سمات التقنية القديمة:
يستهل إلول حديثه عن سمات التقنيات القديمة بطرح السؤال الآتي: هل ثمة استمرار وتواصل بين الظواهر التقنية القديمة والحديثة؟ أم أن هناك قطيعة واختلافا جذريا بينهما من حيث الوسائل والأهداف؟ وهل تعد السمات الحديثة للتقنية امتدادا لسماتها القديمة أم أن البون بينهما شاسع؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يعرض إلول إلى موقفين متباينين: الموقف الأول لجان فوريست Jean Fourasit الذي يتبنى فكرة أن التقنية الحديثة ما هي إلا امتداد للتقنيات القديمة، ويؤكد على عدم وجود أي اختلاف بين تلقي الإنسان القديم للظواهر التقنية وتلقي الإنسان الحديث لها. ففي كلتا الحالتين تنتاب الإنسان مشاعر الدهشة والخوف الغريزي من كل ما هو جديد، لا فرق في ذلك بين إنسان بدائي وآخر متحضر
“ألم يشعر إنسان ما قبل التاريخ الذي رأى السيف البرونزية للوهلة الأولى بخوف وقلق وتهديد، بالضبط مثلما نشعر نحن إزاء القنبلة الذرية؟(…) إن تقنية اليوم تحمل سمات كل التقنيات السابقة، ولا يمكن لهذا التطور التقني مهما كان متسارعا أن يشكل خطرا علينا”([1]).
إن ما يؤكده فوريست في هذا النص هو أن الظواهر التقنية لم ولن تشكل تهديدا للوجود الإنساني منذ القدم وحتى الآن، وبالتالي، فلا داعي للخوف والقلق مما تقدمه لنا التطورات التقنية، فالخبرة التاريخية أثبتت أن التقنية لا تشكل خطرا على البشر.
لكن إذا كان فوريست يشدد على وجود خيط موصول بين التقنية القديمة والحديثة، ففي نظر آخرين لا صلة بينهما. فإلول ينفي وجود أي صلة بين التقنية القديمة والحديثة. ويعرض لنا سمات التقنيات القديمة ليبرز مدى اختلافها الجوهري عن التقنيات الحديثة، وتتحدد هذه السمات لديه فيما يلي:([2])
- لم تكن للتقنية القديمة واقع مستقل في ذاته، بل كانت مجرد وسيط بسيط بين الإنسان وبيئته.
- اتسمت التقنية القديمة بالمحدودية. فلم تكن توجد في المجتمعات القديمة وفرة من الأدوات التقنية، بل كان هناك تقنيات للصيد وللحرب، وبعض التقنيات الاقتصادية البسيطة. فحياة هذه المجتمعات كانت غير تقنية بالمرة.
- وهو ما ترتب عليه أنه لم يكن للتقنية قدر كبير من الأهمية مقارنة بالعلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية، فعند إنجاز هدف اقتصادي صغير يصبح المجهود التقني ثانويا وهامشيا بالنسبة لمتعة التجمع والبهجة معا.
- ولهذا كان الوقت المكرس لاستخدام التقنيات قصير جدا مقارنة بوقت الفراغ المكرس للراحة واللعب والتأمل، فلم تكن التقنيات جزءا أصيلا من اهتمامات الإنسان في ذلك الحين.
- لم تكن المجتمعات القديمة تسعى إلى استحداث وسائل تقنية جديدة، فنقص وعيوب الأدوات كان يتم تعويضهما بواسطة مهارة العامل التي كانت تؤدي إلى الفاعلية الأقصى.
- لذا لم تكن التقنية القديمة غاية في حد ذاتها.
- كما أنها اتسمت بالمحلية وعدم الانتشار السريع، لأن الجماعات الاجتماعية التي شكلت المجتمعات القديمة كانت مغلقة جدا على نفسها. لذا لم يكن هناك انتقال للتقنيات من مكان إلى آخر.
- شَكَلت التقنية في المجتمعات القديمة جزءا من الحضارة التي كانت مكونة من عناصر متنوعة: السكان والموارد الطبيعية والمناخ… وكانت التقنية واحدة من هذه العوامل ومرتبطة بها ومعتمدة عليها. لقد كانت جزءا من الكل، وتتتطور كجزء في هذا الكل، وتشارك في مصير هذا الكل.
- ترتب على كل ما سبق خضوع التقنيات للبشر، حيث استطاع الإنسان في المجتمعات القديمة أن يحتفظ بوجود مسافة بينه وبين التقنية، ولم يسمح لعالم المادة والأدوات أن يتطفل على حياته. ولذا فلم يتأثر تطوره الروحي ولا الأخلاقي بأية تقنيات.
إذن، عدم الاستقلال، والمحدودية، والمحلية، وإخضاع التقنيات للغايات الإنسانية هي أهم سمات التقنيات القديمة بحسب تصور إلول. لكن تلاشت هذه السمات بالفعل في عصرنا الراهن، وحل محلها سمات جديدة كلية، فرضها علينا تطور الظواهر التقنية واستخداماتها الحالية. وسنرى كيف أن سمات التقنية الحديثة هي على النقيض التام من سماتها القديمة.
لكن قبل أن ننتقل إلى سمات التقنية الحديثة نود أن نؤكد على أن تصورات إلول عن سمات التقنية القديمة هي بمثابة إقرار منه بوجود تقنيات قديمة تطورت بفعل العوامل الاقتصادية والعلمية عبر العصور حتى وصلت إلى شكلها الراهن. وهو ما ينفي في تصورنا صحة ادعاءات إلول بأن الحضارة الغربية لم تعرف حتى القرن الثامن عشر أي تقدم تقني مهم.
على أية حال، يميز إلول انطلاقا من ملاحظته ورصده للتقنيات الحديثة بين نوعين من السمات: يتعلق النوع الأول بالظاهرة التقنية نفسها، وفيه يعرض إلول لأهم السمات التي تميز جوهر التقنية المعاصرة. أما النوع الثاني فيتعلق بالتقدم التقني، وفيه يعرض إلول لأهم الآليات التي تتبعها التقنية لتحقق تقدمها وتطورها الذاتي دون توقف أو تراجع.
سمات الظاهرة التقنية:
-
1- الاســتـقـلال Autonomy:
على عكس التقنية القديمة التي كانت تُعد عنصرا من ضمن عناصر متعددة ساهمت في تشكيل الحضارات وعملت في وفاق وانسجام مع باقي العناصر، وخضعت للأغراض الإنسانية، فإن التقنية في عصرنا الراهن، وبحسب توصيف إلول لها، تتسم بالاستقلالية. والمقصود بالاستقلال هنا هو أن التقنية لا تتأثر في عملها بأي محددات أخرى: اقتصادية أو سياسية أو علمية أو ثقافية أو أخلاقية أو دينية…، بل ترفض أي تدخل في عملها من خارج النسق التقني ذاته. إنها مغلقة على نفسها وبإحكام شديد، ولا تعتمد في تطورها إلا على ذاتها، ولا تخضع سوى لقوانينها الخاصة. وهو ما يعني أنه ليس للبشر، ولا لأي سلطة أخرى المقدرة على التدخل في تعديل مسارها أو توقفها، فهي تعمل باستقلالية مطلقة.
لقد أصبحت التقنية المعاصرة بالفعل إرادة الإرادة على حد تعبير هيدجر. وسنرى لاحقا، كيف أن التقنية في عصرنا الراهن هي التي تحدد شكل الأنظمة الاقتصادية والسياسية… وتتحكم في تطورها وليس العكس. لقد أبرز إلول سمة الاستقلالية هذه عندما قال:
“لا يقبل النسق التقني أي قانون آخر غير القانون التقني والقاعدة التي لا تنظر إلا لنفسها”([3]).
نالت أطروحة استقلال التقنية قبولا كبيرا لدى قطاع عريض من الفلاسفة والمفكرين الذين أقروا بأن إلول هو صاحب الفضل في صياغة هذا المصطلح. إذ كشف بواسطته عن سيطرة وهيمنة التقنية على الإنسان المعاصر، وعدم قدرته على اتخاذ أي رد فعل إزاء هذه السيطرة. ويعترف لانجدون وينر Langdon Winner بفضل إلول في هذا المجال قائلا:”
إن استخدامي لمصطلح استقلال التقنية يُشتق مباشرة من أعمال إلول”([4]).
وكذلك فال ديسك الذي يقول:
“تُنسب فكرة التقنية المستقلة إلى الفيلسوف الفرنسي جاك إلول في كتابه المجتمع التقني وهي فكرة صائبة إلى حد كبير”([5]).
ليس إلول وحده من يعزو للتقنية قوة كلية ومستقلة وقادرة على إعادة تشكيل الواقع الإنساني والحضاري بكل تشكلاتهما وفقا لتوجهاتها، بل يتفق معه أيضا كارل ياسبرز في أن للتقنية وجود مستقل يُخضع الإنسان والاقتصاد لقوانينه الحاكمة، يقول ياسبرز في هذا الصدد:
“تحدد طبيعة التقنية نمط العمل، بحيث أن أي تعديل أو تغيير جذري في التقنية يكون مصحوبا على نحو حتمي بتغير أو تحول جذري في العمل”([6]).
وكأن لسان حال ياسبرز يقول أن التقنية هي القاطرة التي تجر وراءها كل الأنظمة الاقتصادية وتوجهها أينما تريد ورغما عنها.
لكن في الوقت الذي يقول فيه إلول وياسبرز وآخرون باستقلال التقنية، ينفي جوزيف س. بيت Joseph C. Pitt استقلالها وانفصالها عن الإنسان والمجتمع وتحكمها فيهما. ويؤكد بيت في المقابل على أنها
“جزء مكمل لمجتمعنا وثقافتنا(…) وليس هناك ما يجعلنا نعتقد أنها تند عن السيطرة البشرية”([7]).
إن ما يشدد عليه بيت في هذا النص هو فكرة حياد التقنية فهي لا تعمل، من وجهة نظره، باستقلالية عن إرادة البشر التي تستطيع توجيهها نحو الخير أو الشر. فهي لا تتمتع بالاستقلال والقوة والسيادة التي يعزوها لها إلول.
-
2- الوحدة Unity:
يقصد إلول بمصطلح الوحدة أن الظاهرة التقنية تُشكل كلاً متحدا ترتبط عناصره بإحكام مع بعضها البعض، بحيث لا يستطيع أي عنصر أن يستقل أو ينفصل أو يعمل بمعزل عن باقي العناصر التي تشكل هذا الكل. فكل جزء في هذه الظاهرة يدعم ويعزز الجزء الآخر، ولا يمكن إجراء أي تعديل في الجزء بدون أن نؤثر في الكل([8]).
لكن تحمل هذه الوحدة بين طياتها آثارا تتسم بالخطورة البالغة، إذ يصبح من المستحيل عزل العناصر الضارة للتقنية، والإبقاء على العناصر النافعة وحدها، فالعناصر الضارة متضمنة في الظاهرة، وتفرض نفسها على الإنسان والمجتمع والحضارة فرضا قسريا، ولا يمكن التخلص منها بسبب وحدة الظاهرة التقنية. ويبرز إلول هذه المخاطر قائلا:
“هل يمكن اكتشاف المحرك الذري والطاقة النووية من دون صناعة القنبلة الذرية؟ “([9]).
-
Universality -3 العالمية:
يقصد إلول بعالمية الظاهرة التقنية أنها ظاهرة كونية تنتشر في كل مكان على وجه الأرض، وتتخلل وتتسيد كل المجالات والأنشطة
“يمتد النسق التقني إلى كل الدول(…) فلا يوجد مجال يخرج عن إطار التدخل التقني. فأبسط المهام وحتى أكثرها تعقيدا متضمن في العملية التقنية”([10]).
إذن عالمية الظاهرة التقنية ترتكز عند إلول على بعدين جوهريين هما: البعد الجغرافي، والبعد الكيفي.
أما فيما يتعلق بالبعد الجغرافي، يرى إلول أن هناك سببين جوهريين قادا إلى انتشار التقنية عالميا وهما: الحرب والتجارة
“فالحروب الاستعمارية فتحت الباب أمام الأمم الأوروبية التي امتلكت الوسائل التقنية المعقدة لنشر التقنية في كل الدول. والسبب الثاني الذي أدى إلى الانتشار التقني هو التجارة الناتجة عن غزو القوى الغربية للأسواق العالمية”([11]).
ليست الحروب والتجارة وحدهما من أدوا إلى انتشار التقنية عالميا، بل إن هناك سببا آخر وهو أن التقنية أصبحت تشكل في عصرنا الراهن جوهرا وأساسا أوحد ترتكز عليه كل البناءات الأخرى، وأصبحت هي المعيار الحاكم الذي نحاكم انطلاقا منه كل الأنساق الأخرى. والنتيجة المترتبة على ذلك هي تخلل التقنية إلى كل المجالات. حتى المجالات التي كانت فيما سبق من أخص خصوصيات الوجود الإنساني الحميم مثل: الحب، والمشاعر، والرغبات، والجنس، والتي كانت تعبر عن عمق ورقي الوجود الإنساني في علاقاته مع الآخرين، أصبحت تخضع الآن لمنطق التقنية الذي أحال كل هذه المشاعر إلى مجرد عمليات آلية تخلو من الشعور بالسعادة والبهجة الحقيقية لصالح الشعور باللذة المؤقتة
“فبسبب تدخل التقنية تجرد الحب من المشاعر والأحاسيس والتعهدات، ومن كل شيء يتضمن العطاء، فقد تحول إلى فعل Act وأنفصل عن كلية وشمولية الوجود…”([12]).
وحتى الموت الذي كان فيما سبق قدرا محتوما وغامضا للإنسان لا يعرفه سوى خالقه فقط، أصبح بسبب تقدم التقنيات الطبية موضوعا من موضوعات التقنية. فظهر لدينا تقنيات إطالة حياة المريض، وتقنيات التدخل الطبي لإنهاء حياة المريض(القتل الرحيم). بالفعل، لم يعد يوجد مجال إلا واخترقته التقنية، وهذا وإن دل على شيء فيدل على انتشارها وامتدادها إلى كل المجالات.
إقرأ المزيد: محاولة تأمّل فلسفيّ في مفهوم الموت
تهدد عالمية الظاهرة التقنية الحضارات الأخرى. فالحضارة التقنية تسعى إلى طمس الحضارات التي تشكلت على مدار التاريخ وقدمت إسهاماتها الروحية والفنية والثقافية. وتسعى أيضا إلى طمس التنوع الثقافي، وإلغاء هوية الشعوب، لتفرض شكلا من أشكال التماثل والتطابق مع قيمها المادية والتقنية المحضة، فالتقنية ” تفعل لتجعل كل الحضارات المختلفة متطابقة“([13]).
-
4- الكلية Totality:
ما يقصده إلول بكلية الظاهرة التقنية هو أن “هذه الظاهرة تشكل كلا شاملا، فما يهم فيها ليست العناصر المفردة، لكن النسق الكلي للعلاقات والارتباطات بين هذه العناصر“([14]). إن ما يشدد عليه إلول هو أن بنية الظاهرة التقنية الكلية لا تعبأ بالعمليات التقنية الفردية، ولا بكل عملية على حدة، لكن بالنسق التقني ككل، فالكل أهم من مجموع أجزائه.
ويشير إلول إلى أن لهذه الكلية أصداء اجتماعية، إذ تحولت الظاهرة التقنية إلى كل اجتماعي دمج الأفراد بداخله، وجعل من الصعب بل ومن المستحيل على الأفراد أن يشبعوا احتياجاتهم أو يحققوا رغباتهم بعيدا عن هذا الكل. فالفرد موجود من أجل الكل، ولتحقيق مصالحه واهتماماته، إذ “يستقبل المجتمع والوجود البشري وحدته من التقنية الكلية“([15]).
نستنتج مما سبق أن السمات التي يعزوها إلول إلى الظاهرة التقنية، تجعل منها عالما مستقلا تمام الاستقلال عن عالمنا الإنساني، وسنجد أن العالمين لا يسيران جنبا إلى جنب لخدمة أغراض البشرية، بل نجد أن عالم التقنية قد ابتلع العالم الإنساني بداخله، ولم يعد يسمح له بشيء إلا لإخضاعه واستغلاله لتحقيق مصلحته. فعالم التقنية لا يحتاج إلى الإنسان إلا كمستهلك فقط، وفيما عدا ذلك، فليس لعالم الإنسان أية قيمة داخل العالم التقني.
لكننا نعتقد أن رؤية إلول التشاؤمية هذه تغض الطرف عن دور القوى العقلية والواعية والتحررية للإنسان. كما أنها تغفل قدرة الإنسان على قهر عالم الحتميات الذي يطوق الذات ويشل حركتها وقدرتها على التحرر. لقد استطاع الإنسان الحديث أن يتحرر من سيطرة الطبيعة، ومن سيطرة النظم الاستبدادية: الدينية والسياسية، ولا يوجد لدى إلول ولا لدى من يقولون بالحتمية التقنية أي مبرر لافتراض أن الإنسان غير حر أو غير قادر على التحرر، وأنه سيظل أسيرا لعالم التقنية. ومن جهتنا، نرى أن التقنية محايدة بالفعل، ويتوقف استخدامها على الإنسان. فقد تستخدم القنبلة الذرية لقتل الملايين أو لتوليد الطاقة لخدمة البشر، وهذا القرار إنساني محض ليس للتقنية دخل فيه.
ورغم ذلك، سنلاحظ تزايد هذه النبرة التشاؤمية لدى إلول عندما نعرض لسمات التقدم التقني عنده. لكن ثمة تساؤل يطرح نفسه: ألا يوجد بريق أمل لدى إلول للخروج من هذه المآزق التي فرضتها التقنية على الإنسان؟ وهل سيستمر إلول متشائما حتى النهاية أم سيغير من رأيه، ويخلص إلى أن الحل في يد الإنسان وليس بمنأى عنه؟
سـمات التقدم التقني:
-
1- التحفيز الذاتي Self Augmentation:
يقصد إلول بالتحفيز الذاتي:
“إن كل شيء في النسق التقني ينمو بواسطة قوة داخلية ودون أي تدخل حاسم من الإنسان(…) فالتقنية تتطور وتتقدم وفقا لقوة داخلية تجبرها على ذلك”([16]).
نلاحظ في هذا التعريف أن سمة التحفيز الذاتي التي يتسم بها التقدم التقني هي المرادف الدقيق لسمة استقلال التقنية. فالتقنية وفقا لهاتين السمتين، كما ذكرنا سابقا، تعمل وتتطور وفقا لقوانينها وقواها الداخلية الخاصة ولا تعبأ بأي شيء آخر سواء أكان الإنسان أو الاقتصاد أو السياسة…. ما يريد أن يقوله إلول هو أن استقلال التقنية القسري المفروض على الإنسان والمجتمع والحضارة هو الضامن الأساسي والوحيد لتطورها وتقدمها.
ورغم أن التقنية، لدى إلول، مكتفية بذاتها في الوجود والفعل، أي أنها ليست في حاجة إلى مساعدات خارجية لترقية وتطوير نفسها، إلا أن إلول يرى أن هناك مجموعة من العوامل التي تعمل على ترقية وتطوير الوجود المستمر للتقنية، ومن هذه العوامل ما يلي:([17]).
- أ- اندفاع البشر في عصرنا الراهن نحو التقنية، فالبشر متأكدون من تفوقها وسموها، ولهذا يتوجهون نحوها، فالكل يعمل لصالح التقنية. إن انبهار البشر بمنجزات التقنية ودقتها وسرعتها الفائقة يحفز النسق التقني لأن يكون مطورا لذاته، لينتج أفضل ما لديه من إمكانيات، استجابة لرغبات البشر. فالإقبال الجماهيري المتزايد على التقنية هو سبب من أسباب تطورها وتقدمها الذاتي.
لكن ثمة سؤال يطرح نفسه: هل تتأثر التقنية في تطورها بالعوامل الإنسانية؟ أي، هل للعامل الإنساني أهمية ودور في عملية تطوير التقنية لذاتها؟ وألا يتناقض هذا مع فكرة استقلال التقنية وتطورها بفعل التحفيز الذاتي لا بفعل أي قوى خارجية أخرى؟ يجيب إلول على هذه الأسئلة بالنفي، فالاندفاع البشري نحو التقنية ليس نتاجا لإرادة إنسانية، فرغبات وتوجهات الإنسان لا تحددها الرؤى والأفعال الإنسانية بقدر ما تتشكل بواسطة التقنية، وهذا ما يؤكده قائلا:”تتحدد أفعال الإنسان وفقا للنسق التقني(…) لأن التقنية تدفع كل فرد لأن يفعل في هذا الاتجاه، ويعد هذا بمثابة تحفيز ذاتي“([18]).
هكذا، لن يزيد دور الإنسان في النسق التقني عن ترس صغير في آلة التقنيات الضخمة، وستقتصر وظيفة هذا الترس على استمرار هذه الآلة في العمل. لكن السؤال المطروح: ماذا لو تم اقتلاع هذا الترس الصغير من هذه الآلة؟ هل ستنجح في تأدية وظائفها؟ الإجابة لدينا، إنه لن يكون لآلة التقنية الضخمة أي وجود في حالة التخلي عن هذا الترس الإنساني. لكن لإلول رأي مغاير، فهو على يقين بأن هذا الترس- الجزء- لا يمكن أن يعيش بمعزل عن الآلة الضخمة التي تشكل كلاً استوعب هذه الأجزاء بداخله، وأجبرها على التماهى معه، فلقد ” أصبح الجزء والكل متطابقين“([19]).
علاقة الإنسان بالتقنية عند إلول تشبه إلى حد كبير علاقة الإنسان بالنظامين: الاقتصادي والاجتماعي عند ماركس الذي يقول في كتابه نقد الاقتصاد السياسي:
“في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية، ومستقلة عن إرادتهم”([20]).
فالإنسان يخضع لنسق مستقل من العلاقات؛ يخضع للنسق التقني عند إلول، وللنسق الاقتصادي والاجتماعي عند ماركس. لكن ثمة اختلاف جوهري بين ماركس وإلول، وهو أن تحرر الإنسان من حالة التبعية والخضوع للنسق يقترن لدى ماركس بالتحرر من النظام الرأسمالي نفسه، والسبيل لبلوغ هذا الهدف هو الثورة. فالتحرر هنا فعل سياسي ضد واقع اجتماعي ظالم. أما لدى إلول فمسألة تحرر الإنسان من النسق التكنولوجي تتطلب أن نستبدل بهذا النسق نسقا إنسانيا سنرى ملامحه فيما بعد.
ومما يؤخر عملية تحرر الإنسان من النسق التقني هو أن آثار التقنية الإيجابية المتمثلة في الدقة والسرعة والفاعلية هي آثار ملموسة ومرئية وتزيد من تمسك البشر بها. في حين لا تظهر آثارها السلبية إلا على المدى البعيد، وقد لا تظهر لأن التقنية مشروع مفتوح يعدل ويطور نفسه باستمرار، وفي حالة ظهور أي أثر سلبي ستقدم التقنية حلولا عاجلة.
- ب- لذا تحدث عملية التحفيز الذاتي أيضا عند وجود آثار ضارة للتقنية، إذ تطور التقنية من نفسها عندما تسعي إلى مواجهة التحديات والأزمات الناتجة عن استخدامها. فالتقنية ترقي نفسها بسبب إخفاقاتها الخاصة(…) فالمخلفات الزائدة تجبرنا لأن نشيد المصانع لحرق هذه المخلفات.
إن ما يشدد عليه إلول دائما هو أن المشكلات الناجمة عن استخدام التقنية لن يمكن حلها إلا عن طريق التقنية نفسها، فالمشكلات تقنية والحلول تقنية أيضا. وبهذا، تجعل التقنية من نفسها السبيل الأوحد لحل المشكلات. كل هذا يجعل التقنية تطور نفسها بنفسها.
- ج- بالإضافة إلى ذلك، أنه عند ظهور تقنية جديدة فهي تحفز وجود عدد من التقنيات الأخرى. فظهور محرك الاحتراق الداخلي، على سبيل المثال، قد جعل في الإمكان ظهور تقنيات السيارات والغواصات([21]). ما يريد أن يقوله إلول هنا هو أن التقنية تمثل عالما مفتوحا تتلاقى فيه المجالات المتعددة مع بعضها البعض، فهي ليست مجال مغلق على ذاته، وليس هناك ما يمنع استفادة مجال من المجالات الأخرى، طالما سيؤدي هذا إلى الفاعلية الأقصى. وهذا بدوره عامل من عوامل التحفيز التقني. التحفيز الذاتي، لدى إلول، يشبه طبيعة الأعداد الرياضية، فبعد كل رقم نضيف رقما جديدا، فليس هناك سبب لإعاقة التقدم. وهكذا تتسم عملية التحفيز الذاتي باللانهائية.
-
2- الآلية Automatism:
لا يختلف مضمون الآلية لدى إلول عن مضمون السمات السابقة التي أشرنا إليها، بل هو تأكيد لها كما سنرى. إذ يقصد إلول بالآلية أن التقدم التقني يحدث بشكل آلي. فهو موجهه لذاته لبلوغ الفاعلية الأقصى، ويحدث كل هذا دون أدنى تدخل من الإنسان. فالتقنية بحكم طبيعتها “تبحث عن الوسائل التي توظفها، وما الإنسان إلا أداة لتسجيل النتائج التي تحدث بواسطة التقنيات المتنوعة“([22]).
هكذا، تطيح سمة الآلية، شأنها شأن السمات الأخرى، بفكرة الحرية الإنسانية. هذه الحرية التي أكد إلول على غيابها التام في المجتمعات التقنية الراهنة. فالتقدم التقني دائما ما يكون مصحوبا بتقليص واختفاء حريات الأفراد، للدرجة التي يمكننا معها القول إن الإنسان في مجتمع إلول التقني هو إنسان مستعبد كلية. هذه النظرة المتشائمة هي ما يبلورها إلول عندما يرى أنه
“حتى الإنسان الذي يقرر أن يحمي حريته في الاختيار يجد نفسه في منافسة مع سلطة ليس لديه ضدها أي دفاع مؤثر،(…) وسيجد نفسه يخضع على نحو اضطراري للاستعباد التقني. وبالتالي، فلن يوجد مطلقا ما يسمى بحرية الاختيار”([23]).
يبدو أن الشعور بتهديد التقنيات لحريات الأفراد قد أصبح قاسما مشتركا بين معظم المهمومين بالتقنية، إذ نجد إليوت د. كوهين Elliot D. Cohen يتفق مع إلول أيضا في تخوفه من خطورة التقنية على حريات الأفراد. يقول كون:
“تهدد التقنية حرية الإنسان وكرامته من خلال التطور المستمر لتقنيات المراقبة، وهو ما يجعلني اعتقد أن الأنظمة التقنية هي أنظمة للتجسس على، والتلاعب بـــــــ، والتحكم في كل مناحي حياة الأفراد الخاصة”([24])
يختزل كون التقنية التي تشكل خطرا على حريات الأفراد في تقنيات المراقبة التي تستخدمها بعض الأنظمة المستبدة لفرض رقابة على أنشطة الأفراد وأفعالهم بحجة حماية الأمن القومي. لكن لخطورة التقنية عند إلول معنى أوسع أشمل، فهي تمتد من أصغر الأنشطة وحتى أكثرها تعقيدا، فخطورتها تكمن في إغلاقها لأبواب حرية الاختيار واتخاذ القرار في وجه البشر.
إجماع الكثيرين على خطورة التقنية وتهديداتها المباشرة وغير المباشرة لم يمنع البعض من الاجتهاد لإيجاد حلول للتغلب على هذه المخاطر، إذ ينادون بضرورة الإعلاء من قيم المشاركة والمسئولية، ويدعون إلى تقنين التقنية للسيطرة عليها والتحكم فيها… لكن لن يرضى إلول بالطبع عن هذه التصورات. لكننا لا ينبغي أيضا أن نتسرع وننسب إلى إلول نزعة تشاؤمية مطلقة، صحيح أن النزعة التشاؤمية الحادة تسود في كل كتاباته، لكنه سوف يخفف من حدة هذا النزعة فيما بعد، وهو ما سنعرض له في حينه.
-
3- التقدم السببي وغياب الغائية Causal Progression and Absence of Finality
يقصد إلول بالتقدم السببي وغياب الغائية
“أن التقنية لا تتطور في ضوء مصطلحات الغايات والأهداف الإنسانية، بل تتبع في تطورها منطقا داخليا خاصا بها ومنفصلا عن المنطق التطوري للأهداف الاجتماعية والاقتصادية”([25])
لكن ثمة سؤال وهو: ماذا يحدث عندما تستقل التقنية عن هذه الغايات والأهداف؟ هل ستُكوّن غايتها وأهدافها الخاصة بها وستعمل على تحقيقها؟
يجيب إلول عن هذا التساؤل بأنه ليس للتقنية من الأساس أية أهداف أو غايات تعمل من أجلها، لكنها تتطور وفقا للمنطق الضروري للتطور. إنها تتطور من أجل التطور ذاته وليس من أجل بلوغ أية غايات أخرى. وتكمن خطورة هذا التطور اللاغائي في أنه يفتقد إلى الرؤية وتحديد الهدف. وهو أمر نلاحظه في التقنيات الطبية المتعلقة بالإنسان مثل: الهندسة الوراثية والاستنساخ، فعملية استنساخ الإنسان، أو التدخل في تحديد صفاته الوراثية أصبح متاحا بفضل استخدام التقنيات الطبية المتطورة. لكن ما هي الغاية من وراء استنساخ إنسان أو تعديل صفاته الوراثية؟ وعلى أي نحو نريده: ذكيا، أم شريرا، أم مستبدا؟ فهذه الأسئلة من الصعب الإجابة عليها. هذا الاندفاع المتهور في تطور التقنية قادنا إلى الجهل بالغايات، وهذا ما أبرزه إلول قائلا:
“إننا نعرف كيف ننتج إنسانا مستنسخا، لكن من هو؟”([26]).
إذن، وبحسب رؤية إلول، من الوهم أن نحدد أي غاية للتقنية، بل ومن الوهم أيضا الاعتقاد بأن التقنية تحدد لنفسها غايات وأهداف وتلتزم بها أو تقف عندها ولا تتعداها.
لكن في الوقت الذي يصر فيه إلول على عجز الإنسان على تحديد أهداف وغايات التقنية، نجد الأمر مختلفا لدى كارل ياسبرز. فهو وأن كان يقول باستقلال التقنية واستبدادها، إلا أنه يتحرر من هذه النزعة التشاؤمية ويعبر عن ثقته في الإنسان وقدرته على التحرر. فهو يرى أنه لا قيمة للتقنية بمعزل عن الإنسان، إنها بدونه كالقوة الفارغة من المضمون. فالإنسان هو من يضفي على التقنية قيمة ومعنى، إن التقنية لديه
“مجرد وسيلة، وهي ليست خيرا أو شرا في حد ذاتها، فكل شيء يعتمد على الإنسان الذي يستخدمها، وبالتالي، فالسؤال الأهم: من هو الإنسان الذي يستحوذ عليها ؟”([27]).
يسعى ياسبرز هنا إلى رد الاعتبار مرة أخرى للإنسان؛ الفاعل الحقيقي في التاريخ والمجتمع، وذلك بعد أن جردته رؤية إلول للتقنية من أي قيمة حقيقية، وسلب منه أي قدرة على الفعل لتغيير الواقع المعيش.
-
4- التسارع Acceleration:
يقصد إلول بالتسارع أن
“النسق التقني يهدف لأن يُسرع من نموه وتقدمه على نحو لا يتوقف”([28]).
ترتبط هذه السمة أيضا بما سبقها من سمات، فكل السمات السابقة تؤكد على أن التقنية تزيل من طريقها كل ما يعوق تطورها ونموها السريع. فالتقدم التقني يتسم بالنمو والتطور اللامحدود، ومقاومة ومحو كل العثرات التي تقف في وجهه سواء كانت هذه العثرات: أخلاقية أو دينية أو اجتماعية….
عند تأمل السمات السابقة سواء كانت سمات الظاهرة التقنية أو سمات التقدم التقني نجد أنها ليست نتاج لتأملات فلسفية أو سوسيولوجية مبتورة الصلة بالواقع المعاصر، بل إن إلول نفسه يؤكد في أكثر من موضع على أن هذه السمات حصيلة للرصد ولملاحظة الحقائق والتطورات التي تحدث في مجتمعنا الراهن. وهو ما سيتبدى لنا جليا عندما نضع أيدينا على علاقة التقنية بشتى الجوانب والأنشطة المعرفية والعلمية والإنسانية الأخرى، إذ سنجد التحقق الفعلي لهذه السمات: الاستقلال، والكلية، والعالمية، والتحفيز الذاتي، واللاغائية…، فإلول يتكيء على هذه السمات وينطلق منها في تفسيره لكل ما يحدث في عالمنا التقني المعاصر. فهذه السمات لديه بمثابة معارف قبلية سيرتكز عليها إلول عند فحصة لعلاقة التقنية بالميادين والأنشطة الأخرى.
المراجع:
[1]– ibid., p:61,62
[2]– ibid., p: 63- 74
[3]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p:124
[4]– Langdon Winner, Autonomous Technology:Technics out of Control as a Theme in Political Thpught,, Cambridge, MIT Press, 1977, p: 15
[5]– Val Dusek, Philosophy of Technology: an Introduction, op.cit., p: 105
[6]– Karl Jaspers, The Origin and Goal of History,Translated by: Michael Bullock, Massachusetts, Murray Printing Company, 1965, p: 106
[7]– Joseph C. Pitt, Thinking about Technology: Foundations of The Philosophy of Technology, New York, Seven Bridges Press, 2000, p: 88, 98
[8]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 116
[9]– ibid., p:98
[10]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p:169, 170
[11]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:118, 119
[12]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 174
[13]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 117
[14]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 199
[15]– ibid., p: 204
[16]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 208
[17]– ibid., p: 208- 224
[18]– ibid., p: 210
[19]– ibid.,
[20]– كارل ماركس، نقد الاقتصاد السياسي، ترجمة/ راشد البراوي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1969، صـ 2
[21]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:87
[22]– ibid., p:80
[23]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 250,251
[24]– Elliot D. Cohen, Technology of Oppression: Preserving Freedom and Dignity in an Age of Mass, Warrantless Surveillance, Macmillan, Palgrave, 2014, p:4
[25]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 256
[26]– جاك إلول، خدعة التكنولوجيا، ترجمة/ فاطمة نصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004، صـ 460
[27]– Karl Jaspers, op.cit., p: 125
[28]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 294