آليات عمل المُتخيل الديني في حقل الما-ورائيات والحكايات الشعبية

 تكوين

تكتسب المعاني المُجردة نوعًا من الزخم المُكثف في فضاء المُتخيل الديني، قبل أن تنحل إلى جملة من الحقائق الموازية لتاريخ الجماعة الرسمي، وفي هذا العالم الموازي تُجبر الجماعة هزائمها وتُحقق احتياجاتها وتواسي ذاتها في أوقات المحن وتربأ بنفسها عن الرذائل في أوقات تَجَبُّرِها، مسكونةً بهاجس الفخر وتعويض ما فاتها في الواقع الملموس.

ولتكريس تلك المعاني يلعب المتخيل الديني دوره بوصفه أداة وظيفية لبناء تاريخ مفارق، تَحُفُّهُ القداسة والأساطير، لعلاج أوجه الخلل الاجتماعي والنفسي الذي لحق بالجماعة –أي جماعة – عبر تاريخها، بوصفه ذلك النسق أو البنية التي يدخل في تركيبها كل ما هو نفسي فرداني، إلى جانب ما هو جماعي، فكل نص ديني يولد معه متخيله الديني الذي يتداخل مع متخيله الاجتماعي، مما يساعد على فهم منشأ ظواهر الاجتماع، وكذا تحديد أبعادها وغاياتها، ذلك أن المتخيل يسمح بتفسير الأسطورة والتقديس والأدلجة التي ينتجها الفاعلين داخل أي مجتمع، الأمر الذي يُتيح في النهاية فهم الآليات العميقة لكيفية اشتغال المجتمعات البشرية وحركيتها، ومن هنا ميز أركون داخل المتخيل العربي/الإسلامي بين ثلاثة أشكال من المتخيل هي: المتخيل الديني والمتخيل الاجتماعي والمتخيل الفردي[1].

مصطلح المتخيل الديني

ضبط المفهوم إجرائيًا

يُمكن القول إن مصطلح المتخيل الديني يُشير إلى مجموعة الصور والرموز والأفكار التي يصوغها الخيال الجمعي في سياق ديني، لبناء عالم تخييلي مشترك أو فضاء نفسي واسع، من أجل إضفاء المعنى على العالم. وبعبارة أخرى فإن المُتخيل الديني وهو يمضي تجاه تكوين عالمه الموازي، يُضفي المعنى على الحياة، ويَعِدُ بما تتطلع إليه الجماعة من آمال، ويملأُ الفراغات التي تركها الدين، بما يُمثل أهمية لدى الجماعة في لحظة ما.

على سبيل المثال عمل المتخيل الإسلامي لتجاوز سكوت القرآن عن حقيقة الكائنات الما-ورائية وعن وصف ملامحها وهيئتها وأدوارها، وهو التجريد الذي لم ترضَ به الجماعة الشعبية، فتناولته بشيء من التفصيل[2]. واستجابت الأدبيات الدينية لهذه الرغبة فمضت تصف الملائكة وعوالمها باستخدام كل ما اختزنته الذاكرة الجمعية من تخييل مستمد من الخلفية الثقافية وما طرأ عليها من متغيرات.

هذا العالم المتخيل يتكون ببطيء في تفاعل بنيوي معقد بين النصوص المقدسة والقيم الدينية من جهة، والبيئة الثقافية والطبيعية وتقاليد الجماعة وتاريخها من جهة أخرى. وعليه يتميز المتخيل الديني بطبيعته غير المتجانسة، بسبب تنوع مصادره، إذ يدخل فيه محتوى متباين للغاية، تتداخل فيه العقلانية بالخرافات، وتتسلل من طريقه قيم التوحيد بتراث الوثنية، وتتفاعل في سياقاته الرموز والأساطير مع المعاني الفلسفية والأخلاقية المتراكمة عبر التاريخ.

وعلى الرغم من هذا التنوع يظلُ هناك ثابت أساسي يُكون نواة المتخيل الديني، وهو حضور المقدَس بوصفه عنصرًا مركزيًا فيه. ويؤكد مالك شبل أن المقدس يُمثل دائمًا العنصر المركزي الثابت في المخيال الثقافي العربي الإسلامي[3].​ بينما تُفرق لطيفة كرعاوي بين نوعين من الثقافة:

  • ثقافة عالمة، وهي مجموع العلوم والآداب والفنون التي يُشرف على تداولها وإنتاجها النخبة من أهل العلم بوصفها ثقافة العقل المبنية على الجد والصرامة.
  • والثقافة الشعبية، التي يُرمى في خانتها عادة الفولكلور والخرافات والقصص الأسطورية، ولوقت طويل عُدَّت المخيلة سيدةَ الخطأ والضلال، قبل أن يتحرر الفكر الإنساني من هيمنة خطاب الفلسفة والأخلاق، الأمر الذي ردَّ إلى المخيلة قيمتها في حقل الدراسات، لقدرتها على عرض “الممكن الوجود[4].

مفهوم المتخيل الديني

ويُمكن القول إن مفهوم “المتخيل الديني” ليس مرادفًا للوهم أو الكذب، فهو مرآة للصور الذهنية والرموز والإحالات النفسية التي تتكون داخل الوجدان الجمعي، كما أنه لا يُخاصم التاريخ تخاصمًا صارمًا، فهو “يتغذى من بعض المعطيات التاريخية ويتخذها رافدًا، كي يستمر وجوده من ناحية، ويتجاوزها لبناء خطابه الخاص من ناحية أخرى”[5]. الأمر الذي يُنتج في نهاية الأمر كتلة صلبة من القيم الجماعية، تمنح الاجتماع تماسكًا عضويًا وفق جُملة من التمثلات الإدراكية، تتكون وتتخلق فيها باستمرار، مجموعة من الصور الثقافية الحية والحيوية التي يصوغها المجتمعُ وفق عقائده وقيمه وتاريخه واحتياجاته، للتعبير عن رؤيته لذاته الجماعية وللذوات الأخرى، بل وللوجود كله، ليصبح المجتمع موضوعًا مقدسًا في مواجهة العالم، الأمر الذي يمنحه القدرة على البقاء، وكذا القدرة على تبرير أخطاءه في بعض الأحيان، لذا فالمتخيل الديني هو إطار نظري يساعدنا على فهم حركة الاجتماع، تماهيًا مع الدين والتقاليد والاحتياجات والأمنيات المستحيلة في ذات الوقت، عبر الخيال البنائي الخلَّاق الذي يُعطي إلى الحياة الاجتماعية المعنى​، ويُحقق في الوقت ذاته الاحتياجات النفسية وفق أولويات الجماعة.

عناصر المتخيل الديني في حقل القصص الشعبي

استلهمت الحكاية الشعبية عدة عناصر من المخيلة الدينية الموجودة في البيئة العربية، قبل وبعد الإسلام فنجدها أفادت من تراكُم طبقات المعنى الكامن في القصص الموجود في المعتقدات التي تستمد جذورها من أساطير البيئة الثقافية التي أنتج داخلها التراث الديني في الجزيرة العربية أو خارجها، إذ يُمكن تتبُع عدة روافد أسطورية وتخيلية ضمن سياقاتها أسهمت في صياغة صور الخيال بها، وأسبغت عليها هالة من القداسة.

إقرأ أيضًا: الممر السحري بين التاريخ والمتخيل الديني

عاش العرب قبل الإسلام في بيئة غنية بالمعتقدات الرُوحية والأساطير، وهي بيئة يؤدي فيها حضور الكائنات الما-ورائية دورًا كبيرًا، بكيفيةٍ تتسقُ والبيئة الصحراوية بقسوتها واتساعها، فكانت عوالم الجن والغيلان حاضرة بقوة في الصحاري والأماكن المهجورة، في حين لم يعرف العرب وحوش خرافية مائية: كالكراكن في الأساطير الإسكندنافية[6] أو وحوش الغابات التي عرفتها الأساطير الأوروبية والأمريكية أو الأنهار الخرافية في بلاد العراق مثل: نهر هوبور الذي تَعْبُره أرواح الموتى للوصول إلى العالم السفلي[7].

لكنهم وظفوا ما هو كائن في بيئتهم مثل: الأفاعي وأسبغوا عليها طابعًا خرافيا، كالأفعى العملاقة الشهيرة في سيرة العرب الهلالية، وهي كائن خرافي “لها داغ مثل داغ الجمل، العينان متقدتان كاللهيب، ويدان ورجلان كالعواميد”، التهمت البشر والدواب، واستوطنت حول عين ماء، فكانت دومًا ترسي السم فيها، ثم يأتي وحش الكركند[8] (كفحل الجاموس)، له قرن بين عينيه، يغط قرنه بالماء فيزيل السم ويشرب، ويشرب بعده الناس[9]. وتمضي الحكاية الغرائبية، إذ يساوم أبو زيد الهلالي القوم بأن يحصل على الكركند، نظير قتله الأفعى العملاقة، وبالفعل تمكن من استدراجها وقتلها، قبل أن يُحيط القوم بالكركند، وينجح أبو زيد في اصطياده بواسطة حبل سحري صُنع من صوف أعطاه إياه الخضر، ليأتي له بالكركند “فنكس رأسه وقاده ذليلًا بين يديه، ببركة الخضر أبي العباس عليه السلام[10].

حضور المتخيل التوراتي

تأثرت البنية الذهنية للعرب بالمخيال التوراتي، وتسربت إليهم القصص الدينية بحمولتها التخييلية، ويشير برنارد هيلر إلى أن الأسطورة التوراتية في بلاد العرب وارتباطها بالأجاداة اليهودية، كانت موضع دراسة مستفيضة​، إذ بينت بحوث مبكرة مثل: كتاب الأساس اليهودي للإسلام لــ “توري “في العام 1933، وجود طبقة من القصص اليهودية-المسيحية المندمجة في المرويات الإسلامية، على سبيل المثال: قصة طوفان نوح وتفاصيلها المستفيضة التي لم يذكرها القرآن، انتقلت من التوراة إلى التفاسير الإسلامية، عبر روايات كَعْب الأحبار ووَهْب بن مُنبه وغيرهما. كذلك تأثرت تفاصيل بناء الكعبة على يد النبي إبراهيم، بخليط من الحكايات التوراتية المختلفة، إذ يُرجع أصل فكرة تقديس مكة بواسطة النبي إبراهيم، إلى التأثر بمرويات يهودية وسامرية عن تقديس جبل الموريا في أورشليم[11]​.

وبالمثل ذهبت الرواية الشعبية إلى تقديس مكة، بل وأراد أصحابها تعميد رموزهم بها، فعلى سبيل المثال، قيل إن الجد الأكبر للهلالية زار مكة، بوصفها المكان المقدس الذي يمنح زواره الغطاء الديني الكافي، بل وانفردت الحكاية الشعبية بالحديث عن تفاصيل زيارة هلال مكة، ومقابلة النبي محمد عليه السلام؛ “قال الراوي:

“اتفق أن هلالًا زار مكة في بعض السنين في أربعمائة فارس كرار، وكان وقتئذ ظهور النبي المختار، وعند وصوله ضرب الخيام وطاف هو ورجاله حول البيت الحرام، ثم تشرف بمقابلة النبي وقبله بين عينيه، وصار له من جملة الأصحاب والأعوان والأحباب”.

ثم تمضي الرواية لتزعم مشاركة الهلالية في الصراع بين النبي وأعداءه من اليهود، فتقول:

“أمره النبي أن ينزل في وادي العباس… وكان النبي في تلك الأيام يُحارب، فعاونه الأمير ومده بالعساكر وقاتل معه القوم في ذلك اليوم… وكانت فاطمة الزهراء راكبة على هَوْدَجِها… فشرد بها في البراري والفَلَوَات، وعند رجوعها دعت على الذي كان السبب بالبلاء والشتات، فقال لها أبوها ادعي لهم بالانتصار فإنهم بنو هلال الأخيار… فنفذ فيهم دعاؤها بالتشتيت والنصر”[12].

هكذا صاغ الراوي الشعبي لقاءً جمع بين هلال والنبي الخاتم، وهو لقاء يؤدي دورًا وظيفيا على أكثر من اتجاه، فهو يُفسر الشتات بوصفه نبؤة، تنفيذًا لدعاء فاطمة الزهراء، فلم تنسخ دعوتها للهلايل بالنصر اللعنة التي تسببت فيها دعوتها الأولى عليهم بالشتات، في تبرير مفارق ورباني لقدر الاغتراب الحتمي. وكذلك يلعب اللقاء الأسطوري دورًا وظيفيًا آخر، في مواجهة الروايات التي تقول إن الهلالية كانوا ضمن تحالف قريش الذي هاجم المدينة في غزوة الخندق، وأنهم ارتدوا ورفضوا دفع الزكاة في عهد أبي بكر الصديق[13].

الحكاية الشعبية والتناص في الأديان الإبراهيمية

كانت فكرة المُخلص المنتظر في مواجهة الشر من المكونات المهمة التي نقلها المتخيل الديني إلى الحكاية الشعبية، وهو ما تجلى بوضوح في تغريبة بني هلال، فقد تفاعلت الجماعة مع تلك الفكرة التي تناقلها اليهود ضمن نبوءاتهم عن حرب نهاية التاريخ، ووجدت الأسطورة طريقها إلى المخيال الشعبي، عبر تموضعها في بنية السردية الإسلامية بصور معدَلة، ويبين ستيفن واسرستروم في دراسته عن التفاعل بين الإسلام واليهودية، أن التراث الإسلامي تبنى إلى حد ما تصورًا موازيًا لما هو موجود عند اليهود، إذ يأتي دجال في آخر الزمان يتبعه المضلَلون ويتصدى له المهدي أو المسيح عيسى في الإسلام، والمثير وفق واسرستروم، أن النصوص اليهودية -في العصور الأولى للإسلام- تخيلت المسلمين أنفسهم هم قوى الشر في آخر الزمان، وتوقعوا ظهور المسيح اليهودي لقيادة اليهود في معركة المصير، في حين تخيَل المسلمون دجالًا ذا صلة باليهود، سيُهزَم على يد المخلص الإسلامي[14].  وهذا التناص في السرديات يوضح كيف تداخلت المخيلات الدينية بين الديانات الإبراهيمية، فقد عَملت فيها بفاعلية على تكوين صور متشابهة لنهاية العالم.

باختصار تكون المتخيل الديني لدى العرب في القرن الأول الهجري، من خليط من معطيات البيئة العربية الصحراوية وأساطيرها الخاصة، مثل: الجن والشياطين والغيلان، ومن التراث اليهودي-المسيحي، الأمر الذي أمدَّ المخيال الإسلامي برموز وقصص وحكايات، أصبحت جزءًا من الثقافة العربية لاحقًا: كصور الجن والشياطين وتفاصيل ملاحم نهاية الزمان، واندمج كل هذا برُوح البطولة والفروسية عند العرب، فحفلت حكاياهم بانتصارات أسطورية على الجن، وهو ما يتجلى بوضوح في القدرات الخارقة التي مُنحت للأبطال الشعبيين، فأُشيع أن أبا زيد الهلالي رُبع نبي، وأنه وُضع في أعلى درجات الفروسية البشرية بعد النبي وعلي بن أبي طالب بوصفه رمزًا لتحرير الذات العربية الجماعية، ساعده على ذلك قدراته الفروسية الخارقة على التواصل مع الكائنات الماورائية، وهو ما تمثل في الشخصيات المانحة مثل الخضر عليه السلام الذي يظهر في وقت الشدة ويعمده في لحظة الميلاد وسليط الجن، وكلها قدرات توفرت لديه بوصفه البطل المخلص[15].

إقرأ أيضًا: الدلالات الرمزية لبيئة الصحراء وأثرها على فضاء المتخيل الديني

وعليه وجدت عناصر المتخيل الديني طريقها إلى بنية السيرة الهلالية، مستفيدة من تموضعها ضمن النصوص الدينية مع بدء التدوين، وتداخلت بالتبعية بعض الأساطير الموروثة مع ما يرويه المسلمون عن أحداث التاريخ الإسلامي وعالم الغيب المفارق، وذلك عبر آليتين رئيستين: النقل الشفاهي وحركة الروايات الشعبية عبر هجرة القبائل من الجزيرة إلى الأمصار. وفي الأخيرة كانت الرواية تُعيد صياغة المعطيات الجديدة الوافدة، وإنتاج مزيدٍ من الحكي الذي يتماهى والسردية الأولى.

كذلك فإن بعض التصورات الشعبية بخصوص معجزات طفولة النبي أو علامات نبوته، تناصت في تعالقٍ مُدهش مع علامات ميلاد المخلص والمعجزات التي حفت بذلك الحدث المركزي، كما ذهبت الحكاية الشعبية إلى أبعد من ذلك، ففي أثناء قيامها بملء الفراغ ما بين النظائر في الإسلام واليهودية، مثل قصة النبي يوسف وتجبر فرعون وأخبار النبي سليمان مع الجن، راحت تستمد مزيدًا من الحكي، وتُضمنهُ داخل بنية السيرة الخاصة بها تضمينًا مباشرًا أو غير مباشر.

المتخيل فاعلًا لتكوين التاريخ الموازي

ترك المتخيل الديني بصماته الواضحة في الحكاية الشعبية، وظل فاعلًا داخل الرواية العامة والروايات المتفرعة عنها، وتناقل الناس القصص بتفاصيلها الطويلة عبر الأجيال المتعددة، وبَيَّئُوا الأبطال والأحداث، ونَسجت كثيرٌ من القصص الواردة فيها خيوطها على منوال الرموز الدينية والأسطورية المترسخة في الوجدان الجمعي، لتنتج خليطًا من الواقع التاريخي والخيال الأسطوري، يتداخل فيه ذكر الله والصلاة على النبي مع حضور الجن والسحرة والعرافين في نسيج واحد.

كانت الحكاية الشعبية من المرونة لتستوعب كذلك المؤثرات الوافدة فيها في موطنها الجديد، ففي شمال أفريقيا حيث حكايات السحر والعرافة، كانت الجازية الهلالية توصف أحيانًا بالعرافة الحكيمة، في تناص مع الكاهنة (العرافة) ديهيا التي تحالفت مع كسيلة لطرد المسلمين الأوائل، فقد انتهى الأمر بمقتل عُقبة بن نافع، وتسللت عدة طقوس سحرية لمضامين الحكاية الشعبية، ومن ضمن ذلك ما كان معروفًا في شمال إفريقية من طقوس سحرية بالقرب من العيون والأشجار والمواكب التي كانوا يمارسون فيها السحر، كما عمدوا إلى التضحية والعرافة وأولوا عناية خاصة لتنبؤات النساء[16]. وهو ما استدعته السيرة الهلالية في نبوءات مقتل أبطالها وبالأخص نبؤة سُعدة بمقتل والدها الزناتي على يد دياب بن غانم.  والعرافين بعامة في السيرة الهلالية يُضفون بُعدًا غيبيًا في السرد، مما يُضفي في الصراع طابعًا قدريًا، ويُبرر بعض الأفعال ضمن السياق الديني.​ فــ “البطل الشعبي في السيرة الهلالية كان مصحوبًا بقوى تنتمي إلى العالم الغيبي، تساعده في الانتصار على خصومه، مما يعكس اختلاط المُتخيل الديني بالخيال الأسطوري”[17]. بل إن أبا زيد الهلالي يُصوَّرُ أحيانًا عرافًا يتنكر ويمارس ضرب الرمل للتنبؤ بالمستقبل[18].

وفي السردية الشعبية تظهر ملامح المتخيل الديني واضحة، فالأبطال يستنجدون بالله في المَلَمَّات، وتتكرر عبارات الحمد والتوكل وتُنسب الانتصارات أحيانًا إلى بركة دعاء أو كرامة شيخ أو ولي، في الوقت نفسه نجد عناصر تخيلية حاضرة بقوة مثل: السحر إذ يفكُّ أبو زيد الهلالي طلاسم السحر الأسود الذي قام به طيار بن رحيل “واحضر تخت الرمل وحرر عليه الأشكال، فبان له ما صنع طيار الساحر، فتنهد أبو زيد وقام وقعد، وكتب على كفه من الطلاسم، وكتب آيات مسداد التي تُبطل السحر، واستطلع الفلك فعرف في أي مكان… وقرأ أبو زيد طلاسم الإخفاء”[19]. ويمكن القول إن هذا التوظيف للمتخيل الديني ساعد على تكوين حبكة مشوقة، نجحت الجماعة في إعادة انتاج مخرجاتها باستمرار، من أجل ملئ الفراغات بين الأحداث الطويلة.

كان حضور الشخصيات الخارقة فاعلًا في بنية السير الشعبية بعامة، فمثلًا يذكر الراوي أن شيخًا بارك الجنود قبل الحرب، كما أن أبو زيد يقابل الخضر عليه السلام، الأمر الذي يجعل التاريخ الموازي مشحونًا بنوع من القداسة. ويلاحظ دوايت رينولدز في دراسته عن الشعراء الشعبيين، أن هذه الملاحم عُدَّت لفترة طويلة جزءًا من ممارسات المجتمعات المتدينة، فلم يقتصر تأثير المخيال الديني في السير البطولية وحدها، وإنما نجده أيضًا في الحكايات الخرافية والقصص القصيرة المتداولة، مثل: ألف ليلة وليلة وقصص الأولياء والجن والسحرة وأساطير على شاكلة البساط الطائر والخاتم المسحور ومصبح الجان. وكلها عناصر خيالية تؤدي جملة من الأدوار الوظيفية، لكن اللافت أن كثيرًا من تلك القصص لم يخلُ من استدعاء القيم الدينية، كالدعاء لله عند الشدة ووقت الحرب والغزو، حتى وإن كان الداعي مُعتديًا على العُزَّلِ والأبرياء[20].

ويمكن القول إن المتخيل الديني الإسلامي اختلط بعناصر البيئة الصحراوية والمؤثرات المستوطنة في البنى الذهنية في عصور ما قبل الإسلام، وكذا العناصر التخييلة الوافدة، ولم يكن المتخيل الديني خلفيةً صامتة للأحداث فحسب، وإنما كان قوة فاعلة كونت كثيرًا من ملامح التاريخ الموازي وأحداثه. تفاعلت فيه عناصر مثل: الجن والغيلان والمهدي والخضر، مع مرتكزات العقيدة الإسلامية، ثم مضت تلك المفاهيم والعناصر في عملية تكيف بنائي مع قيم الفروسية، وتفرعت داخل المنظومة القبلية، لتُلهم الراوي الشعبي نتاجًا قصصيًا ملحميًا، الأمر الذي أكسب الملاحم الشعبية في نهاية الأمر ثراءً وتميزًا، وجعل من دراسة المتخيل الديني ضمن سياقاتها مجالًا مهمًا لفهم التطور التاريخي والاجتماعي الذي أنتج تاريخًا موازيًا ظل حاضرًا في الأذهان، بل وتفوق على حضور التاريخ الرسمي الذي ربما يختلف جذريًا عن السردية الشعبية.

 

المراجع:

[1] عبد المجيد خليقي: قراءة النص الديني عند محمد أركون، منتدى المعارف، بيروت، 2010، ص 125.

[2] بسام الجمل: أسباب النزول، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2013، ص ص 389 – 390.

[3] Malek Chebel: L’imaginaire Arabo-Musulman, Presses Universitaires De France, Paris, 1993, Pp.99-101.

[4] لطيفة كرعاوي: الفردوس والجحيم في المتخيل الإسلامي، المركز الثقافي العربي – مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، 2014، ص ص 23 – 24.

[5] بسام الجمل: جدل التاريخ والمتخيل، سيرة فاطمة، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2016، ص ص 18 – 19.

[6]Rodrigo B. Salvador & Barbara M. Tomotani: The Kraken: When Myth Encounters Science, História, Ciências, Saúde – Manguinhos, Volume 21, Issue 3″, Rio de Janeiro, 2014, pp. 855- 878.

[7]  نواف حردان: أضواء عليها، مطبعة جريدة الأنباء، الكويت، 1980، ص 114.

[8]  في لقاء أبو زيد بالخضر، طلب منه الأخير احضار الكركند، بوصفه الكائن الوحيد القادر على مواجهة أفيال الملك الكوكبي الجبار، الذي يملك ألف فيل.

– المؤلف المجهول: سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية، مكتبة الأندلس، بيروت، د.ت، ص 216، ص ص 179-180.

[9] سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية .. مصدر سابق، ص 182.

[10] نفس المصدر السابق، ص183.

[11] Bernard Heller: La légende Biblique dans l’Islam, Récents Travaux et Nouvelles Méthodes de Recherches, REJ, 1934, t. XCVIII, pp. 1-18.

[12] سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية .. مصدر سابق ص 2.

[13]عبد الحميد بو سماحة: المسير في تغريبة بني هلال بين الواقع والخيال، وزارة التعليم العالي، الجزائر، 2005، ص31.

[14] Steven M. Wasserstrom: The Islamic Dajjal and the Jewish Antichrist”, Published in The Muslim World, Volume 81, Issues 3–4, 1991, pages 279–293.

[15] خالد عبد الحليم أبو الليل: السيرة الهلالية في محافظة قنا، دراسة للراوي والرواية، رسالة دكتوراة، كلية الآداب -قسم اللغة العربية، جامعة القاهرة، القاهرة 2007، ص 261.

[16]  عبد الحميد بريو بن الطاهر: القصص الشعبي في منطقة بسكرة، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص 11.

[17]عبد الله حسين: التوظيف الفني التاريخي في تغريبة بني هلال، مذكرة ماستر في الأدب العربي​، جامعة محمد خيضر، بسكرة – الجزائر، 2028، ص 61.

[18] سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية .. مصدر سابق ص465.

[19]  نفس المصدر السابق، ص ص 643 – 644.

[20] Dwight F. Reynolds: Heroic Poets, Poetic Heroes: The Ethnography of Performance in an Arabic Oral Epic Tradition, Cornell University Press, 1995, pp. 2-4.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete