تكوين
الميراث بين اجتهاد الهلالي ووصاية الأزهر
-1-
يدور الجدل في مصر الآن حول نظام التوريث المنصوص عليه في القرآن والفقه، والجاري تطبيقه أيضًا بحكم القانون الصادر عن الدولة. موضوع النقاش هو مدى توافق هذا النظام مع الحاجات التشريعية الراهنة للمجتمع التي صارت تُعيد النظر في منح المرأة نصف نصيب الرجل من الميراث.
الطرف الأول في النقاش هو سعد الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أما الطرف الآخر فهو الأزهر نفسه بوصفها مؤسسة رسمية، بروافدها المتعددة التي تضم المشيخة والجامعة ودار الإفتاء وما يُسمى بهيئة كبار العلماء.
يطرح الهلالي رؤيته كالآتي: أحكام الميراث مسألة فقهية تقبل الاجتهاد والتأويل، وهي تتعلق بـ “حقوق” مالية لا بفريضة دينية كالصلاة، ومن ثم فهي تدخل في نطاق القوانين التي يُمكن تغييرها عبر آليات التشريع المعروفة كما جرى في بعض الدول الإسلامية، ويُمكن استفتاء الشعب بخصوص قواعدها التفصيلية.
ليس في القرآن ما يقطع بالنهي عن مساواة المرأة بالرجل في الميراث خصوصًا عند استواء درجة القرابة، وآيات التوريث في سورة النساء (11، 12، 176) يُمكن قراءتها إما بمعنى الحض على إنصاف المرأة وعدم بخس حقها في الميراث، أو بمعنى النهي عن التسوية بينها وبين الرجل فيه، والمعنى الأول أولى من الآخر، تغليبًا للعدالة التي تفترض بالضرورة في حق تشريع إلهي.
كالعادة جاء رد الأزهر عنيفًا، وفي بيانه الصادر عن المركز العالمي للفتوى، رأى أن تصريحات الهلالي تقوم على استدلالات غير صحيحة على تحريم حلال أو تحليل حرام، “وهي جريمة فكرية تهدد الاستقرار المجتمعي. والجريمة الأكبر هي أنها تنسب المعاناة والمشاكل المجتمعية إلى تعاليم الدين ونصوصه، وهذا نذير خطر يؤذن بتطرف بغيض”. طبقًا للبيان خالف الهلالي نصوص القرآن القطعية الثبوت والدلالة، وخرج على “إجماع الأمة”، واعتبر أنه يدعو إلى “صنع تدين شخصي”، وهو “افتئات على الشرع”، لا يقوم على سند فقهي وفق الأصول المتفق عليها، مما يؤدي إلى التشكيك في الأحكام ويولد أسباب الفتنة. واستنكر البيان على الهلالي دعوته لاستفتاء الشعب بشأن المسألة، لأن ذلك يعني أن إرادة البشر يُمكن أن تتجاوز إرادة الله الذي له وحده صلاحية التشريع؟ فالميراث ليس مسألة مالية فحسب، وإنما نظامًا إلهيًا يُحقق العدل بين أفراد الأسرة، ويراعي الفروق في المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية بين الرجل والمرأة.
ويواصل البيان هجومه على الهلالي بلغة “سلفوية” قديمة، فيصف دعوته إلى استفتاء الشعب لاختيار نظامه القانوني، بأنها افتئات على سلطة “ولى الأمر” الذي يُمثل “الجهة الشرعية المخولة بإصدار القوانين في إطار الشريعة”.
ما يزال الأزهر يستدعى مصطلح “ولى الأمر”، أي “الحاكم” بالمعنى الفردي للإشارة إلى “الدولة” ببنائها المؤسسي الحديث.
فهو لا يكاد يفهم الدولة إلا بوصفها هذا الحاكم الفردي، وهو هنا يدافع عن حقه في صلاحية التشريع مقابل حق الشعب الذي يُمكن التعبير عنه من طريق ممثليه في البرلمان أو بالاستفتاء العام المباشر.
قد تبدو هذه الملاحظة ثانوية، لكنها تلفت بوضوح إلى نوع الثقافة السياسية التي توجه العقل الفقهي. أشير إلى ثقافة “الأحكام السلطانية” الموروثة من عصر التدوين وولاية المتغلب. وهي تكونت -بالطبع- بوصفها إفراز للسياق الاقتصادي والاجتماعي السائد في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، وهو سياق مغاير تمامًا لسياقات الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهنة التي صنعتها الحداثة، وأفرزت حاجات وعلاقات تشريعية جديدة، شملت وضعية المرأة وأدوارها المجتمعية.
العقل الفقهي التقليدي، المطبوع بثقافة التغلب، قد “يتفهم” أن تُخرق الشريعة من “ولى الأمر” بضرورة السلطة ودفعًا للفتنة، لكنه لا يفهم إقحام “الشعب” في عملية التشريع. وفق الثقافة السلطانية الموروثة من تاريخ الفقه (السني)، تُختزل الدولة في شخص الحاكم، ولا وجود لمفهوم “الشعب” بالمعنى السياسي الراهن في معادلة السلطة، بل يوجد مفهوم “الرعية” بالمعنى القروسطي القديم، الذي يُشير إلى علاقة خضوع طبيعي مباشرة، على الحاكم أن يكون عادلًا ، لكن ذلك ليس حقًا “قانونيًا” ثابتًا للمحكوم، بقدر ما هو واجب “ديني” على الحاكم، وهو مسؤول عنه أمام الله في الآخرة، وليس أمام الناس في الدنيا.
إقرأ أيضًا: معضلات نظرية أمام الفكر الإسلامي المعاصر: الجزء الخامس إشكالية المرأة
مع ذلك وبحذر كهنوتي معهود، سرب الفقهاء أنفسهم إلى أطراف المعادلة من طريق فكرة “النصيحة” والشورى التي يتوقف قبولها على أريحية الحاكم. وهكذا صار الحاكم يحتكر صلاحية التشريع، ويحتكر الفقهاء صلاحية التفسير والفتوى. ولذلك يستنكر الأزهر أن يخرج أزهري متعلمن، فيتكلم عن إمكان استفتاء الشعب في مسألة تشريعية علمية. ويستبشع بخاص أن تُطرح هذه المسألة بواسطة وسائل الإعلام، فهي -طبق بيان الأزهر- “من القضايا الحساسة التي لا يجوز عرضها على الشاشات وأمام غير المتخصصين. فتجديد علوم الإسلام عملية علمية دقيقة تتطلب مناقشات في المحافل الأكاديمية والشرعية، وليس عبر برامج إعلامية تسعى في الإثارة”.
يكشف الأزهر صراحة عن طبيعته بوصفه هيئة كهنوتية تحتكر العلم بأسرار اللاهوت وآلية تفسير الشريعة، وتنصب نفسها لتكون حارسة للدين، وهي إحدى الوظائف الرئيسة للكهنوت عبر تاريخه الطويل منذ ما قبل الديانات الكتابية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: من أين يستمد الأزهر هذه الوصاية السلطوية التي:
- لا تستند إلى أي تأسيس نصي طبقًا لقواعد الإسلام.
- وتتناقض تناقضا صارخًا مع مبادئ الدولة الوطنية، القائمة عمليًا في مصر.
-2-
الطبقة الفقهية
بسبب السياقات البيئية في الجزيرة عند القرن السابع، لم يعتمد الإسلام نظام الإكليروس الهرمي المرتب على النحو العبري المسيحي،
لكنه سيتوفر على نموذجه الكهنوتي الخاص في “طبقة الفقهاء” التي تكونت في العصر العباسي، وأسهمت في صنع التصور النهائي للديانة الإسلامية، عبر تكوين البنية النصية، ومدونتها التفسيرية والفقهكلامية المعروفة.
جری ذلك بالتزامن والتداخل مع تطور “الدولة” التي كانت تتبلور في إطار ديني صريح. أَسند الفقه إلى الدولة (الحاكم المتغلب) دور المؤسسة الكهنوتية في “حراسة الدين”، واستبقى لنفسه بقية أدوارها التقليدية من تفسير النصوص، أي التعبير عن إرادة الله، إلى خدمة الطقوس والشعائر، بالإضافة إلى وظائف القضاء والفتوى.
بعامة ظلت الطبقة الفقهية تشتغل من تحت سلطة الدولة/الحاكم، مع بعض النزعات الاستقلالية التي كانت تظهر في لحظات الضعف السياسي. لاحقًا ونتيجة لتراجع قوة الدولة المركزية (السنية)، سوف يتكرس حضور الفقه “ليكون سلطة معنوية” فاعلة تتولى حراسة الدين.
مع القرن التاسع عشر والانتقال إلى نموذج “الدولة الوطنية” سيجري “تأميم” الطبقة الفقهية عبر إلحاقها بالإطار العام للدولة، وستحظى رسميًا لأول مرة بوصف “المؤسسة الدينية”. وهو وصف مجازي بالقياس إلى الكنيسة الكاثوليكية التي تؤسس نفسها على نصوص إنجيلية، وتتوفر على صلاحيات لاهوتية وتشريعية ذات طابع إنشائي، وليس فقط على صلاحية تفسير النصوص.
لا يقوم نفوذ الطبقة الفقهية على نص ديني، بل يُشير إلى سلطة واقع عملية ذات أصل تاريخي، ومدعمة ضمنيًا بفكرة الانتساب إلى الدولة. ومع ذلك تبدو العلاقة بينها وبين الدولة غامضة ومركبة: يتبنى الأزهر في مجمله مبادئ العقيدة الأشعرية، ذات الطابع التوفيقي الوسطي، التي تُسلم بالخضوع للحكومة القائمة، وتسمح بدرجة من التصالح النسبي مع أهداف الحداثة السياسية، لكنه كعادة الكهنوت الفقهي يسفر أحيانًا عن نزوعه التراثي، ولا يتورع عن انتهاز الفرص لتحقيق مكاسب نظرية أو فئوية في لحظات الاهتزاز السياسي، خصوصًا عندما تظهر حاجة الدولة إليه، لتوظيفه في مقاومة التطرف السلفي (وهو بدوره خصم مذهبي للأشعرية)، ولنفي تهمة العداء للدين التي توجه إليها من التيارات الأصولية.
ويتفاقم هذا الموقف الانتهازي في ظل حالة التمدد الأصولي الراهنة التي فرضت نفسها على مستوى المجتمع وصارت تخصم من الرصيد المعتدل المعتاد للتدين الشعبي، وفي مستوى الدولة التي صارت تُبدي مزيدًا من التراجع أمام ضغوط الإسلام السياسي، وتناقص وعيها بدورها التجديدي المعهود وطبيعتها العلمانية الأصلية.
إقرأ أيضًا: الذّكورة والأنوثة بين الفقه والتّصوّف (في الإسلام)
منذ البداءة ورغم التوجه التحديثي الصريح، لم تنشأ الدول الوطنية في مصر مستكملة لشروط الحكومة المدنية الخالصة، ورغم تجاوزها الواضح “للنظام التراثي الفقهي” فيما يتعلق بالشكل الدستوري، واستحداث نظام قانوني وقضائي مدني، أبقت على جزء بالغ الأهمية من النظام التراثي الفقهي هو الجزء الخاص بالأحوال الشخصية، الذي يتضمن قواعد الزواج والميراث. الأمر الذي أدى إلى خلق ثنائية قانونية حادة، أسهمت في توتير المناخ التشريعي، وتكريس حالة الازدواجية الثقافية القائمة أصلًا على مستوى المجتمع.
– 3 –
رغم التحاقها الرسمي، لم تندمج الطبقة الفقهية في البنية الثقافية للدولة. فقد ظلت تابعة لمرجعياتها الثقافية القديمة الموروثة من عصور الفقه، بوصفها جزءًا من بنية الدين الملزمة. ولم تطور آليات مواكبة لمنهجية التفكير العلمي التي فرضتها الحداثة في مجال الإنسانيات وعلوم الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والفيلولوجيا ونقد النصوص. موضوعيًا وفي ظل تطور الحالة المدنية، بدت هذه الطبقة -وفق بعضهم- جماعة “تاريخية” تجاوزها الزمن، وفي المستوى الشكلي تُمثل شريحة فولكلورية مفارقة للمظهر الجماعي. أما التيار المدني المتشدد فظل يراها طبقة طفيلية غير منتجة، وزائدة عن حاجة المجتمع، تسهم إسهامًا مباشرًا في تخدير الوعي وتعطيل حركة التطور.
من جانبها لم تبذل الدولة جهودًا كافية لتأهيل هذه الطبقة وإعادة تكييفها مع أهدافها التحديثية، وجرى تسكينها بحالتها كما هي لتكون مؤسسة “تعليمية” دينية مستقلة، تعمل بالتوازي مع النظام التعليمي العام (المدني). وأسفر ذلك عن نتائج فادحة في مقدمتها ربط قطاع من الوعي بخصائص التفكير اللغوي الكلامي المناقضة لمنهج البحث العلمي، ودمجه موضوعيًا بثقافة الفقه التقليدي الخشنة ذات الطابع الحصري الإقصائي المجافية لقيم الحداثة، بما في ذلك الموقف من المرأة، الأمر الذي كان يعنى مزيدًا من الارتباك الثقافي والاجتماعي.
عمليًا مع تفاقم حالة الارتداد الأصولي وتراجع الوعي المدني لدى الدولة، سيتجاوز نشاط الأزهر حدوده كونه هيئة تعليمية متخصصة إلى لعب أدوار “ثقافية” وسياسية أوسع، في تناقض واضح مع مبادئ الدستور المدني والدولة الوطنية الحديثة. ومقارنة بالمراحل المبكرة يتمتع الأزهر -الآن- بمركز “مؤسسي” أكبر من الناحية الرسمية:
- في مرحلة التكون الأولى للدولة (ق 19)، كان النظام التراثي في لحظة ضعفه القصوى، وجاذبية الحداثة في لحظة المد الأعلى، ولم يكن التيار الأصولي قد ظهر بعد والمعنى أن الدولة -التي كانت في حاجة إلى توظيف الطبقة الفقهية- كانت قادرة على احتوائها، ولم تتوقع النتائج الإشكالية لعملية استلحاقها بينيتها القانونية.
- لاحقًا ستبدأ هذه النتائج تظهر تدريجيًا بعد النص في الدستور على كون “الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية”. في سياق المد المدني لم يُنظر إلى هذه المادة بوصفها نصًا مناقضًا للمبادئ العلمانية التي يؤكدها الدستور ذاته. ومع ذلك تنبهت بعض الفصائل المدنية لهذا التناقض، وحذرت من نتائجه السلبية على البناء القانوني والاجتماعي (راجع على سبيل المثال الاعتراضات الصريحة على هذا النص من طه حسين ومحمود عزمي، لدى مناقشة مشروع دستور 1923)
- في المرحلة الناصرية – ذات التوجه العلماني القومي- كانت الدولة تحاول احتواء الحالة الأصولية التي أطلقها ظهور جماعة الإخوان قبل منتصف القرن. وفي هذا السياق صدر القانون رقم 103 لعام 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر، وتضمن القانون حزمة من الأحكام التي تهدف إلى تقليص الطابع المؤسسي المستقل للأزهر، وربطه مباشرة بالسلطة التنفيذية للدولة: فنُص صراحة على تبعيته لرئاسة الجمهورية (م2)، ومنح الرئيس سلطة تعيين شيخ الأزهر (م5)، وألغى هيئة كبار العلماء، واستبدل بها “هيئة البحوث الإسلامية” ولم يشترط أن يختار شيخ الأزهر من بين أعضائها (م5). وبشكل واضح أكد القانون على “الغرض” العلمي التعليمي بوصفه الوظيفة الأساسية للأزهر (م2، 4، 6).
- بعد انتهاء العهد الناصري بدأت الدولة تتراجع تدريجيًا
عن زخمها التجديدي الموروث من سياقات التكون المبكرة، في تفسير هذا التراجع تضافرت عوامل داخلية وإقليمية ودولية متداخلة، ويمكن الإشارة هنا إلى ظاهرتين مباشرتين: الأولى، تتعلق بالهبوط النسبي في قوة الدولة بعد هزيمة يونيو/تموز، واهتزاز الثقة في شعاراتها القومية ووعودها الديمقراطية. والثانية، تتعلق بحالة الارتداد الأصولي التي تفاقمت مع صعود التيار السلفي الوهابي المدعم بثروة النفط.
وأسهمت في تفاقمها أيضًا الدولة المصرية، بعد أن أعادت بنفسها ولأغراض سياسية ضيقة، إحياء التجربة الإخوانية، لامتصاص المد اليساري الناصري لصالح التوجهات الليبرالية الجديدة. الأمر الذي أسفر عن تفحل الإسلام السياسي وامتصاصه للمد اليساري والليبرالي معًا، وأدى إلى استدعاء نسبي واسع للثقافة التراثية في مستوى الدولة والمجتمع والأزهر أيضًا، ثم أفضى في نهاية المطاف إلى الانفجار السياسي الهائل في يناير 2011. - في أجواء الاضطراب الناجمة عن هذا الانفجار، انتهز الأزهر فرصة الصراع بين الدولة والتيار الأصولي، لتحقيق مكاسب مؤسسية واضحة. ثمة ارتباط ظاهري بين الأزهر وطرفي الصراع، لكنه موضوعيًا لا يتماهى مع أي منهما، لذلك وبطريقة برجماتية أشعرية -مفهومة- مَوْضَع نفسه في منتصف المسافة بينهما، وتحصل على امتيازات جديدة، جرى النص عليها في صلب الدستور، وتتضمن تحصين منصب شيخ الأزهر من العزل، وإعادة هيئة “كبار العلماء” التي يُسند إليها اختيار الشيخ بدلًا من رئيس الدولة.
وهكذا لأول مرة في التاريخ التشريعي للدولة المصرية، لم تعد وضعية الأزهر مسألة فرعية ينظمها “القانون”، بل واحدة من “القواعد الأساسية التي تتمتع بحصانة “الدستور”، ويرد النص عليها في “الباب الأول”: (مقومات الدولة والمجتمع)، تحت “الفصل الأول” (المقومات السياسية). (راجع المادة 7 من الدستور المصري الصادر عام 2014).
والآن يبدو الأزهر أكثر تمسكًا بهذه المكاسب المؤسسية، وأكثر جرأة في التعبير عن موقعه المستقل حيال الدولة، وتمرير أشكال من الوصاية الثقافية على المجتمع. وهي وضعية شاذة مقارنة بدستور مدني حديث يقوم على المواطنة والقانون. وضعية تشير إلى مدى كان التراجع في زخم “الحالة المدنية” التي تراكمت في مصر عبر القرنين الماضيين، وتمثلت بأوضح صورها في نموذج “الدولة الوطنية”، لكنها لم تستكمل مسارها بفعل ظهور التيار الأصولي المعادي للحداثة.
لم يولد هذا التيار مباشرة من الطبقة الفقهية ولكن توسعه أدى إلى استفزاز النزعات السلفية الكامنة لدى هذه الطبقة، وتعزيز موقفها المناقض للتجديد. والمشكل هنا يكمن في الاستسلام لهذا التراجع، ولنغمة الشك في أهمية التحول الحداثي الذي وقع بالفعل في مستوى الدولة والمجتمع. فهو لم يكن تحولًا سطحيًا كما تروج التيارات الأصولية، بل أنشأ بُعدًا ثقافيًا واجتماعيًا جديدًا، موازيًا للبعد التراثي، وقادرًا على مجادلته وفق قانون التطور ذاته.
– 4 –
ميراث المرأة وتأويل الهلالي
مبدئيًا، تكشف اجتهادات الهلالي عن نَفَسٍ تجديدي إنساني، وشجاعة فكرية تستحق التقدير، في مواجهة السلطة الوصائية التي يمارسها كهنوت الأزهر بغير سند “ديني” أو “قانوني”.
وبالطبع سأتوافق موضوعيًا مع النتيجة التي توصل إليها بخصوص إمكان التسوية في الميراث بين الرجل والمرأة، بوصفها النتيجة المنطقية العادلة، التي يُمكن إسنادها إلى التشريع الإلهي، وفي الوقت نفسه إلى ثقافة الوعي الإنساني الحديث.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بالآلية المنهجية التي استُند إليها في تحصيل هذه النتيجة ، أعنى آلية “التأويل” الواسع للنص، هل تصلح هذه الآلية – التي تنتمي إلى النظام التفسيري التقليدي – لإسناد الرأي الموضوعي الذي انتهى إليه في توريث المرأة؟ وبعامة هل ما يزال “التأويل” قادرًا على تطويع النص التشريعي لحاجات الواقع الاجتماعي الجديدة، والمغايرة كليًا لحاجات الاجتماع المبكرة التي أفرزت النص في عصر التأسيس؟
ينتمي الهلالي إلى المدرسة التجديدية الداخلية، التي تحاول المصالحة بين النص الإسلامي وحركة الواقع المتطور، بغرض الحفاظ على مصداقية النص وسلطته الرسمية، مع مواكبة حاجات التطور، وهو موقف إيجابي “متقدم” بالقياس إلى الموقف الفقهي “المراوغ” الذي يتبناه الأزهر بسلفيته الأشعرية المضمرة. لكن محاولته التأويلية تبدو متكلفة ومرهقة من جهة الاستدلال، فالنص الوارد في سورة النساء يبدو بالفعل صريحًا وقطعي الدلالة على التمييز بين الذكر والأنثى، وهذا واضح من بنائه التعبيري “الرقمي” الذي يحدد نصيب الذكر بـ “مثل حظ الأنثيين”، ومن خلفيته الاجتماعية البيئية التي أنتجته في القرن السابع، في ظل ثقافة ذكورية تعكس الحاجات والعلاقات الاقتصادية لمجتمع قَبَلِي، وواضح أيضًا من تاريخه “التفسيري الفقهي” الطويل الذي ظل يشير إلى هذا المعنى في جميع السياقات الثقافية التي انتقل إليها مع توسع الفتوح وانتشار الإسلام.
في هذا السياق يبدو الموقف السلفي أكثر تناغمًا مع ذاته. أعنى أكثر تعبيرًا عن مرجعيته الأصولية (النصية / الفقهية)، وهي بعينها المرجعية التي يستند إليها الهلالي:
نظريًا يشترك الهلالي مع الأزهر في الخلفية الأشعرية، لكنه يحاول أن يستخلص منها أقصى طاقة إيجابية؛ الأشعرية بطبيعتها تيار تفكيري وسطي، أي توفيقي واسع، يجمع بين النقلية بنزوعها الحرفي والعقلية بطابعها التأويلي. وقياسًا إلى التيار السلفي المبكر الذي يمثله أهل الحديث، يبدو أكثر اعتدادًا بمطالب الواقع وأكثر مرونة حيال التعددية والتطور، ومن ثم أكثر قدرة على التعبير عن ثقافة الجمهور العام. تخلط الأشعرية في صعيد واحد بين السلفية ونوعًا من التفكير العقلي، وفى بعض المواقف يطغي أحد الطرفين على الآخر، بمعنى أنها تصبح قادرة على إظهار سلفيتها أو عقلانيتها عند الاقتضاء بعامة، وبفعل التأثيرات الأصولية المتفاقمة في العقود الأخيرة تتزايد النزعة السلفية لدى الأزهر. وهكذا من داخل الدائرة الأشعرية ذاتها يُمكن تفسير الموقف الأزهري المتشدد، وموقف الهلالي المتطور.
– 5 –
الانسداد التأويلي
الموقف السلفي المدرسي لا يحفل بوجود الحداثة، ولا يكاد يشعر بالتناقض القائم بين النص وحاجات الواقع الاجتماعي. إذا ظهر التناقض فمعنى ذلك أن الواقع ينحرف عن الحق الثابت في النص، والواجب هو تغيير الواقع، حتى يعود إلى التوافق مع النص، وليس تحريك النص لمواكبة حاجات الواقع، ولتذهب الحداثة إلى الجحيم.
أما الموقف التجديدي فيُقر بوجود التناقض بين النص والواقع، لكنه يقول بإمكان رفع هذا التناقض من طريق تحريك النص بآليات النظام التقليدي في أصول الفقه ذات الطابع اللُغوي وفي مقدمتها “التأويل”. وهذا هو غرض التجديد.
لكن السؤال هنا هو: هل ما يزال التأويل كافيًا لإعادة التوافق بين النص وحاجات الواقع الاجتماعي الجديدة؟ وبعامة هل ما يزال النظام التقليدي في أصول الفقه قادرًا على تثبيت سلطة النص أمام ‘التحديات العملية” التي تفرضها الحداثة؟
مبدئيًا ظهور سؤال التجديد يفترض وجود هذا التناقض، ويفترض -في الوقت نفسه- أنه تناقض “جزئي” وليس كليًا، لأن التناقض الكلي يفرض عمليًا تغيير النظام التشريعي بقوة الأمر الواقع، أي دون حاجة إلى استئذان النظام الديني الفقهي.
ولذلك فالتجديد عملية استباقية قصدية، تصدر داخل النظام الديني، بهدف تعزيز قدرته على البقاء في مواجهة خطر “التغير” الذي يتفاقم تدريجيًا على المدى الطويل ليكون قانونًا طبيعيًا من قوانين الاجتماع، أي بهدف استبقاء سلطته، وتأجيل سقوطها بفعل التطور.
يفهم التجديد هنا بوصفه عملية ذهنية تقنية، أي بوصفه نشاطًا فكريًا ينصبُّ على النص بغرض تمديد دلالاته، عبر الكشف عما هو كامن فيه أصلًا ، لأنه بحكم مصدره الإلهي صالح لكل زمان ومكان. ومعنى ذلك أننا حيال مشكل “نصي” داخلي (نظري/لغوي)، وليس حيال مشكل “اجتماعي” يبدأ من الواقع وينتهي إلى النص. في حين أن المشكل في الحقيقة هو حاجات المجتمع وليس مأزق النص.
مادة الواقع هي التي تفرض على النص الاستجابة لحاجاتها المتطورة، فهي التي تستدعي الحاجة إلى التأويل أصلًا ، وهي التي تُملي موضوع الاستجابة:
ينشأ النظام التشريعي الديني، مثل أي نظام قانوني، كونه إفرازًا مباشرًا لحاجات الواقع في بيئته الجغرافية في عصر التأسيس. وفي المراحل المبكرة –حيث تكون السياقات متقاربة- يُظهر النص لياقة تأويلية عالية تُمكنه من احتواء التطورات الاجتماعية النسبية أو المحدودة، لكن مع تواصل حركة التطور -وهذا واضح بالاستقراء- تتناقص قدرة النص على الاستجابة تدريجيًا، قبل أن تتوقف تقريبًا عند نقطة بعينها، هي نقطة الوصول إلى التناقض الجذري. هنا تنكشف محدودية التأويل، إذ تظهر الأبعاد الأخطر للمشكل وهي تفتح النقاش في المبدأ بخصوص “سلطة النص”، وعلاقتها البنيوية بالنظام الاجتماعي، وهو المشكل الذي يتعاطى معه العقل الإسلامي المعاصر بالتجاهل أو بالتأجيل.
النظام الأصولي الفقهي الذي أسس له الشافعي في القرن الثاني وقننتهُ النظرية في القرن الثالث، ظل قادرًا على حمل النظام التشريعي في مراحل تكونه المُبكرة ولفترة طويلة تالية. فالواقع الذي انطلقت منه النظرية ظلَّ مُشابهًا في جملته لواقع النصب الأول. فرغم التطورات الفرعية التي نجمت عن حضور الإسلام وتداعياته السياسية والديموغرافية، بقيت هياكل الاجتماع الكلية كما هي عليه بعامة. (لم تبدأ هذه الهياكل في التغيير العميق قبل العصور الحديثة مع تبلور الرأسمالية الصناعية، ومنهجية التفكير العلمي: فحتى ظهور الحداثة ظلت البنى الاقتصادية رعوية ريعية، والبنى الاجتماعية قبلية عشائرية، والبنى العقلية أسيرة لمثالية التفكير اليوناني السابق على التجربة.
وهكذا يُمكن القول بأن التحدي الذي واجهته النظرية الفقهية مع النص في عصر التدوين، كان جزئيًا، ولذلك أمكن لها تجاوزه داخل مصادراتها التقليدية من دون مشاكل منهجية كبيرة. لكن التحدي الحقيقي سوف يأتي مع التطور الجسيم في الهياكل الكلية الذي جلبته الحداثة، وفتح آفاق الاجتماع على مصالح وحاجات يصعب حصرها، وغير قابلة للانطواء تحت منطوق النصوص أو عللها القياسية.
هذا الانسداد التأويلي مفهومٌ تمامًا بالنظر إلى الخصائص الذاتية للنص الديني، كونها نصًّا مقدسًا، أي مطلقًا ومحصنًا من التغيير، وفوق ذلك يخضع لوصاية النظام التفسيري السلفي:
واقعيًا يؤدي التطور الاجتماعي إلى استفزاز قابلية التمدد الكامنة في أي نص لُغوي، لكن خصائص النص الديني تكبح قابلية التمدد وتعطلها، لأن المعنى المقدس يفرض سقفًا دوجمائيًا يحد من قدرة المؤول على استدعاء سياقاته المعاصرة، أو تخليق دلالاته المستمدة من ثقافته الذاتية. ويظهر هذا الطابع الإشكالي ظهورًا أوضحَ في “النص التشريعي” كونه نصَّ تكليفٍ مُلزم يحتاج إلى درجة أعلى من التحديد أو حصرية المعنى، قياسًا إلى النص اللاهوتي أو القصصي الذي ينفتح على قابلية تأويلية أوسع.
إقرأ أيضًا: لا نسخ في القرآن الكريم بنص القرآن نفسه
تميل الهرمنيوطيقا المعاصرة إلى تهميش دور الكاتب وتصعيد دور المتلقي، أي تأخير السياقات “التراثية” للنص لحساب سياقاته “الراهنة”. لا شيء يوقف توليد الدلالات من النص عبر الذات المؤولة، فهذه الذات تستطيع تلوين أي نص بثقافتها الخاصة التي تعكس بالضرورة حاجات المواقع الحاضرة، بل هي في الواقع لا تستطيع تجاهل هذه الثقافة التي تحركها بطريقة غير واعية.
معنى ذلك أن الهرمنيوطيقا المعاصرة تتجاوز الخاصية المقدسة اللصيقة بالنص الدين، وتسمح للهلالي ضمن التيار التجديدي بتقديم اجتهادات تأويلية واسعة، لكن المُشكل يظل قائمًا أمام هذه الاجتهادات لإثبات معقوليتها من جهة، وإثبات مشروعيتها أمام “السلطة التفسيرية الحاكمة” التي تحتكر دلالات النص، من جهة أخرى. ومؤدى ذلك أنه طالما لم يصل التطور الاجتماعي (الاقتصادي/العقلي) إلى لحظة التناقض القصوى، ليفرض التجديد فرضًا، يظل التأويل قاصرًا عن إنتاج معنىً تجديديًا فاعلًا من الناحية العملية.
عند هذه النقطة يُمكن فتح النقاش بخصوص المشكل الأصلي، أعني مُشكل التكوين المركب للنظام الديني وعلاقته بالنظام الاجتماعي وموقع “التشريع” من كلا النظامين. هل يمكن للتشريع أي القانون، بما هو مجموعة القواعد الفرعية التي تحكم العلاقات الاجتماعية التي هي بطبيعة الاجتماع نسبية ومتغيرة، أن يكون جزءًا من “الدين في ذاته” كونه مطلقًا ثابتًا؟ هل يجوز أن يكون الدين قد أسبغ إطلاقيته المؤبدة على ما هو نسبي ومتغير؟ هل يجوز أن يكون الدين قد فرض على القانون أن يكون واحدًا في المستوى الكوني، ثابتًا على مدى التاريخ بغض النظر عن التعدد والتطور في بنيات الواقع الاجتماعي؟ وإذا كان الثابت بالاستقراء أن الواقع الاجتماعي في بيئة بعينها كان دائمًا هو الذي ينتج القانون، ثم يعود فيفرض عليه أن يتغير، کي يعكس حقائق التطور في الظروف الطبيعية والاقتصادية والسياسية والعقلية، مما يُفسر تعددية النظم القانونية وتطورها عبر الزمن، فهل استطاع القانون -كون التحاقه بالدين واكتساب وصف الشريعة- أن يجعل نفسه استثناء من هذا الاستقراء؟ أم أن الواقع الاجتماعي المتغير فرض على شريعة القرآن، مثلما فعل بشريعة التوراة، أن تتنحى نسبيًا عن هيمنتها التاريخية في المجتمعات الإسلامية مع ظهور الدولة الحديثة؟