تكوين
“تعاني الأحزاب الإسلامية في المرحلة الحالية
ومنها الإخوان من قلة الإنجازات وكثرة الاجترار”
عبد الله النفيسي: الفكر الحركي للتيارات الإسلامية، ط2، 2013، ص 44
تمهيد:
نبدأ مقالتنا هذه والمتعلقة بموقف المفكر الكويتي عبد الله النفيسي من الحركات الإسلامية، وبالدرجة الأولى من حركة الإخوان المسلمين، بعبارة مُوحية وردت إهداءً في كتابه الموسوم بــ “الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق“، إذ كتب: “إلى الذين نحبهم ولكن نختلف معهم“، يُمكن تأويل هذه العبارة ليكون المقصود بها علاقته بالحركات الإسلامية، ومبررَ هذا التأويل هو عنوان الكتاب من جهة، وعلاقة النفيسي بهذه الحركات وقربه من بعض قياداتها، واختلافه معهم في كثير من المسائل من جهة أخرى، وقد كتب الناقد المرحوم نذير مصمودي -الذي خصصنا مقالة لنقده لحركات الإسلام السياسي في كتابه “متى يدخل الإسلاميون في الإسلام؟”- يقول:
“لقد عشت في الكويت ردحًا من الزمن، وعرفت كيف أن المفكر الكويتي عبد الله النفيسي، الذي نشأ وترعرع في الحضن الإخواني، كان يعيش عزلة حقيقية فرضتها عليه جماعة الإخوان في الكويت، بسبب مواقفه النقدية الصارمة، وإصداره لكتب ومقالات في هذا الاتجاه”[1].
والمطلع على أعمال النفيسي يلاحظ الحضور المكثف لنقد الحركات الإسلامية فيها، مع أن هذا النقد لا يعني عداءه لها بقدر ما يعني محاولته الكشف عما أسماه بــــــ : “الثغرات” الموجودة ضمن مسار الحركة الإسلامية التي يعتقد أنها ثغرات خطيرة يجب معالجتها، لأنها تأثر سلبًا في مستقبل هذه الحركة. وقصد التفصيل في الموقف، نطرح الإشكالية الأتية: ما علاقة النفيسي بالحركة الإسلامية؟ وما هي أهم الثغرات التي رصدها ضمن استراتيجية عمل هذه الحركة؟
أولًا، التعريف بعبد الله النفيسي
عبد الله بن فهد النفيسي (1945- ) مفكر وكاتب وسياسي وأستاذ جامعي كويتي، له عديدٌ من الأعمال المتميزة والمتعلقة خصوصًا بالأوضاع السياسية والفكرية للمنطقة العربية، وحركات الإسلام السياسي بخاصة، وهو محلل وناقد سياسي معروف في الأوساط الإعلامية العربية، أهم ما ميز حياته، على غرار كبار المفكرين، هو التنقل والترحال بين الدول، فقد درس في القاهرة مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، وفي بيروت مرحلة الليسانس، وفي بريطانيا (جامعة كامبرج) مرحلة الدراسات العليا التي ختمها بالحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية بعد إعداد أطروحة عن: “دور الشيعة في تطور العراق السياسي” عام 1972، اشتغل بالتدريس في جامعة الكويت وجامعة العين بالإمارات العربية المتحدة. وكانت له جولات وصولات في كثير من البلدان العربية والغربية. وقد مر في حياته بكثيرٍ من المحطات، صعودًا وهبوطًا، فقد لاقى اهتمامًا وتقديرًا كبيرين من بعض الجهات، كما تَعَرَّض للظلم والسجن والتضييق في بعض اللحظات من حياته، فبسبب أحد كتبه الأولى، وكان عنوانه: “الكويت: الرأي الآخر“، فُصل من العمل في جامعة الكويت، وسُحب منه جواز سفره، وجُمدت حقوقه المدنية خمس سنوات، كما سُجن في المملكة العربية السعودية لأيام مع مجموعة من أصدقائه وهم في طريقهم لأداء مناسك العمرة دون وثائق…
إقرأ أيضًا: الإسلام السياسي الدين الجديد
بإلحاح كبير من أصدقائه ومقربيه، ترشح لانتخابات مجلس الأمة، ونجح في المركز الأول، فأصبح عضوا بالمجلس -ولو لمدة قصيرة- (1985-1986) نظرًا لحل المجلس من السلطات الكويتية بعد أشهر من إجراء الانتخابات، نتيجة ظروف خاصة، وتوترات كبيرة كانت تعيشها الكويت والمنطقة عموما (الحرب بين إيران والعراق) في ذلك الوقت، كما شغل منصب مستشار لدى رئيس مجلس الأمة الكويتي في الفترة (1992-1996)، من أهم أعماله: من أيام العمر الماضي -شبه سيرة ذاتية-(2014)، الفكر الحركي للتيارات الإسلامية (2013)، على صهوة الكلمة -مقالات-(2013)، الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق (2012)، عندما يحكم الإسلام (2013)...
ثانيًا، في علاقة النفيسي بالإسلام السياسي
بدأ اهتمام النفيسي بالتعمق في معرفة الإسلام في بريطانيا، حيثما كان مبتعثًا لدراسة الطب، وحدث أن قرأ كتابا للفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل بعنوان: “لماذا لست مسيحيا؟” فطرح سؤالا على نفسه: “لماذا أنت مسلم يا عبد الله؟”[2]، بسبب هذه الحادثة توقف عن دراسة الطب وعاد إلى الكويت، ليبقى سنة كاملة في دراسة كتب إسلامية متنوعة، ثم حاول التسجيل في كليات الشريعة بدمشق أو الأزهر للتخصص في دراسة العلوم الإسلامية، إلا أن طلبه رُفض بسبب خلفيته الدراسية التي كانت علمية وباللغة الإنجليزية، فتحول لدراسة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية ببيروت، وفيها انجذبَ بصورة كبيرة إلى الإخوان المسلمين، يقول عن ذلك:
“وجدت نفسي ومن دون تردد ولا تلعثم منحازًا للإسلاميين لأسباب عديدة”[3].
وفي هذه الفترة توطدت العلاقة بينه وبين بعض قيادات الحركة الإسلامية خاصة عمر التلمساني وفتحي يكن وحسن الترابي وغيرهما، كما سوف يلتقي بأبي الأعلى المودودي في فترة لاحقة بمدينة لندن ويحضر دروسه ويحاوره، من جهة أخرى، فقد ساندته الحركات الإسلامية في انتخابات مجلس الأمة عام 1985، ذلك ما يؤكده بقوله: “زارنا بعد تنسيق مع الحشد مندوبين رسميين عن جماعات إسلامية وأبلغونا بقرارهم (الرسمي) بالدعم فرحبنا بهم (ومنهم الإخوان والسلف والتبليغ وغيرهم) وكان للإخوان دورًا مميزًا في الدعم والتنظيم الذي أدى إلى النتيجة الإيجابية في النهاية“[4].
إقرأ أيضًا: تأثير التيارات الفكرية في العقل العربي
ويبدو أنه لم يقتنع يومًا بممارسة السياسة، فقد صرح بمقته العمل السياسي وإيثاره للاهتمام الفكري بالسياسة، يقول: “لا أتخيل نفسي وأنا (أمارس) السياسة، أحب أن أقرأ عنها وأحاول تحليل أحداثها، لكن أن أمارسها فذلك لم يخطر ببالي لسبب بسيط وهو أني إنسان مكشوف وبسيط ولا أعرف الخداع ولا التآمر وكل ذلك في ممارسة السياسة، لو دخلت هذا الفضاء سوف أختنق وأفشل”[5]، هذا النص يُبرر نقده للتنظيمات والأحزاب والحركات السياسية عمومًا، والإسلامية بخاصة، بالنظر، لمعرفته الدقيقة بها من الداخل، واحتكاكه بقياداتها ومتابعته لنشاطاتها، رغم تصريحاته بعدم الانتماء لهذه الحركات بصورة رسمية. مع ملاحظة مهمة وهي أن نقده لهذه للحركات الإسلامية لا يُستفاد منه قطيعته معها، فهو يُنبه في كتاباته أن الغرض من التركيز على الثغرات والجوانب السلبية في عمل الحركات الإسلامية، هو فتح المجال للنقاش والحوار والمراجعة والتقييم الذي يُحدث النهضة الضرورية لتقويم عمل هذه الحركات، يقول تأكيدًا لهذا المسعى:
“إننا نعتقد بأن الحركة الإسلامية في حاجة إلى يقظة تؤدي إلى تصحيح أوضاعها الداخلية أكثر من حاجتها إلى معسول القول ولينه (…) نشعر ونحن نمارس الكتابة في هذا الموضوع أننا نمارس نقدًا ذاتيًا، أي نقدًا لأنفسنا، لأن النقد الذاتي هو أصفى وأنقى صور النقد”[6].
ثالثًا، ثغرات الإسلامي السياسي
لخص النفيسي في مقدمة أحد كتبه ما سماه بثغرات التيارات الإسلامية والعوائق التي تُعيق عملها، بصورة دقيقة وموجزة، حين قال:
“ألا تلاحظ أيها القارئ أن التيار الإسلامي (الجماعة والأحزاب والتنظيمات والمؤسسات) تنمو نموًا متسارعًا ولا نبالغ إذا قلنا نموًا (وَرَمِّيًّا)، يلاحظ كذلك أن هذا التيار يعيش مشكلة على صعيد المفاهيم، والتنظيم والاتصال والتعاون البيني والمعرفة والجمهور المخاطب والموارد البشرية والمنافسة. ألا تلاحظ أن هذا “التنظيم الإسلامي” يقوم على السيطرة وليس على المشاورة…”[7]
وهي الثغرات التي سبق له التفصيل فيها -وفي غيرها- ضمن أعماله الأخرى، وسوف نحاول إيراد هذه التفاصيل، ومن ثم موقفه من استراتيجية عمل الحركات الإسلامية بإبراز أهم هذه الثغرات التي رصدها.
-
غياب النقد الذاتي
يرى النفيسي أن إحدى أهم الثغرات التي تعانيها الحركة الإسلامية، تتمثل في نفورها من النقد الذاتي، أشار إلى هذه المسألة أكثر من مرة في أعماله، يقول مثلًا:
“إن معظم الهيئات القيادية في الحركة تنظر إلى هذه الظاهرات (النقد الذاتي) بوصفها (فتنًا ومن تلبيس إبليس وصورةً من صور الغرور المنافية لتواضع المؤمن)”[8]
فعلى الرغم من مرور عقود على نشأة الحركة الإسلامية المعاصرة (حركة الإخوان تأسست عام 1928) إلا أننا لا نجد كتابًا واحدًا صادرًا من داخل أطر العمل الإسلامي يتناول تاريخ هذه الحركة بالنقد والتقويم الموضوعيين العلميين، وهذا ما أدى إلى نزعة التعلق بالأشخاص أكثر من الأفكار.[9] ثم إن “عدم صدور هذا التأريخ الرسمي العلمي والموضوعي للحركة دليل ثابت على افتقاد رُوح المراجعة والوعي الموضوعي بالذات لديها وتلك ثغرة خطيرة نرجو أن تنتبه الحركة إليها“[10]، فمن غير المعقول أن تُنشر دراسات عديدة: تحليلًا وتأريخًا ونقدًا بشأن مسار الحركة من طرف جهات خارجية عربية كانت أو غربية، ولا تصدر مثل هذه الدراسات من داخل الحركة، فأي حركة فكرية أو سياسية تظل في حاجة دومًا للتقييم والمراجعة وتعريف الآخرين، بكل موضوعية بمبادئها وطريقة عملها وأهدافها وما إلى ذلك من مقتضيات الإقناع للأتباع، ومقتضيات الممارسة السياسية القابلة للاستمرار والنجاح.
إن غياب النقد الذاتي ونفور الحركات الإسلامية منه-خاصة قياداتها- كان سببًا وراء نفور كبار المفكرين من الانتماء لهذه الحركات، على الرغم من ميلهم وتعاطفهم الكبير معها، يقول النفيسي تأكيدا لهذه الفكرة: “التقيت منذ 1962 حتى الآن بمئات من الاختصاصيين الإسلاميين الذين لم تتحمل الحركة رغبتهم وشهيتهم للحوار والنقد الذاتي، فضيقت عليهم الخناق حتى (طفشوا) من ذلك وكان مصيرهم الهدر والخروج من حظيرة الحركة”[11]. ومن المؤكد أن كثيرًا من هذه الطاقات البشرية تحولت إلى جهات أخرى أكثر انفتاحًا لتسمح لها بالتعبير عن آرائها ومن ثم الاستفادة من معرفتها وخبرتها.
إقرأ أيضًا: محب الدين الخطيب الوجه الآخر لرشيد رضا: وأزمة الهُوية والبناء الفكري والتنظيمي لحسن البنا وجماعته
مما يترتب عن غياب النقد الذاتي أو النفور منهم وصد الأبواب تجاهه، غياب ثقافة الحوار، سواء تعلق الأمر بالحوار والتشاور الداخلي بين أطياف الحركة وتلويناتها، أو بينها وبين الجهات الأخرى؛ تنظيمات وأحزاب تتقاسم أو تتنافس معها بخصوص أهداف العمل السياسي، وهو حوار ضروري للممارسة السياسية في ظل معطيات الراهن، التي تَسْتبعد الانكفاء على الذات والعزلة السياسية، هذا ما ذهب إليه النفيسي، ولكن الملاحظ وفق النفيسي أن “ثمة خوف دائم يستشعرهُ الإخوان -وخاصة القادة-من خلاف في الرأي إذ أنهم ألفوا أجواءً غير طبيعية من القولبة المصطنعة والعسكرة الغالبة المسيجة بسياج من الشكلية والمظهرية الشرعية، ومن هنا غابت في جماعة الإخوان ما نستطيع تسميته بـــ (مؤسسات الحوار والتقويم والتدقيق)”[12]، هذا الوضع الذي يُشير إليه النفيسي متنافٍ تمامًا مع الشعارات التي ترفعها، ومضامين الخطابات التي تُعلنها، والتي تكون غالبا مليئة بالدعوة إلى قيم الحوار والشورى ومرحبة بالاختلاف وتعدد الآراء، ، لذلك يعتقد النفيسي أن “الحديث المتكرر عن ضرورة الشورى والتشاور والكتب العديدة التي وضعت عن الحرية الفكرية في الإسلام لا تجد لها صدى ما لم يتمكن العاملون في مجال الدعوة الإسلامية من تأسيس ظاهرة الحوار في منهجية العمل الإسلامي نفسه”[13].
-
طغيان العمل على النظر
تحت هذا التوجه يُمكن إيراد عديدٍ من الثغرات التي رصدها النفيسي بخصوص استراتيجية عمل الحركات الإسلامية، فهو يُعلن صراحة أن “الملاحظ على الحركة الإسلامية بشتى أطيافها عدم عنايتها بالعملية الفكرية“[14]، ويورد لنا بعض الأمثلة التي تؤكد غياب التفكير النظري في عمل الحركات الإسلامية، فعلى مستوى منشورات هذه الحركات نلاحظ تركيزًا مُكثفًا على المضمون العبادي في الإسلام: الصلاة، الصيام، الحجاب، الحج، العلاقات الأسرية… دون أن يُرافق هذا الاهتمام ما يلائمه من اهتمام وتأصيل نظري للمفاهيم التي تتكرر كثيرًا في خطاب هذه الحركات، كـ: الدولة الإسلامية أو الحرية السياسية أو طبيعة النظام السياسي الإسلامي وعلاقته بمعطيات الراهن، الأقليات الدينية في المجتمع الإسلامي وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول… يقول النفيسي: “لقد كان الخطاب الإسلامي -أعني جُله- في الخمسين عامًا السالفة يتناول نظام القيم، ولكن ما نحتاجه الآن -احتياجًا مُلحًا- هو تحديد نظام المفاهيم، ونحن نشدد أنه دون تحديد علمي وموضوعي للمفاهيم لا يُمكن بلورة النظرية المتكاملة المطلوبة اليوم بإلحاح في ساحة العمل الإسلامي”[15]. والمقصود بالنظرية المتكاملة هو تقديم “النظام الإسلامي” كونه رؤية شاملة ومتكاملة للدولة والسوق وبناء المجتمع.
إن الحركات الإسلامية في نظر النفيسي تركز على النجاح في الانتخابات، معتقدة أن “الفوز في الانتخابات يُمهد الطريق لاستئناف حياة إسلامية كاملة وشاملة في الدولة -وهذا بالطبع- تبسيطًا مخلًا للموضوع وتسطيحًا له”[16]، لأن استمرار الحياة الإسلامية الشاملة والكاملة لا يُمكن أن يتم بقرار سياسي أو تشريعي، إنما هو قرار شعبي يتحقق حينما يشعر المواطن أنه أمام منظومة متكاملة واضحة وقادرة على تحقيق أهدافه، والواقع يؤكد -وفق النفيسي– أن “ثمة أوضاعٌ وملفاتٌ وهياكلُ سياسية تتعلق بنظام الحكم وأوضاع المجتمع وتركيب الاقتصاد تنتظر الفكفكة والتصفية قبل مجرد الحكم باستئناف حياة إسلامية كاملة وشاملة في الدولة”[17]، لذلك يذهب إلى تبني حكم قاسٍ على الشعبية التي تتمتع بها الحركات الإسلامية، إذ يرى أن النجاحات الانتخابية التي تحققها هذه الحركات في بعض البلدان العربية وشعبيتها الكبيرة والمتزايدة، “ليست دليلًا على مؤهلاتها في الحراك السياسي والاجتماعي (…) فالجمهور العربي يئس من التيارات الأخرى (القومية واليسارية والماركسية) فانتخب الإسلامية لا حُبًا فيها، بل كراهةً للتيارات الأخرى التي لم يَحصِد منها إلا المُر والعَلْقم”[18].
-
تداخل الديني مع السياسي
إحدى أهم المسائل الشائكة التي رصدها عبد الله النفيسي ضمن نقده للحركات الإسلامية، ما سماه بتداخل الديني مع السياسي، واصفًا إياه بأنه أمرٌ خطيرٌ على الدين أولًا، وعلى الحركات أو التنظيمات الإسلامية آخرًا، فهذا التداخل أو الخلط يتم بين مجالين أحدهما أمر رباني (الدين) والآخر جهد بشري محض، قد يصيب وقد يخطأ، وهو في حاجة دومًا إلى المراجعة والتغيير للتأقلم مع المستجدات الداخلية والخارجية، وأصبح مُتعذرًا -في ظل هذا التداخل- إيجاد الخط الفاصل بين ما هو ديني وما هو تنظيمي سياسي، و”اختلاط هذا الأمر أضفى على التنظيم اللبوس الديني فيشعر الحزبي بـ (الإثم) لو خالف أمرًا تنظيميًا أو اعترض عليه”[19]، ومن ثم يندر أن نجد هذا الاعتراض أو المخالفة، وإن حدث ذلك، فستكون القطيعة والطرد من التنظيم -في الغالب- لذلك تكثر الانشقاقات والانقسامات داخل هذه التنظيمات.
يرى النفيسي أن هذا التداخل أضر بالدين وبـالتنظيم الإسلامي، ويشرح مكمن الضرر بقوله: “أما ضرر الدين منه فقد جاء من تحميله كل أخطاء وتخبطات أفراد التنظيم، وأما ضرر التنظيم منه، فقد جاء من هذا السياج الأدبي والمهابة الدينية وممارسة العصمة (…) مما جعل التنظيم (وهو جهد بشري محض معرض للخطأ والصواب) جزءًا من الدين بحيث اختلط الأمر على كثيرٍ فلا عدنا نعرف أين يبدأ التنظيم وأين ينتهي، فكانت المغالطة، مثلما أن الدين لا نقبل نقده فكذلك التنظيم، ولأن التنظيم صار لا يقبل النقد أو صار فوق النقد، كُمِّمَت الأفواه…”[20].
ما يؤكد هذا التداخل تسمية قيادات الحركة بـ “الشيوخ”، وهي تسمية لها من الدلالات الدينية أكبر مما لها من دلالات سياسية، فالشيخ تسمية مرتبطة بالعلم الشرعي والزاوية والمسجد… ورئيس الحزب أو الحركة، يفترض أنه صاحب منصب سياسيٍ لا دينيٍ، ومن ثم فإن إضفاء الصفة الدينية على هذا المنصب يجعل رئيس الحزب أو الحركة محاطًا بهالة من “التوقير الزائد” -حتى لا نقول التقديس- الذي يحول دون إمكان التفكير في نقد مواقفه وقراراته من الأتباع، وهو ما يُفسر غياب مبدأ التداول على السلطة.
من جهة أخرى يُشير النفيسي إلى خطورة التداخل بين الديني والسياسي في الحركات الإسلامية، خاصة حينما تميل كفة السياسي على حساب الديني، فيصبح الدين في هذه الحالة وسيلةً تُستغل لتحقيق أهداف سياسية فحسب، وهو أمر حاصل في الواقع بصورة كبيرة، يقول النفيسي في هذا السياق: “ما نحن ضده أن يتحول الإسلامي الحزبي إلى حزبي أولًا ثم إسلامي ثانيًا وأن يصبح الانتماء الحزبي اتجاهًا عقليًا في التفكير، وأن داخل الحزب مقدس وخارج الحزب مدنس، وهذا ما حصل في كثير من التنظيمات الإسلامية الحزبية”[21].
-
الرهاب الثقافي
لعل إحدى أهم المشكلات التي تعترض الحركة الإسلامية هي العلاقة مع الغرب، والتي تُمثل في نظر النفيسي تحديًا كبيرًا في المستقبل، ويجب تبني موقف واضح من هذا التحدي، والواقع يؤكد في نظره أن عددًا كبيرًا من أبناء الدعوة الإسلامية يعانون مما أسماه “الرهاب الثقافي“، ويقصد به الخوف من كل جديد في عالم الثقافة والحضارة، وهو في الغالب منتوج غربي، من ثم فالرهاب الثقافي يؤول إلى رهاب من الغرب، وهو ما سميناه في مقالة سابقة “الغربوفوبيا”.
يعتقد النفيسي أن هذا الخواف أو “الرهاب الثقافي يحول دون فهم العصر واستيعابه ويحول دون الاتفاق في التعامل مع مؤسساته الممتدة، وهذا ما يؤدي إلى النكوص والتخلف والعنف”[22]. إن هذا الموقف غير المنفتح على المستجدات الثقافية والحضارية، هو موقف لا يمكنه أن يصمد أمام التحديات التي تفرضها هذه المستجدات التي اكتسحت العالم، تحت مسميات كثيرة: الحداثة، العصرنة، العولمة… وكثيرٌ من الإسلاميين يتبنون موقف الانكفاء على الذات و”معاداة الغرب” انطلاقًا من اعتقادهم أن “العالم يعيش في حالة (فراغ) فكري وقيمي وحضاري، وأن الحركة الإسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ، كذلك تنتشر بين الإسلاميين مقولة مؤداها أن العالم يعيش حالة من الفوضى الفكرية والثقافية وأن الحركة الإسلامية مناط بها تصحيح هذه الفوضى ووضع الأمور في نصابها الصحيح”[23]، وهي تصورات يراها النفيسي خاطئة وفي حاجة إلى مراجعة عميقة، فلا فوضى في العالم ولا فراغ من أي ناحية، العالم يسير وفق نظام معين، قد لا يتفق مع تصوراتنا، ولكن ذلك لا يعني أننا على صواب وأنه على خطأ، وهنا يطرح النفيسي سؤالًا دقيقًا: هل ثقافة المسلم المعاصر مؤهلة لخوض الصراع العالمي، ومن ثم أن تكون بديلًا للفراغ أو الفوضى التي تعتقد أنها تسود العالم؟ ويجيبُ بالنفي، مؤكدًا أن “ثقافة المسلم المعاصر -بما في ذلك كثيرٌ من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية- هي ثقافة ماضوية تُعنى بشأن الماضي، لذا لا بُد من نهوض ثقافي في أوساط الإسلاميين -بالذات- ولا بُد من إحياء قضية المستقبل في ثقافة المسلم المعاصر”[24]، والاعتناء بالحاضر والمستقبل مرتبط بمراجعة العلاقة مع الغرب، والتحول من الرهاب إلى الانفتاح والاستيعاب الإيجابي الذي قد يكون بداءة للإبداع، ومن الأمثلة الناجحة في تجاوز هذه الإشكالية، يُشيد النفيسي بالتجربة اليابانية التي قامت على تحويل العلاقة مع الغرب من علاقة زبون بتاجر إلى علاقة تلميذ بأستاذ، وانتهت إلى بلوغ التلميذ لمرتبة الأستاذية المبدعة.
خاتمة
تعرفنا مما سبق على بعض الثغرات التي رصدها عبد الله النفيسي بخصوص عمل التنظيمات والحركات الإسلامية لا سيما حركة الإخوان المسلمين، والحقيقة أن هناك كثيرٌ من الثغرات التي لم ندرجها هنا، لأننا ركزنا في تلك التي تشترك فيها جُل حركات الإسلام السياسي وفي مختلف البلدان العربية، دون التي قدد تكون مرتبطة ببلد معين أو بفترة معينة أو بشخصيات محددة، ولا شك أن الثغرات التي نبه إليها الأستاذ عبد الله النفيسي في طريقة عمل الحركات الإسلامية وحركة الإخوان خصوصًا، تكتسب كثيرًا من الأهمية من عدة أوجه: أولها، أنها صادرة من عارف بخبايا التنظيمات الإسلامية من الداخل، وهذا يزيدها مصداقية ودقة. ثانيها، أن هذه الثغرات تكشف عن الاختلاف الكبير بين الخطاب والممارسة، بين القول والعمل، كما تكشف عن هشاشة الجانب النظري ضمن عمل هذه التنظيمات مقارنة بالجانب العملي، وهو ما يعني توجهها البراغماتي وتركيزها على النجاح في الانتخابات وحشد الجماهير، بغض النظر عن تقديم إطار نظري متكامل يربط المبادئ بالأهداف.
أما ثالث أوجه أهمية هذا النقد الذي وجهه النفيسي لحركات الإسلام السياسي فهو، “فضح” استغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية عن طريق المواصلة في الخلط بين الديني والسياسي، مما يجعلها -خاصة القيادات- في منأى عن النقد والمساءلة لقراراتها من الجماهير المنضوية تحت لوائها. وإن حققت هذه التنظيمات مكاسب انتخابية كثيرة في بعض البلدان وفي مرحلة ما، فإنه وبمرور الوقت تتضح الصورة لدى هذه الجماهير، وتعي أن هذه التنظيمات لا تختلف في شيء مع باقي التنظيمات السياسية التي لم ترفع لواء الإسلام، فالكل غرضه تحقيق المكاسب السياسية والمادية، وكل يستثمر في رأسمال رمزي معين، منهم من يستثمر في الدين ومنهم من يستغل التاريخ ومنهم من يلعب على حبل الوطنية…
الإحالات:
[1] نذير مصمودي: متى يدخل الإسلاميون في الإسلام؟، الجزائر منشورات الشروق، ط1، 2014، ص 116.
[2] عبد الله النفيسي: من أيام العمر الماضي، الكويت: مكتبة آفاق، ط1، 2014، ص ، ص 33
[3] المرجع نفسه، ص 40.
[4] المرجع نفسه، ص 146.
[5] المرجع نفسه، ص 140.
[6] عبد الله النفيسي: الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، الكويت: مكتبة آفاق، ط1، 2012، ص 15.
[7] المرجع نفسه، ص 07..
[8] المرجع نفسه، 15.
[9] عبد الله النفيسي: على صهوة الكلمة، الكويت: مكتبة آفاق، ط1، 2013، ص 124.
[10] عبد الله النفيسي: الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، ص 20.
[11] المرجع نفسه، ص ص 15-16.
[12] المرجع نفسه، ص 25.
[13] عبد الله النفيسي: على صهوة الكلمة، ص 123.
[14] المرجع نفسه، ص 09. يقول أيضا في هذا السياق: “أدركت أن زادنا الفكري ضعيف وأن الإسلاميين أهملوا إلى حد بعيد العملية الفكرية أو التربية الفكرية إذ باتوا يركزون في خطابهم على (نظام القيم) لا (نظام المفاهيم) ولذلك كثر فيهم الخطباء وقل في صفوفهم المفكرون وحرصوا على (الحشد العاطفي) لا التوجيه الفكري)”، أنظر: النفيسي: من أيام العمر الماضي، ص 47.
[15] المرجع نفسه، ص 22.
[16] النفيسي: من أيام العمر الماضي، ص 148.
[17] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[18] النفيسي: على صهوة الكلمة، ص 09.
[19] النفيسي: الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، ص 14.
[20] المرجع نفسه، ص ص 17-18.
[21] المرجع نفسه، ص 13.
[22] النفيسي: على صهوة الكلمة، ص 36. كما يضيف في نفس الكتاب قائلا: ” لابد من أن يتخلص الإسلاميون-أقصد عمومهم- من الرهاب الثقافي الذي يعانون منه، لأن هذا الرهاب يزرع في الأوساط الإسلامية الرغبة النكوصية والانكفائية والارتجاعية ويزاحم كل رغبات استشرافية تشرئب للمستقبل” ص125. نفس المعنى أيضا: ص 178.
[23] النفيسي: الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، ص 10.
[24] النفيسي: على صهوة الكلمة، ص 127.