تكوين
لماذا نحتاج إلى المقاصد؟
حينما نتفحصُ كتب الأصول والفقه نجدها ترمي إلى إحداث نوع من التكامل ما بين الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكبرى، أي أن أحكام الشريعة ليست أحكامًا اعتباطية أو أحكامًا منزوعة عن سياقات الهدف والغاية، ومن ثم يكون هذا التوجه من علماء الشريعة والفقه والأصول توجهًا تنزيهيًّا للشريعة عن العبث وغير المعقول، وهو توجه يجد مشروعيته في الآية: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ” سورة المؤمنون الآية 115، فالآية تجعل من عملية الخلق مُنزهة عن العبث وغير المعقول، ومن ثم فكل ما يحيطُ بها هو مُنزَّهٌ بالضرورة عن هذه العبثية وغياب الغائية كما يوضح الاستفهام الاستنكاري للآية. وبالتأمل أكثر في الكتابات التي صنفها العلماء ودونوها في مؤلفاتهم الفقهية والأصولية، نجد أن هناك نسقًا معرفيًّا ينحو نحو عدِّ الشريعة الإسلامية نظامًا شاملًا ومتكاملًا، أي له خصائص تنفرد به عن غيره من الشرائع السماوية السابقة، فيشار إلى هذه المباحث بأنها خصائص الشريعة الإسلامية أو مميزاتها الأساسية.
يهدف هذا النظام المتكامل داخل الشريعة الإسلامية بالأساس، إلى تحقيق رؤية متوازنة تجمع بين الجانبين الروحي والمادي، وتُعبر عن أن الأحكام التشريعية أو الأحكام الفقهية الخمسة من وجوب وتحريم وكراهة واستحباب وإباحة، غايتها الأساسية هي تنظيم حياة الناس مع بعضهم وتنظيم علاقاتهم مع خالقهم من طريق العبادات والمعاملات والأخلاق، وكل ذلك في نسقية تبتغي إحداث نوع من التكامل بين كل حكم فقهي وامتداداته داخل الواقع الفعلي للإنسان المسلم من طريق الدور الذي يُحققه، والمقاصد العليا والغايات السامية التي تُجسدها الحكمة الإلهية في التشريع. من هنا جاءت مقاصد الشريعة الإسلامية لتُبرز تلك الرؤية العميقة التي تسعى في تحقيق المصالح البشرية في كافة المجالات، بما يضمن الاستقرار والعدالة والرحمة.
لقد كانت مقاصد الشريعة محور اهتمام العلماء والمفكرين الإسلاميين منذ القرون الأولى للإسلام، لأنهم سعوا في تحديد الغايات التي من أجلها شُرعت الأحكام، وقد تبين من طريق دراساتهم أن الشريعة الإسلامية تهدف أساسًا إلى تحقيق مصالح العباد ودفع الضرر عنهم في الدنيا والآخرة، هذه المقاصد ليست أهدافًا نظرية، بل هي المبادئ التي تُبنى عليها كافة الأحكام الشرعية. فالعبادات والمعاملات والعقوبات والتوجيهات الأخلاقية كلها ترتبط بطريقة أو بأخرى بتحقيق تلك الغايات، ومن أبرز المقاصد التي جاءت الشريعة لتحقيقها ما يُعرف بالضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل، والنسل والمال. هذه الضرورات هي الأسس التي تقوم عليها حياة الإنسان واستقراره، وهي تُمثل حقوقًا أساسية ضمنتها الشريعة الإسلامية للجميع، مسلمين وغير مسلمين على حد سواء، فحفظ الدين يضمن حرية المعتقد وحماية القيم الرُوحية، وحفظ النفس يُكرس قدسية الحياة الإنسانية، ويأتي حفظ العقل ليؤكد أهمية المعرفة والعلم، وحفظ النسل لحماية الأسرة والمجتمع، وأخيرًا حفظ المال لضمان العدالة الاقتصادية.
وقد أبدع العلماء في تفسير النصوص الشرعية وتبيين كيفية تحقيقها للمقاصد الإلهية. وكان الإمام الشاطبي أحد أبرز العلماء الذين تناولوا مقاصد الشريعة بالدراسة والتحليل، فقد أكَّد أن معرفة المقاصد ضرورية للفقيه الذي يريد فهم النصوص الشرعية في سياقاتها المختلفة، كما أوضح أن المقاصد تُعَدُّ معيارًا أساسيًا لقياس مدى انسجام الأحكام مع الواقع المُتغير، بما يضمن استمرارية الشريعة في تحقيق العدالة والمصلحة العامة في كل زمان ومكان.
كما تظهر أهمية مقاصد الشريعة الإسلامية ظهورًا خاصًّا في عالمنا المعاصر الذي يواجه تحدياتٍ مُتزايدة سواء كانت اجتماعية، اقتصادية أو أخلاقية، إضافة إلى أن تفعيلها لمنافسة الفكر الجامد والثابت أصبح ضرورةً لإيجاد حلول إبداعية ومُستدامة لهذه التحديات، من طريق تقديم رؤية متوازنة تُراعي القيم الإنسانية والظروف الواقعية، وتطورات المجتمع اللامحدودة. هكذا فالحديث عن مقاصد الشريعة يتجاوز النظرة التقليدية الفقهية المُرتبطة بزمانها ومكانها، كما أنه ليس استعراضًا لمبادئ نظرية أصولية فقهية أنتجت في الماضي وانقطعت امتداداتها التاريخية، بل هو دعوة لإعادة فهم النصوص الشرعية بروح مقاصدية تسعى في تحقيق المصلحة العامة، فالإسلام من طريق المنظور المقاصدي، لا يهدف فقط إلى تنظيم حياة الإنسان، بل يسعى في جعلها أكثرُ استقرارًا وأقرب إلى السعادة التي هي غاية الإنسان ومراده في هذه الحياة.
وبمعرفتنا بالأهمية التي يحتلها المنظور المقاصدي في المنظومة الدينية، واهتمام الشريعة المُتزايد بتحقيق مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، يحسن بنا أن نطرح التساؤل التالي:
-
كيف عرف الفقهاء والأصوليين مقاصد الشريعة؟
تُعرف مقاصد الشريعة الإسلامية بأنها الغايات والحِكم التي تسعى الشريعة في تحقيقها من طريق أحكامها وتشريعاتها، وتهدف هذه المقاصد إلى تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وتوفير نظام يُوازن بين حقوق الأفراد والجماعة ويضمن العدالة والاستقرار، ولمعرفة مزيدٍ عنها يمكننا أن نستعين بالنماذج التالية، وهي نماذج عملية ونظرية أسست وقَعَّدَت للمصالح والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، بما سمح ببلورة معالم نظرية تستجيب للأهداف السامية للتشريع الإسلامي وربطه بواقعه والاستعانة بها من أجل التجديد والإصلاح كلما دعت ضرورات المجتمع إلى ذلك.
موقف الشاطبي والقرافي من مقاصد الشريعة الإسلامية:
-
تعريف الشاطبي للمقاصد[1]:
لا يمكن أن نذكر مقاصد الشريعة دون الحديث عن الإمام الشاطبي (ت. 790 هــ)، فهو من أبرز العلماء والأصوليين الذين تناولوا مقاصد الشريعة الإسلامية وعرفوها وبسطوا القول في تطبيقاتها وفوائدها. وتعني المقاصد في منظور الشاطبي الغايات التي تسعى الشريعة في تحقيقها، وهي حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، ففي كتابه الموافقات أوضح أن المقاصد تُمثل الحكمة الإلهية وراء التشريعات، وأكد أن جميع الأحكام الشرعية تُبنى على تحقيق المصالح ودفع المفاسد.
ويمكن اختصار رؤية الشاطبي في:
- الشريعة تهدف إلى جلبُ المصالح ودرءُ المفاسد.
- ركَّز في الضروريات الخمس: حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، والمال.
- عدَّ المقاصد هي القاعدة لفهم النصوص الشرعية وتطبيقها، تكون الأحكام وسيلة لتحقيق هذه الغايات وليس غاية في ذاتها.
- كان من أوائل من رأى أن فهم المقاصد شرط أساسي لاجتهاد الفقيه، مما يُعزز مرونة الشريعة في مواجهة التغيرات.
-
موقفُ الطاهر بن عاشور من مقاصد الشريعة الإسلامية[2]:
الشيخ الطاهر بن عاشور (1879-1973)، أحد أعلام الفقه المقاصدي في العصر الحديث، وضع تعريفًا شاملًا لمقاصد الشريعة الإسلامية في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، فهو يراها بأنها لا تخرج عن المعاني والحِكم التي راعاها الشارع في جميع أحكامه أو معظمها، لتكون ملحوظةً في التشريع ظاهرًا أو خفيًا، وهذا يشمل الغايات الكبرى للشريعة لتحقيق التوازن بين الفرد والمجتمع وتلبية حاجات البشر في كافة المستويات.
يرى ابن عاشور أن المقاصد لا تقتصر في حفظ الضروريات الخمس (الدين، النفس، العقل، النسل، والمال) كما نظر لها الفقهاء والأصوليين القدماء مثل الشاطبي. بل أضاف إلى ذلك مقاصد أخرى مثل الحرية، العدل، والمساواة، مُفترضًا أن الشريعة تسعى سعيًا كبيرًا في إحداث توازن بين القيم المادية والرُوحية. هذه الدعوة إلى إحياء الاجتهاد المقاصدي تتضمن عدم توقف الفقيه والأصولي عند ظواهر النصوص والفهم السلفي الجامد والثابت لها، بل يجب تجاوز هذا الفهم إلى البحث عن الأسرار والحكم الكامنة وراء الأحكام الشرعية، وهذا يعني أن المقاصد أداةً للتجديد الفقهي في مواجهة التغيرات داخل المجتمعات الإسلامية، ومراعاة مصالح الأفراد والمجتمعات سواءً.
أدخل ابن عاشور مفهوم الحرية بوصفه أحدَ المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية، مشيرًا إلى أن غاية الإسلام هي تحرير الإنسان من كل السلط المُهيمنة عليه، وكل أشكال الظلم الاجتماعي والسياسي والثقافي. وبذلك يُعدُّ موقفه تجديديًا وإصلاحيًّا يرمي إلى توسيع دائرة المقاصد لتشمل كل الجوانب الإنسانية والمستجدات والنوازل الطارئة، بدل الانحباس في التفسيرات الماضوية أو التأويلات الكلاسيكية القديمة التي لم تُنتج إلا الجمود والتخلف، كما فعل مع فكرة “المصلحة المُرسلة” بمعناها الواسع، مؤكدًا أن الشريعة ليست جامدة، بل قادرة على مواكبة كل عصر.
-
المصلحة في سياق العقل العربي المعاصر:
الجابري ونظرية المقاصد للشاطبي[3]:
من الأقلام الكبيرة التي تناولت نظرية المقاصد بالنقد والتحليل نجد المفكر المغربي محمد عابد الجابري، الذي جعل من بين المهام الأساسية لمشروعه الفكري البحث عن النقاط المُضيئة داخل تراثنا الفكري والإسلامي والفلسفي والنهوض بها والتعريف بها من أجل الإقلاع الحضاري، بافتراض أن هذه المحطات الفكرية هي بداءات للاستفادة من التراكم الفكري الذي أحدثته كتابات العلماء القدماء، وليست نهايات كما يعتقد أصحاب الفكر الجامد والثابت. وداخل هذا الفضاء من الثابت والمتحول تكمن أهمية مقاربة الجابري لنظرية المقاصد التي سنرى بعضًا من جوانبها.
يرى الجابري من طريق مقالة له عن الموضوع بأن الغزالي الفيلسوف المعروف، صاحب كتاب تهافت الفلاسفة والمنقذ من الضلال، له منهج خاص ومعروف ساد في المؤلفات الأصولية اللاحقة إلى اليوم (خارج مؤلفات الحنفية) وأن كتابه “المستصفى من أصول الفقه“، كما أن هذه الطريقة ظلت هي المهيمنة على هذا العلم إلى حدود اللحظة المعاصرة، ولكن هذا لا يعني بروز معالم نظرية مكتملة تأسست على يد أبي إسحاق الشاطبي (إبراهيم بن موسى اللَّخْمِي الغِرنَاطي المتوفى سنة 790 هــ)، الذي مثل بحق قمة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الأصول.
لكن على الرغم من أهمية المقاصد في علم الأصول، إلا أن الشاطبي وكتابه لم يُكتب لهما الذيوع والشيوع كما حظيت به كتابات أخرى وذلك يعود لدى الجابري إلى عدة عوامل تحدَّث عنها أيضًا محققًا كتاب الموافقات عبد الله دراز: “إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة على ما وصفت، فلماذا حُجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة بله العكوف على تقريره ونشره بين علماء المشرق؟”، ويجيب: إن ذلك راجع إلى أمرين: “أحدها أن المباحث التي اشتمل عليها الكتاب مبتكرة مستحدثة لم يسبق إليها المؤلف… وجاء في القرن الثامن 790 هــ بعد أن ترسَّخت طريقة الأصوليين السابقين وصارت كل ما يطلب من علم الأصول. وثانيهما أن كتابة الشاطبي مُركزة كثيفة “تجعل القارئ ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط، لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضًا يُعول في سياقه عليه”.
يرى الجابري أن شخصية الشاطبي من الشخصيات المركزية داخل التاريخ الإسلامي، على الرغم من تجاهل كثيرين لنظريته، خاصة مع سيادة الفقه النصي والظاهري والسلفي، الذي لم يراع المقاصد ولا البحث في المآلات والدوافع والعلل الكامنة وراء الأحكام الشرعية، ولهذا عُدَّ الشاطبي شخصية علمية توازي الشخصيات الكبيرة في عالم الفلسفة والتاريخ كابن رشد وابن خلدون.
تُعَدُّ المسائل المنهجية التي ناقشها الشاطبي في أصول الفقه نقطة تحوُّلٍ كُبرى في الفكر الإسلامي، إذ استطاع أن يُطوِّرها بناءً على اجتهادات سابقيه من العلماء كابن حزم وابن رشد، مع إدخال رؤيته الخاصة، يُمكن تقسيم هذه المسائل إلى ثلاث محاور رئيسة:
- الاستنتاج بدل القياس التقليدي :
ابن حزم سبق الجميع بالدعوة إلى اعتماد منهج الاستنتاج أو القياس الجامع بدلًا من قياس الفقهاء التقليدي الذي يعتمد على قياس الفرع على الأصل أو الغائب على الشاهد. طبَّق ابن رشد هذا النهجُ بمهارة فائقة في مجال العقيدة، فقد انتقد منهج المتكلمين القائم على الاستدلال بالشاهد على الغائب. جاء الشاطبي ليستلهم هذا التطور مُبتكرًا منهجًا جديدًا في الأصول قائمًا على عدِّ الدليل الشرعي مكوَّنًا من مقدمتين:
- الأولى نظرية تُثْبَتُ بالحس أو العقل أو الاستدلال.
- الأخرى نقلية تُثْبَتُ بالنقل عن الشارع.
وفقًا للشاطبي المقدمة الأولى تتعلق بتحقيق مناط الحكم في كل جزئي، وهي مقدمة صغرى، في حين المقدمة الأخرى تعود إلى الحكم الشرعي العام، وهي مقدمة كبرى، لكنه شَدد على أن هذا المنهج لا يعني بالضرورة اعتماد قواعد المنطق الصارمة كما فعل الغزالي ومن سار على نهجه، بدلاً من ذلك رأى أن الهدف هو تيسير الوصول إلى المطلوب وفق منهج الشريعة، مع مراعاة أسلوب العرب في التعبير والمخاطبة.
- منهج الاستقراء :
كان ابن حزم من الأوائل الذين دعوا إلى اعتماد الاستقراء في التعامل مع النصوص القرآنية، خصوصًا عند مواجهة ألفاظ ظاهرها يبدو متناقضًا مع الحس أو العقل، بدلًا من حصر الفهم في الدائرة اللُّغوية الضيقة، دعا إلى استقراء استعمالات اللفظ في القرآن بأكمله لاستخلاص المعنى الحقيقي الذي قصده الشارع، ابن رشد تبنَّى هذه الخطوة ونوَّه بأهميتها في أعماله مثل “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة“.
أما الشاطبي فقد أخذ هذا المنهج إلى مستوى جديد، فقد استخدمه لاستخلاص “كليات الشريعة“، مؤكدًا أن هذه الكُليات مستندة إلى استقراء شامل للنصوص الشرعية. بذلك أرسى الشاطبي دعائم منهج أصولي جديد يعتمد على بناء الأحكام انطلاقًا من القواعد الكلية المُستقرأة.
- الاعتدادُ بمقاصد الشريعة :
كان ابن رشد سبَّاقًا في التركيز في مقاصد الشرع في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة“، فقد وظَّفَ هذه الفكرة في مجال العقيدة. الشاطبي وسَّع نطاق تطبيق هذه الفكرة لتشمل مجال الشريعة بأكمله، ودعا إلى إعادة بناء أصول الفقه على أساس مقاصد الشريعة بدلًا من الاقتصار على استثمار الألفاظ كما كان شائعًا منذ عصر الشافعي، بهذه الرؤية خرج الشاطبي عن الإطار التقليدي ليؤسس لنهج جديد تمامًا.
بناء علم الشريعة بوصفه علمًا برهانيًّا:
كان الشاطبي مُدركًا تمامًا للطابع التجديدي لمنهجه فقد صَرَّحَ بأنه بصدد “تأصيل أصول” علم الشريعة ليصبح علمًا بُرهانيًا قائمًا على اليقين (القطع) بدلًا من الظن، يُوضح هذا الهدف في مقدمته الشهيرة التي استهل بها كتابه، فقد قال: “المقدمة الأولى في أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية”، ويدعم هذا التصريح بأدلة تُبرز أن كُليات الشريعة المُستقرأة تُفضي إلى القطع، سواء كانت تلك الكُليات مستندة إلى أصول عقلية أو استقراء كُلِّي للنصوص.
مفهوم القطع عند الشاطبي:
القطع كما يُعرِّفهُ الشاطبي هو الجزم المناقض للظن، النصوص القطعية هي التي لا تحتمل التأويل، مثل الآيات التي تُقرر أركان الإسلام أو تُلزم بالقسط والعدل، أما النصوص الظنية فهي التي تحتمل التأويل وتختلف دلالاتها وفقَ السياق، وبما أن القياس الفقهي التقليدي يعتمد غالبًا على علل ظنية، فإن الشاطبي رأى أن بناء الشريعة على هذا الأساس يجعلها قائمة على الظن، لذلك دعا إلى إعادة صياغة أصول الشريعة وفق منهج برهاني مبني على القطعيات.
ختامًا وفق الجابري فإن الشاطبي نجح في إعادة تكوين علم أصول الفقه ليصبح علمًا برهانيًا، جامعًا بين الدقة المنهجية والانفتاح على مقاصد الشريعة، فقد اعتمد على الاستنتاج والاستقراء وربط بينهما بطريقة تضمن تحقيق القطع في الأحكام الشرعية، بهذا النهج أسَّس الشاطبي لمدرسة فكرية أصيلة تُمثل نقطة التقاء بين التراث الأصولي ومتطلبات التجديد الفكري.
طه عبد الرحمن والرؤية الأخلاقية للمقاصد؟
الدكتور طه عبد الرحمن بوصفه أحد أبرز المفكرين والفلاسفة الإسلاميين المعاصرين، تناول موضوع المصلحة في إطار رؤيته التجديدية للأخلاق والفكر الإسلامي، في حين لم يتناول المصلحة بالمعنى الفقهي التقليدي كما فعل علماء أصول الفقه، إلا أن آراءه بشأن الأخلاق والاجتهاد تكشف عن موقفه غير المباشر من المصلحة وضوابطها، خصوصًا عند ارتباطها بالقيم الأخلاقية والرُوحية، وفيما يلي أبرز ملامح رؤيته:
- ربط المصلحة بالأخلاق والقيم:
يرى طه عبد الرحمن أن المصلحة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الأخلاق والقيم الإسلامية العليا، فالمصلحة الشرعية يجب أن تكون مؤطرة ضمن منظومة أخلاقية رُوحية تهدف إلى تهذيب الفرد والمجتمع، وينتقد النظرة الأداتية للمصلحة، أي التي ترى فيها وسيلةً لتحقيق مكاسب دنيوية، ويدعو إلى أن تكون المصلحة متكاملة مع أبعاد روحية وأخلاقية ترتبط بالغاية الإسلامية الكبرى، وهي مرضاة الله.
- نقد الاستقلالية العقلانية الغربية:
في كتاباته وخصوصًا في “سؤال الأخلاق[4]“ و”العمل الديني وتجديد العقل[5]“، ينتقد طه عبد الرحمن محاولات عزل المصلحة عن النصوص الشرعية أو تقديمها على المقاصد الإلهية.
يرى أن هذه النزعة جاءت من تأثر الفكر الإسلامي بالتيارات العقلانية الغربية التي تركز في المنفعة المادية بمعزل عن الرُوحانية.
- تعزيز مفهوم الاجتهاد الأخلاقي:
يؤكد طه عبد الرحمن أن الاجتهاد الذي يعتمد على المصلحة يجب أن يكون اجتهادًا أخلاقيًا ورُوحيًا قبل أن يكون عقليًا، بمعنى أن الاجتهاد الذي يُراعي المصلحة يجب أن يستند إلى تقوى وإخلاص في النية لتحقيق الخير للمجتمع وفق المبادئ الإسلامية، يرى أن أي مصلحة لا تتماشى مع الغايات الرُوحية للشريعة الإسلامية هي مصلحة لا يُعتدُّ بها.
- نقد الاستخدام النفعي للمصلحة:
ينتقد طه عبد الرحمن الاستخدام النفعي لمفهوم المصلحة، فهي تُستخدم لتحقيق أهداف مادية أو سياسية على حساب القيم والمبادئ الإسلامية، ويرى أن ذلك يؤدي إلى انحراف في فهم الشريعة وتطبيقها.
- التكامل بين العقل والوحي:
المصلحة الشرعية الحقيقية لدى طه عبد الرحمن تتحقق من طريق التوازن بين العقل الذي يدرس الواقع والوحي الذي يُقدم الإطار القِيمي، فلا يجوز للعقل أن ينفرد بتحديد المصلحة دون العودة إلى النصوص والقيم الإلهية.
ختامًا فإن طه عبد الرحمن يُعيد تعريف المصلحة الشرعية في سياق أخلاقي وروحي، بعيدًا عن المنظور التقليدي الأداتي، فهو يرى أن أي اجتهاد فقهي يعتمد على المصلحة يجب أن يكون محكومًا بالقيم الأخلاقية العليا التي تحمي المجتمع من الانحراف وتضمن تحقيق العدالة والرحمة، نظرته تُبرز أهمية إدخال البعد الرُوحي في الفقه والاجتهاد، بما يجعل المصلحة وسيلة لتحقيق التكامل بين الدنيا والآخرة.
-
أهمية الاجتهاد المقاصدي، ولكن؟
إن الحديث عن العلوم الإسلامية يحمل في طياته أبعادًا متعددة، تتباين فيها الرؤى بين تأييد مُطلق ورفض جذري، وهذا التباين يعود إلى تعدد المنطلقات الفكرية والخلفيات الثقافية التي تتناول هذه العلوم، إلى جانب النتائج المتوقعة من تبني أي منها، ومن بين أبرز هذه العلوم التي كونت مكونًا أساسيًا في التراث الإسلامي نظرية المقاصد، التي تُمثل أحد أعمدة علم أصول الفقه، هذه النظرية أثارت منذ ظهورها جدلًا واسعًا بين أنصارها الذين يرون فيها تجسيدًا للمشروع الإنساني في الشريعة، وخصومها الذين ينتقدون ما يرونهُ مبالغات أو استغلالًا سياسيًا لمضامينها.
النظرية المقاصدية: أساس علمي أم اجتهاد بشري؟
يُعدُّ علم أصول الفقه بما يحويه من نظرية المقاصد محاولة لربط التشريع بمقاصد عُليا تضمن استمرارية الدين وقيمه، ولعل أهم إسهام قدمته هذه النظرية هو تركيزها في الكليات الخمس: حفظ الدين، النفس، العقل، المال، النسل. هذه الكُليات تُمثل القيم الأساسية التي تُبنى عليها الشريعة، وهي بمنزلة البوصلة التي تُوجه الاجتهاد الفقهي نحو تحقيق المصلحة العامة، إلا أن هذا التصنيف لم يكن محل إجماع، إذ رأى بعض النقاد أن ترتيب هذه الكليات يعكس أيديولوجية معينة بدلًا من حقائق موضوعية، ويرى آخر أن هذا الترتيب ربما خضع لرؤى اجتماعية وتاريخية معينة وليس لمعايير موضوعية بحتة.
نقد ترتيب الكليات
من النقاط المثيرة للنقاش في نظرية المقاصد ترتيب الأولويات بين الكليات الخمس، فقد أولى علماء الأصول حفظ الدين أولوية مطلقة، مفترضين أن بقاء الدين يكون أساسًا لاستمرار المجتمعات وازدهارها، ومع ذلك تعرض هذا الترتيب لانتقادات حادة من بعض المفكرين الذين رأوا أن إعطاء الدين هذه الأولوية المطلقة قد يتجاهل في بعض الأحيان البعد الإنساني، فقد أُعطي الدين أهمية تفوق الإنسان نفسه، الذي يُعد محور الرسالات السماوية، النقاد يرون أن تقديم الإنسان على الدين يُعدُّ أكثر انسجامًا مع المبادئ الإنسانية، لأن الدين دون الإنسان يُفقد دوره ووظيفته فمثلًا، النصوص القرآنية تدعو إلى احترام حُرية الاختيار، كما في قوله تعالى: “لا إكراه في الدين”، هذا النص القرآني يُظهر أن الإنسان هو الأساس الذي تتوجه إليه الرسالة.
الجهاد والمفهوم القرآني
جانب آخر أثار كثيرًا من الجدل هو العلاقة بين مفهوم حفظ الدين وتشريع الجهاد، فقد اعتمد علماء الأصول على نصوص حديثية لتبرير القتال باسم الدين، مثل حديث: “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله”، إلا أن هذا التأويل أثار تساؤلات عديدة بشأن العلاقة بين الجهاد والدعوة السلمية، يُشير بعض الباحثين إلى أن مفهوم الجهاد في القرآن يتجاوز القتال، ويُركز في بذل الجهد لنشر الرسالة بالوسائل السلمية، يقول تعالى: “وجاهدهم به جهادًا كبيرًا”، مما يدُل على أن الجهاد الأكبر يكمن في الحوار والإقناع وليس في القتال، هذا الفهم يتطلب مراجعة عميقة للنصوص، بطريقة يُعاد النظر في استعمالاتها بما يتفق مع المبادئ الكلية للشريعة التي تدعو إلى الرحمة والعدل.
أثر القداسة في العلوم الإسلامية
تُعاني العلوم الإسلامية مشكلة “القداسة” التي تُعيق عملية النقد والتطوير، فتصنيف هذه العلوم بوصفها “شرعية” أو “إسلامية” يضعها في مكانة تعلو على المساءلة، ويجعلها بمنأى عن التحديث، هذا الإطار المُغلق أدى إلى إشكاليات متعددة، أبرزها الانفصال بين النظرية والتطبيق فعلى سبيل المثال، لم يتمكن الفكر المقاصدي من معالجة قضايا حديثة مثل: حقوق الإنسان أو الحريات الفردية معالجةً تتماشى مع تطورات العصر، ومن أمثلة ذلك قضية المساواة بين الجنسين، التي تتطلب تفسيرًا أكثر شمولية للنصوص الدينية يتجاوز الفهم التقليدي ويراعي التحولات الاجتماعية الكبرى.
ضرورة إعادة النظر
لتجاوز هذه الإشكاليات ينبغي إعادة قراءة العلوم الإسلامية بعيدًا عن التعصب أو القداسة، فالمقاصد الشرعية تحتاج إلى تحديث مستمر لتواكب التغيرات الاجتماعية والثقافية، ومن المهم التركيز في الجانب الإنساني في الشريعة، كونه أساسَ الرسالة السماوية، كما أن فهم النصوص يجب أن يعتمد على السياق القرآني المباشر دون الاعتماد المُفرط على الروايات التاريخية التي قد تشوه المعاني الأصلية. إن أي مشروع تجديدي في هذا السياق يجب أن ينطلق من مراجعة دقيقة وشاملة لتراث الفكر الإسلامي، مع الحفاظ على قيمه الجوهرية في تحقيق العدل والمساواة.
رؤية مستقبلية
إن تطور العلوم الإسلامية يجب أن يكون جزءًا من مشروع شامل للنهوض الفكري، لا يمكن تحقيق ذلك دون تعزيز ثقافة الحوار والانفتاح على مختلف الاتجاهات الفكرية، كذلك، يجب التركيز على البحث العلمي المُتجرد، الذي يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة بعيدًا عن الضغوط السياسية أو الاجتماعية، فمن طريق هذه المقاربة الشاملة يمكن للعلوم الإسلامية أن تستعيد حيويتها ودورها المحوري في تحقيق نهضة فكرية شاملة.
تُعدُّ النظرية المقاصدية أحد الإنجازات الفكرية البارزة في التراث الإسلامي، لكنها ليست بمنأى عن النقد أو التطوير، الحاجة مُلحة إلى مقاربة شاملة تعتدُّ بالبعدين الإنساني والتاريخي لهذه النظرية، بما يضمن توافقها مع قيم العدل والحرية التي يُفترض أن تكون جوهر الدين، فالمراجعة النقدية ليست هدمًا للتراث، بل هي السبيل لاستمرار صلاحيته وحيويته في مواجهة تحديات العصر. إن هذا التجديد لا يقتصر على تعديل بعض الفروع، بل يتطلب إعادة صياغة شاملة تفتح آفاقًا جديدة للفكر الإسلامي في ضوء قيم الرحمة والكرامة الإنسانية.
المراجع:
[1] – الشاطبي، أبو إسحاق. الموافقات في أصول الشريعة. شرحه عبد الله دراز. دار الكتب العلمية، ط1،2004. ص: 219.
[2] – الطاهر، بن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. تحقيق محمد الطاهر الميساوي. دار النفائس، ط1،2001, ص: 165,
[3] – الجابري، محمد عابد. الشاطبي وإعادة تأصيل الأصول. https://www.aljabriabed.net/umumkhusus6.htm
[4] – طه، عبد الرحمن. سؤال الأخلاق. المركز الثقافي العربي، ط1،2000.
[5] – طه، عبد الرحمن. العمل الديني وتجديد العقل. المركز الثقافي العربي، ط2،1997.