تكوين
يعد مصطلح التكنولوجيا مصطلحا براقا يحظى بترحاب وجاذبية كبرى لدى الجماهير العريضة. فالتكنولوجيا تعبر عن أرقى تجليات العقل البشري، فهي الوسيلة الناجعة التي يتحقق بفضلها المزيد من الراحة والرفاهية والدقة في الأداء. وبفضلها استطاع الإنسان أن يحقق تقدما غير مسبوق في شتى المجالات: العلمية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
لكن إذا كانت التكنولوجيا منحة العقل الإنساني لمواجهة الصعاب والتغلب عليها فما الداعي إلى الخوف والقلق اللذان ينتابان الفلاسفة والمفكرين منها؟ هل باتت التكنولوجيا تهدد بالفعل الوجود الفردي والاجتماعي؟ وهل تقلص التكنولوجيا حرية الإنسان؟ وهل يتعدى تهديدها الوجود الإنساني إلى تهديد المنظومة الحيوية بأسرها؟ كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير سوف نقاربها في دراستنا هذه عن النقد الفلسفي للتكنولوجيا.
هذه الدراسة التي أقدمها إلى القارئ العربي الكريم عبر مؤسسة تكوين والتي أتمنى أن تنال رضاه، أزعم إن لم يجانبني الصواب أنها أول دراسة عربية متكاملة الأركان عن النقد الفلسفي للتكنولوجيا لدى فيلسوف من أهم الفلاسفة المعاصرين، وهو الفيلسوف الفرنسي جاك إلول. ربما يكون إلول هو الفيلسوف الأكثر تأثيرا والأقل شهرة في تحديد ملامح علاقة التكنولوجيا بالإنسان والمجتمع. وسوف أقسم هذه الدراسة إلى أربعة أجزاء، سوف أتناول في الجزء الأول المفهوم والتطور التاريخي للتقنية. وسوف أتطرق في الجزء الثاني إلى الفرق بين التقنيات القديمة والحديثة. وفي الجزء الثالث سوف أوضح جدلية العلاقة بين التقنية والاقتصاد والسياسة. وفي الجزء الرابع والأخير سوف أعرض لعلاقة التقنية بالدين والأخلاق. محاولا في النهاية تقديم تصور كامل عن علاقة التكنولوجيا بشتى مناحي الحياة الإنسانية، وخطورة هذه العلاقة وضرورة وضع سبل لتحرر من هيمنة التكنولوجيا.
مقدمة:
وقف جان جاك روسو في عام 1750 أمام أعضاء أكاديمية دي جون DiJon الفرنسية ليلقي خطابا عن العلوم والفنون، وللخطاب عنوان فرعي: هل لتقدم العلوم والفنون أثرا على الأخلاق؟ وكانت الإجابة المتوقعة عن هذا السؤال هو أن ثمة علاقة طردية بين العلوم والفنون من جهة، والأخلاق من جهة أخرى. فبقدر ما تتقدم العلوم وتبدع الفنون يرتقي الإنسان إلى آفاق حضارية وأخلاقية أكثر رحابة. لكن إجابة روسو كانت مخيبة لآمال المستمعين، ولهذا كان مرتابا بقدر كبير في أن يلقى خطابه قبولا بين مستمعيه، لأن مضمونه كان يقوم على فكرة أن كل تقدم في العلوم يصاحبه تردي وانحطاط على المستوى الأخلاقي. هذه العلاقة العكسية بين التقدم العلمي والأخلاق هي ما عبر عنها روسو قائلا:
“بقدر ما تصل العلوم والفنون إلى درجة الكمال، تتوارى الشجاعة وتختفي الفضائل “([1]).
طغيان التقدم العلمي في القرن الثامن عشر، والولع بمناهجه التجريبية والرياضية ومحاولة تطبيقها على شتى مناحي الحياة الإنسانية هو ما جعل روسو يطلق صيحاته التحذيرية هذه، خوفا من أن يساهم هذا المزاج العلمي- الجمعي في تحويل الإنسان إلى آلة همها الأساسي هو تجميع وتكديس الثروات. إن تحول الثروة إلى غاية في حد ذاتها هو ما حذر منه روسو قائلا:
“إن المال يشتري أي شيء، إلا الأخلاق والمواطن الفاضل”([2]).
لكن تحذيرات روسو هذه لم تجد لها صدى في القرن الثامن عشر المعروف بعصر التنوير، والتجرد من الأساطير والخرافات، والإيمان بالتقدم العلمي ووعوده.
على الرغم من عدم جدوى تحذيرات روسو، لكن يبقى له الفضل في إيقاظ وتنبيه وعي الفلاسفة والمفكرين بالمخاطر الأخلاقية والاجتماعية والسيكولوجية الكامنة وراء التقدم. وهي الفكرة التي عبر عنها الفلاسفة فيما بعد من أمثال: ماركس ونيتشة وفلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال: هيدجر وليوتار وآخرون بمصطلح “وهم التقدم“، وانطلقوا منه لنقد الحضارة الغربية وأوضاعها اللاإنسانية.
ونريد أن ننوه هنا إلى أن نقد روسو للآثار الجانبية للتقدم العلمي في القرن الثامن عشر كان سابقا على نشوب الثورة الصناعية بما يقرب من قرن. فروسو لم يعش ليشهد التقدم الهائل على المستوىين: الصناعي والتكنولوجي، والذي بلغ ذروته في القرن العشرين. والسؤال الآن ماذا سيكون شعور روسو إذا كان موجودا في عصرنا الراهن؟ والسؤال الآخر: ما هو موقف فلاسفة القرن العشرين من التقدم التقني الهائل الحادث في هذا القرن؟
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تصاعدا للمد الفكري الناقد للتقنية، وساهمت الأحداث المأسوية في هذا القرن، وبخاصة الحربين العالميتين وما خلفتهما من آثار تدميرية هائلة من زيادة حدة هذا النقد وانتشاره على نطاق كبير بين الفلاسفة. إذ ألف الفيلسوف الألماني أوزفلد شبنجلر كتابه الإنسان والتقنية ســنة 1932، وألف الفيلسوف الأمريكي لويس ممفورد كتابه: التقنيات والحضارة Technics and Civilization عام 1934، وكتابه الفن والتقنيات Art and Technics عام 1952، وكتابه أسطورة الآلة The Myth of The Machineعام 1967. كما ألف الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر محاضرته الشهيرة بعنوان: السؤال عن التقنية The Question Concerning Technology ســنة 1954، وألف الفيلسوف الفرنسي جاك إلول كتابه المجتمع التقني The Technological Society في العام نفسه، والذي ترجم إلى الإنجليزية ســـنة 1964، وتبعه بعد ذلك بكتابين آخرين: النسق التقني The Technological System عام 1977، وكتاب خدعة التقنية The Technological Bluff ســنة 1988. فضلا عن كتابات فلاسفة مدرسة فرانكفورت عامة، وإسهامات ماركيوز وفروم وهابرماس وخصوصا كتاب هابرماس الشهير العلم والتكنولوجيا كأيديولوجيا. إضافة إلى كتابات الفلاسفة الوجوديين من أمثال: سارتر، وياسبرز، ومارسيل، وغيرهم في هذا المجال.
نستنتج مما سبق، أن أطروحة التقنية قد أصبحت إشكالية كبرى تطرح نفسها على أولويات تفكير الكثير من الفلاسفة رغم تباين انتماءتهم واتجاهاتهم الفلسفية. وبالتالي، أصبحت التقنية تمثل هما مشتركا بينهم جميعا. بالإضافة إلى هذا، يدل هذا الزخم وهذه الكثرة من المؤلفات على أن التقنية أصبحت تشكل تحديا حضاريا كبيرا. وهو ما يستدعي حشد جهود الفلاسفة للبحث عن حل للخروج من المآزق التي تفرضها علينا التقنية المعاصرة.
فعلى سبيل المثال، كان شغل هيدجر الشاغل هو محاولة الوصول إلى جوهر التقنية نفسها، بغرض فهمها لمحاولة الحد من سيطرتها على الإنسان “فالعلاقة تكون حرة عندما تنفتح كينونتنا على ماهية التقنية“([3]). وندرك أن ماهية التقنية شيء مختلف تماما عن التقنيات نفسها. وينتهى هيدجر من تحليله للتقنية المعاصرة إلى أنها “إرادة الإرادة” أي الإرادة التي تشكل الإرادة البشرية وتتحكم فيها. والحل، حسبما يراه هيدجر، يكمن في الإعلاء من قيمة الفنون والآداب لمعايشة الوجود الإنساني الأصيل.
أما فلاسفة مدرسة فرانكفورت من أمثال: ماركيوز وفروم وهابرماس…… وآخرون، فقد ركزوا في معالجتهم لهذا الموضوع على أبعاد أخرى، وهي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المترتبة على تفشي التقنية في المجتمع المعاصر. وساروا على نهج ماركس في رؤيته بأن التقنية في ظل المجتمعات الرأسمالية ما هي إلا أداة من أدوات الهيمنة والاستغلال، وهي سبب رئيس من أسباب اغتراب الإنسان المعاصر، حتى وإن كانت تكتسي برداء العقلانية. وهذا ما تؤكده عبارة ماركيوز التي يقول فيها:
“إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع اتهام، وإنما تحميها(…) لقد أصبحت التكنولوجيا هي الناقل الأكبر للتشيؤ، ذلك التشيؤ الذي بلغ أكمل أشكاله وأنجعها”([4]).
رغم هذا النقد الماركوزي العنيف لآثار التقنية الاجتماعية والنفسية، إلا أننا لا يجب أن نتسرع، انطلاقا من النص السابق، وننسب إلى ماركيوز صيغة الرفض المطلق للتقنية. فموقفه النقدي من التقنية لا يعني أنه يطالب بإلغائها، وأن نعود بالحضارة إلى مرحلة تاريخية سابقة على الحضارة التقنية. بل على العكس مثله مثل ماركس يرى أن التقنية وسيلة للتحرر والخلاص، وتحقيق الوفرة والرفاهية، لكن بشرط ألا تخضع للسياسة القائمة، بل يتطلب الأمر انقلابا سياسيا “فحتى يتحقق التغير النوعي فإن المطلوب هو إعادة بناء تلك القاعدة التقنية وليس إلغاؤها(…) وإن مثل هذا التحرر يستوجب أولا انقلابا سياسيا“([5]). هذا النص يضع ماركيوز، حسبما نرى، ضمن القائلين بحياد التقنية. فالتقنية إما أن تكون أداة للهيمنة أو وسيلة للتحرر، وهذا الأمر يتوقف على الإرادة السياسية التي تستخدمها وتوظفها، وليس على التقنية نفسها. فالخطورة إذن تكمن في سوء الاستخدام.
هكذا، نجد تباينا كبيرا بين رؤية هيدجر للتقنية ورؤية ماركيوز لها. فبينما يرفض الأول أطروحة حياد التقنية، لأنه يرى في هذا الحياد شكلا من أشكال الاستسلام لها. نجد الثاني يقر بحيادها، ويركز نقده على إساءة استخدامها في ظل المجتمعات الرأسمالية المعاصرة فقط. وبالتالي، لا يكون نقد ماركيوز نقدا للتقنية ذاتها بقدر ما هو نقد لبنية المجتمع الرأسمالي المعاصر وأنظمته السياسية والاقتصادية. رؤية ماركيوز المحايدة للتقنية هي ما انتقدها هابرماس في كتابه العلم والتكنولوجيا كإيديوجيا إذ يقول: “في مواقع كثيرة من كتاب الإنسان ذو البعد الواحد، يعني التثوير فقط تغيير الإطار المؤسساتي الذي تبقي فيه قوى الإنتاج كما هي دون أن تمس، ومن ثم تبقى بنية التقدم العلمي- التقني محافظا عليها، ولا تتغير سوى القيم الموجهة”([6]). لكن على العكس من ماركيوز يرفض هابرماس أن يعزو أي دور تحرري للتقنية. هذا الرفض هو ما أبرزه قائلا: “بكلمة واحدة، التقنيات لا تحرر الناس من الفعل، فدائما يجب أن تحسم الصراعات وتتحقق المصالح“([7]).
أشرنا إلى نموذجين من المدارس الفلسفية الكبرى: هيدجر ومدرسة فرانكفورت اللذان سارا على دربهما كثيرون، لكن هذا التأثر بهما جعل معظم الدراسات الفلسفية المعاصرة تدرس التقنية في علاقتها بالإنسان والمجتمع فقط. لكننا مع الفيلسوف الفرنسي جاك إلول نجد طرحا فلسفيا جديدا، فهو لا يقف عند رصد الآثار الجانبية للتقنية وتوضيح خطورتها على الإنسان أو المجتمع والطبيعة فحسب، بل يمضي لأبعد من ذلك، عندما يقوم بتشريح الظاهرة التقنية نفسها. فثلاثيته عن التقنية تقدم تحليلا وافيا لنمو هذه الظاهرة وعوامل تطورها والقوانين الداخلية التي تحكم عملها واستقلالها عن أي شيء آخر. سواء كان هذا الآخر هو العلم، أو المجتمع، أو التقاليد، أو حتى الإنسان نفسه. فالتقنية لا تتشكل وفقا لإرادة سياسية أو اقتصادية، بل هي التي تشكل وتصيغ آليات عمل الأنظمة: السياسية والاقتصادية… وتحدد طريقة فعلها وفقا لرغباتها الخاصة، فعمل إلول هو بمثابة تحليل للظاهرة التقنية من الداخل ومن الخارج.
مفهوم التقنية عند إلول*:
تتسم المحاولة لوضع تعريف جامع مانع لمصطلح التقنية بأنها بالغة الصعوبة. وذلك للأسباب التالية: أولا، يسود خلط كبير في الاستخدام بين مصطلحي: التقنية Technique والتكنولوجيا Technology، فكثيرون لا يميزون بينهما تمييزا حاسما. إذ نجد على سبيل المثال أن فروم وماركيوز وهابرماس ويوناس يستخدمون مصطلح التقنية ولا يفرقون بينه وبين التكنولوجيا. في الوقت الذي سيبرز فيه إلول فارقا كبيرا بينهما، كما سنرى.
يترتب على هذا الخلط صعوبة أخرى، وهي أن الكثير من تعريفات مصطلح التقنية تربط بينه وبين تجلياته في الواقع العملي. فترى أن التقنية هي التقدم في استخدام الكهرباء، والهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر، والسيارات الفارهة…إلخ، لكن كل هذا يجعلنا نبتعد عن جوهر التقنية ذاتها ونركز على منتجاتها المادية فقط، وهو ما يسبب قصورا كبيرا في رؤيتنا إلى التقنية التي تمتد الآن إلى كافة المجالات غير المادية. هذا الخلط بين التقنية وتجلياتها المادية هو ما حذرنا إلول من الوقوع فيه قائلا: “إذا ركزنا على دراسة تجليات الظاهرة، وليس على الظاهرة نفسها، سيقودنا هذا إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء“([8]).
مثل هذه الصعوبات هي ما اضطرت كثيرون لأن يرفضوا منذ البداية فكرة البحث عن تعريف للتقنية. فالتعريفات، من وجهة نظرهم، غير مجدية ولن تفيدنا في شيء. هذا الرفض هو ما عبر عنه فال ديسك Val Dusek قائلا: “أقلع كثيرون من فلاسفة التقنية المعاصرين مثل: دون إيد Don Ihde، ودونا هاراوي Donna Haraway، وأندرو فينبرج Andrew Feenberg عن البحث عن جوهر للتقنية، فالبحث عن تعريف جوهري للتقنية هو عملية غير منتجة“([9]).
لكن رغم الصعوبات التي تكتنف وضع تعريف محدد لمصطلح التقنية، إلا أن هذا لم يمنع إلول من الاجتهاد ليس لوضع تعريف فحسب، بل لإقامة تفرقة حاسمة أيضا بين التقنية والتكنولوجيا. إذ يعرف إلول التقنية بأنها ” كلية المناهج التي يتم الوصول إليها بطريقة عقلانية لتحقيق الكفاءة والفاعلية المطلقة في شتى المجالات والأنشطة الإنسانية“([10]). التقنية إذن، بحسب تعريف إلول لها، هي عملية عقلية وليست مادية، وهدفها تحقيق أقصى درجات الدقة والفاعلية.
تعد الفاعلية بالنسبة لإلول المبدأ الأول الذي تتطور التقنية انطلاقا منه. فالدافع وراء البحث عن مناهج جديدة، وإلغاء التقنيات القديمة لصالح التقنيات الجديدة هو بلوغ الفاعلية القصوى في الأداء. وهذا ما يؤكده إلول في مواضع كثيرة في كتابه المجتمع التكنولوجي، إذ يقول: “إن القيمة الأساسية وراء إلغاء تقنية قديمة والبحث عن أخرى جديدة هي الفاعلية“([11]). فالفاعلية وحدها في ظل المجتمع التقني هي المعيار الوحيد للحكم على الأشياء. ” فكل شيء يجب أن يخضع للفاعلية التقنية، فهي القانون الأساسي“([12]). ما يريد إلول أن يوضحه في هذا النص هو أن الفاعلية تبرر التقدم والتطور، فالتقدم التقني يسير في سلسلة لا نهائية من الفاعليات، إذ تلغي الفاعلية الجديدة الفاعليات القديمة، وهو ما يعني أن التقنية لا تعمل لتحقيق أي غايات إنسانية، فغائية الفعل التقني هي الفاعلية من أجل الفاعلية.
لكن في الوقت الذي يعزو فيه إلول دورا مهما لفكرة الفاعلية باعتبارها الدافع الرئيس لتقدم التقنية، يرى هوا شول صن Wha Chul Son أن إلول لم ينظر لفكرة الفاعلية نظرة شاملة ولم يعرها اهتماما كافيا. فتوصيفه لها من وجهة نظر صن يتسم بالغموض وعدم الدقة، ففي رأيه “لم ينتبه إلول إلى فكرة الفاعلية انتباها كافيا رغم أهميتها، فهو لم يطور من استخدام هذا المصطلح“([13]). ويرفض صن وجهة نظر إلول التي ترى أن الفاعلية وحدها هي الدافع المحرك للمجتمع التقني، فهذه رؤية قاصرة لأن “مطلب إلول بأن الفاعلية هي المعيار الوحيد للحكم على كل ما في المجتمع التقني هو مطلب شديد العمومية (…) فهناك اعتبارات أخرى: ثقافية وجمالية وسياسية تؤكد على أن الفاعلية ليست كل شيء“([14]). وبدلا من إدانة إلول لفكرة الفاعلية باعتبارها العامل التحريضي الكامن وراء كل تقدم تقني، يطالب صن بأن تتحول هذه الفاعلية إلى دافع للبحث عن حلول بديلة نتجنب بها المخاطر والأضرار الموجودة في مجتمعنا التقني، وذلك لأن “ليس هناك شيء خاطيء في البحث عن أكثر المناهج فاعلية في تصنيع سيارات صديقة للبيئة، فليست المسألة توقف الفاعلية، لكن تأسيس أهداف ملائمة“([15]). إن ما ينشده صن هو إعادة التوجية لمبدأ الفاعلية بما يحقق أهدافا إنسانية وبيئية، داخل المجتمع التقني.
بعد أن أشرنا إلى تعريف إلول للتقنية، بقى لنا أن نوضح العلاقة بين التقنية والتكنولوجيا لإزالة اللبس بينهما، وبين التقنية والعلم لنعرف هل للعلم دور مهم في تقدم التقنية أم لا؟
التقنية والتكنولوجيا والعلم:
إن سمتي العقل والوعي اللتين يضفيهما إلول على التقنية هما ما يميزانها عن التكنولوجيا التي تعني لديه الترجمة أو التطبيق المادي للمناهج العقلانية في الواقع العملي المعيش. فالتكنولوجيا تتجلى في الآلات والأجهزة والمعدات. هذا الفصل الحاد بين التقنية والتكنولوجيا هو ما يبرزه إلول ويحذرنا دائما من مغبة الخلط بينهما قائلا: “لا أقصد بمصطلح التقنية التكنولوجيا والآلات(…) فهذا خطأ عظيم، لأن التقنية مستقلة تمام الاستقلال عن التكنولوجيا والآلات“([16]). إن سعي إلول للتمييز بين المصطلحين ينبع لديه من التخوف من عكس الأولويات، أو تغيير بؤرة الاهتمام. أي بدلا من البحث عن أصل المشكلات المعاصرة في التقنية نفسها، نلجأ إلى الآلة ونعتبرها سبب كل الكوارث. لكن يقودنا هذا التصور إلى فكرة أن الآلة محايدة وتتوقف على الاستخدام الإنساني لها. وهو ما يعني أن التعامل الإنساني مع عالم الآلات سيصبح هو الأصل في المشكلات وليس التقنية نفسها. وهذا ما يرفضه إلول رفضا قاطعا، لأنه يدرك تماما استقلالية التقنية عن الآلة والإنسان، بل وتحكمها فيهما. لذا “فمن الخطأ أن نستمر في هذا الخلط بين المصطلحات(…) فتعاظم قوة التقنية اليوم ليس له علاقة بالاستخدام الهائل للآلات، فهي تسيطر وتتحكم في كل الأنشطة الإنسانية، وليست في الأنشطة الإنتاجية وحدها“([17]).
ليس إلول وحده من يميز بين التقنية والتكنولوجيا، بل يرفض شبنجلر أيضا الخلط بينهما، فالبداية بالتكنولوجيا أو الآلات لن توصلنا إلى معرفة حقيقية بآليات عمل التقنية في المجتمع المعاصر. لذا يقول شبنجلر في كتابه الإنسان والتقنيات: “إذا أردنا فهم جوهر التقنية، فلا يجب أن نبدأ من الفكرة الخاطئة بأن تطور الآلات والأدوات هو هدف وموضوع هذه التقنية“([18]). بالتالي، يتفق إلول وشبنجلر على أن هدف التقنية ليس اختراع الآلات التكنولوجية فحسب، بل صياغة المجتمع بكل أنظمته بما يحقق تقدم التقنية وتطورها الخاص.
ليس الخلط بين التقنية والتكنولوجيا هو ما يؤرق إلول، فهناك تصور شائع آخر ينتقده إلول، وهو التصور الخاص بأسبقية العلم على التقنية، وتوقف تطور التقنيات على تقدم العلوم. فالعلم، لدى أنصار هذا الرأي، هو المصدر المباشر والأساسي للأفكار والاختراعات التكنولوجية الجديدة “فنظرية انشطار اليورانيوم هي التي قادتنا إلى اختراع الطاقة النووية والقنبلة الذرية“([19]). يقيم هذا النص تمايزا كبيرا بين العلم والتقنية، ويعطي الأولوية للعلم. فلولا العلم لما ظهر أي اختراع أو اكتشاف جديد يفيد البشرية، وبالتالي على التقنية أن تنتظر حتى يقول العلم كلمته.
أما إلول فله موقف مغاير تماما، فهو وإن كان يتفق مع أنصار الرأي السابق في أسبقية العلم على التقنية، وانتظار التطور التقني للتقدم العلمي، فهو يحصر هذه الأسبقية للعلم في حقبة القرن السابع عشر فقط، دون أن تنطبق هذه الأسبقية للعلم على أي حقب تاريخية أخرى على مدار التاريخ، وهذا ما أقره قائلا: “لتحقيق التقدم في هذه الحقبة- القرن السابع عشر- كان على التقنية أن تنتظر العلم“([20]). لكننا إذا استثنينا حقبة القرن السابع عشر سنجد أن التقنية كانت تسبق العلم دائما “فتاريخيا سبقت التقنية العلم، فالإنسان البدائي كان مزودا ببعض التقنيات المحددة لالتقاط الثمار وصيد الحيوانات“([21]).
ينضم صوت هيدجر إلى صوت إلول في المناداة بأسبقية التقنية على العلم، إذ نجده يؤكد أيضا على هذا الرأي. لكن على خلاف إلول، لم يستثن هيدجر حقبة القرن السابع عشر من أسبقية التقنية على العلم، فلقد ” ابتدأ العلم الحديث للطبيعة حسب تسلسل حقب التاريخ في القرن السابع عشر. وعلى عكس ذلك، فإن التقنية ذات المحركات لم تتطور قبل النصف الثاني من القرن الثامن عشر. بيد أن ما هو متأخر بالنسبة للملاحظة التاريخية، أي، التقنية الحديثة، هو السابق في التاريخ، ونقصد بالتاريخ هنا الماهية الكامنة والمتحكمة فيه“([22]). إن ما يشدد عليه هيدجر في هذا النص هو أن ماهية التقنية التي تتمثل في التحريض على تسخير الطبيعة لاستغلالها، كانت الدافع الأساسي وراء تقدم العلوم الطبيعية في هذه الحقبة، ولهذا فلها الأسبقية دائما. ورغم تمسك الفيلسوفين بأسبقية التقنية على العلم، إلا أن ثمة تباينا بين إلول وهيدجر، فبينما تتحقق هذه الأسبقية لدى الأول على مستوى الممارسات الحياتية المعيشة مثل: الصيد والرعي… وغيرها، فإنها تتحقق لدى الثاني على مستوى الفكر وليس على مستوى الواقع، إنها الأسبقية المحتجبة.
إقرأ المزيد: الفلسفة والأدب في مواجهة العبث: كامو وسارتر نموذجا
على أية حال، لن يكون لسؤال الأسبقية التاريخية للتقنية قيمة كبرى إن لم يطرح في ضوء مصطلحات الاعتماد والتبعية. ويؤكد إلول على أن العلم هو الذي يعتمد على التقنية وينتظرها ويتبعها. فهناك الكثير من الاكتشافات العلمية التي لم تر النور إلا بعد وجود تقنيات محددة سمحت بظهورها، وهو ما أشار إليه قائلا: “النظريات العلمية يجب أن تنتظر التقنيات. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف القيمة الطبية للبنسلين ســـنة 1912 بواسطة طبيب فرنسي، لكن لم يكن لديه الوسائل التقنية لإنتاج وحفظ البنسلين، وهو ما أدى إلى هجرة هذا الاكتشاف آنذاك“([23]). يستخدم إلول في هذا النص مصطلح التقنية بمعنى قريب من التكنولوجيا أو الأدوات التي تجعل في الإمكان حدوث تقدم ما.
الأسبقية والتبعية ليس معناهما التقليل من شأن العلم، بل إن هناك طرفين بينهما علاقة ما، و يسبق إحداهما الآخر، ويدين الطرف الثاني للطرف الأول بالفضل في الوجود، وبوجودهما معا تكتمل سلسة التقدم والتطور.
لكن الأمر مختلف مع فال ديسك الذي رفض وجود علاقة شرطية بين التقدم العلمي والتطور التقني. فالتقنية، لديه، تتقدم وتتطور بمعزل عن العلم، وهو ما يعني أننا لسنا في حاجة إلى العلم ونظرياته من الأساس، يقول ديسك في هذا الصدد: “لم يعرف مخترعو القرنين السابع عشر والثامن عشر نظريات الفيزياء والرياضيات في عصرهم، ففي حالة توماس إدسون نجد مخترعا في مجال الكهرباء لم يكن يعرف النظرية الكهرومغناطسية لماكسويل، لكنه قدم اختراعا أكثر أهمية من هؤلاء العلماء الذين يعرفون معظم النظريات في مجال الكهرباء“([24]). يرفض ديسك في هذا النص الفكرة الشائعة بأن التكنولوجيا هي العلم مطبقا. فالتكنولوجيا، من وجهة نظره، تتطور باستقلالية عن العلم، وهي في غنى عنه.
أما ميكي بون Mieke Boon فتقدم تصورا جديدا للعلاقة الجدلية بين العلم والتقنية، فهي لا تنظر لهذه العلاقة في ضوء مصطلحات الأسبقية والتبعية كما فعل إلول وهايدجر وديسك، بل تنظر إليها في ضوء مصطلحات التآزر والتعاون، إذ ترى أن الواحد منهما يكمل الآخر، ويتطلب وجود الواحد منهما وجود الآخر “ ففي عصرنا الراهن يمتزج العلم الحديث والتقنية في كل معقد، يُطلق عليه علوم التقنية Technoscience، فتقدم العلم معتمد على تطور الأدوات، وكذلك تعتمد التكنولوجيا المتطورة على الأبحاث العلمية “([25]).
ومازلنا في إطار العلاقة بين العلم والتقنية، لكننا بصدد طرح آخر يقدمه إيفندرو أجازي Evandro Agazzi، يقوم هذا الطرح على حيادية العلم. فالعلم، حسبما يرى أجازي، منفصل تماما عن تطبيقاته الاجتماعية أو السياسية أو حتى التكنولوجية. فالمجالان المعرفيان للعلم والتكنولوجيا متمايزان تماما، ويعمل كل منهما بمعزل واستقلالية عن الآخر،“فهدف العلم هو الوصول إلى معرفة موضوعية، ولهذا فهو يتميز بالسمة المعرفية الصارمة، أما التكنولوجيا فتهدف إلى إنتاج أشياء عينية وسلع وأدوات. ولهذا، فهي تتميز بالسمة البراجماتية“([26]). لكن يرفض إلول كل التصورات السابقة ويصدر في النهاية حكما حاسما لا لبس فيه، يشدد في منطوقة على استقلال التقنية وتبعية العلم لها، إذ يقول: “لقد أصبح العلم وسيلة في يد التقنية“([27]). يشدد إلول هنا على أن التقنية أصبحت غاية في حد ذاتها، فهي تسمح لنفسها باعتبار كل وسائل المعرفة الأخرى وسائل تعمل على خدمتها وتطورها.
تتسم التقنية المعاصرة، إذن، بالاستقلال. لكن الحديث عن التقنية المعاصرة يتضمن الإشارة إلى وجود تقنيات قديمة وحديثة أيضا. فهل تعد التقنية ظاهرة معاصرة؟ أم لنا أن نتحدث بالفعل عن قدم الظاهرة التقنية؟ وإذا كان حال التقنية المعاصرة هو التحكم والسيطرة، فما هو حال التقنيات القديمة؟ للإجابة عن هذين السؤالين لابد لنا أن نعرض لتاريخية الظاهرة التقنية.
تطور التقنية تاريخيًا
1- التقنية في المجتمعات البدائية:
لا تعد التقنية ظاهرة حضارية جديدة مقترنة بالتطورات الهائلة التي يعيشها الإنسان المعاصر، بل إن هناك شبه إجماع على أنها ظاهرة قديمة موغلة في القدم. فبداية ظهورها لا يعود إلى الحضارات القديمة: الفرعونية أو البابلية أو السومرية أواليونانية، بل يسبق ظهورها هذه الحضارات بكثير. إذ يعود إلى الإنسان البدائي الذي لجأ إلى طرق وممارسات محددة لتلبية احتياجاته المادية، ولتحقيق تكيفه مع الطبيعة. وهذا ما أشار إليه عالم الآثار الفرنسي أندريه ليروا جوران Andre Leroi Gourhan عندما قال:
“استخدم الإنسان البدائي تقنيات كثيرة أهمها الصيد، وشن الهجوم على الآخرين للحصول على الطعام”([28]).
ولا يختلف رأي إلول عن رأي جوران كثيرا، إذ يرى أن كثيرا من الأنشطة التقنية كانت سائدة لدى الإنسان البدائي، فكانت هناك تقنيات لصيد الحيوانات، وأخرى لصيد الأسماك، وأخرى لجمع الغذاء والكساء والبناء.
لكن لم يقف إلول عند حد اختزال التقنيات البدائية في ممارسات الإنسان الاقتصادية والمادية فحسب، بل يمضي لأبعد من ذلك عندما يضم السحر إلى دائرة الأنشطة التقنية. إذ يرى أن السحر شأنه شأن أي تقنية أخرى، حيث تم اللجوء إليه لتحقيق المزيد من الفاعلية لتلبية الاحتياجات المادية. إضافة إلى دوره الهام في تحقيق الشعور بالأمان الناتج عن الاتصال بقوى الآلهة العليا، بل ومحاولة إخضاع هذه الآلهة للإنسان ومساعدتها له في تحقيق مطالبه. وهو ما يعني أن السحر قد لعب دورا وجوديا في شعور الإنسان البدائي بالطمأنينة وعدم الوحدة، إذ “يعرف السحر كل سمات التقنيات، ومثلما تتوسط التقنيات الأخرى بين الإنسان والمادة، يتوسط السحر بين الإنسان والقوى الأعلى. فهو يقود إلى الفاعلية عندما يخضع قوى الآلهة للبشر(…) إنه وسيلة للحماية والدفاع، فبواسطته يخضع الإنسان لمصلحته قوى غريبة عنه أو معادية له“([29]). نستنتج من هذا النص تماهي وظيفة التقنية قديما وحديثا، فغرضها في العصرين: القديم والحديث هو بلوغ أقصى درجة من درجات الفاعلية، لا فرق في ذلك بين تقنيات مادية وأخرى روحية. لكن ثمة فارق بينهما وهو أنه إذا كانت فاعلية التقنيات القديمة قد اقترنت بغايات إنسانية لا تتجاوزها، فإن التقنيات الحديثة مستقلة تماما عن كل ما لا يحقق تطورها الذاتي، ولا تأبه في هذا بالإنسان أو غيره.
لكن لم يكتب للتقنيات السحرية الاستمرار والانتقال من المجتمعات البدائية إلى الحضارات اللاحقة. ويعزو إلول سبب هذا التراجع إلى الأسباب التالية:([30])
- أدى ارتباط التقنيات السحرية بجماعات بدائية محددة إلى محدودية هذه التقنيات. وبالتالي، اختفت باختفاء هذه المجموعات.
- كذلك أنه عند أفول حضارة ما فهي تنقل للحضارة التي تليها الأشياء المادية فقط وليست الأشياء الروحية. لذا اختفى السحر والشعائر وممارسات التضحية على نحو لا رجعة فيه.
- هناك عامل آخر أدى إلى اختفاء دور التقنيات السحرية وهو غياب الوضوح. ففي التقنيات المادية تكون النتائج مباشرة وواضحة، أما في التقنيات السحرية يختفي الوضوح وقوة البرهان.
2- التقنية في الحضارة اليونانية:
إذا تجاوزنا مرحلة الإنسان البدائي وانتقلنا مع إلول إلى محاولة رصد الظاهرة التقنية في الحضارة اليونانية سنجده منذ البداية يسعى جاهدا إلى تبرئتها من الاهتمام والانشغال والاشتغال بالتقنيات. مستندا في ذلك إلى أن اليونانيين كانوا يميلون إلى حياة التأمل والنظر، لا إلى الفعل والعمل، وهذا ما تؤكده بالفعل نصوص فلاسفة اليونان “فحياة الفكر والتأمل هي غاية الإنسان، وهي التي توفر له أسمى أنواع السعادة“([31]). الإعلاء من شأن حياة التأمل عند فلاسفة اليونان ترتب عليه احتقار الأعمال اليدوية التي تهدف إلى تحقيق غايات نفعية. فهدف العلم، لديهم، هو التأمل المحض وليس التطبيق.
ولا يعد موقف إلول فريدا في نفي الصلة بين اليونانيين والاهتمام بالتقنية، بل نرى ديفيد ديمنج David Deming يؤكد أيضا على انتفاء علاقة اليونانيين بالتقنيات، إذ يقول:”لم يكن لليونانيين تقديرا كبيرا للفنون التقنية“([32]).
لم يقف إلول عند حد رفع الشبهات عن اليونانيين، بل ذهب لأبعد من ذلك عندما احتفى بنظرتهم السلبية للتقنية احتفاءا بالغا، وكأن لسان حاله يقول إن يد الحضارة الغربية بيضاء من اختراع التقنيات التي تعد بلاءا أُبتليت به البشرية. فالتقنية، حسبما يراها إلول، ظاهرة شرقية وليست غربية. لأن اليونانيين كانوا يعيشون في وئام وانسجام مع الطبيعة، واعتبروا أن أي تعدي على الطبيعة هو شكل من أشكال الانتهاك للمقدس، فلقد
“احترم اليونانيون الأشياء الطبيعية، ورفضوا الأنشطة التقنية، لأنها مثلت مشهدا للقوة الوحشية”([33]).
إقرأ المزيد: تحقيقٌ مع المتهمِ بقتلِ الفلسفة
ولا يقف إلول عند تبجيل موقف اليونانيين السلبي من التقنية، بل يمضي لأبعد من ذلك حينما يبرز الأبعاد الأخلاقية المترتبة على هذا الرفض للتقنية، ففي نظره ” الفضيلة اليونانية الأسمى هي فضيلة التحكم في الذات، وهي تمثل قمة العقل والحضارة. فرفض التقنية كان نشاطا إيجابيا يتضمن سيادة الذات، ووجود تصور محترم عن الحياة“([34]). إن ما يبرزه إلول في هذا النص هو تأكيد اليونانيين على حرية الذات الإنسانية واستقلالها وسموها عند تعاملها مع عالم الموضوعات. وهو ما تفتقد إليه الذات المعاصرة التي لم تصبح أسيرة عالم الموضوعات فحسب، بل أصبحت تشعر بالتشيؤ والاغتراب عن ذاتها وعن الآخرين بسبب تملك هذا العالم منها.
لكننا من جهتنا نعتقد أن استناد إلول على كتابات فلاسفة اليونان في التقليل من شأن العمل اليدوي والتأكيد على غياب التقنية، لا ينفي وجود تقدم تقني حقيقي في الحضارة اليونانية. وإلا فبماذا نفسر التقدم الهائل في فنون الحرب وانتصار اليونانيين على الفرس في معارك كثيرة مثل معركة سلاميس Salamis البحرية؟ ألا يعد هذا نتاجا للتقدم في استراتيجيات وتقنيات الحروب وتصنيع الأسلحة؟ وبماذا نفسر أيضا التقدم الهائل في تشييد المعابد وفنون العمارة؟!
ربما تكون فكرة احتقار العمل اليدوي هي سمة الطبقات الأرستقراطية آنذاك، لكنها لا تنسحب على باقي الطبقات. ولقد أشار ريتشارد ج. أولسون Richard G. Olson في كتابه التكنولوجيا والعلم في الحضارات القديمة إلى ما يفيد تقدم الأثينيين في عملية استخراج المعادن، وفي تصنيع السفن والأساطيل الحربية، إذ “اتخذ الأثينيون كثيرا من الثروة المتراكمة من اكتشاف معدن الفضة في منجم لوريوم Laurium لبناء أسطول حربي جديد”([35]). وهو ما يعني وجود تقدم تقني لدى اليونانيين، لذا فإن ادعاءات إلول تفتقد، في تصورنا، إلى الدقة والموضوعية.
3- التقنية في الحضارة الرومانية:
بعد أن نفى إلول وجود تقنيات في الحضارة اليونانية القديمة، فلنا أن نتساءل عن موقفه من الحضارة الرومانية، فهل سادت فيها التقنية أم خلت منها شأنها شأن الحضارة اليونانية ؟ في الحقيقة يقرن إلول بين الحضارة الرومانية وبين ظهور تقنيات جديدة ومختلفة كلية عن التقنيات السابقة التي سادت في المجتمعات البدائية والشرقية، ألا وهي التقنيات الاجتماعية التي مثلها القانون الروماني خير تمثيل.
وليس دور هذه التقنية هو تلبية الاحتياجات الأساسية للأفراد، ولا محاولة التكيف مع الطبيعة وترويضها عن طريق السحر، بل إن دورها الأساسي هو عملية التنظيم الاجتماعي. وما يقصده إلول بالتنظيم الاجتماعي هنا هو الانتقال من مرحلة العيش في مجموعات بدائية لا قانون لها، إلى مرحلة الحياة المنظمة في ظل وجود دولة مركزية ترتكز في أعمالها على فاعلية التشريعات. وقد لعب القانون الروماني، حسبما يرى إلول، الدور الأهم في ضبط كل شئون الدولة الرومانية. إضافة إلى دوره في تحقيق التماسك الاجتماعي بين المواطنين وبعضهم من جهة، وبين المواطنين والدولة من جهة أخرى. وقد عبر إلول عن شمولية وكلية هذا الدور الذي يلعبه القانون الروماني قائلا:
“كان كل شيء في الإمبراطورية الرومانية مرتبطا بالقانون في أشكاله المتعددة: العامة والخاصة”([36]).
إذن، لا يوجد شيء في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية تم استثناؤه من مجال التشريعات القانونية، إذ تضمن القانون “تحديد الامتيازات الاجتماعية والتشريعية، ومكانة وحقوق أعضاء المجالس، وقوانين الزواج، ومكانة المرأة، والتجارة، وإدارة المدينة، والاقتصاد، وملكية الأرض، وقوانين المواطنة…”([37]).
هذا التلازم بين القانون وفاعليته الكلية والشاملة في تنظيم المجتمع بأسره جعل إلول يضفي على التقنيات القانونية السمات التالية:([38])
- إنها لم تكن نتاجا للفكر المجرد، بل كانت نتاجا للرؤية الدقيقة للموقف العيني(…) وانطلاقا من هذا تطورت تقنيات الرومان القانونية والإدارية.
- كانت هذا التقنيات موجهه لبلوغ غاية دقيقة ومحددة هي تحقيق التماسك الاجتماعي.
- إنها لم تكن مفروضة من الخارج. ولم تُطبق بوسائل الإكراه، ولا باستخدام الحد الأقصى من العنف.
- اتسمت هذه التقنيات أيضا بالاستمرارية والقابلية للتعديل المستمر وفقا للظروف التاريخية.
وفي تقديرنا أن السمات السابقة التي تنم عن إعجاب إلول بالتقنيات القانونية لدى الرومان نابعة من اعتقاده بأنها تقنيات إنسانية لا تهدف إلى السيطرة على البشر، ولا إلى إخضاعهم لها بالقوة. كما أنها لا ترنو إلى تحقيق غايات تتجاوز الغايات الإنسانية ذاتها، وهي بذلك عكس التقنيات المعاصرة.
إعجاب إلول بالتقنيات القانونية ودورها الفعال والإيجابي في الحضارة الرومانية يقف في وجهه العديد من الشواهد التي تؤكد على أن بنية الإمبراطورية الرومانية كانت موسومة بالاستبداد والقمع والاضطهاد للعبيد والطبقات الفقيرة. فلم يحقق القانون في الإمبراطورية الرومانية العدالة ولا التماسك الاجتماعي كما يدعي إلول، بل فُرض القانون بالقوة وبالوسائل القمعية على البشر لضمان تحقيق مصالح وامتيازات الطبقات الحاكمة آنذاك.
لقد أشار مؤرخ الحضارات الشهير ول ديورانت إلى بعض الأبعاد غير الإنسانية والظالمة التي سادت الإمبراطورية الرومانية في الفترة ما بين 146 ق.م إلى 192م. قائلا:” كانت الوصمة التي يوصم بها رخاء إيطاليا هي اعتمادها على استغلال الولايات. لقد كانت إيطاليا معفاة من الضرائب لأن الولايات كانت تؤدي لها الشيء الكثير نهبا أو خراجا؛ ومن ذينكما النهب والخراج كان أصل الثروة. وكانت روما قبل عهد قيصر تعد الولايات أقاليم تمتلكها بحق الفتح، وتعد سكانها جميعا رعايا رومانيين، ولم يكن منهم إلا عدد قليل يعدون ضمن المواطنين الرومان(…) وكانت حكومة الإمبراطورية تفضل رجال الأعمال على الطبقات الدنيا في جميع الولايات. وكان سر الحكم الروماني وشعاره هو فرق تسد(…) لقد كانت جباية الضرائب هي أهم أعمال الحاكم وأعوانه، وكانت الدولة في عهد الإمبراطورية تقوم بإحصاء عام في كل الولايات، ويقصد به فرض الضرائب على الأرض وعلى الأملاك، ومنها الحيوانات والعبيد“([39]).
نحن إذن أمام تصورين على طرفي نقيض، التصور الأول الذي قدمه إلول، والذي أكد فيه على أن القانون الروماني قد عمل على تحقيق التماسك الاجتماعي والعدالة في أرجاء الإمبراطورية. والتصور الآخر الذي قدمه ديورانت والذي أكد فيه على غياب العدالة والمساواة، وبالتالي، غياب التماسك الاجتماعي. ومن جهتنا نعتقد أن رأي إلول يفتقد إلى الشواهد التاريخية، بل إن الكثير من هذه الشواهد تجعلنا نميل إلى تأييد رأي ديورانت. فتاريخ روما كان مليئا بالاضطرابات والفتن السياسية. ففي سـنة 44 ق.م اغتال بروتوس يوليوس قيصر، وكذلك اغتيال شيشرون على يد أنطونيو سـنة 43 ق.م، وانتحار مارك أنطونيو ســنة 30 ق.م بعد معركة أكتيوم البحرية، وحرق روما على يد نيرون سـنة 64م. فكيف يتسنى لنا في ظل وجود هذه المآسي والحروب السياسية أن نتحدث عن التماسك والعدالة الاجتماعية؟!
وفي ظننا أن الأفكار العظمى ذات النزوع الإنساني لدى فلاسفة الرواقية الذين عاشوا في الحضارة الرومانية من أمثال: شيشرون وسينكا وماركوس أوريليوس عن العالمية، والأخوة، والمحبة، والعدالة، والمواطنة لم تجد لها- وفقا لتوصيف ديورانت السابق- صدىً فعليا في الممارسات السياسية داخل الإمبراطورية الرومانية، بالضبط مثلما لم تجد أفكار السوفسطائيين التنويرية عن المساواة التامة بين البشر، وعن العدالة والديموقراطية صدي في المجتمع اليوناني.
على أية حال، اختلافنا مع إلول لن ينته عند القانون الروماني بوصفه تكنيكا كان له دوره في تحقيق التماسك الاجتماعي، بل إننا نختلف معه أيضا في تصوراته عن التقنيات المادية في الحضارة الرومانية. إذ يؤكد إلول على الغياب التام للتقنيات المادية في الحضارة الرومانية، وهذا ما يبرزه قائلا: “أما فيما يتعلق بالتقنيات المادية، فلم يطور الرومان هذه التقنيات. فمنذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى بعد القرن الثاني الميلادي كان هناك ركود كلي وعدم تطور في الأدوات والتسليح“([40]). ينفي إلول في هذا النص وجود أي تقدم في الجوانب الاقتصادية والحربية والعسكرية في الحضارة الرومانية.
لكن في الوقت الذي ينفي فيه إلول حدوث تقدم مادي في الحضارة الرومانية، يشير لويس ممفورد، في المقابل، إلى تقدمهم الهائل في المجالات التطبيقية، وبخاصة في تشييد القناطر والقنوات المائية، وكذلك في تشييد الطرق ورصفها وتنظيم المرور بداخلها. إذ يقول: “عندما يفكر الإنسان في روما القديمة، يفكر على الفور في إمبراطوريتها، في قناطرها العالية وفي الطرق عبر الوديان أو المنخفضات، وطرقها الممهدة التي كانت تمتد دون اعوجاج أو التواء عبر التلال والأودية على السواء، قافزة فوق الأنهار والمستنقعات، متقدمة في نظام لا يتطرق إليه الخلل…”([41]).
ليس هذا فحسب، بل إن التطور الحادث في الحياة المدنية قد واكبه تطور مواز في المجالات العسكرية، وخاصة في عمليات تنظيم الجيوش وتطوير الأسلحة ووضع الخطط والاستراتيجيات الحربية بسبب كثرة حروب الإمبراطورية “فقد تم اختراع رماح أخف، وسيوف أطول سميت Spa Tha وكانت هي الأسلحة الهجومية. أما الوحدات الخاصة فقد استخدمت السهام“([42]). أمام كل هذه النصوص التي تؤكد على وجود أشكال عديدة للتقدم التقني لدى الرومان، لم نجد أمامنا بدًا من الاختلاف مع إلول. فلقد أشتهر الرومان بأنهم أهل عمل وخبرة وليسوا أهل نظر، عكس اليونانيين. إن قصورهم في النواحي النظرية قد تم تعويضه بالتقدم في الجوانب العملية والتطبيقية، وهذا ما حاول إلول إنكاره حتى ينفي عن الحضارة الغربية تهمة اختراع التقنية كما سبق وذكرنا.
سيضطر إلول أمام كثرة الشواهد التاريخية التي تؤكد على تطور التقنية لدى الرومان إلى مراجعة آرائه السابقة وتعديلها، إذ يقر في موضع لاحق بوجود أشكال متعددة للتقدم التقني لدى الرومان، لكنه لا ينسبها إليهم، بل يرى أنهم أخذوها عن الشرق. إذ يقول: “عندما شرعت روما في تنقية الفضة، والذهب، وصنع الزجاج، والأسلحة، والأواني، وتشييد السفن، فقد اتجهت إلى الشرق، فكل هذه التقنيات أتت لروما من الشرق“([43]). إن ما يشدد عليه إلول دائما هو عدم وجود فكر تقني أصيل أو حتى ممارسات تقنية أصيلة لدى اليونان والرومان، فهي أشياء دخيلة على أهل التأمل والنظر والقانون والنظام، وما كان لهم أن يهتموا بمثل هذه التقنيات التي أخل وجودها بالنظام الطبيعي للأشياء لولا التأثيرات الضارة القادمة من الحضارات الشرقية.
صحيح أن فضل وأثر الحضارات الشرقية على الحضارة الغربية معروف، لكننا لا يمكن أن نختزل هذا الأثر في مجموعة من الإنجازات المدنية والعسكرية كما يدعي إلول. فلا أحد يستطيع أن ينكر دور الأبعاد الروحية والأخلاقية والعلمية للحضارات الشرقية في الحضارة الغربية، وهو ما أقره المفكرون الغربيون أنفسهم، إذ يقول هنري توماس: “وإلى مصر نزح الكثيرون من فلاسفة العالم القديم يستلهمون الوحي ويسعون وراء التدريب، حتى أن أفلاطون اعترف بفضل المصريين عليه كرواده وأساتذته في كل ما هو سام من عمل أو فكر(…) إضافة إلى ذلك قد كان بتاح حتب يحث على تعلم وتعليم ضبط النفس، هذا المبدأ الذي أصبح أحد أحجار الزوايا في فلسفتي أفلاطون وأرسطو”([44]). وهكذا امتزجت الحكمتان النظرية والعملية في الحضارات الشرقية القديمة لتقدم لنا منتجا حضاريا فريدا جمع بين المادي من جهة، والروحي والأخلاقي من جهة أخرى. هذا المزج هو ما افتقدت إليه الحضارة الغربية القديمة التي لم تهتم بتطور الجوانب المادية للإنسان على حد تعبير إلول.
على أية حال، بعد أن استبعد إلول تطور التقنيات في الحضارتين اليونانية والرومانية، فليس من الصعب علينا التنبؤ بموقفه من العصور الوسطى المسيحية، وإبرازه لمدى التراجع التقني الحادث في هذه الحقبة، لانشغال معظم المسيحيين بالأمور الروحية وحدها وليس بالأمور الدنيوية.
4- التقنية في العصور الوسطى:
ينفي إلول الصلة بين التقدم التقني ومسيحية العصور الوسطى. ولكي لا ينسب التقدم التقني المعاصر إلى المسيحية نجده يختزل حقبة المسيحية الحقيقية في الفترة الممتدة من القرن الرابع الميلادي إلى القرن الرابع عشر. فهي الفترة التي عاش فيها الغرب المسيحية الحقيقية. لكن منذ القرن الرابع عشر وحتى الآن، يعيش العالم الغربي، من وجهة نظره، المسيحية من حيث المظهر لا من حيث الجوهر. وبالتالي فهو لا ينتمي إلى المسيحية في شيء.
رفض إلول للمزاوجة بين المسيحية الحقة والتقدم التقني هو ما عبر عنه قائلا: “تطورت الحركة التقنية في الغرب في عالم تحرر بالفعل من تأثير المسيحية (…) فالغرب كان مسيحيا بشكل رسمي حتى القرن الرابع عشر“([45]). إن ما يشدد عليه إلول هو أن التقنية لم تتطور في الحضارة الغربية إلا بعد انحسار وتراجع دور المسيحية. فالمسيحية منذ بدايتها وحتى القرن الرابع عشر لم تهتم بالأشياء الدنيوية، ولم تكن تبالي بالتجارة ولا بالصناعة ولا بالنزوع نحو تحقيق الربح، فهذه الأمور كانت تقاس مدى صلاحيتها وشرعيتها بمقدار مساهمتها في تحقيق الخير لنيل الخلاص. ففكرة الخلاص كانت هي الغاية القصوى التي يجب أن تقود إليها كافة الوسائل الأخرى. ولهذا تحكمت المقولات اللاهوتية والأخلاقية في كل الأنشطة الإنسانية، لذا “لم تنج الأنشطة التقنية الموجودة آنذاك من الأحكام الأخلاقية، وكان سؤال: هل هي خيرة ومستقيمة؟ يُطرح مع وجود أي شيء جديد“([46]).
بالفعل ساد في العصور الوسطى المزاج الزهدي المقترن بالترفع عن المشاركة في معظم الأعمال الدنيوية. وساهمت الكثير من آيات الكتاب المقدس بالإضافة إلى كتابات اللاهوتيين والفلاسفة في انتشار هذه الحالة المزاجية بين البشر على نطاق واسع. فأقوال السيد المسيح في إنجيل يوحنا (الإصحاح 2، آية 15): “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم “، وكذلك قوله في إنجيل متى(إصحاح 6، آية 19): “لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض”، أصبحت دستورا سارت على هديه الكنيسة ورجال اللاهوت وفلاسفة العصور الوسطى. فلم ير القديس لافرانس Lafrance في الأنشطة الاقتصادية شيئا سوى”صراع الذئاب على الجثث الميتة”([47]).
سيادة هذه التصورات الموسومة بصفة القداسة بين البشر أدى بالفعل إلى غياب التقنيات العقلية والمنهجية، وهو ما أدى بدوره إلى تراجع التقنية وكل الأنشطة الاقتصادية في ذلك الحين. لأنها تعوق الإنسان عن تحقيق خلاصه وبلوغ أبديته. انطلاقا من هذا يرفض إلول كل الحجج التي تساق لتدعم دور المسيحية في ازدهار التقنية.
لكن محاولات إلول لتبرئة المسيحية من تطوير التقنية تقف في وجهها تصورات أخرى، ترى في المسيحية الديانة الملهمة للتقنية والتي حررت الإنسان من سيطرة الطبيعة ومن عبوديته لها. فالطبيعة، من وجهة النظر المسيحية، تخلو من روح الله المقدسة. فالله لا يوجد في الطبيعة ولا في العالم. وهذا ما يُعد ترخيصا للإنسان لأن يفعل في العالم ما يشاء لتحقيق مصلحته. فهو المخلوق الوحيد على صورة الله ومثاله، ومن حقه بموجب هذه التصريحات والوعود الإلهية أن يستخدم كل الوسائل التي تمكنه من السيطرة على الطبيعة لبلوغ أهدافه. إذ ورد في سفر التكوين(الإصحاح 1، الآيات 26: 29) ما يلي “وقال الله لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا(…) وباركهم الله وقال لهم أثمروا، وأكثروا، واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض” ساهمت هذه النصوص المقدسة في الدفع بالتقدم التقني إلى الأمام، إذ اعتبر البابا فرنسيس أن التقنية هبة إلهية ” فالعلم والتقنية هما ثمرة رائعة للإبداع البشري الذي هو عطية من الله“([48]).
ليس العلم والتقنية مجرد منحة إلهية فحسب، بل اعتبرهما البعض جزءا لا يتجزأ من بنية اللاهوت المسيحي نفسه. إذ يرى ديفيد نوبل David Noble أن كل تقدم تقني هو مشاركة إنسانية في تحقيق الجنة على الأرض، ومشاركة الإنساني في الإلهي هي الخطوة الأهم في نيل الإنسان لخلاصه، يقول نوبل: “المسيحية وحدها قد أزالت التمييز، وعبرت الفجوة بين الإلهي والإنساني، وأعادت البشرية إلى أصلها الشبيه بالله من خلال التقنية“([49]). التقنية إذن، بحسب توصيف نوبل لها، هي عمل مكمل للعمل الإلهي لمساعدة الإنسان في تحقيق الفردوس الأرضي.
ليس نوبل وحده من يزاوج بين المسيحية والتقنية، بل نرى وليم ب. دريس Willem B. Drees يؤكد أيضا على أهمية الدور التحرري الذي تقدمه التقنية للبشر. ويعد هذا الدور من وجهة نظره شبيها بالدور الذي قام به السيد المسيح في تحرير البشرية من الخطيئة “فالتقنية التي تم تصورها كمشروع لتحرر الإنسان من الضرورة والندرة والمحدودية، قد سمحت للإنسان بأن يشارك في الألوهية“([50]).
ورغم كل هذه الشواهد التي تقرن بين المسيحية والتقدم التقني يصر إلول على وجهة نظره في تبرئة المسيحية من شبهة التصاقها بالتقنية، ويؤكد في المقابل على أن الفكرة المسيحية عن نزع القداسة عن الطبيعة لم تكن يوما سبب من أسباب تقدم التقنية. فالطبيعة كانت لدى الإنسان البدائي محاطة بالأساطير ومسكونة بالآلهة والأرواح، ورغم ذلك كانت مسرحا للتقنيات المادية والاقتصادية “إن فكرة تمثيل الطبيعة على أنها مسكونة بالآلهة كانت بنفسها فعلا قويا ومرغوبا فيه(…) إذ شعر الإنسان أن أفعاله مبررة بمساعدة آلهة الطبيعة“([51]). إن ما يريد أن يوضحه إلول هنا هو أن إضفاء طابع القداسة على الطبيعة لم يمنع تطور التقنية. وبالتالي، تتساوى فكرة إضفاء القداسة على الطبيعة أو نزعها عنها أمام التقنية التي لا تأبه بكل هذا.
على أية حال، توجد في إطار علاقة المسيحية بالتقنية فكرة أخرى ينتقدها إلول، وهي الفكرة التي ترى أن المسيحية قادت إلى التقدم التقني عندما دعت إلى إلغاء العبودية. لأنه “في اللحظة التي أصبح فيها البشر أحرارا توجهوا كثيرا نحو التقنية لكي يتحرروا من بؤس العمل”([52]). لكن يرد إلول على هذه الفكرة بأن ازدهار التقنيات انتشر في الحضارات التي كانت تسود فيها العبودية مثل: الحضارة الفرعونية. وساد تقدم تقني في فترات امتلاك العبيد أكثر منه في الفترات التي تحرر فيها العبيد كلية. وهو ما أكده قائلا: “لقد مرت سبعة قرون تقريبا بين إلغاء العبودية وبداية تحقق تقني ملموس”([53]). ما يريد أن يقوله إلول هنا هو أن دعوة المسيحية إلى تحرير العبيد لم يكن عاملا من عوامل تطور التقنية، لأن التقنية انتشرت في الحضارات التي قامت على العبودية.
لم يتطرق إلول بالنقد والتحليل لدور المسيحية في إلغاء العبودية وتعامل مع المسألة على أنها بديهية، وكأن للمسيحية بالفعل فضلا كبيرا في إلغاء العبودية وتحرير البشر، فهل ساهمت المسيحية حقا في إلغاء العبودية كما يدعي إلول؟
هناك بالفعل الكثير من آيات الكتاب المقدس التي تدعم فكرة المساواة بين البشر جميعا، فلا فرق بين إنسان وآخر بسبب الجنس أو العرق أو اللون. فقد ورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية (الإصحاح 3، آية 28) “ليس يهوديا ولا يونانيا، ليس عبدا ولا حرا، ليس ذكرا ولا أنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح “، وكذلك قوله في الرسالة إلى أهل رومية (الإصحاح 10، آية 12): “لا فرق بين يهودي ويوناني، لأن ربا واحدا للجميع”.
ما يقصده القديس بولس بالمساواة هنا هي المساواة أمام الله فقط، وخارج هذا الإطار لم تعرف المسيحية أي نوع آخر من المساواة على المستويين السياسي والاجتماعي. فالكنيسة نفسها قد شُيدت على هيراركية الرتب الكهنوتية: البابا، ثم الأساقفة، ثم المطارنة، ثم القمامصة، ثم القساوسة… ثم جمهور المسيحيين، وهو ما أفضى بدوره إلى وجود تمايز بين طبقات الأكليروس والشعب. بالإضافة لذلك، فقد ساد في فترة العصور الوسطى استبداد رجال الدين ومحاكم التفتيش التي كانت تعدم كل من يقول برأي مخالف للكنيسة ورجالها، فقد انتشرت في هذه الحقبة كل مظاهر الاستعباد، وهذا ما عبر عنه إيرك فروم قائلا: “إن سمة العصر الوسيط هي الغياب التام للحرية، فكل إنسان كان مقيدا بدوره في النظام الاجتماعي، ولم يكن لدى المرء فرصة في أن ينتقل من طبقة إلى أخرى، بل وكانت حتى هناك صعوبة بالغة في حرية التنقل، والأسوأ من ذلك هو أنه لم يكن لدى المرء الحرية في أن يأكل ما يشاء أو يرتدي ما يشاء“([54]). وهو ما يعني أن المسيحية لم تقض على العبودية كما يدعي إلول، بل دعم رجال الدين والكنيسة الاستبداد والعبودية آنذاك. فالتحرر من العبودية كان فعلا سياسيا ولم يكن فعلا دينيا.
عرضنا فيما سبق لرؤية إلول لمكانة التقنية في الحضارتين: القديمة والوسيطة، وبقي لنا أن نعرض لرؤيته للتقنية في العصر الحديث. لكننا يجب أن ننوه منذ البداية إلى أن إلول لم يتعامل مع العصر الحديث على أنه حقبة واحدة، بل قسم هذا العصر إلى حقب وفترات متمايزة ومتباينة، وقام برصد التطور والتراجع التقني في كل حقبة على حدة.
5- التقنيات في العصر الحديث:
بدأ العصر الحديث في القرن السادس عشر. ويؤكد إلول على الغياب الكلي للتقنيات في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن الثامن عشر. فهذه الحقبة كانت خالية تماما من أي تقدم تقني.
ويُرجع إلول سبب غياب التقنيات في هذه الحقبة إلى تأثير حركتي النزعة الإنسانية والإصلاح الديني. يقول إلول: “هذا العقم في الإنجازات التقنية والذي استمر لمدة قرنين يقودنا إلى مُساءلة تأثير الإصلاح الديني”([55]). لكن هل كان لحركة الإصلاح الديني بالفعل أثرا سلبيا على تطور التقنية في القرن السادس عشر؟ وإلى أي مدى ساهمت كتابات لوثر وكالفن في حدوث التدهور التقني آنذاك؟
تنفي كتابات ماكس فيبر وبخاصة كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ادعاءات إلول في أن لحركة الإصلاح الديني أثرا سلبيا على التقدم التقني، بل يزاوج فيبر بين التقدم التقني والصناعي وحركة الإصلاح الديني التي تُعد الخطوة الأولى في الطريق إلى الحداثة، والتي لولاها ما رأت الحداثة النور.
ويبرز فيبر في كتابه كيف أن لوثر انتقد الأخلاق الزهدية والتقشفية واعتبرها بمثابة تقصير من الراهب في حق الآخرين وفي حق المجتمع. فالراهب، من وجهة نظر لوثر، إنسان غير مفيد اجتماعيا، وأناني، ويضر بالصالح العام لتخاذله في أداء واجباته نحو الآخرين. وفي المقابل امتدح لوثر العمل والجهد والكد، واعتبره تكليف من الخالق للمخلوق ينفع به نفسه والآخرين. فوفقا ” للوثر، ليست الحياة الرهبانية خالية فقط من القيمة أمام الله، لكنها تعبر أيضا عن الأنانية والانسحاب من الواجبات الدنيوية. وفي المقابل يعد العمل تعبيرا عن المحبة الأخوية، فتقسيم العمل يجبر كل فرد على العمل من أجل الآخرين”([56]). نستنتج من هذا النص أن كتابات لوثر عن الإصلاح الديني لم تكن عائقا أمام التقدم التقني كما يدعي إلول. إذ يحاول إلول أن يعزو لحركة الإصلاح الديني دورا إيجابيا في التصدي للتقدم التقني الذي يعده شرا كبيرا. لكن على العكس، دعت كتابات فلاسفة الإصلاح الديني، والحرية الناجمة عن هذا الإصلاح، إلى الاهتمام بالعمل والصناعة والمضي بهما إلى الأمام.
وبحسب رؤية إلول، ليست الآثار المترتبة على حركة الإصلاح الديني وحدها هي التي أدت إلى التراجع التقني في الفترة الممتدة ما بين القرنين: السادس عشر وحتى بداية القرن الثامن عشر، بل يضيف إليها إلول أثر النزعة الإنسانية أيضا. إذ يرى أن الإنسان كان يعد في هذه الحقبة غاية في حد ذاته، غاية تتحدد انطلاقا منها قيمة الأشياء، وبناءً على ذلك رفض الإنسان أن يتم التحكم فيه بواسطة أي شيء. فالإعلاء من قيمة الذات الإنسانية اقترن بالحد من قيمة عالم الأشياء، فطبقا لإلول “آمنت النزعة الإنسانية ليس فقط بالمعرفة والاحترام للوجود الإنساني، لكن أيضا بالسمو الحقيقي للإنسان على الوسائل. ولهذا لم تساهم النزعة الإنسانية في نمو التقنية“([57]).
يشير جون مونفساني John Monfasani في موسوعة الفلسفة إلى مجموعة من السمات التي ميزت النزعة الإنسانية، والتي تجعل منها مرادفا للتخصص في اللغات والآداب القديمة، ويجمل مونفساني هذه السمات فيما يلي: ([58]).
- تحددت موضوعات المعرفة لدى أنصار النزعة الإنسانية في خمسة معارف أساسية وهي: النحو، والبلاغة، والشعر، والتاريخ، وفلسفة الأخلاق.
- بدأت النزعة الإنسانية في القرن الثالث عشر، وبلغت مرحلة النضج في القرن الخامس عشر، وانتشرت في أوروبا في القرن السادس عشر، وتراجع الاهتمام بفروعها المعرفية سالفة الذكر في القرنين السابع عشر والثامن عشر بسبب الاهتمام المتزايد بالعلم.
- لم تكن النزعة الإنسانية في عصر النهضة بمثابة إيديولوجيا موجهة ضد الدين أو الدولة أو المجتمع، بل كانت حركة ثقافية عامة اهتمت بدراسة الآداب والفنون القديمة.
لكن تغيرت دلالة النزعة الإنسانية بعد ذلك عندما اقترنت بصعود البرجوازية التي بدأت تجارية ثم تطورت بعد ذلك إلى البرجوازية الرأسمالية بفضل تقدم الظروف الاقتصادية آنذاك. ودعم أنصار النزعة الإنسانية أفكار هذه الطبقة عندما روجوا للتصورات التالية:([59]).
- ترسيخ دور الذات الفردية في التقدم المعرفي والعلمي.
- استقلال الذات الفردية معرفيا وانطولوجيا.
- ترسيخ الإيمان بقدرة العقل على التحرر من الأنظمة المستبدة.
- رفض أن يكون للعناية الإلهية أي دور في تشكيل الوجود الإنساني، فالحياة الإنسانية والمجتمع يتأسسان وفقا لقواعد العقل وحده.
لذا فإننا نرى عكس ما يراه إلول، إذ شكلت أفكار النزعة الإنسانية المدعمة لحريات الأفراد النواة الأساسية التي ارتكزت عليها الرأسمالية الحديثة. وهو ما ساهم في تطور التقنية آنذاك. ولقد أشار بيجي ساري Peggy Saari إلى فضل أفكار عصر النهضة في تطور الرأسمالية قائلا: “في عصر النهضة ومع الرأسمالية الصاعدة ظهرت المدن التي تم بناؤها كمحور في شبكة الطرق التجارية في كل أنحاء أوروبا، وحلت المدن كمراكز اقتصادية وسكانية وحكومية (…) وتطورت هذه الطبقة الوسطى لتضم التجار وأصحاب البنوك ليحلوا محل النبلاء والإقطاعيين. وقام هؤلاء بالإشراف على إنتاج البضائع، وبحثوا عن أسواق جديدة، وتحكموا في شبكة معقدة من العمليات التمويلية“([60]). ما يشدد عليه ساري في هذا النص هو وجود خيط موصول بين أفكار عصر النهضة في القرنين: الرابع عشر والخامس عشر وبين تطور الرأسمالية الحديثة في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، لكن وجود هذا الأثر هو ما يرفضه إلول.
إقرأ المزيد: الوجودية: فلسفة تمرّد وحرية وتفكّر في القلق الوجودي!!
نلاحظ فيما سبق أن إلول لم يقدم لنا أدلة قوية تؤيد تصوراته المتعلقة بتراجع التقدم التقني في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى بداية القرن الثامن عشر. إذ أنه اكتفى بالتلميحات السريعة لا بالتحليلات العميقة والنقدية لحركتي النهضة والإصلاح. وهو ما جعل ادعاءاته تتسم بعدم التماسك والسطحية أمام النصوص السابقة التي تؤكد فضل وأهمية حركتي الإصلاح الديني والنزعة الإنسانية في تطور التقنية، والتي لولاهما ما انتقلنا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث.
ومما يدعم وجهة نظرنا هو أنه في القرنين السابع عشر والثامن عشر سادت الوعود بالحرية، والتقدم غير المحدود، والوفرة المادية، بفضل التطور الهائل في العلوم، وبفضل سيادة النزعة الآلية التي حقق تطبيقها آنذاك تقدما هائلا على كافة المستويات العلمية والتقنية. كل هذا أسهم بدوره في تحقيق التقدم التقني على كافة الأصعدة الأخرى.
هذه الفكرة هي ما عبر عنها أيضا أ. ر. هال A. R. Hall عندما رد الاعتبار مرة أخرى لإسهامات القرن السابع عشر العلمية، وأبرز دورها الهام في تحقيق التقدم التقني. إذ يقول: “انتشر بين علماء القرن السابع عشر فكرة النموذج أو المثال للتقدم الاجتماعي، ولبلوغ هذا النموذج رأوا جميعا ضرورة تحويل المعارف العلمية إلى تقنيات. وبدا جليا أن تقدم البحث العلمي يعتمد في حد ذاته على تطور المهارات التقنية، وكان من الضروري أن يلجأ المُجرب إلى المهارات المكتسبة بواسطة الحرفيين“([61]). إن ما ينوه إليه هال في هذا النص هو أنه في القرن السابع عشر قد حدثت بدايات المزاوجة بين العلم والتقنية لبلوغ الكمال الاجتماعي، وهو ما دفع بالتقدم العلمي والتقني إلى الأمام. وقد أيدت كتابات الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، ونظيره الإنجليزي فرنسيس بيكون هذا الاتجاه وبقوة. إذ طالب ديكارت بأن نستبدل بالفلسفة التأملية فلسفة عملية، ورفع بيكون شعار المعرفة قوة تمكننا مع اكتشاف أسرار الطبيعة لتسخيرها لصالح الإنسان، وطالب في كتابه الأورجانون الجديد بالاهتمام بالعلوم التطبيقية.
انطلاقا مما سبق لم نجد أمامنا بد من رفض موقف إلول الذي يريد أن يمحو كل التقدم التقني الحادث في القرن السابع عشر. لكن بعد أن أنكر إلول وجود التقدم التقني كلية في القرنين: السادس عشر والسابع عشر، فماذا عن موقفه من القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر؟
يستهل إلول حديثه عن القرن الثامن عشر بأنه يمثل المرحلة التمهيدية التي مهدت الطريق للتقدم التقني الهائل الحادث في القرن التاسع عشر، ويختزل دور القرن الثامن عشر هذا الحد. فلقد “أيدت فلسفات القرن الثامن عشر التطبيقات التقنية. لقد كانت نفعية، وشغلت نفسها براحة الحياة الإنسانية وبإضفاء السعادة واللذة عليها(…) لكنني غير قادر على أن أمنح هذه الفلسفات أهمية كبرى في تطور التقنيات. لقد أثرت فقط في قلة قليلة من الفرنسيين، وفي النخبة خارج فرنسا، وهناك شك في قبول هذه الفلسفة عالميا، إنها لم تقد بالفعل إلى تحول جذري في المجتمع“([62]). إن نقد إلول لأهمية فلسفات القرن الثامن عشر لا يرتكز في تصورنا على أسس موضوعية بقدر ما يرتكز على كراهيته لعصر التنوير. فكتابات فلاسفة التنوير هي التي قوضت الشرعيات الدينية، ووضعت العقل في مكانة أسمى من الدين، وهذا ما لا يرضى عنه إلول الذي يصنفه كثيرون على أنه من أهم رجال اللاهوت في القرن العشرين.
لكن إذا سرنا مع إلول وافترضنا معه أن فلسفات القرن الثامن عشر لم تلعب سوى دورا هامشيا وهو التمهيد للتقدم التقني، فسيكون السؤال المطروح حينئذ عن أهم العوامل التي أحدثت النقلة الكمية والكيفية وأدخلتنا في القرن التاسع عشر؛ قرن الثورة الصناعية والتقدم التقني؟ إن العامل الحاسم لدى إلول هو “المناخ التفاؤلي الذي ساد في القرن الثامن عشر. لقد خلق هذا المناخ إطارا مؤيدا للتطبيقات التقنية أكثر مما فعلت الفلسفة. لقد تبدد الخوف من الشر. وتضاءلت الحروب. وازدادت المتعة بالحياة بفضل تحسن ظروف المعيشة… كل هذا أقنع الأوروبيين أن التقدم يمكن تحقيقه عن طريق استغلال المصادر الطبيعية وتطبيق الاكتشافات العلمية“([63]).
والسؤال المطروح على إلول الآن: هل نشأ هذا المناخ التفاؤلي الذي ساد في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر من فراغ؟ هل ظهر فجأة وبدون أية مقدمات؟ ألم يكن وليد تطورات سياسية، واقتصادية، وفلسفية، وعلمية، واجتماعية، ودينية…؟ في الحقيقة إن سيادة المناخ التفاؤلي في القرن الثامن عشر، لا يعد بالنسبة لنا، وليد هذا القرن، بل تعود إرهاصاته إلى عصر النهضة. هذا العصر الذي بدأت تتحطم فيه الشرعيتان: الدينية والأرسطية اللتين شكلتا عائقا كبيرا أمام التفكير العلمي والحر لقرابة عشر قرون. ثم تأتي أفكار النزعة الإنسانية لتضع الإنسان في مركز الكون بعد أن كان على الهامش طوال حقبة العصور الوسطى، وترد إليه اعتباره، وتعده الغاية والقيمة التي تسبغ على سائر القيم كل ما لها من قيمة. وتتوارى بفضل هذه النزعة الأدبيات الدينية واللاهوتية لتحل محلها الأدبيات الإنسانية، والاحتفاء بالنزعات الفردية والبطولية.
وفي القرن السادس عشر حدثت حركة الإصلاح الديني التي لا تقل في ثوريتها وأهميتها عن الثورة الفرنسية ولا عن حركات التحرر الكبرى. فبفضلها تأسس الفكر العلماني وتم فصل الدين عن الدولة وتحرر البشر من قيود وسلطات رجال الدين التي كانت تكبلهم.
وبحلول القرن السابع عشر دخلنا إلى العصر الحديث بفضل إسهامات وكتابات ديكارت وبيكون اللذين دعما النظرة المادية للطبيعة، وقدما، كما أسلفنا، المبررات الفلسفية لاستغلالها والسيطرة عليها لتحقيق سعادة الإنسان ورفاهيته. وقد سارت الفيزياء الحديثة التي أرسى جاليليو ونيوتن معالمها بالمعية مع الفلسفة الديكارتية في نظرتها المادية والآلية للكون، فالكون مكتوب بلغة الرياضيات والهندسة، ومعرفة هذه اللغة هي التي تمكننا من معرفة هذا الكون. وكان هذا بمثابة الربط بين الجوانب النظرية والبحث عن تطبيقاتها العملية.
ومع ولوج القرن الثامن عشر ترسخت الحرية الإنسانية أكثر وأكثر في المجالات الاقتصادية بفضل كتابات آدم سميث. وفي المجالات السياسية بفضل كتابات لوك الذي قوض فكرة الحق الإلهي المقدس للملوك ودعم الفكر الديموقراطي عندما رأى أن الشعب هو مصدر السلطات ومن حقه عزل الحاكم متى أخل بواجباته. وبفضل إسهامات مونتسكيو السياسية الذي طالب بالفصل بين السلطات لضمان أكبر قدر من الحرية للأفراد. ولا يمكن أن ننسى في هذا القرن أيضا سيادة فلسفة التنوير وروادها: فولتير وديدرو وهولباخ الذين دعموا الفلسفة المادية وناصروا التقدم العلمي والتقني، ونضيف إليهم كانط الذين قدم مشروعا للسلام الدائم للحد من الحروب وأثارها المدمرة.
إن هذه السلسلة مترابطة الحلقات ما كان لها أن تصل إلى القرن التاسع عشر متى فقدت أي حلقة من حلقاتها. فكل حلقة تؤدي إلى ما بعدها، وغياب واحدة منها كان كفيلا بتقويض السلسلة برمتها. ولهذا فالمناخ التفاؤلي الذي انتشر في القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر ما كان له أن يوجد لولا كل هذه التطورات الفلسفية، والعلمية، والسياسية، والاقتصادية.
على أية حال، يعزو إلول حدوث التقدم التقني والآلي في القرن التاسع عشر إلى عوامل أخرى ليست مرتبطة بقدر كبير بالتطور الصناعي نفسه، ويجملها إلول فيما يلي:([64]).
- إثمار التجارب التقنية على المدى البعيد.
- الزيادة السكانية.
- البيئة الاقتصادية.
- مرونة الحقبة الاجتماعية.
- ظهور القصد التقني الواضح.
وننتقل مع إلول من الإجمال إلى التفصيل. إذ يشير فيما يتعلق بالنقطة الأولى إلى أن ازدهار التقنية في القرن التاسع عشر كان ثمرة لكل محاولات التطور التقني التي حدثت في المراحل السابقة، وهو ما يبرزه قائلا: “لكل اختراع تقني جذوره في الحقبة السابقة،(…) فمنذ ســــنة 1000م وحتى ســـــنة 1750م كان هناك تمهيد بطيء للتطور التقني، ولم تكن نتائجه مباشرة وفورية. لكن حدث آنذاك تراكم للمواد الخام في كثير من المناطق، وكان عليها أن تنتظر المعجزة التقنية (…) فهذا الإعداد الطويل كان ضروريا كتدعيم وتأسيس لبنية القرن التاسع عشر”([65]). نستنتج من هذا النص أن ثمة تعديلا في آراء إلول نفسه بخصوص التطور التاريخي للتقنية، فبعد أن أكد على الغياب التام لأي محاولات للتقدم في الفترة ما بين القرنين: السادس عشر والثامن عشر وما قبلها، عاد ليؤكد على وجود اعدادات منذ القرن العاشر وحتى القرن الثامن عشر والتي قد أتت ثمارها في القرن التاسع عشر.
العامل الثاني الذي أدي إلى ازدهار التقنية في القرن التاسع عشر هو الزيادة السكانية، هذه الصلة القوية بين التقنية وزيادة أعداد السكان هي ما أبرزها إلول عندما رأى ” أن هناك رابطة محكمة بين التقنية وزيادة أعداد السكان، فزيادة احتياجات السكان لا يمكن إشباعها إلا بواسطة التقدم التقني“([66]).
أما عن العامل الثالث فهو وجود بيئة اقتصادية مناسبة “إذ يجب أن تدمج البيئة الاقتصادية الاختراعات التقنية في الاقتصاد”([67]). بالفعل، أدت المزاوجة بين الاقتصاد البرجوازي والتقنية في القرن التاسع عشر إلى تقدم الاثنين معا، حيث دعمت الرأسمالية التطورات التقنية من أجل امتداد عمليتي الإنتاج والاستهلاك على نطاق أوسع. كذلك فرضت قوانين السوق سياسة المنافسة الضارية بين المنتجين على المستوى العالمي، كل هذا دفع بعملية التقدم التقني إلى آفاق واسعة وغير مسبوقة، وهو ما أنعكس بدوره على زيادة رؤوس الأموال، لذا “كان التقدم التقني في هذه الحقبة وظيفة في يد رأس المال البرجوازي”([68]).
أما عن العامل الرابع فيتمثل في مرونة الحقبة الاجتماعية، وما يقصده إلول بالمرونة هنا هو تحرر الوعي والثقافة الشعبية من التابوهات الدينية والسوسيولوجية التي كانت سائدة قبل القرن التاسع عشر، وكانت لها السيادة والسيطرة على أفكار البشر. مثل “الأفكار الدينية والأخلاقية والأحكام بخصوص الفعل والغايات المطروحة للحياة الإنسانية، فهذه التابوهات كانت معارضة نظريا وعمليا للتطور التقني(…) لكن مع اختفائها ظهرت ديانة جديدة وهي النزعة المادية، وتمت هزيمة السلطات الدينية والهيراركية الاجتماعية، كل هذا أدى بدوره إلى تقدم التقنية“([69]). نعم، لقد ساهم المشروع الحداثي في اختفاء هذه المقدسات عندما وضعها كلها على مائدة التحليل والنقد، لتتهاوى الواحدة تلو الأخرى أمام النقد العقلي، ويرجع الفضل في ذلك، كما ذكرنا سابقا، إلى كتابات الفلاسفة، وبخاصة فلاسفة القرنين: السابع عشر والثامن عشر.
أما عن العامل الخامس الذي أدى إلى ازدهار التقنية في القرن التاسع عشر فهو تطور قوى الإنتاج، حيث ظهور القصد التقني الواضح. والمقصود به، بحسب تصور إلول، هو توجيه البشر تجاه الموضوعات التقنية لتصبح التقنية غاية في حد ذاتها. وقد اجتمعت كل هذه العوامل السابقة معا وعلى نحو متزامن ليبدأ التقدم التقني المستمر من هنا([70]).
ويضيف إلول إلى العوامل السابقة التي أدت إلى ازدهار التقنية عاملا آخرا ليس جغرافيا، ولا ديموغرافيا، بل فلسفيا. وهو العامل المتعلق بأهمية أفكار ماركس ومساهمتها في هذا الازدهار التقني. لقد انتقد ماركس في كل كتاباته العلم والتقنية البرجوازيين لأنهما يكرسان للمزيد من الهيمنة والسيطرة الطبقية، لكنه لم ينتقدهما في حد ذاتهما. بل رأى أنه من الضروري أن تمتلك الاشتراكية العلم والتقنية حتى تستطيع أن تحقق تقدما يفوق التقدم البرجوازي. فالعلم والتقنية، بحسب تصور ماركس لهما، وسيلتان ضروريتان لتحرر الطبقات العاملة، وهما أيضا أداتان لتحقيق العدالة الاجتماعية. ولهذا طالب ماركس في أكثر من موضع بضرورة العمل على تطويرهما والتوسع فيهما، إذ ينادي في بيان الحزب الشيوعي:“بكثرة المصانع التابعة للدولة وأدوات الإنتاج(…) وبجعل العمل إجباريا وتنظيم الجيوش الصناعية“([71]). وهو ما أكد عليه بصيغة أخرى في موضع آخر قائلا: “تصنع البروليتاريا الصناعية وسائل الإنتاج العصرية التي تشكل في الوقت نفسه وسائل تحررها الثوري”([72]).
أمام هذه النصوص لم يجد إلول بدًا من توجيه أصابع الاتهام إلى فلسفة ماركس بحجة أنها جعلت البروليتاريا تتشبث أكثر وأكثر بالتقدم التقني، إذ يقول: “في أواخر ســنة 1848 كانت أحد مطالب العمال هي قمع الآلية(…) لكن تغير الموقف فيما بعد، إذ حسن ماركس صورة التقنية في عيون العمال، وأكد لهم أن التقنية يمكن أن تكون قوة محررة، فالخطأ خطأ البرجوازيين وليس خطأ التقنية نفسها“([73]). هكذا، لم توجد فلسفة ولا نظام اقتصادي أو سياسي أدان التقنية في حد ذاتها في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. بل إن النظامين: الرأسمالي والاشتراكي قد مجدا التقدم التقني، واعتبرته البرجوازية وسيلة لزيادة الأرباح ورؤوس الأموال، وتعاملت معه البروليتاريا على أنه أملها في الخلاص. من هنا كانت بداية البداية لدعم كل التقدم التقني الحادث في القرن العشرين.
لكن قبل أن نتطرق إلى تطور التقنية في القرن العشرين، وقبل أن نوضح كيف أنها تحولت إلى غاية في حد ذاتها وأصبحت تتحكم في الأشياء وتخضِعها، سنتوقف مع إلول عند سمات التقنية القديمة لنضع أيدينا على مدى التطور الحادث في التقنية نفسها وفي علاقتها بالإنسان والعالم الذي يعيش فيه بكل نواحيه وتشكلاته، وهو ما سنعرض له في الجزء الثاني.
قائمة المصادر والمراجع:
[1]– Jean Jacques Rousseau, The Social Contract & Discourses, Translated by: Ernest Rhys, London, J.M & Sons, 1923, p: 145
[2]– ibid., p: 143
[3]– مارتن هيدجر، التقنية ــ الحقيقة ــ الوجود، ترجمة/ محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح، الدار البضاء، المركز الثقافي العربي، 1995، صـ 43
[4] -ـ هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة/ جورج طرابيشي، بيروت، منشورات دار الآداب، 1971، صــ191، 193
[5]– المرجع السابق، صـ 244، 255
[6]– يورغن هابرماس، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة/ حسن صقر، منشورات الجمل، 2003، ص52
[7]– نفس المرجع السابق، صـ 103
* ولد جاك إلول في قرية بيزاك Pessac قرب بوردو Bordeaux في فرنسا في السادس من يناير ســنة 1912 وتوفي في 19 مايو 1994. التقى وهو طالب في المدرسة الثانوية المفكر الفرنسي برنارد شاربونيه Bernard Charbonneau وجمعت بينهما أواصر الصداقة الحميمة والتواؤم العقلي الذي بدأ من الاهتمام المشترك بالشأن الإيكولوجي ونقد الاقتصاد السائد والمجتمع التقني. درس إلول القانون في جامعة بوردو، وبدأ في قراءة كارل ماركس، لكنه قد تأثر بتربيته الأوغسطينية، وهو ما أثر فيه بشكل كبير فيما بعد، فظهرت كتاباته اللاهوتية. وفي ســنة 1930 أنضم هو وشاربونيه إلى الحركة الشخصانية التي أسسها إيمانويل مونييه. تزوج إلول ســنة 1937، وفي العام نفسه أصبح أستاذا للقانون في جامعة مونبلييه Montpellier وستراسبورج Strasbourg، وفي ظل النظام الفاشي طُرد إلول من عمله بالتدريس، ورحل إلى قرية صغيرة وعمل هناك مع الفلاحين، كما أصبح بعد ذلك عضوا فعالا في المقاومة الفرنسية. وفي ســنة 1943 أصبح أستاذا مساعدا للقانون الروماني وتاريخ القانون في كلية الحقوق ببردو، وتركزت محاضراته ودراساته على الفلسفة واللاهوت والفكر الاقتصادي والتقنية والبروباجندا. له الكثير من المؤلفات في شتى المجالات: المجتمع التقني، والنسق التقني، وخدعة التقنية، والدعاية: تشكيل اتجاهات الإنسان، والوهم السياسي، والفوضوية والمسيحية، وحضور المملكة، والمال والسلطة، والشياطين الجدد... وتوفي إلول ســنة 1994.
Helena M. Jeromino, Jose Luis Garcia, Carl Mitcham (editors), Jacques Ellul and The Technological Society in The 21th Century,London, Springer, 2013, p:2
[8]– Jacques Ellul, The Technological System, Translated by: Joachim Neugroschel, New York, The Continuum Publishing Corporation, 1980, p:29
[9]– Val Dusek, Philosophy of Technology: an Introduction, Oxford, Blackwell Publishing, 2006, p: 29
[10]– Jacques Ellul, The Technological Society, Translated by: John Wilkinson, New York, Vintage Books, 1964, p: xxv
[11]– ibid., p: 110
[12]– ibid.. p: 128
[13]– Helena M. Jeromino, Jose Luis Garcia, Carl Mitcham (editors), Jacques Ellul and The Technological Society in The 21th Century,London, Springer, 2013, p: 49
[14]– ibid., p: 51,52
[15] – ibid., p: 52
[16]– ibid., p: xxv, 4
[17]– ibid., p:4
[18]– Oswald Spengler, Man and Technics: Contribution To a Philosophy of Life, Translated by: Charles Francis, New York, Knopf, 1943, p: 9
[19]– Harvey Brooks, The Relationship between Science and Technology, in “Research Policy”Vol: 23, 1994, pp: 477- 486
[20]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 7
[21]– ibid., p:7
[22]– مارتن هيدجر، التقنية ــ الحقيقة ــ الوجود، مرجع سبق ذكره، صــ 67.
[23]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 8
[24]– Val Dusek, op.cit., p: 34
[25]-Jan Kyree Bergolsen, Stig Andur Pedersen, Vincent F. Hendrick(Editors), A Companion to The Philosophy of Technology, London, Blackwell Publishing, 2009, p: 78
[26]-Evandro Agazzi, From Technique To Technology: The Role Of Modern Science, in “Phil& Tech”, Vol:4, issue:2, 1998, pp:1-9
[27]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 10
[28]– Andre Leroi Gourhan, Gesture and Speech, Translated by: Anna Bostock Berger, Cambridge, MIT Press, 1993, p:162
[29]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 24, 25
[30]– ibid., p: 26, 27
[31]– أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها، القاهرة، دار المعارف، 1988، صـ 247.
[32]– David Deming, Science and Technology in World History:The Ancient World and Classical Civilization, Vol:1, London, McFarland &Company, 2010, p: 220
[33]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 29
[34]– ibid., p:29
[35]– Richard G. Olson, Technology and Science in Ancient Civilizations, California, A B C& Clio, 2010, p: 22
[36]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 30
[37]– Davis S. Potter (ed), A Companion to The Roman Empire,Oxford, Black Well Publishing, 2006, p: 481
[38]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 30,31
[39]– ول وايريل ديورانت، قصة الحضارة، قيصر والمسيح: أو الحضارة الرومانية، المجلد الثالث، الجزء الثالث، ترجمة/ محمد بدران، بيروت، دار الجيل، د.ت، صـ 26- 28
[40]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 32
[41]– لويس ممفورد، المدينة على مر العصور: أصلها وتطورها ومستقبلها، الجزء الأول، إشراف ومراجعة وتقديم/ إبراهيم نصحي، تصدير/ حسين نصار، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2016، صـ 370
[42]– Davis S. Potter (ed), A Companion to The Roman Empire, op.cit., p: 214
[43]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:33
[44]– هنري توماس، أعلام الفلاسفة: كيف نفهمهم؟ ترجمة/ متري أمين، مراجعة/ زكي نجيب محمود، القاهرة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1964، صـ 3، 7
[45]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:35
[46]– ibid., p:37
[47]– R. H. Tawney, Religion and The Rise of Capitalism, New York, The New American Library, 1948, p:18
[48]ـ- البابا فرانسيس، كن مسبحا: حول العناية بالبيت المشترك، حاضرة الفاتيكان، 2015، صـ96
[49]– David F. Noble, The Religion of Technology:The Divinity of Man and The Spirit of Invention, New York, Alfred Knopf, 1997.
[50]– Willem B. Drees (ed), Technology, Trust and Religion: Roles of Religions in Controversies on Ecology and The Modification of Life, Netherlands, Leiden University Press, 2009, p: 35
[51]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:37
[52]– ibid., p:36
[53]– ibid.,
[54]– Erich Fromm, Escape From Freedom, New York, Rinehart& Company, 1941, p:41
[55]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:39
[56]– Max Weber, The Protestant Ethics and The Spirit of Capitalism, Translated by: Talcott Parsons, London, Routledge, 2001, p:41
[57]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:41
[58] – John Monfasani, Renaissance Humanism, in Routledge Encyclopedia of Philosophy, London, Routledge, 1998, p:3678
[59]– John C. Luik, Humanism, in Routledge Encyclopedia of Philosophy, London, Routledge, 1998, p:3672
[60]– Peggy Saari, Aaron Saari, Renaissance & Reformation, Vol.1, London, Gale, 2002, p:16
[61]– A. R. Hall,The Scientific Revolution: 1500- 1800, The Formation of The Modern Scientific Attitude, London, Longman, 1954, p: 218
[62]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p:46
[63]– ibid., p:47
[64]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 47, 48
[65]– ibid., p: 47
[66]– ibid., p: 48
[67]– ibid., p: 49
[68]– ibid., p: 54
[69] – ibid., p: 49, 50
[70]– ibid., p:60
[71]– ماركس وإنجلز، بيان الحزب الشيوعي، موسكو، دار التقدم، صـ 66.
[72]– ماركس، النضال الطبقي في فرنسا من 1848 إلى 1850، ترجمة/ إلياس شاهين، موسكو، دار التقدم، د.ت، صـ44
[73]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 54