللها الأربع، في الثانية تكرار أنَّ الفلسفة هي البحثُ عن العلل النهائية، في الثالثة أربع عشرة مسألة ميتافيزيقية وحجج مؤيَّدة لها، في الرابعة تعريفُ الفلسفة الأولى، في الخامسة عرض لقاموسٍ فلسفي، في السادسة مناقشة معاني الوجود المختلفة، في السابعة دراسةُ الجوهر، في الثامنة بحث في الجوهر من ناحية الصورة والهيولي، في التاسعة بحث في القوة والفعل، في العاشرة مبادئ الجوهر. في المقالة الحادية عشرة بعض مقتبسات من “السماع الطبيعي”، في الثانية عشرة طرحُ مسألة “المحرِّك الأول”، في المقالتَين الأخيرتَين نقد المُثُل الأفلاطونية والأعداد الفيثاغورية. وقد تضمَّنت هذه المقالات ركائز أساسية للفلسفة الأرسطية الأولى.
- القوة والفعل La puissance et l’acte
يجبُ أن نميِّزَ في الموجود بين ما هو عليه في الوقت الراهن وما سيكون عليه مستقبلًا. فالبذرة هي بذرة الآن لكنها نبتةٌ فرضيًا أي بالقوة، وكذلك الطفلُ هو رجلٌ بالقوة. وقد سمَّى أرسطو “الفعل” التحقُّقُ النهائيُّ لما هو بالقوة. هكذا تتحوَّل حبُّة القمح وهي سنبلة بالقوة، إلى سنبلةٍ بالفعل عند اكتمال الحصاد، كما يتحوَّلُ الرخام وهو في الأصل مجموعة أعمال ممكنة بالقوة، إلى تمثالٍ بالفعل عند انتهاء النحَّات من عمله.
وتسمحُ هذه النظرية بتفسير الصيرورة المستمرِّة. فالتغيُّر واقعٌ وقد رأى أرسطو فيه مجموع جهود الأفراد في تحوِّلهم من القوة إلى الفعل. فعلى مستوى الأشياء جميعها، النائم سيستفيق والأدنى سيسعى في الأعلى الذي يحملهُ داخل ذاته بالقوة، هكذا يكون كلُّ شيءٍ في حالة حركةٍ وتحوِّلٍ وارتقاء.
نستنتجُ من ذلك أنَّ مفهوم “القوة” الأرسطي يَدلُّ على مبدأ التَغيُّر. وعندما يكون التَغيُّر في الفاعل يُسمَّى “قوة فاعلة”، وعندما يكون في المنفعل يُسمَّى “قوة منفعلة”. والقوة الفاعلة هي “قدرةُ الشيء على إحداث تَغيُّر في شيءٍ آخر، أو في نفسه من حيث هو آخر. وأمَّا القوة المنفعلة فهي قدرة الشيء على الانتقال من حالةٍ إلى أخرى بتأثير شيءٍ آخر أو بتأثيره من حيث هو آخر.”2
ولا شكَّ في أنَّ الموجود بالقوة هو أقلُّ كمالًا من الموجود بالفعل، فالفعلُ بالنسبةِ إلى القوة مثل الفرد الصاحي بالنسبة إلى الفرد الغارق في النوم ومثل من يرى ويبصرُ الأشياء بالنسبة إلى من تكون عيناهُ مُغلقتَين ومثل التمثال بالنسبة إلى مادة البرونز، فالفرد الذي يغلقُ عينيه هو رائي بالقوة، ومادة البرونز هي تمثالٌ بالقوة، الأمرُ الذي يعني أنَّ العينَين تُبصران والبرونز يتحولُ تمثالًا عند تحقُّق عددٍ من الشروط. الرائي والتمثالُ هما موجودان بالفعل وهذه الأفعال هي الإبصارُ وشكلُ التمثال. والرؤيةُ هي فعل بمعنى أنها تبقى رؤيةً بواسطة عملية الابصار كلِّها، فالحياة والسعادة والحدس العقلاني.. هي للأسباب ذاتها أفعال، بينما السير على الأقدام الذي يتطوَّر تباعًا، ويكون في كلِّ لحظةٍ جديدة في مستوى مختلفٍ ليس فعلاً، بل هو حركةٌ. الفعل إذًا هو كمالٌ أول (Entéléchie) أي حالةٌ نهائية ومُكتملةٌ.
وقد تطرَّقَ الفيلسوف والمؤرِّخ الفرنسي بريهييه Emile Bréhier (1876-1952) إلى المسألة شارحًا لها بطريقةٍ استثنائية راميًا إلى توضيحها بالتفصيل. فاعتبر أنَّ الفعل سابق للقوة في المعاني الثلاثة لكلمة “سابق”: منطقيًا، زمنيًا، وجوهريًا. “على الصعيد المنطقي لأنَّ مبدأ الموجود بالقوة يتضمَّن مبدأ الموجود بالفعل بالنسبة إلى ما يسمَّى بالقوة. وعلى الصعيد الزمني، لأنَّ الموجود بالفعل لا يأتي من موجودٍ بالقوة إلا تحت تأثير موجودٍ آخر كان بالفعل. فالعازفُ بالقوة مثلًا لا يصبح عازفًا بالفعل إلا إذا علَّمهُ العزف عازف بالفعل… وأخيرًا جوهريًا، بما أنَّ الإنسان بالقوة. يحملُ جوهره كله من إنسانٍ بالغٍ وبالفعل.”3
- المادةُ والصورةُ La matière et la forme
كلُّ الأشياء الخاضعة للتغيُّر تتألَّفُ من قوةٍ وفعل: من قوة بمعنى أنها تتحوَّلُ بشكلٍ ما، وهذا ما سمَّاهُ أرسطو “المادة”، لأنَّ في استطاعة المادة أن تتغيَّر وفيها استعداد لتكون كلَّ شيءٍ، ومن فعل أي الجوهر الذي سمَّاهُ أرسطو “الصورة”.
المادةُ هي القابلةُ للاتصال والانفصال، والصورة هي الشكل الذي تتخذه المادة. تكون المادة شيئًا بالقوة، وهي بفضل الصورة، تصبحُ شيئًا معيَّنًا بالفعل. فالطاولةُ مؤلَّفةٌ من مادةٍ وصورة: المادة هي الخشب الذي صُنعت منه والصورة هي هيئتها الخارجية. والمادة والصورة تلعبان دورًا نسبيًّا الواحد تجاه الآخر، فالرخامُ هو مادة بالنسبة إلى التمثال، لكنه صورة بالنسبة إلى الصخرة الخام.
نحنُ أمام علاقة تكامل وتلازم بين هذين المفهومَين: فالمادةُ في حاجةٍ إلى صورةٍ توجدُ فيها، والصورةُ كذلك في حاجةٍ إلى مادةٍ توجد عن طريقها. لا صورة دون مادة ولا مادة دون صورة، وكلُّ موجودٍ في الخارج يتكوَّنُ منهما. “ويتألَّفُ العالم من سلسلةٍ من الصور المتصاعدة، في أسفله مادة واحدة لجميع الأشياء الجزئية وهي الهيولى الأولى، وفي أعلاه صورة بلا مادة وهي المحرِّكُ الأول أو الله”4 (وسوف نتحدَّثُ تفصيلاً عن موضوع المحرِّك الأول لاحقًا).
- الجوهرُ والعرضُ La substance et l’accident
الجوهرُ مفهومٌ تأسيسيٌّ في الفلسفة الإغريقية بعامة، والأرسطية بخاصة. كان أرسطو يعتبرُ الجوهر مسألة فلسفية رئيسةً، وهي التي سيطرت على تاريخ الفلسفة، إذ طَرحها عديدٌ من الفلاسفة السابقين من طاليس Thalès (نحو 624- 546 ق.م.) حتى أفلاطون، لكنَّ أحدًا لم يدرك حقيقة الجوهر ولم يقل فيه قولًا برهانيًا، وفقًا لاعتقاده، وهذا الجوهر هو المقولة الأولى من مقولات أرسطو العشر في كتابه “المقولات” (Les catégories)، أحد كتبه المنطقية (Les traités de logique ou Organon)، فيما المقولات التسع الباقية هي أعراض (Accidents):
- الجوهرُ، مثلًا: الإنسان.
- الكمُّ، مثلًا: 70 كيلو.
- الكيفُ، مثلًا: فيلسوفٌ، أبيض.
- الإضافةُ، مثلًا: نصفُ، أكبر.
- المكانُ، مثلًا: السوقُ في أثينا.
- الزمانُ، مثلًا: الأمسُ، السنة الماضية.
- الوضعُ، مثلًا: جالس.
- الملْكُ، مثلًا: امتلاك السلاح.
- الفعلُ، مثلًا: القطعُ.
- الانفعالُ، مثلًا: المقطوع.
إذًا ينقسمُ الوجود في فلسفة أرسطو إلى جوهرٍ وعرضٍ. “فالجوهرُ يُطلق على كلِّ ذاتٍ ليست في موضوع. أما العرض فيُطلق على كلِّ ذاتٍ قوامها في موضوع.”5 وقد مَيَّزَ أرسطو بين الجوهر الأول، وهو الكائنُ المُفردُ الذي يمكن أن نؤكِّدَ أو ننفي عنه عدَّة صفاتٍ، مثلًا: آدم. والجوهر الثاني الذي يمكنُ أن يكون موضوعًا لقضية، مثلًا: الإنسان. فآدم وحده موجود في الحقيقة، أما الإنسان فهو موجود ذهني، فيأتي تعريف أرسطو للجوهر مؤكِّدًا عدمَ وجودِ المُثُل الأفلاطونية وجودًا حقيقيًا، فالجواهرُ هي كائنات مفردة وجزئية، وليس هناك عالم مُثُلٍ في مقابل عالم المحسوسات كما تصوَّرهما أفلاطون.
- العللُ الأربع
العللُ، في فلسفة أرسطو، أربعةُ أقسام:
- العلِّةُ الصورية (La cause formelle): كلُّ ما هو كائن يُعرَف بصورته وشكله، فالمنزلُ مثلًا يُعرفُ بمخطَّطه، وهذه العلَّةُ هي روحُ الشيء وما به الشيءُ يكون، وهي علَّةٌ لا تتقدَّمُ بالزمان مطلقًا.
- العلَّةُ الغائيَّةُ (La cause finale): فلا يحدثُ شيءٌ دون هدفٍ وغايةٍ ومقصدٍ. يُبنى المنزل للسكن والحماية. وهذه العلَّةُ تتقدَّمُ سائر العلل.
- العلَّةُ الفاعلة (La cause efficiente): كلُّ تطوَّر في حاجةٍ إلى محرِّكٍ ليصبح موجودًا، بالنسبة إلى المنزل نتحدَّثُ هنا عن عمل البنَّائين والنجَّارين. إذًا يعني أرسطو بهذه العلَّة، القوة التي عملت على تغيير الشيء ليتَّخذَ شكلًا جديدًا.
- العلَّةُ المادية (La cause matérielle): كلُّ ما هو كائنٌ يتكوَّنُ من مادة، فالمنزلُ يتكوَّنُ من حجارةٍ وقرميدٍ وسائر المواد، ومادة النافذة هي الخشبُ مثلًا.
وكلتا العلتين الفاعلةُ والماديةُ تتقدَّمان بالزمان على المعلول، وإذا أردنا اللجوء إلى مثلٍ ثانٍ يوضحُ العلل أيضًا نقولُ: المادة هي البرونز، الصورة هي تمثال فينوس، العلَّة الفاعلة هي النحَّات، والعلَّة الغائيَّة هي الهدف الذي من أجله صُنعَ هذا التمثال للعظمة واكتساب الثروة والشهرة.
العلَّةُ الصوريةُ والعلَّةُ الماديةُ هما علَّتانِ ذاتيتان وجوهريتان (intrinsèques) لأنَّ الشيءَ يتكوَّنُ منهما ويُعلمُ بهما. أمَّا العلَّةُ الغائيَّةُ والعلَّةُ الفاعلة، فهما غير ذاتيَّتينِ في الشيء (extrinsèques) “لأنَّ الفاعل هو المبدأُ الذي يكون منه وجودُ الشيء، ولأنَّ الغاية هي الغرضُ الذي من أجله يوجد.”6
- المحرِّكُ الأولُ Le premier moteur
يُؤلفُ العالمُ سلسلةٌ من الصور المتصاعدة في أسفلهِ مادةٌ واحدةٌ لجميع الأشياء الجزئية، وهي الهيولى الأولى، وفي أعلاه صورةٌ بلا مادةٌ هي “المحرِّكُ الأول” أو الله.
في رأي أرسطو أنَّ كلَّ حركةٍ تفترضُ محرِّكًا، ومن محرّكٍ إلى آخر، ينبغي لنا التوقُّفُ عند محرّكٍ أول يمتلك الكمال بمعنى أن يكون فعلًا خالصًا دون أي امتزاجٍ بين القوة والفعل. وقبل الدخول في شرح صفات المحرِّكِ الأول وأفعالهِ، لا بدَّ من الاشارة إلى أنَّ الحركة في التفكُّر الأرسطي هي انتقال من القوة إلى الفعل وهي وسط بين القوة المطلقة والفعل التام وهي “فعل ناقص يتَّجهُ إلى التمام.”7 كما لا بدَّ لجميع الحركات أن تنتهي إلى محرّكٍ أول غيرُ متحرِّكٍ، وفيما يلي خصائصه:
- بداءةً، هو فعلٌ محضٌ، لا شيءَ فيه بالقوةِ أو محتمل أو غير مكتمل. هو الكمال المطلق.
- هو محرِّكُ العالم، إذ تتَّجهُ جميع الكائنات إليه.
- هو ثابتٌ، لا تدخله حركة ولا يعتريه تَغيُّر، والدليل على ذلك أنَّ تسلسل المحرِّكات إلى ما لا نهاية أمرٌ محالٌ، فلا بدَّ أن تنقطع السلسلة عند محرِّكٍ أولَ لا يتحرَّك.
- هو عقلٌ محضٌ وفكر خالصٌ، والعقلُ والفكرُ هما ما يمتلكه الإنسان من كمال، وهو الصفة التي يمكن أن يتَّصفَ بها.
- لكنهُ يجهلُ العالم، لأنهُ لو تفكَّر بالعالم (وهذا العالم غير كامل) فسوف يحملُ صفة اللاكمال وهو أمرٌ محال.
- إذًا هو لا يعقلُ إلا ذاته، فهو الموجود الكامل والمعشوق الكامل الذي يجذب العالم نحوه. هو يحرِّك العقول كونهُ معشوقًا، وحركتهُ هي فعل العشقِ الأزلي.
إذًا اللهُ مفارقٌ للعالم وحاضرٌ في نظامه في آن، وهو ليس جسمًا لأنَّ الجسمَ متناهٍ والجسم المتناهي غيرُ قادر على تحريكِ العالم حركةً لا حدَّ لها ولا نهاية. هو علَّةٌ غائيَّةٌ والخير ذاته. هو عقل وعاقل ومعقول. والأشياء توجد وتنعدم دون أن يريدها المحرِّكُ الأول أو يعلمُ من أمرها شيئًا، فكأنه منطوٍ على ذاته يجهلُ ما يقع في الكونِ لأنهُ علَّة غائيَّةٌ وليس علَّةٌ فاعلةٌ في هذا الكون. لذلك استنتج عديدٌ من النقَّاد أنَّ عرض أرسطو فكرة الله إنَّما تتضمَّن اللامبالاة تجاه العالم، لأنَّ إلههُ لا يتدخَّلُ في سير العالم ولا يمارس تأثيرًا فيه.
ثالثًا: ميتافيزيقيا أرسطو من منظور الفلسفة العربية والإسلامية
أثَّر أرسطو لا سيَّما في فلسفته الأولى في عديدٍ من الفلاسفة العرب والمسلمين. وسنكتفي في الحقيقة بإيراد هذا التأثيرِ في فكر كلٍّ من العالِم والطبيب المسلم ذي الأصول الفارسية ابن سينا (980-1037)، والفيلسوف الأندلسي المسلم ابن رشد (1126-1198).
اعتبرَ ابن سينا أنَّ الميتافيزيقيا علمٌ “يبحث عن الموجود المطلق، وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، فيكون في هذا العلم بيان مبادئ سائر العلوم الجزئية.”8 وقد حاول أن يجمع بين الدين والفلسفة والإسلام والفلسفة الأرسطية تحديدًا، وأعاد تصوُّر ميتافيزيقيا أرسطو بوصفها دراسةً للوجود. وأجرى تحقيقًا في مفهوم “الكينونة”، فقد مَيَّزَ بين الجوهر والوجود واعتبر أنَّ حقيقة الوجود لا يمكنُ تفسيرها عن طريق جوهر الأشياء الموجودة، وأنَّ على الوجود أن يكون ناتجًا عن سبب. ولا شكَّ في أنَّ ابن سينا تأثَّر بأرسطو في هذه المسألة فمنح للجوهر منزلةً أعلى من منزلة الوجود في نظامه الأنطولوجي، وأتى ذلك كلَّهُ بعدما اعترف أنه قرأ الكتاب الذي يجمعُ المقالات الأرسطية في الفلسفة الأولى مرات عديدة، ولم يفهم مقصدهُ وفحواهُ إلا عندما اشترى صدفةً كتاب الفيلسوف والقاضي الإسلامي الكبير الفارابي (874-950) “في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة”. فانفتحت أمامه سُبُلَ فهم أرسطو كما ينبغي.
وبما أنه تمَّ جمع مقالات الكتاب بعد وفاة أرسطو ومرَّ زمن قبل أن يضعها أندرونيقوس الرودسي في صيغتها المعروفة كما ذكرنا سابقًا، فقد جرى التشكيك ببعض التصاميم والترتيبات والأفكار فيها، إلا أنَّ ابن رشد قرأ الترجمات وقارن بين النُسخ، وأعلن أنَّ ما وصلنا كان النظام الأمثل في الترتيب.
كان إعجاب ابن رشد بأرسطو وفلسفته في كلِّيتها واضحٌ المعالم. ففي مقدَّمة كتابه “الطبيعيات”، قال ما خلاصتهُ “إنَّ مؤلِّف هذا الكتاب هو أرسطو بن نيكوماكوس، أعقل أهل اليونان وأكثرهم حكمةً، وواضع علوم المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة ومتمِّمها. وقد قلت إنه واضعها لأنَّ جميع الكتب التي وُضعت قبله في هذه العلوم غير جديرة بالذكر بإزاء كتبه. وقلت إنه متمِّمها لأنّ جميع الفلاسفة الذين عاشوا بعده منذ ذلك الزمن إلى اليوم أي مُدَّة 1500 سنة، لم يستطيعوا زيادة شيء على وضعه ولا وجدوا خطأ فيه.”9
هكذا كان ابن رشد “الشارح الأكبر لأرسطو”، والذي رأى ألا تعارض بين الفلسفة والإسلام، والذي اعتمد، إلى جانب بحثه في الأخلاق وعلم النفس والفيزياء وعلم الفلك، طريقةً نموذجيةً في “تفسير ما بعد الطبيعة” لأرسطو، فتتبَّع مقالاته ووهبها شرحًا وافيًا ساعدهُ في ذلك شِدَّةُ ذكائه واطِّلاعه الواسعُ على التفكُّر الميتافيزيقي الأرسطي في عمقه وفي خباياه، وقد حاول وضع المسائل الفلسفية ذات الحساسية عند المسلمين في سياقها التاريخي، مبتدعًا نوعًا من التحليل لم يسبقه إليه سواه من الشرَّاح، وراميًا إلى اسقاط الافتراءات الآتية من التوجهات الأصولية. وكانت مهمَّتهُ على شيءٍ من الصعوبة، لأنهُ قرأ أرسطو في ترجمات مؤلَّفاته إلى العربية ولم يثنه ذلك عن محاولة دراسته في شكلٍ علميٍّ دقيق، بل ذهبَ إلى حدِّ تصحيح بعض أخطاء الفارابي وابن سينا كما اعتبرها وقيَّمها، ونقده الغزالي وردَّ على علماء الكلام.
وكان ابن رشد في كلِّ ذلك يتلمَّسُ ثلاثية العقلانية والموضوعية واليقينية لتعريفنا على أرسطو بوصفه فيلسوفًا كبيرًا “وصل إلى حقٍّ لا يشوبهُ باطلٌ”. وبرعَ في مراده فكان بحقٍّ أشهر شرَّاح أرسطو في القرون الوسطى، وبسبب ذلك كفَّرهُ معاصروهُ وعزلوهُ من منصب قاضي قضاة الأندلس وأهانوه ومنعوا نشر كتبه وذهبوا إلى حدِّ نفيه من وطنه.
خاتمة:
حكمة، علم إلهي، فلسفة أولى، أو ميتافيزيقيا… تكثرُ التسميات حُكمًا، لكنها تؤول في النهاية إلى محتوى فلسفي أرسطي ماورائي، كان استثنائيًا حقًا في تاريخ الفلسفة الإغريقية وفي تأثيره في الفلاسفة العرب والغربيين.
من بحث الوجود كما هو، إلى إبراز العلل والعناصر المكوِّنة للوجود، إلى التعمِّق في ذات الله وصفاته وأفعاله وتسميته “بالمحرِّك الأول”، إلى تلقُّفِ أرسطو انتقادات معاصريه والمعتقدين بالفلسفة المشائية، وبما أتت به من جديدٍ في جميع الميادين، ولا سيَّما في الميتافيزيقيا… نجدنا اليوم أمام كنزٍ فلسفيٍّ إغريقيٍّ عظيمٍ حتى ولو كان بعضنا أفلاطونيًا وعلى الضفَّة المقابلة للفلسفة الأرسطية.
المراجع
[1] نبذة عن ميتافيزيقيا أرسطوطاليس، laracheinfo.com، 24 نيسان 2020.
[2] جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، بيروت، لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1981، ص. 72.
[3] Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, Tome I, Paris, Quadrige/ PUF,1989, p. 177-178.
[4] جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، مرجع مذكور، ص. 71.
[5] المرجع نفسه، ص. 69.
[6] المرجع نفسه، ص. 73.
[7] المرجع نفسه، ص. 74.
[8] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بالألفاظ العربية والفرنسية والانكليزية واللاتينية، الجزء الثاني، بيروت، لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص. 300.
[9] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطون، لبنان، دار الطليعة، الطبعة الأولى، آذار، 1980، ص. 53.