تكوين
النسخ في اللغة يأتي بمعنى الإزالة، وفي علوم القرآن، يعني رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي، أمّا كلمة الناسخ فتطلق على الله أو الرسول، وتطلق أيضًا على الآية؛ فيقال هذه الآية ناسخة لآية كذا، وتطلق على الحكم فيقال، حكم كذا ناسخ لحكم كذا، وأمّا المنسوخ فهو الحكم المحذوف. وممّا هو معروف عند أهل الفقه، فإنّ النسخ لا يكون إلّا في الأوامر والنواهي[1].
تأسّس القول بالنسخ على الآية 106 من سورة البقر: ” مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”. وانحاز المفسرون إلى القول بأنّ المقصود بالنسخ في الآية هو التبديل، وحُملت كلمة “خير” على معنى التفضيل.
من جهته، يقول ابن حزم إنّ النسخ في اللغة عبارة عن إبطال شيء، وإقامة آخر مقامه، وفي الحديث: “ما من نبوة إلّا وتنسخها فترة”. والنسخ في اللغة موضوع بإزاء معنيين: أحدهما: الزوال من جهة الانعدام. والثاني: على جهة الانتقال[2].
النص إذ يستجيب لشروط الواقع
كان حضور الناسخ والمنسوخ ملحوظاً في النص القرآني، والذي ينقسم، وفقاً لابن حزم، إلى ثلاثة أنواع[3]:
- سور لم يدخلها ناسخ ومنسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة.
- سور فيها ناسخ وليس فيها منسوخ وعددها أربعون سورة.
- سور دخلها الناسخ والمنسوخ، وعددها خمس وعشرون سورة.
من جهته، يذكر السيوطي أنّ النسخ وقع في إحدى وعشرين آية على خلاف في بعضها[4].
ويمكن القول إنّ الناسخ والمنسوخ مصطلحان بينهما نوع من الترابط العضوي، فالنسخ: هو رفع الحكم الشرعي المتقدم، بواسطة خطاب متأخر، والناسخ هو الله ورسوله، فقط، فيما أذن الله به، ولا يمكن لأحد أن ينسخ حكمًا شرعيًا إلّا ببيان من الكتاب أو السنة. وهناك منسوخ عنه، وهو الحكم المتقدم، والمنسوخ إليه هو الحكم المتأخر.
ويلاحظ ابن حزم، باستقرائه لجملة أحكام السور المكية والمدنية، أنّ المنسوخ بمكة كثير، بينما الناسخ بالمدينة أكثر[5]. الأمر الذي يعني أنّ استقرار الدولة تطلب بالضرورة إحداث تغيير في الأحكام والتشريعات؛ ممّا يعني ضمناً تأثر النص المؤسس بالسياسة، ومتغيرات الاجتماع في لحظة التنزيل، في فترة زمنية، قصيرة نسبياً. ذلك أنّ “نزول القرآن كان في ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين في المدينة”[6].
ويمكن القول إنّ آلية النسخ توسعت، تحت ضغط جملة من الدوافع الاجتماعية والسياسية، ليجري نسخ القرآن بالحديث، وهو ما يظهر بوضوح في ذلك التباين بين الحكم الفقهي الوارد في الآية 180 من سورة البقرة: ” كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين “. حيث قام الفقهاء بإبعاد النص القرآني لصالح رواية:” لا وصية لوارث”.
ولعل الإشكالية الرئيسية هنا، هي الكيفية التي جرى بها نسخ نص قرآني قطعي الدلالة والثبوت، لصالح رواية ظنيّة، فالقرآن هنا لم ينسخ بقرآن مثله. كما أنّ هناك مغالطة منطقية لا يمكن بحال تفاديها، حيث إنّ حضور الوالدين والأقربين ضمن مستحقي الوصية، وهم من ورثة الميت، ينفي تماماً القول بعدم أحقية الوارث في الوصية. ويمكن القول إنّ الوصية لوارث واجبة بنص القرآن، وغير جائزة بنص رواية عمرو بن خارجة عن النبي: “إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث”. فتم الانحياز للرواية، وتعطيل حكم النص!
إشكالية أخرى يطرحها ما ذهب إليه جمهور الفقهاء والمحدثين والمفسرين، من القول بجواز وقوع نسخ التلاوة والرسم، مع بقاء الحكم الشرعي المتضمن في الآية ثابتاً، أي حذف الآية من المصحف، مع بقاء حكمها، والمثال الشائع هنا آية الرجم: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من الله والله عزيز حكيم” [7]. حيث استند إليها الفقهاء في ثبوت حكم رجم الزاني المحصن.
ويبدو أنّ المجال التداولي الذي تم فيه تفسير القرآن، تطلب نوعا من التفاعل مع الواقع، انصياعًا لمتطلبات الاجتماع وربما السلطة السياسية وتطلعاتها، الأمر الذي ترتب عليه نسخ آيات، كآية الرجم، لعدم توافر الشروط الحضارية لتنفيذها، قبل أن يصبح المجال الديني مغلقا فيما بعد، بفعل المفاهيم الناجزة، ممّا أدى إلى تنميط وتوظيف النص، وبالتالي اعتماد حكم آية منسوخة تلاوة.
وعلى الرغم من الإحالة على ما رواه ابن سيرين عن وجود حد الرجم في عهد عمر بن الخطاب، واستمراره في عهد خلافة علي بن أبي طالب: “كان عمر يرجم ويجلد، وكان علي يرجم ويجلد”. وكذا نفي الإمام العيني لذلك بجرح شهادة ابن سيرين بقوله: “ابن سيرين لم يدرك عمر رضي الله عنه، لأن مولده لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيكون الحديث منقطعاً”. فإنّ استدعاء الحكم يطرح جملة من التساؤلات، حول طبيعة المتغيرات السياسيّة، التي استدعت ردعًا تشريعيًا بمثل هذه القسوة.
ولعل شيوع استخدام حد الرجم في العصر العباسي، يضعنا أمام جمله من المعطيات، تتعلق بطبيعة الصراعات المذهبية والسياسية، ودورها في استحداث عقوبات شديدة العنف، لإخضاع الاجتماع من جهة، وتصفية الخصوم السياسيين؛ تحت غطاء قانوني من جهة أخرى.
ويمكن القول إنّ التفرقة بين المجال الديني l التشريعي، وأجواء الصراع السياسي، تبدو تفرقة مفتعلة، فليس صحيحًا أنّ التشريع الديني يعمل بمعزل عن السياسة، فالتشريع الديني يتجلى في الاجتماع؛ بهدف تنظيم سلوكيات أفراده في ضوء المسموح به، لكنه لا يقيم تلك التفرقة الحاسمة مع السياسة، بل نجده يخضع لها، كأداة من أدوات البطش الضمني للمؤسسة السياسيّة. ممّا يؤدى إلى خلق مجتمع تتحقق فيه شروط الاستجابة الكاملة لما يفرض عليه؛ فينصاع بشكل تلقائي، لكل ما يملي عليه من السلطة.
نسخ الحكم وبقاء التلاوة
هناك نوع آخر من النسخ، هو نسخ الحكم وبقاء التلاوة، ومثال ذلك نسخ حكم آية العدة بالحول مع بقاء تلاوتها، والمقصود هنا الآية 240 من سورة البقرة: “والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج”. ما يعكس انصياعًا من النص نفسه لمتطلبات الواقع الاجتماعي، حيث استجاب التشريع القرآني لاحتياجات الاجتماع، فأبدى مرونة فائقة، وأبرز قدرة ذاتية على التطور.
من جهته، حاول نصر أبو زيد، الاستفادة من هذه القاعدة؛ للتدليل على مرونة النص، ومدى قدرته على التماهي مع الواقع وشروطه، حيث يرى أنّ ذلك يفتح المجال أمام إعادة تفعيل الآية المنسوخة، عندما تعود ظروف تحققها، وفي هذا ربط للنص بالواقع، الأمر الذي يضع الناسخ في دائرة المنسأ على الدوام. وهو التحليل الذي يراه حيدر حب الله، يضعنا أمام تفسير يرى أنّ بقاء المنسوخ، تلاوة، دلالة على إعادة تفعيل لدوره على تقدير عودة الظروف المشابهة، ممّا يعني أنّ النص المنسوخ لم يمت الى الأبد، وكلّ ما في الأمر أنّ “موضوعه وظرفه الذي يجعله حكماً فعلياً قائماً عملياً قد تجمّد، وهذا يعني ان عودة ظرفه تعيده الى حالة الفعلية هذه، وهذه العملية تضع التشريعات كلّها تقريباً تحت سلطان ثنائي الناسخ والمنسوخ، ومن ثم، فلا تعني حالات النسخ المذكورة تاريخياً صيغة نهائية، وإنما مجرّد مثال تحقق في تلك الظروف”[8].
وربما انطلق نصر من سعيه تجاه إعادة وضع النص في التاريخ، وهو أمر لا يتم، في نظره، دون النظر إليه في تكونه، أي الوقوف على كيفية تكونه وتركبه من خلال النزول على مدى بضع وعشرين سنة. “حيث كانت الآيات تتلبس ببعض الوقائع الجزئية”. وبمعنى آخر فإنّ الظاهرة القرآنية، بوصفها متولدة في التاريخ، فهي “تعيد إنتاج دلالات أكثر دوامًا، وتلك الدلالات هي التي انبنت عليها الظاهرة الإسلامية”[9].
في المقابل، فإنّ علم أصول الفقه، لا يقر حركة الأحكام وتحولات المنسوخ في ضوء ارتهانات الواقع، فالنسخ هو الغاء حكم بشكل ناجز ونهائي، لزوال السبب، حيث لا ارتباط دينامي بين النص والموضوع.
ولعل احتفاظ المصحف بالحكم ونقيضه، أي بالناسخ والمنسوخ، دلالة على الإقرار بالتاريخية، فالنص يعبر عن التطور التاريخي الذي لحق بالأحكام، حيث أسقط بعضها لصالح أخرى، وهو أمر لم يجد المسلمون الأوائل حرجًا معه، حتى أنّهم وضعوا الناسخ والمنسوخ إلى جوار بعضهما البعض بين دفتي المصحف؛ حيث كان الإنسان حاضراً في التركيب البنائي واللغوي لفعالية المعنى في القرآن، بوصفه خطاب، وهو أمر كان لابد أن ينعكس على طبيعة المعرفة التي نشأت حول القرآن، لولا السقوط المعرفي، الذي أّدى إلى بناء أنظمة مذهبية، منعت دخول الإنسان ضمن عالم القرآن على صعيد المعنى والأحكام.
هذا الإخضاع الذي تعرض له العامل الديني من قبل العامل السياسي، دفع أركون إلى القول إنّه لم يتح للإسلام أن يحظى بالشروط المتميزة والممتازة نفسها، التي كان يحظى بها سابقًا على مستويي التعبير الرمزي والسياسي، فالنبي كان يرسِّخ يومًا بعد يوم نظامًا سياسيًا محددًا، ثم يركِّز قواعده وبشكل ناجح ومطابق على مجريات عملية الترميز، فكلَّ قرار سياسي كان يتخذه، كان يلقى مباشرة تسويغه الديني الرمزي، وغائيته من خلال العلاقة المعاشة مع الله[10].
في مرحلة لاحقة، حاول أركون بناء وعي تاريخي، يحل محل الارتباك الفقهي الظاهر في التعامل مع الناسخ والمنسوخ، والعجز الظاهر عن استخدام أدوات منهاجية أكثر عمقًا، فاستخدم هذه المنهجية التاريخية، من خلال التدقيق في كل المعطيات التاريخية. وإن أكّد في الوقت نفسه أنّ الحداثة أكبر من أن تؤطر بسياج التاريخ، فـهي “موقف للروح أمام مشكلة المعرفة”[11].
أسباب نزول القرآن
يرصد بسّام الجمل، الكيفية التي استخدم بها المفسرون أسباب النزول، لإثبات حصول النسخ في القرآن، ذلك أنّ فهم أحكان النسخ في ظنهم، لا تتم إلّا بتبين أسباب النزول، والتي قاموا بتطويعها؛ لتبرر مواقفهم من النسخ، ” فقولهم بأنّ آية ما ناسخة أو منسوخة، أو محكمة، أحوجهم إلى توظيف سبب نزولها نقضًا للنسخ أو إبراما له”[12] . وعلى الرغم من أنّه ليس لكل آيات النسخ أسباب نزول معروفة، إلّا أنّ هذا لم يمنع القدامى من تصنيف الآيات إلى ناسخ ومنسوخ.
ويخلص بسّام الجمل إلى أنّ القول بالنسخ تأثر بأمرين مهمين: أولاً طبيعة التأويل الذي فرضه المفسرون للآيات المتعلقة بالنسخ. ” فالآية الواحدة تكون ناسخة في تأويل أول، وتكون منسوخة في تأويل ثان، وتعتبر محكمة في تأويل ثالث، ممّا يقيم الدليل على أهمية العلاقة بين النسخ والتفسير”. أمّا الأمر الثاني؛ فيتمثل في أنّ النسخ تأثر بضغوط الواقع التاريخي، منذ مرحلة التنزيل، وصولاً للحظة التفسير. فالمفسر ” ينتقي مما حصل في التاريخ الإسلامي من اجتهادات، وما تحقق من أحداث سياسيّة واجتماعيّة، ما يدعم موقفه من النسخ”[13].
ولعل فشل المفسرين في إدراك العلاقة بين بنية النص والتاريخ، هو نتيجة لعدم قدرتهم على تحقيق الترابط بين التحليل الصوري والتحليل التاريخي، وهو ما يمكن رده إلى الفجوة القائمة بين طبيعة النص الدينامية في لحظة التنزيل، والنزوع تجاه أطلقة النص واللغة وتأبيد التفسير، في فترة التدوين.
وهكذا، أحال التفسير عالم النص إلى أنساق جامدة، لا تستطيع الحركة في الزمن، ممّا جمّد فعاليته وصيرورته لصالح البنية، وعلى الرغم من أنّ التفسير لم يتجاهل التاريخ، إلّا أنّه اتجه إلى تقييد دوره مستقبلاً؛ لحساب النسق؛ بافتراض وجود نموذج واحد لتاريخ تراكمي رتيب، مع تجاهل احتياجات الاجتماع تبعاً للتنويعات الثقافية، وكذا تجاهل استجابة النص في لحظة التنزيل لمثل هذه الاحتياجات.
المراجع:
[1] محمد معبد: نفحات من علوم القرآن، دار السلام، القاهرة، 2005، ص 78.
[2] ابن حزم الأندلسي: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، ص6.
[3] نفسه، ص ص 10-12.
[4] محمد معبد: المرجع السابق، ص 83.
[5] ابن حزم الأندلسي، المرجع السابق، ص 19.
[6] محمد الشايع، نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد الرسول، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد للطباعة، د.ت. ص ص 41-42.
[7] محمد معبد: المرجع السابق، ص82.
[8] حيدر حب الله: الدرس القرآني وتجاذبات المناهج – قراءة في علوم القرآن عند د. نصر حامد أبو زيد، العدد ١٣ من مجلة الحياة الطيبة في بيروت عام ٢٠٠٣.
[9] نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، ص 117.
[10] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1993، ص63.
[11] عبد الوهاب شعلان: إشكاليات الفكر العربي المعاصر في أطروحات أركون، الجابري العروي، حسن حنفي، علي حرب، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1 2006، ص20.
[12] بسام الجمل: أسباب النزول علما من علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2013، ص 302.
[13] نفسه: ص 303.