تكوين
“إن صفة “إسلامي” لوثتها ممارسات كثيرة من طرف بعض الإسلاميين، وطمست دلالاتها المضيئة جماعات العنف المسلح وجماعات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم أو المشاركة فيه” نذير مصمودي.
تمهيد:
عَرفت ظاهرة الإسلام السياسي حضورًا كبيرًا في المشهد العربي الإسلامي المعاصر، خاصة منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، حين ظهرت الجمعيات والمنظمات الإسلامية للعلن بعدما كانت تشتغل سرًا، بسبب التضييق الممارس عليها من السلطات السياسية، وتحولت عديدٌ منها إلى أحزاب دخلت مُعترك الحياة السياسية في كثيرٍ من البلدان العربية الإسلامية بفعل الانفتاح الديمقراطي الذي شهدته هذه البلدان، على غرار ما عرفته الجزائر مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حين فُتح المجال للتعددية الحزبية، واعتمد كثيرٌ من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، وعلى رأسها الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي حُلت فيما بعد من السلطات نتيجة مسؤوليتها فيما عرفته البلاد من عنف في أثناء تسعينيات القرن الماضي، وحركة المجتمع الإسلامي (حماس) التي تحولت إلى حركة مجتمع السلم (حمس) تماشيًا مع مقتضيات قانون الأحزاب الصادر عام 1996 الذي يمنع توظيف رموز الهُوية الوطنية في تسميات الأحزاب، وحركة النهضة الإسلامية وحركة الإصلاح فيما بعد إلخ.
وقد عرفت هذه الأحزاب كما مثيلاتها في دول عربية أخرى، كثيرًا من التصدعات والانشقاقات الداخلية بين أعضائها، والمراجعات الفكرية أو النقد الذاتي الذي مسَّ مبادئها واستراتيجيات عملها، تماشيًا مع مقتضيات اللعبة السياسية بالدرجة الأولى، والمقتضيات الأخرى اجتماعية واقتصادية وثقافية بالدرجة الثانية. والنقد الذاتي عملية صحية وذات أهمية كبرى، لأن الناقد في هذه الحالة يكون أكثر اطلاعًا على موضوع النقد، على افتراض معايشته للقضايا والمواقف من الداخل، ومعرفته الكافية بأدق التفاصيل، يقول أحد الباحثين ممن انخرطوا في هذه العملية: “من الضروري التأكيد أننا كلما تقدمنا في “النقد” المعرفي للأسس العقدية والأيديولوجية للخطابات السياسية والدينية استطعنا أن ننبه إلى حالات “الغلق” التي تحدث عند “الجماعة” بالمعنى الثقافي والسياسي، وهو الغلق الذي يتطور إلى حالة “الإقصاء” والنفي من الجماعة، ومن ثم نكون أمام “العنف” ليكون لغةً فاصلة بين المتخاصمين والمختلفين”[1].
وقد ظهرت كثيرٌ من الأعمال التي يُمكن تصنيفها ضمن النقد الذاتي للأحزاب والحركات السياسية الإسلامية، وهي في حاجة إلى الاهتمام والدراسة، لأن أصحابها ينطلقون في نقدهم من معرفة دقيقة بدواخل الحركات الإسلامية وممارساتها، ينطبق على هذه الأعمال القول السائر “وشهد شاهد من أهلها”، أو “أهل مكة أدرى بشعابها”، فإذا كان من السهل على هذه الحركات الرد على منتقديها من الخارج بإلصاق التهم الجاهزة بهم: كالانحراف والتأثر بالفكر الغربي ومعاداة الإسلام واللادينية إلخ، وربما يصل الأمر إلى إشهار “أسلحة” التكفير والتبديع والتفسيق في وجوههم، فإنه من الصعب الرد على ممارسي النقد من المنتمين إليها، والذين خبروا أدق التفاصيل داخل هذه الحركات.
إقرأ أيضًا: الإسلام السياسي القصة وما فيها: من الأفغانى إلى حسن البنا عبر قنطرة رشيد رضا
من بين هذه الأعمال سنتوقف في هذه الورقة عند عمل حمل عنوانًا جريئًا ومستفزًا للمنخرطين ضمن الإسلام السياسي بالدرجة الأولى، الكتاب بعنوان: “متى يدخل الإسلاميون في الإسلام؟” وهو لأحد الفاعلين والمناضلين في الحركة الإسلامية في الجزائر منذ سبعينيات القرن الماضي، وتحديدًا حركة المجتمع الإسلامي سابقًا ومجتمع السلم لاحقًا، وهو الداعية والمفكر المرحوم نذير مصمودي، الذي يرى ضرورة “ممارسة النقد والتوجه إلى البناء الفكري، على افتراض أن علاقة الحركة بالفكر ما تزال محدودة، نتيجة التحزب المفرط والتسييس المبالغ فيه، واختزال المشروع الإسلامي في بعد واحد، وصل إلى درجة الميكيافيلية“[2]، من هذا المنطلق ستتمحور إشكاليتنا حول رصد مكامن النقد الذاتي، وأهم “مزالق” الإسلام السياسي في تصور هذا الكاتب.
هناك ملاحظتان يجب الإشارة إليهما:
- أولا، رغم أن نقده كان مخصصًا لحركة الإخوان عمومًا وممثليها في الجزائر، إلا أن جل الانتقادات التي وجهها إلى هذه الحركة ينطبق بصورة كبيرة على الحركات الإسلامية الأخرى، بالنظر إلى القواسم المشتركة الكثيرة بينها، وخاصة عوامل نشأتها المشتركة وأهدافها المتقاربة.
- ثانيًا، ونظرًا لخصوصية الموضوع، فإننا سنحيل بصورة كبيرة إلى نصوص الكاتب وسيلاحظ القارئ كثرة هذه الإحالات.
أولًا، التعريف بنذير مصمودي وقصة عنوان الكتاب
نذير مصمودي (1956-2015) كاتب، صحفي، داعية إسلامي، إمام خطيب في الفترة بين 1979-1992، بمسقط رأسه في مدينة بسكرة جنوب الجزائر، وهو أحد أبرز أعلام الحركة الإسلامية في الجزائر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، كان له نشاطًا دعويًا كبيرًا في الجزائر، مثلما كان له نشاطًا خارج الجزائر في إطار العمل الإغاثي في أثناء أزمة البوسنة، حيث مكث في أوروبا مدة تجاوزت عشر سنوات، زار فيها مختلف العواصم الأوروبية خاصة لندن وفيينا وبرلين والدول الإسكندنافية، كما اشتغل إعلاميًا في الكويت[3]، ولعل هذه الفترة التي قضاها خارج الوطن، هي السبب الرئيس في التحول الفكري الذي حدث له، لأن الاحتكاك بالآخر والتعرف عليه من قرب، جعلته يفكر “خارج الصندوق” كما يُقال، وينظر لم
إلى مختلف القضايا بنظرة واسعة يحضر فيها الأنا والآخر، الماضي والحاضر، التقدم والتخلف إلخ، لهذا تحول في المرحلة الأخيرة من حياته إلى ناقد لفكر الإسلاميين ونهجهم السياسي، خصوصًا بعد تأسيسه لجريدة الشاهد، ترك عديدًا من الكتابات التي يُمكن تصنيفها بيسر ومن طريق عناوينها إلى فئتين:
- مؤلفات الداعية (المرحلة الأولى) ومنها: “حجاب المرأة المسلمة(1981)”، “هذا عدوكم فاحذروه (1981)”، “الزواج بين الأزمة والحل”، “صيحات المرأة المسلمة”، “جريمة الزنا وأخطارها وآثارها”، “كن مع الله”، “مفاتيح السعادة الزوجية(1985)”، “مشاهد يوم الحساب(1986)” إلخ
- ومؤلفات الناقد (المرحلة الثانية): “بعد الرصاص، الإسلاميون والأسئلة الساخنة(2010)”، والكتاب الذي سنتوقف عند مضامينه في هذا المقال “متى يدخل الإسلاميون في الإسلام؟”، كما أنه ترك كتبًا أخرى مخطوطة لم يتسن له نشرها في أثناء حياته منها “مختصر كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ”، “إرشاد الأمة من فقه السنة”، و”زكاة القلب”.
أما عن سبب اختيار هذا العنوان المستفز، فهو مستوحى من عبارة لسيدة ألمانية أسلمت بعد بحث ودراسة عن الإسلام، وتزوجت من جزائري ممثل لتيار إسلامي، اكتشفت فيما بعد أن زوجها يكذب عليها، فطلبت الطلاق، وقالت له في نهاية الجِلسة: “اذهب وادخل الإسلام وتعالى سأقبل بك مرة أخرى… لقد قرأت قبل أن أتزوج بك أن المسلم لا يكذب… ولهذا قبلت بك”[4]، من هذه الحادثة المؤثرة تولد عنوان الكتاب: متى يدخل الإسلاميون في الإسلام؟”[5]، ولأن عنوانا “صادمًا” كهذا، قد يطرح عديدًا من الإشكالات الفقهية (الدخول في الإسلام والخروج منه)، ويقابل بالاعتراض من الحركات الإسلامية أو الإسلاميين بوصفه “قدحًا” في تدينهم وفكرهم ومنهجهم وسلوكاتهم، فقد عمل الكاتب لتوضيح مقصده من هذا الاختيار، وأنه “لا يعني أبدًا تكفير أحد أو تفسيق أحد… إنما هي المصارحة التي لا بد منها والحساب الذاتي الصارم بعيدًا عن أجواء الخداع والمجاملة والادعاء والكذب، إنها المصارحة التي ينبغي أن نواجه بها الألوف المؤلفة من الإسلاميين الذين تغلب عليهم الثقافات الضحلة والمعارف الناقصة التي حولتهم إلى دعاة مسخرين لكل ذي غلبة وبأس، بعدما فقدوا العلم والذكاء، وانتهوا إلى بوار تام، لا هم أحسنوا فهم الإسلام، ولا هم أحسنوا عرضه على الناس، ولا هم أحسنوا العمل به، ولا هم أحسنوا الدفاع عنه”[6].
ثانيًا، من الدعوة إلى النقد الذاتي
أن يتحول داعية إلى نقد توجهات الدعوة وممارساتها، فهي تجربة صعبة ومحفوفة بالمخاطر لا يُقدم عليها إلا من اتضح له خطأ الطريق، وامتلك العزيمة والإرادة على تغييرها، مهما تكن التضحيات التي سيقدمها، يقول نذير مصمودي عن هذا التوجه النقدي:
“أنا أحاول لأكثر من ربع قرن أن أكون صوتا نقديا في وسط إسلامي متموج ومضطرب في خطه البياني الدعوي والسياسي (…) علمتني التجربة أنه عندما تلح عليك الأسباب والمبررات لأن تكون ناقدًا في وسط إسلامي حركي، معناه أن تكون سابحًا عكس التيار، وتحتاج إلى قوة أعظم وكفاح أطول”[7]
ويضيف في موضع آخر، مبينًا ما ينتظر كل صوت نقدي داخل التيار الإسلامي قائلًا: “عندما بدأت مع نهاية الثمانينيات أطرح الأسئلة الحرجة التي فرضتها المتغيرات الجديدة، وأدعو صراحة إلى مراجعة ما كان مُسلمًا به في مرحلة سابقة وبطريقة مخالفة… فوجئت بحصار “مُهذب” خوفًا من أن تتسرب أسئلتي إلى عموم المنتمين وتُثير في نفوسهم الشك والارتياب، أو ينخرط بعضهم في هذا التوجه من النقد الذاتي الذي لم يكن مسموحا به خوفًا من إرباك التنظيم، وفقد القدرة القيادية على التحكم فيه”[8]، هذا النص يشير إلى مسألتين مهمتين:
- أولًا، أولوية السياسي على الديني والفكري في استراتيجية عمل الحركات الإسلامية، فالقدرة على تعبئة الجماهير وحشدها مقدمة على وضوح الفكرة وقوة الحجة، بعبارة أخرى فالإسلام ليس أكثر وسيلة غايتها السلطة.
- وثانيًا، أن الخوف من النقد والنقاد يدل على قناعة لدى القيادة بهشاشة المشروع وعدم قدرته على المجابهة العقلانية التي تقوم على الأخذ والرد، لذلك فهي تسعى في إبقاء الأمور على حالتها للحفاظ على المكاسب التي تجنيها من هذا الوضع القائم، سواء كانت مكاسب مادية أو رمزية، هناك تمييز يُقيمه محمد أركون بين ما يُسميه بــ “الحقائق الإبستيمولوجية” و“الحقائق السوسيولوجية”، ينطبق هذا التمييز على الصورة التي رسمها نذير مصمودي لتعامل الحركة الإسلامية (حركة حماس التي كان ينتمي إليها بالدرجة الأولى)، فقيادة هذه الحركة تستأنس بالحقيقة السوسيولوجية، التي تعني الأفكار التي يتبناها المناضلين ويقبلونها كأنها بدهيات ليسوا في حاجة لإثباتها، وهي القادرة على تجييش الجماهير وتعبئتها بغض النظر عن كونها أفكارًا صحيحة في ذاتها أم غير صحيحة، وفي المقابل لا تطمئن للأفكار الصحيحة إذا كانت قد تُسبب انقسامات في صفوف الحركة، ومن ثم خسارة المكاسب السياسية التي حصلت وتحصل عليها.
إقرأ أيضًا: تأثير التيارات الفكرية في العقل العربي
عن هذا التوجه النقدي الذي استقر عليه المرحوم نذير مصمودي في المرحلة الثانية من حياته، يقول أبو جرة سلطاني** وهو أحد أصدقائه:
“إن المرحوم مصمودي فَتَّشَ عن المسكوت عنه وأثار أسئلة بشأن ما كان مُحرمًا من التابوهات، وكشف المستور، وفكك منظومة الإسلام السياسي، وقرأ حاضر الإخوان ومستقبلهم، وتنبأ بفشل مشروع الإسلام السياسي… وانتهى إلى الحكم على حملة المشروع الإسلامي بالفشل في الوصول إلى الحكم وعليهم أن يعودوا إلى المساجد، فذلك مكانهم الطبيعي”[9].
أما ناشر الكتاب فقد رآه صرخة وقلقًا جراء الوضع الذي آلت إليه الحركات الإسلامية في تعاطيها مع مختلف القضايا، فقد التبست عليها المفاهيم، وطغت في ممارساتها الشكليات على المضامين، وغابت عنها حقيقة الإسلام، يقول الناشر: “الكتاب في صميم موضوعه ورُوحه، تعبير صارخ عن قلق مشروع إزاء وقائع وأحداث وظواهر، تؤكد في مجملها على سوء الفهم الدقيق لحقيقة الإسلام وجوهره ودوره في الحياة (…) أنه قلق منطقي ومشروع خصوصًا عندما تضيع الملامح الأساسية بين الدعوة والسياسة، ويلتبس الديني بالفكري ويطغى “الشيخ” ويتضخم على حساب المفكر والمحلل والاستراتيجي”[10].
ثالثًا، مكامن النقد
كثيرة هي النقاط التي توقف عندها نذير مصمودي في نقده للحركات الإسلامية بعضها يتعلق بسلوكيات، والآخر يتعلق بأفكار هذه الحركات ومبادئها وخياراتها، وهو ما يُشير إليه العنوان الفرعي للكتاب: “خواطر من وحي التجربة، وأسئلة من عمق الجرح“، سردها بأسلوب بسيط مستخدمًا أمثلة ووقائع وحوارات كان طرفًا فيها سواء مع قيادات الحركة (خاصة المرحوم محفوظ نحناح زعيم الحركة وأبو جرة سلطاني القيادي البارز في الحركة…) أو مناضلين أو أشخاص بعيدين عنها، قدم هذه “الخواطر النقدية” بعيدًا عن لغة التجريد والمفاهيم المعقدة، مع بعض الإحالات والاستشهادات بمفكرين إسلاميين: كالشيخ محمد الغزالي رحمه الله أو راشد الغنوشي، كما يُحيل الكاتب إلى تجارب الإخوان المسلمين المختلفة في: مصر والسودان وتونس والجزائر خاصة، مع إشادة كبيرة بالتجربة التركية خصوصًا مع الرئيس رجب طيب أردوغان، ومن أبرز مكامن النقد الذي وجهه لهذه الحركات سنتوقف عند المسائل الآتية:
- حلم إقامة الدولة الإسلامية
لعل الهدف الأسمى لكل الحركات الإسلامية هو إقامة الدولة الإسلامية، وبالعودة إلى كتابات أو خطابات قادة هذه الحركات، سنجدها تتضمن كلها هذا الهدف، فكلهم يُعلنون: “سنقيمها دولة إسلامية يطبق فيها شرع الله، دولة تقيم العدل والمساواة بين الناس…” دون أن يقدموا مشاريع واضحة وبرامج شاملة تستحضر كل المعطيات التي يتحقق بها هذا المشروع أو الهدف منه، ذلك ما أشار إليه نذير مصمودي بقوله: “كنا نحمل هم الدولة الإسلامية في أذهاننا، لكنه كان من أكثر المفاهيم غموضًا في عقولنا وأفكارنا، إن لم يكن وفق تعبير الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، محض وهم استغنينا به عن الدعوة (…) لقد كان في خطابنا مفهومًا هلاميا لا يملك القدرة على تحديد الملامح الدقيقة للدولة التي كنا نتحدث عنها، كنا نكتفي برسم صورة نمطية مثالية لهذه الدولة، وكيانها القائم على العدل وتطبيق شرع الله، كان كلامنا عامًا في هذا الموضوع وفضفاضًا”[11].
الدليل على عدم وضوح مفهوم الدولة الإسلامية وكيفية تحقيقها طبقًا لمعطيات الحاضر، هو أن الإسلاميين حين وصلوا إلى السلطة أو تقاسموها مع غيرهم في بعض الدول (أفغانستان، إيران، تونس، مصر…) لم يستطيعوا تحقيق هذا الهدف تحقيقًا واقعيًا، بل وجدنا إما سياسة براغماتية في الغالب لها أولويات أخرى غير المبادئ الإسلامية، وإما الوصول إلى طريق مسدود وتنامي التطرف والعنف المسلح، وإما ذوبان هذه الحركات وتمازجها مع الأحزاب الأخرى غير الإسلامية، حتى أنك لا تكاد تفرق بين هذا وذاك، يقول نذير مصمودي في هذا السياق: “لقد وصل إسلاميون إلى مواقع مختلفة في السلطة في بلدانهم عن طريق السياسية، وأثبت معظمهم أنه لا يختلف عن غيره في شيء (…) بل إن بعضهم انخرط في الفساد ولم تعد لديه هُوية سياسية تميزه عن الآخرين، وعن رذائلهم المادية والمعنوية”[12]. والأمثلة كثيرة، خاصة في حركة “حمس” بالجزائر، التي شاركت مع السلطة في التسيير ولها وزراء ومنتخبين في البرلمان والمجالس المحلية، منهم من هو الآن في السجن بتهم الفساد وتبديد المال العام! والأمر نفسه في تونس ومصر…
يختم الكاتب حديثه عن حلم الدولة الإسلامية وغياب الطريق لتحقيقها، بسبب غياب تصور دقيق لمؤسسات الدولة المنشودة، وممارسة السياسة بفكر الزوايا (الشيخ/المريد)، والاكتفاء بترديد نماذج تقليدية بعيدة عن استحضار معطيات الراهن وتعقيداته… يقول الكاتب: “ما تزال نفسي تضيق بلفيف من الإسلاميين، يدعون إلى السعي في إقامة الدولة الإسلامية، ولا جهد لهم في هذا المعنى إلا الثرثرة الفارغة واستفزاز الأقوياء وتلقي الضربات”[13].
- الخوف من المثقف الحر
يذهب الكاتب إلى أن هناك ما يُمكن أن نسميه بـــ: “حساسية مفرطة” للحركات الإسلامية تجاه المثقف وأن خوفها منه زاد تضخمًا وأن الصدام معه أصبح يُمثل ميلًا نفسيًا لدى معظم قياداتها”[14]، خاصة إذا كانت آراؤه تتميز بنوع من الاستقلال والتحرر، أو التمرد وتعرية ما يبدو بدهيًا، وهي وظيفة المثقف الحقيقي الذي “يكشف الأقنعة في الحفلات التنكرية” كما يقال في الأدبيات المعاصرة، ويفضح التمفصلات المُضمرة خاصة الاستغلال الذي تتعرض له مفاهيم المعرفة، التاريخ، الدين، الوطنية… من أجل الوصول إلى السلطة، لذلك فهو يُمثل “خطرًا” على معظم “الأنساق المغلقة” ومنها الحركات والأحزاب السياسية مهما كانت توجهاتها، ونتيجة هذا الخطر تتعامل الحركات الإسلامية مع هذا المثقف في نظر نذير مصمودي، وفق استراتيجيات متدرجة، لعله يعود إلى “رشده” ويكتفي بمنسوب حرية التفكير الذي تسمح به الحركة، هذا التعامل يتدرج من: الحصار، والتهميش والطعن في سلوكاته والقدح في مرجعيته أو التخوين واتهامه بالعمالة، وقد يصل الأمر إلى التكفير والطرد من الحركة، يقول عن تجربته الخاصة: “لقد عانيت وما أزال أعاني بسبب هذا التيار الذي حرم الحركة منظورًا نقديًا تحليليًا، يتجاوز تقاليد التقديس للأشخاص، ويبني تصوراته على نقد الحاضر والتطلع إلى مستقبل أشرف”[15]
هذا ما جعل/ويجعل كثيرٌ من المثقفين الكبار إما يعزفون عن الانتماء إلى هذه الحركات، وإما ينشقون عنها بعد مدة قصيرة من الانضمام إليها، ويورد نذير مصمودي بعض الأسماء التي نفرت أو انشقت عن الحركات الإسلامية: كمحمد الغزالي، سيد سابق، سليم العوا، أحمد كمال أبو المجد، محمد عمارة... والسبب في ذلك في نظره هو كون” الانتماء التنظيمي إلى هذه الجماعة (الإخوان) يقتل رُوح المثقف خاصة إذا كان يشعر بقدر كبير من الاستقلالية في التفكير (…) فالأقدمية وكبر السن والطاعة والولاء مقدمة على الكفاءة والقدرة والخبرة في كل ممارسات الجماعة”[16]، وهنا يتساءل الكاتب، ما الفرق بين هذه الحركات وأي نظام دِكتاتوري، لا يُزيح قيادته إلا الوفاة بعد شيخوخة قد تمتد إلى تسعين عامًا؟
إنها ظاهرة تكشف لنا هشاشة الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية في بلداننا بمختلف ألوانها، لأن الأمر لا يتوقف على الأحزاب والحركات الإسلامية دون سواها، الجميع يرفع شعارات الديمقراطية ويُطالب بالتداول على السلطة، وينتقد تشبث النخب الحاكمة بالمناصب، ولكن جُل قيادات هذه الأحزاب والحركات باقية على عروشها لا يُحلحلها إلا الموت، من الطرائف التي يُمكن إيرادها في هذا السياق، أن أحد زعماء الحركة الإسلامية في الجزائر، كلما قامت معارضة ضده داخل حزبه، وشعر باهتزاز عرشه، ترك الحزب أسس حزبًا جديدًا، وقد أسس ثلاثة أو أربعة أحزاب إلى الآن، وربما يرتفع عددها مستقبلًا…
- الإسلاميون والمعارضة
يطرح الكاتب سؤالًا مرتبطًا بصورة كبيرة بموقفها من المثقف والممارسة النقدية، ألا وهو سؤال علاقتها بالمعارضة، فهل يقبل الإسلاميون المعارضة حال وصولهم إلى السلطة؟ بعبارة أخرى، هل الإسلاميون ديمقراطيون أو إقصائيون؟ ويجيب دون تردد: “من الصعب جدًا إقناع الناس بأن الإسلاميين غير إقصائيين رغم النوايا الطيبة التي يُبديها بعضهم أو إعلانهم القبول بالتعدد والمعارضة”[17]. والسبب الذي جعله يصل إلى هذا الحكم، هو تجربته الطويلة مع ممارسات الحركة التي أكدت له ذلك، وكذا طبيعة تكوين العقل الإسلامي الذي يرى في كل معارضة “خروجًا على الإجماع والجماعة أو خيانة للأمة وثوابتها، ولعل الزعم بامتلاك الحق المطلق أو الحقيقة المحضة هو أحد أسباب هذه النزعة الأحادية الاستبدادية”[18]، فمن لا يسمح بالأصوات المعارضة من داخل الحركة، لا ننتظر منه إفساح المجال لأصوات تختلف مع الحركة في كثير من المبادئ والأهداف وربما في كل شيء، وما الانشقاقات والتصدعات التي تعرفها هذه الحركات إلا دليلًا على التضييق المُمارس داخلها وعلى رفضها لمختلف أشكال المعارضة.
تأكيدًا لموقفه يتساءل نذير مصمودي موجهًا كلامه إلى شيوخ حركة الإخوان بالجزائر، قائلًا: ” هل يجرؤ شيوخ الحركة على دعوة معارضيهم إلى مجلس الشورى، ليعبروا عن آرائهم المخالفة بكل حرية ومن دون خوف من إقصاء أو تهميش؟ أم أن الحركة رغم بُعدها الجغرافي عن أم الدنيا، ما تزال تشبه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتعيد إنتاج صور استبدادها وتخلفها القيادي؟”[19]
- خلافة الغرب في قيادة العالم
كثيرًا ما يُتحدث في الأوساط الإسلامية عن قرب نهاية الغرب، ونهاية هيمنته على العالم، والحقيقة أن هذه الفكرة هي وليدة الفكر الغربي ذاته، خاصة في الفترة المعاصرة، وما عرفته المجتمعات الغربية من تحولات في مختلف الأصعدة، فهناك أعمال عديدة لفلاسفة غربيين تحدثت عن أفول الحضارة الغربية وبؤسها (أوسفالد شبنغلر، بيير بورديو، نعوم تشومسكي...) المشكلة ليست هنا لأن تاريخ الحضارات يؤكد أن لكل حضارة زمنًا معينًا تحياه قد يطول وقد يقصر، وفي كل عصر تسود وتسيطر حضارة ما على العالم، المشكلة التي يطرحها نذير مصمودي هي اعتقاد كثير من الإسلاميين بأن الأمة الإسلامية هي البديل الذي سوف يقود العالم بعد أفول الحضارة الغربية، يورد لنا حادثة في هذا السياق فيقول: “استمعت في عاصمة أوروبية إلى خطيب يتحدث بحماس بالغ عن الغرب وقرب نهايته، وشعرت بتشاؤم حين عرفت أن هذا الخطيب، إسلامي فارّ من بلده بسبب مضايقات أمنية وتحصل على حق اللجوء السياسي في البلد التي آوته ووفرت له الأمن النفسي والاجتماعي والديني أيضًا، وتساءلت حين قال أن الأمة الإسلامية أصبحت الآن جاهزة لقيادة العالم بعد سقوط الغرب، أي أمة يتحدث عنها هذا المعتوه؟ (…) أي مؤهل سيرشح هذه الأمة المتخلفة إلى قيادة العالم؟”[20]
وهذا التساؤل مشروع جدا، بالنظر إلى الأحوال العامة لما يُسمى بالأمة الإسلامية، فهي تعيش التشرذم والانقسام والحروب والاضطرابات والتخلف وكل أنواع الفساد، أما حال الحركات الإسلامية فيصفها نذير مصمودي بقوله: “تديّن مختل الأصول، ودعوة مضطربة، تصدّ عن سبيل الإسلام وتردم معالم الصراط المستقيم”[21] ، فكيف يمكن أن تصل هذه الحركات بالأمة الإسلامية إلى قيادة العالم؟ وقبل ذلك نتساءل هل فعلًا قربت نهاية الحضارة الغربية؟ وهل ستنهار فعلا؟ لقد مرت أكثر من مئة سنة على صدور كتاب “أفول الغرب” للفيلسوف الألماني أوسفالد شبنغلر (صدر الجزء الأول عام 1918 أما الجزء الثاني فقد صدر عام 1923)، وما يزال كثيرٌ من المسلمين يستشهدون به لتأكيد فكرة نهاية الغرب، وقامت الحرب العالمية بعد صدوره بسنوات، غير أن الحضارة الغربية تعافت وتقوّت، فأصبحت أكثر هيمنة على العالم من قبل، مما يعني قدرتها على النقد الذاتي وتجاوز العوائق والأزمات التي تتعرض لها، ومن ثم فالقول بقرب نهايتها يبدو متهافتًا على الأقل في المدى القريب، كما أن القول بخلافة الأمة الإسلامية للغرب في قيادة العالم، يبدو أكثر تهافتًا، لأن الأمة المضطربة المتخلفة المخترقة من كل الجوانب، العاجزة عن قيادة نفسها لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تقود الأمم الأخرى، الأمر ليس بالمستحيل في المطلق، لأن كل شيء ممكن مستقبلًا، والتاريخ دول كما يقال، ولكن في الأمد القريب يبدو غير قابل للتحقق، قد يأفل نجم الحضارة الغربية، ولكن هناك أممٌ أخرى غير الأمة الإسلامية تبدو أكثر قدرة وتهيؤًا لقيادة العالم.
خاتمة
لقد ترك لنا المرحوم نذير مصمودي في العمل الذي توقفنا عنده، جُملة من الانتقادات التي تتعلق بفكر الحركات الإسلامية وممارساتها خاصة حركة الإخوان التي عرفها عن قرب، وكان أحد الفاعلين في نشاطاتها بالجزائر وخارجها، انتقادات تشير في عمومها إلى الانغلاق على الذات الذي تعيشه هذه الحركات، في زمن يبدو فيه الانفتاح على الآخر وعلى المتغيرات المحلية والعالمية أمرًا لا مفر منه لمن يُريد لمشروعه الاستمرار وإمكان التحقق، يتجلى هذا الانغلاق في الفكر الدوغمائي الأحادي الطرح، و”تقديس الأشخاص” (شيوخ الحركة وقياداتها) وغياب ثقافة التداول على القيادة، مما يجعلها تمارس التضييق على المثقفين والمعارضين لتوجهاتها، ومن ثم تكون عرضة للانقسامات والانشقاقات، وينفر منها كبار المثقفين الذي بإمكانهم تقديم الإضافة النوعية لتحسين صورة هذه الحركات وتقوية ثقة الجماهير بمشروعها.
كثيرة هي الأهداف الكبيرة التي تُعلنها الحركات الإسلامية، وعلى رأسها إقامة الدولة الإسلامية، دون أن تكون هناك خُطة واضحة ومسارًا دقيقًا لتحقيق هذه الأهداف، فالاكتفاء بالتغني بمنجزات الماضي، واللجوء إلى نماذج تقليدية، مع رفع الشعارات البراقة والحديث عن قيم العدل والمساواة وتطبيق شرع الله… لا يعني إمكان تحققها بسهولة في أرض الواقع، لأن هناك فرقًا كبيرًا بين التنظير والممارسة، خاصة في غياب الاجتهادات اللازمة والعمل الدؤوب وثقافة المؤسسات، وفي ظل التركيز في السطحيات والقشور بدل القيام بالمراجعات النقدية للمبادئ والمضامين.
الإحالات:
[1] بومدين بوزيد: الحركات الإسلامية من الفهم المغلق إلى أفق التجديد، الجزائر: دار قرطبة، ط1، 2012، ص 3.
[2] نذير مصمودي: متى يدخل الإسلاميون الإسلام؟، الجزائر: الشروق للإعلام والنشر، ط1، 2014ص06.
[3] انظر ملف جريدة الشروق: ” نذير مصمودي داعية إسلامي بفكر متمرد”، نشر في جريدة الشروق الجزائرية بتاريخ: 05/05/2021.
[4] المرجع نفسه، ص 71.
[5] فضيلة عبد الكريم: الإسلام السياسي بين التنظير الفلسفي وإخفاقات الراهن، الجزائر: دار كردادة للنشر والتوزيع، ط1، 2019، ص74.
[6] نذير مصمودي: مرجع سابق، ص ص 07-08.
[7] المرجع نفسه، ص ص 39-41.
[8] نفسه، ص 49.
** أستاذ جامعي وكاتب، وهو أحد قيادات حركة مجتمع السلم في الجزائر، شغل منصب وزير، وكذا عضو مجلس الأمة..
[9] ملف جريدة الشروق حول المرحوم نذير مصمودي، 05/05/2021.
[10] نذير مصمودي: مرجع سابق، مقدمة الناشر، ص ص 2-3.
[11] المرجع نفسه، ص ص 12-13.
[12] نفسه، ص 33.
[13] نفسه، ص 17.
[14] نفسه، ص 50.
[15] نفسه، ص 116.
[16] نفسه، ص ص43-46
[17] نفسه، ص ص 225-226.
[18] نفسه، 226.
[19] نفسه، 228.
[20] نفسه، ص ص 69-70.
[21] نفسه، ص 82.