تكوين
“يمكن ضرب المرأة الناشز بشرط ألا يحدث هذا الضرب أذى جسديًا أو معنويًا لأن غرضه التهذيب لا الإيذاء”، هكذا صرح شيخ الأزهر أحمد الطيب، في برنامجه “حديث شيخ الأزهر” على التلفزيون المصري، ثم أسهب بقوله: إن علاج النشوز، كما بيَّنه القرآن، ثلاثة أنواع: “أولها الموعظة، فإذا لم تنفع، يأتي الهجر في المضاجع، فإذا لم يثمر هذا العلاج أيضاً يأتي العلاج الثالث حتى لا تغرق الأسرة أو تهلك، وهو الضرب”. واستدل الشيخ في قوله بأن القرآن بيَّن قوامة الرجل في آية القوامة.
الرجال قوامون على النساء
لطالما اعتبر مفهوم القوامة “أي قوامة الرجل على المرأة” بمثابة السيف المسلط على رقاب النساء خاصةً وأنه دائمًا ما يُستدل به في سياق استبداد الرجل بالمرأة وسيادته المطلقة عليها، فالرجل بحسب ما ترسخ في اللاوعي الجمعي للناس، في بعده الديني على وجه الخصوص –وفقا لهذه القوامة- هو أفضل من المرأة بالمعيار الفطري/ الكسبي، لأنه أقوى وأكمل في الخلقة، وما يتبعها بالضرورة من قوة العقل وصحة النظر في مباديء الأمور وغايتها، ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية وذلك بنحو ما أقر الإمام محمد عبده في تفسيره للقوامة، إلى جانب أنها تُعتبر “أي القوامة” الأرضية الصلبة التي ربما بُني عليها معظم الأحكام الدينية الخاصة بالمرأة وعلاقتها بالرجل، ففي أي سياق رود هذا المفهوم في القرآن؟، وكيف تناولته المنظومة الفقهية بالذات؟.
طرح القرآن في قوله –تعالى-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..}(النساء: 34 )، قوامة الرجل على المرأة، ومع ذلك لم يجعلها قوامة مطلقة، وإنما اشترط الإنفاق والأفضلية، وذلك في قوله: {بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا}، فلم يصرح بقوله: “بما فضلهم عليهن”، بما يُحيل بالطبع إلى أن قوامة الرجل على المرأة ليست قوامة خَلقية مطلقة، وإنما قوامة مادية مشروطة بعوامل اجتماعية واقتصادية (كالأفضلية، والإنفاق).
وفي المقابل فقد ربط الفقهاء بين هذه الآية وسياقها التي تنزلت فيه بشكل مطلق ومُحكم على الرغم من اختلافهم حول الروايات التي ارتبطت بنزولها، يقول القرطبي:
“فيقال أن الآية نزلت في سعد بن الربيع، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير؛ فلطمها، فقال أبوها: “يا رسول الله، أفرشته كريمتي فلطمها”! فقال -عليه السلام-: “لتقتص من زوجها”. فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال -عليه السلام-: ارجعوا، هذا جبريل أتاني فأنزل الله هذه الآية، فقال -عليه السلام-: “أردنا أمرا وأراد الله غيره”. وفي رواية أخرى: “أردت شيئا، وما أراد الله خيرٌ”. ونقض الحكم الأول، وقال أبو روق: “نزلت في جميلة بنت أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس“. وقال الكلبي: “نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع”. وقيل: “سببها قول أم سلمة المتقدم” ([1]).
فعدوا القوامة قوامة خَلقية جندرية، وذلك على نحو ما أقره القرطبي بقوله:
“إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك، ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها “([2]).
وبما يعنيه ذلك من أن للرجل الحق في تأديبها وحبسها في بيتها، فقد عرفَّ الفقهاء والمفسرون القوامة أنها تعني “القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد. فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية، وتعليل ذلك بالفضيلة، والنفقة، والعقل، والقوة في أمر الجهاد، والميراث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر” ([3]).
في حين أن القوامة في لسان العرب هي بمعنى المحافظة والإصلاح، وهذا المعنى الإيجابي الذي يتفق مع الاستخدام القرآني للمفهوم، بحسب السياق الخطابي الذي يُخاطب فيه القرآن الأزواج وهو النهي عن عضلهن، والنهي عن إمساكهن ضرارًا، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، لا سِيَّما وأن القوامة التي يطرحها القرآن قوامة مشروطة بشرطَيْ (التفضيل والإنفاق)، فالرجال قوامون على النساء بهذين الشرطين “التفضيل والإنفاق” وإذا تخلف إحداهما فلن يكون الرجل حينئذ قوام على المرأة، فمفهوم القوامة والفضل وكذلك الإنفاق كلها مفاهيم نسبية وليست مطلقة، مفاهيم مادية اجتماعية وليست خَلقية جندرية.
وفي نفس المسار لم يكتفِ الفقهاء بإعطاء القوامة المطلقة التي يختص بها الرجال على مطلق العموم، فإنهم كذلك أعطوا الحق للرجال بضرب زوجاتهن وذلك في حالة نشوز الزوجة، هذا الذي أكده الإمام الغزالي بقوله: “إذا كان النشوز من المرأة خاصة، فالرجال قوامون على النساء، فله أن يؤدبها ويحملها على الطاعة قهرا” ([4]).
تفسير آية واضربوهن
ويستدلوا في تأكيد ذلك بقوله –تعالى-: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34)، فيفسرون الضرب في هذه الآية على أنه الإيذاء البدني وذلك في مراعاة أنه ضرب غير مبرح، وتأكيدا على هذه الدلالة، فقد راح ابن العربي يستدعي بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، فيقول:
“ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله –تعالى- قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف”. وفي هذا دليل على أن الناشز لا نفقة لها ولا كسوة، وأن الفاحشة هي البذاء ليس الزنا كما قال العلماء، ففسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الضرب، وبين أنه لا يكون مبرحا، أي لا يظهر له أثر على البدن يعني من جرح أو كسر” ([5]).
ويبدو أن ابن العربي قد أخذ الحديث على ظاهره كما فعل مع الآية، لا سِيَّما وأن الحديث يأمر بالهجر في المضاجع والضرب غير المبرح في حالة إيتاء الزوجة بفاحشة مبينة، بل إن ما فعله الرسول نفسه مع زوجاته حينما نشزن عنه، يتناقض بالكلية مع جل الأحاديث المنسوبة إليه والتي تأمر بضرب الزوجات في حالة النشوز، حتى لو كان ضربا غير مبرح، فيروي مسلم في صحيحه:
“عن جابر بن عبد الله قال: “دخل أبو بكر يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا. قال: فقال: والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين”([6]).
فإن ذلك يعني بحسب الرواية السالفة، أن الحل في حالة النشوز والاضطراب بين الزوجين هو الاعتزال، أو الطلاق إذا لم يتصالحا، وبذلك فيكون الضرب في حالة النشوز -وفقا للسنة الفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- هو كناية عن الاعتزال والمفارقة، حيث إنه إذا كان معناه هو الإيذاء البدني أو النفسي، فلماذا لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته؟!
وإلى جانب ذلك فإن الدلالة التي ينطوي عليها لفظ الضرب في الإستخدام القرآني لا تأتي بالمعنى المادي للكلمة، وإنما دائمًا تأتي معنى مجازيا، فهو “أي لفظ الضرب” إما مجاز عن المثل والوصف والوعظ، وذلك في قوله –تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112)، أو كناية عن السعى في الأرض في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء: 94)، {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (النساء: 101)، أو كناية عن النوم والحجب([7])، في قوله –تعالى-: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (الكهف: 11).
أو كناية عن الستر في قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ…، وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور: 31).
إقرأ أيضاً: لماذا كان الرجال قوّامين؟ ولماذا لم يعودوا كذلك؟ محاولة لإعادة قراءة القوامة في الإسلام
وعلاوة على ذلك فالضرب في لسان العرب هو الكف والإعراض، “ويقال: ضربت فلانا عن فلان أي كففته عنه، فأضرب عنه إضرابا إذا كف. وأضرب فلان عن الأمر فهو مضرب إذا كف، وأضربت عن الشيء: كففت وأعرضت. وضرب عنه الذكر وأضرب عنه: صرفه. وأضرب عنه أي أعرض”([8]).
وإذا حملنا هذا المعنى على قوله –تعالى-: {واضربوهن}، فهو كناية عن الكف والإعراض والعزل، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار السياق الخطابي الذي يكون فيه الأزواج هم المُخاطَبون، وهو سياق النهي عن الإضرار والمنع وذلك في قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ…} (البقرة: 232)، {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ…} (البقرة: 231).
فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، في قوله –تعالى-: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ..} (البقرة: 231)، {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ..} (الطلاق: 2)، وقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229)
فالصلح والتوافق بين الزوجين هو الغاية إذا حدث نشوز أو اضطراب بينهم وذلك في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 35)، وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128)، وبحسب هذه الآيات فإن الصلح لا يتحقق مطلقًا بالإيذاء البدني.
هذا فضلًا على أن القرآن قد طرح فضاءً آخر لنشوز الزوجة وهو “الخلع”، وذلك في قوله –تعالى-: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا إِلاّ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }، وكان سبب نزول هذه الآية، أن امرأة أتت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تريد أن يفرق بينها وبين زوجها، واختلفت الأسباب باختلاف الروايات، ففي رواية أنها خافت ألا تُقيم حدود الله، فروى البخاري “عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة” ([9]).
وفي رواية أخرى: لأنها لا تُطيقه، وفي لفظ ابن تيمية: “أنها تُبغضه” ([10])، فيروى بخارى:
“عن ابن عباس أنه قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق ولكني لا أطيقه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم” ([11]).
وفي أخرى: لأن زوجها ضربها فكسر يدها، يقول ابن تيمية:
“عن عبادة بن الصامت: أن ثابت بن قيس بن شماس، ضرب امرأته فكسر يدها، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الصبح -وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي- فأتى أخوها يشتكيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه، فقال له: خذ الذي لها عليك وخل سبيلها، قال: نعم. فأمرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها” ([12]).
وهكذا ففي هذا السياق، الذي ينطوي على إعطاء المرأة الحق في الافتراق عن زوجها إذا أبغضته، -وهذا أضعف الإيمان-، أو إذا كانت معاملته لها معاملة غير حسنة، أن يأمر القرآن -وللمفارقة- بضرب الزوجات بمعنى إيذائهن بدنيًا!، فالمنطقي في سياق النهي عن عضل النساء وإضرارهن والنهي عن أخذ أموالهن، وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان، أن يكون المقصود من الضرب في الآية هو الاعتزال والمفارقة، لا سِيَّما وأنه يتفق ذلك مع السنة الفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع زوجاته.
إقرأ أيضاً: لماذا لا تكون المرأة نبيا أو رسولا؟
علاوة على ذلك فهذه الآية وغيرها من الآيات الاجتماعية التي ظاهرها يبدو تمييزًا بين الرجل والمرأة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن الواقع الاجتماعي التي تنزلت فيه، وهو واقع كان قوامه التمييز بشتى أنواعه، وكانت فيه المرأة أقرب إلى المتاع تُباع وتُشترى. أما الآن في واقعنا المعاش، وبعد أن تغير وضع المرأة وأصبحت لها ما للرجل سواء بسواء، فيجوز تفسير هذه الآيات بما يتفق مع المساواة التامة بينهم وذلك بحسب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ( النساء: 1)، مما يُتيح تحقيق مراد الله في جعل المودة والرحمة أساس التعايش والسكن بينهم بدلالة قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).
وبالتالي فيبدو هكذا أن الشيخ الطيب ومن مِثله من منظري الخطابات الدينية المعاصرة قد انْحَازوا إلى أقوال الفقهاء القدامى، ووقفوا عند نفس التعامل الذي حددته النصوص التراثية القديمة مع نظيراتها من النصوص القرآنية، ولم يتجاوزوا ذلك إلى تأسيس أفق معرفي جديد –وعلى نحو نقدي بالذات- في التعامل مع النصوص الدينية. غير مدركين أن إلى أنَّ هذه النصوص ذاتها ذات سياق تشريعي مختلف كليةً عن سياق المجتمع الحديث المراد –وللغرابة- النهوض به. مما عُرف “بتجديد الخطاب الديني”.
قائمة المراجع:
([1])أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، ج6، ص278، 279.
([2]) القرطبي، نفسه، ج6، ص280.
([3]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص280.
([4]) أبو حامد الغزالي، آداب النكاح وكسر الشهوتين، دار المعارف للطباعة والنشر، تونس، ص55.
([5]) ابن العربى، أحكام القرآن، دار الحديث، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي، القاهرة، 2011م، ج1، ص557.
([6] ) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، دار طيبة، تحقيق: نظر بن محمد الفاريابي أبو قتيبة، 2006م، حديث رقم (1479)، “باب في الإيلاء واعتزال النساء”، وانظر كذلك، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص149.
([7]) وهذا المعنى الذي يتردد في القرآن في (ست وعشرين آية)، انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
([9]) محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، دار طوق النجاة، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولي، 1422ه، حديث رقم (5273).
([10]) أحمد ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد، تحقيق: عبد الرحيم بن قاسم، 2004م، ج32، ص295.
([11]) محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري حديث رقم(5275).
([12]) ابن تيمية، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج32، ص324، وانظر أيضًا، ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص298.