النقد الفلسفي للتكنولوجيا: الجزء الثالث…التقنية والاقتصاد

تكوين

التقنية والاقتصاد:

لكي نفهم طبيعة العلاقة بين التقنية والاقتصاد المعاصرين لابد أن نضع أيدينا على الوضع الذي كان عليه الاقتصاد في العصور السابقة، حتى نكون ملمين بالتطورات الجديدة التي طرأت على الاقتصاد بسبب التقدم التقني المعاصر.

خضع الاقتصاد في العصر الوسيط إلى المقولات اللاهوتية والأخلاقية. وكان شأنه شأن سائر المعارف السائدة آنذاك؛ فهو جزءا لا يتجزأ من النسق الأخلاقي والديني العام، ولم يشكل مجالا معرفيا مستقلا عن اللاهوت. ولهذا فقد اقترن دائما بمقولات الخير والشر، والحلال والحرام، ولم يكن ليتبوأ أبدا مكانة كبرى أو حتى مهمة في العصور الوسطى.

خضوع النظريات والممارسات الاقتصادية إلى الأحكام الدينية والأخلاقية والتزامها بها في العصور الوسطى وحتى بداية القرن السادس عشر هي ما عبر عنها ريتشارد توني R. H. Tawney قائلا:“لعبت البنية الأخلاقية والدينية دورا كبيرا في تشكيل احتياجات الإنسان المادية([1]). وهو التوصيف الذي صادق عليه إلول بنفسه عندما قال:

“كان اقتصاد العصور الوسطى مرتبطا بالأنشطة الواعية والمتروية للكنيسة، حيث تحريم الربا والتجارة المحظورة، ورفض أسبقية العوامل الاقتصادية، وفصل الإنسان عن الثروة والتعلق بها، فقد تحدد المجال الاقتصادي بمجموعة من المباديء المسيحية”([2])

هكذا قام اللاهوت بكبح جماح الدوافع الاقتصادية الطامحة إلى الثراء وتكوين ملكيات خاصة آنذاك.

لم يقف الأمر مع ديانا وود Diana Wood عند توضيح محاصرة الدوافع الاقتصادية في العصور الوسطى، بل وصل الأمر إلى حد تأثيم أفكار العمل والملكية من قبل رجال الدين. فهاتان الفكرتان كانتا بمثابة العقاب الإلهي للإنسان على الخطيئة الأولى. فإنسان ما قبل الخطيئة لم يعرف هذه الأفكار، تقول وود:

“لم يكن في الجنة ملكية خاصة، فكل شيء كان مشاعا. لكن بعد السقوط وبعدما فسدت الطبيعة البشرية بسبب الخطيئة، أصبح وجود المؤسسات البشرية الخاصة بالعمل والملكية ضروريا”([3]).

دور التقنية في الحياة الاقتصادية

لكن مع ولوج العصر الحديث وبزوغ طبقة البرجوازية تغيرت النظرة تجاه الفكر والممارسة الاقتصاديين، فأصبح للاقتصاد موضوع ومنهج. أي أصبح مجالا معرفيا وعلميا مستقلا عن اللاهوت، وحظي بالدراسة والاهتمام الكبيرين لدوره الهام في تحقيق الثراء على المستوى الفردي والجماعي والدولي.

لهذا ليس من المستغرب أن تدافع الفلسفات الليبرالية عن وجود ومشروعية المشروع البرجوازي، لأن البرجوازية كانت الطبقة الحاملة للواء تطور المجتمع والحضارة في القرنين: السابع عشر، والثامن عشر. لقد دافع لوك عن حق الملكية واعتبره حقا مقدسا للأفراد لا يجوز المساس به أو التعرض له. كما أنه لم يضع حدا أقصى لملكيات الأفراد، بل ربط بين العمل والملكية، فكل ما يستطيع الإنسان أن يمتلكه بفضل عمله وكده فهو ملك له. وجعل من حماية الملكية الوظيفة الأساسية للدولة. وهو ما أكده بقوله:

“الأرض وكل ما عليها من المخلوقات الدنيا هي ملك مشترك بين البشر، إلا أن لكل أمريء امتلاك شخصه، كذلك نتاج كدحه وعمل يديه يمكن إسنادهما إليه وحده،(…) فهذا العمل هو ملك العامل الذي لا يُنازع فيه، ولا يحق لأي أمريء سواه أن يطالب بما قد اختلط به”([4]).

لم يكن لوك عالما اقتصاديا ولا منظرا لنظرية اقتصادية متكاملة الأركان، لكن كانت لآرائه عن الحق في الملكية وربط الثروة بالعمل وقانون العرض والطلب لتحديد سعر السلعة تاثيرا كبيرا على علماء الاقتصاد اللاحقين عليه عامة، وعلى آدم سميث خاصة.

إقرأ أيضا: النقد الفلسفي للتكنولوجيا جاك إلول نموذجا: الجزء الأول

فقد ربط سميث أبو الليبرالية الاقتصادية بين الثروة والعمل على غرار ما فعل لوك. ورأى أن العمل هو مصدر الثروات، وليست الأرض ولا التجارة كما يدعي الفيزوقراط Physiocrats والتجاريين Mercantilism. كما طالب برفع يد الدولة عن التدخل في الأنشطة الاقتصادية. فلا يجب أن يكون للدولة دورا للمشاركة في الأنشطة الاقتصادية أو حتى في تنظيمها. بل يجب أن تترك الدولة المجال مفتوحا أمام الجميع للمنافسة الحرة، وهذا ما تبلور في شعاره “دعه يعمل دعه يمر”. وهو بهذا يطالب بالحرية المطلقة لممارسة الأنشطة الاقتصادية.

أما عن الدوافع السيكولوجية والأخلاقية التي تعزز النمو الاقتصادي وتعمل على زيادة الثروات وتراكم رؤوس الأموال، فهي تكمن لدى سميث في حب الذات والسعي إلى تحقيق المصلحة الذاتية والطمع والبخل. إذ يرى سميث أن كل إنسان يجب أن يسعى إلى تحقيق مصلحته، ومن خلال سعيه لتحقيق مصلحته الخاصة سوف يتحقق الصالح العام، وسوف تقوم يد خفية بتنظيم العلاقات بين البشر لتحقيق السلام والاستقرار الضامنين لاستمرار ممارسة الأنشطة الاقتصادية.

ويبرز سميث فضل مقولة المصلحة الذاتية في تحقيق الانتعاش الاقتصادي قائلا: “إننا لا نحصل على غذائنا بفضل إحسان الجزار أو الخباز، لكن بسبب سعيهما إلى تحقيق مصالحهما الشخصية. إننا نخاطب فيهما ليس جوانبهما الإنسانية، لكن حبهما لذواتهما، ولا نتحدث إليهما عن احتياجاتنا الخاصة لكن عن مصالحهما. ولا أحد يختار أن يعتمد على إحسان رفاقه المواطنين سوى المتسول…”([5]). ويقول في موضع آخر عن دور البخل في زيادة رؤوس الأموال:

“تزداد رؤوس الأموال بسبب البخل، وتنقص بسبب التبذير وسوء الإدارة”([6]).

هكذا نلاحظ أن القيم الأخلاقية التي تمت إدانتها وتأثيمها في العصر الوسيط مثل: الأنانية والجشع والسعي إلى تحقيق المصالح الخاصة، أصبحت هي القيم الحاكمة في تطور الاقتصاد الليبرالي الحديث. بل أصبحت دوافع لتحقيق الصالح العام. لذا ليس من المستغرب أن يتم الاحتفاء بها. هذا الاحتفاء والتبجيل هو ما عبرت عنه أوين راند Ayn Rand عندما ساوت بين الأنانية والإنسانية، إذ تقول: “إن الأنانية والجشع فضيلتان في حد ذاتهما(…) والهجوم على الأنانية هو هجوم على قيمة الإنسان”([7]). هكذا ساهم الاقتصاد الحديث في قلب ميزان القيم الأخلاقية، فبسببه توارت إلى الظل فضائل مهمة مثل: الخير والعدالة والمحبة والغيرية، وحل محلها قيم أخرى مثل: المصلحة والمنفعة والأنانية.

لكن تغليب المصلحة والمنفعة والأنانية قد وُسم من قبل نقاد الرأسمالية بسمات سلبية، لدرجة أن اعتبرها البعض رذائل وليست فضائل على الإطلاق. لهذا فقد استحدثت الرأسمالية فضيلة أخرى ظلت بمنأى عن الشبهات، بل لاقت استحسان الجميع وهي فضيلة العمل. ويوضح إلول المكانة الهامة التي حظيت بها هذه الفضيلة، وخاصة عندما اقترنت بفكرة التقدم، ويضيف إلول أن الإيمان بقيمة العمل قد زاد عندما تم الترويج له على أنها نعمة إلهية يهبها الله لمن يرضى عنه، فقد

“ارتكزت الأخلاق البرجوازية على العمل، فالعمل هو مصدر الرقي والتطور. وهو الشيء الوحيد الذي يجعل للحياة قيمة. (…) وإن النجاح في العمل نعمة يعبر بها الله عن رضاه بتوزيع الأموال على هؤلاء الذين يعملون جيدا. فالحضارة البرجوازية أهملت كل الفضائل إلا العمل”([8]).

لكن أدى الإفراط في التأكيد على قيمتي العمل والملكية إلى ترقية المنافسة الشرسة بين أصحاب رؤوس الأموال. وهو ما اقترن بإقصاء غير القادرين خارج حلبة المنافسة الاقتصادية، وحرمان الفقراء من المزايا الاقتصادية، فاختفت العدالة الاجتماعية، وتزايد التفاوت الطبقي بين من يملكون ومن لا يملكون. الثروة في جانب، والبؤس والشقاء والحرمان في الجانب الآخر.

وبسبب تفشي هذه الممارسات غير الأخلاقية تعرض الاقتصاد الليبرالي الرأسمالي إلى انتقادات عنيفة من قبل اشتراكيين كثيرين أمثال: سان سيمون، وروبرت أوين، وفوريه، لكن يبقى النقد الماركسي للاقتصاد الرأسمالي هو الأعنف والأكثر راديكالية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن. ففي الوقت الذي غابت فيه العدالة والمساواة عن النظام الرأسمالي، عمل ماركس على إعادة إحيائهما مرة أخرى، عندما طالب بإلغاء الملكية الخاصة التي اعتبرها السبب الأساسي في وجود التفاوت الطبقي. وبالتالي كان كل همه هو تقويض الدعامة الأساسية لبنية الاقتصاد الرأسمالي: الملكية الخاصة. وفي الوقت الذي ارتكز فيه الاقتصادي الليبرالي على انسحاب الدولة من الأنشطة الاقتصادية، رد ماركس للدولة اعتبارها، وأكد على ضرورة أن تكون أدوات الإنتاج مملوكة للدولة. وسوف تقود الدولة كل الأنشطة الاقتصادية. فهو ينادي في بيان الحزب الشيوعي “بمركزة جميع أدوات الإنتاج في أيدي الدولة (…) مركزة التسليف كله في أيدي الدولة بواسطة مركز وطني رأسماله للدولة، ويتمتع باحتكار تام مطلق. مركزة جميع وسائل النقل في أيدي الدولة. تكثير المصانع التابعة للدولة…”([9]).

نحن إذن أمام نظامين اقتصاديين على طرفي نقيض: النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، ولا نقول الشيوعي، لأن الشيوعية لدى ماركس مقترنة بأفول الدولة واضمحلالها، وليس بإعطائها كل هذه الصلاحيات.

لكن رغم الاختلاف الجذري بين النظامين، إلا أن إلول يرى بينهما أواصر قربى تتمثل في أن كلا النظامين لم يعيرا اهتماما كافيا إلى دور التقنية في المجال الاقتصادي. يقول إلول “إن تأثير التقنية على الحياة الاقتصادية أكثر عمقا وشمولا مما اعتقد الاقتصاديون الكلاسيكيون”([10]). نفس التصور ينسحب أيضا على رؤيته لدور التقنية في الفلسفة والاقتصاد الماركسيين اللذين أكدا على أن العامل الحاسم في التطور الاقتصادي هو رأس المال وليس التقنية التي اعتبروها خاضعة بدورها إلى توجهات رأس المال. وهذا ما أبرزه إلول قائلا:

“كان من الصعب على الماركسيين قبول فكرة أن التقنية تشكل عاملا مستقلا يسيطر على، ويتحكم في، البنية الاقتصادية، إنها في خدمة رأس المال”([11]).

لكن لن يرضى إلول بالطبع عن هذه التصورات التي تجعل من التقنية تابعة وخادمة للاقتصاد، فهو يؤمن بالعكس تماما ” ليس القانون الاقتصادي هو الذي يفرض نفسه على الظاهرة التقنية، بل إن قوانين التقنية هي التي تنظم وتوجه وتعدل الاقتصاد. الاقتصاد عامل ضروري، لكنه ليس العامل الحاسم”([12]).

على أية حال، يعتبر إلول محقا في رؤيته بأن التقنية لم تشغل مكانا هاما في الإنتاج الفكري لمنظري الرأسمالية والاشتراكية، إذ كانت أهم المقولات الاقتصادية السائدة في نظريات رجال الاقتصاد آنذاك هي: السلعة، وتقسيم العمل، والإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، والتبادل. ولم تحظ مقولة التقنية باهتمام مماثل رغم أنها تمثل عنصر أساسي من عناصر الإنتاج.

ومن جهتنا نعتقد، أن عدم الاهتمام الكبير بدور التقنية في الحياة الاقتصادية يرجع إلى أن سميث وماركس بدا تأملاتهما الفلسفية وصياغة نظريتهما الاقتصادية في القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر، وهما القرنان اللذان لم يشهدا التطور التقني الهائل الذي شهده القرن العشرون. ربما لأن الثورة الصناعية كانت في بداياتها، ولم تكن التقنية قد بلغت قدرا كبيرا من التطور، فأقصى ما فعلته الثورة الصناعية هي أن استبدلت بالمجهود الإنساني عمل الآلات. ورغم أن الآلات كانت عاملا هاما من عوامل الإنتاج الجديدة، إلا أنها لم تكن العامل الحاسم في تطور قوى الإنتاج. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش George Lukacs قائلا:

“بالنسبة لماركس، تتضمن قوى الإنتاج ما هو أكثر وأهم من الآلات والتقنية”([13]).

كذلك يلقي الدكتور أشرف منصور في كتابه الليبرالية الجديدة الضوء على فكرة أخرى يعبر عنها عندما يري أن الاقتصاد الكلاسيكي “لم يضع العلم والتقنية من بين عناصر الإنتاج لأنه لم ير لهما ربحا مباشرا، ففوائدهما دائما ما تكون غير مباشرة، وتتطلب وقتا كي تتحقق في شكل تجديد وسائل الإنتاج”([14]). إن ما يشدد عليه منصور هنا هو أن عدم اهتمام رجال الاقتصاد بالتقنية في القرن التاسع عشر يرجع إلى أنها لا تؤتي ثمارها إلا على المدى البعيد، فنتائجها كانت آجلة وليست عاجلة، في وقت سادت فيه فكرة تكوين الأرباح السريعة.

لكن الأمر مختلف لدى إلول، فهو لا يقبل معايير علماء الاقتصاد في القرن التاسع عشر للحكم على التقنية، ويؤكد في المقابل على أن الكلمة الأولى والأخيرة في تطور الاقتصاد وتراكم رؤوس الأموال تعود إلى التقنية التي لا تترك مجالا يند عن سيطرتها

“إنه لخداع ذاتي أن ننظر إلى الاقتصاد الآن على أساس النظرية الماركسية، لأنه لا توجد منطقة في الحياة الاقتصادية مستقلة اليوم عن التطور التقني (…) فالتقنية تتحكم في كل التطورات الاقتصادية المعاصرة بداية من سلسلة الإنتاج إلى المجالات الأخرى مثل: الأسعار، وتراكم رؤوس الأموال، والتجارة الخارجية، ونسبة البطالة…”([15]).

ويؤكد على المعني نفسه في موضع آخر عندما يقول: “أصبحت التقنية الآن هي القوة المسيرة للاقتصاد، إذ أوجد ابتكار تقنيات جديدة ظهور إمكانيات جديدة للتوزيع والاستهلاك. ثم تبع الاقتصاد التقنية وولج طرقا جديدة فتحتها له”([16]).

الآثار المترتبة على خضوع الاقتصاد للتقنية؟

لكن ما هي الآثار المترتبة على خضوع الاقتصاد للتقنية؟ ألم يدفع التقدم التقني بالاقتصاد في القرن العشرين إلى آفاق أكثر ثراءً؟ ألم يؤدي إلى تحقيق المزيد من الازدهار والانتعاش الاقتصادي على حد تعبير الدكتور فؤاد مرسي الذي زاوج بين التقدم التقني والرخاء الاقتصادي قائلا:

“أدت التكنولوجيا الحديثة إلى زيادة هائلة في إنتاجية العمل، مما ساعد على التوصل إلى تلك المستويات التي أفضت إلى تركيز القوة والنمو الاقتصادي بدرجة لم تخطر على بال من قبل”([17]).

لا يعرض الدكتور فؤاد مرسي إلى العلاقة بين الاقتصاد والتقنية في ضوء مصطلحات الهيمنة والخضوع، مثلما فعل إلول. بل يعرض لها في ضوء التعاون البناء بين المجالين، رغم أنه مدرك تماما لفكرة أن التقدم التقني قد أجبر علم الاقتصاد على تغيير قوانينه ومجالات اهتماماته التقليدية كلية.

أما إلول فيرى خلف هذا التعاون الظاهري وشائج خفية تكمن في استبداد التقنية وهيمنتها على شتى مناحي المجالات الاقتصادية. فما يرفضه إلول هو استبداد التقنية، وتتجلى أولى مظاهر هذا الاستبداد في أن التقنية قد فرضت نظاما اقتصاديا أوحد، وهو النظام الذي يؤدي إلى تحقيق المزيد من التقدم التقني، في الوقت الذي محت فيه محوا إجباريا كل الأنظمة الأخرى التي تعوق عملها وتقدمها.

فعلى سبيل المثال، لم يعد للاقتصاد الليبرالي الذي كان يقوم على عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية أي وجود بسبب تقدم التقنية، إذ فرضت التقنية نزعة مركزية جديدة تتحكم بمقتضاها الدولة في كل الأنشطة الاقتصادية. ويوضح إلول خطورة هذه النزعة المركزية قائلا:

“تستدعي الضرورة التقنية تدخل الدولة لكي تنظم شبكات الكهرباء(…) وعندما تدخل الطاقة الذرية إلى حيز العمل فسوف تتحكم الدولة في كل مصادر الطاقة، لأنه من غير المعقول أن يمتلك فرد أو مجموعة من الأفراد مصادر الطاقة الذرية. فالضرورة التقنية تجعل الحياة الاقتصادية لا تنفصل عن الدولة، وتكون الدولة مضطرة بفعل التقدم التقني إلى مد سلطتها بكل الطرق الممكنة”([18]).

تفرض التقنية علينا ديكتاتورية اقتصادية، يكون للدولة فيها اليد العليا على كل مصادر الإنتاج والتوزيع. وهو ما سيعيدنا مرة أخرى إلى وجود الدولة المركزية التي تجمع بيدها كل السلطات.

في الحقيقة، قد يكون تحكم الدولة في مصادر الطاقة وبخاصة الطاقة الذرية مطلبا ضروريا لحماية الأمن الوطني والقومي. وبالفعل، لا يجب أن تترك إدارة شئون هذه الأمور في أيدي الأفراد أو الوكالات الخاصة، لما يشكله هذا من خطورة بالغة عند إساءة الاستخدام. لكن ما يثير قلق إلول وتخوفه هو أن يد الدولة لا توضع على مصادر الطاقة فحسب، بل أدت الضرورة التقنية إلى توغل سلطات الدولة في الشئون الاقتصادية الأخرى. فزيادة تكلفة الاكتشافات والاختراعات جعلت الدولة شريكا لا غنى عنه في العملية الاقتصادية، وذلك لعجز اقتصاد الأفراد بقدراته المالية المحدودة عن مواكبة هذا التقدم. ولهذا “تتحمل الدولة تكلفة الأبحاث الحديثة في الفيزياء النووية، لأن سعر تكلفتها مستحيل على الأفراد([19]).

رفض إلول لتوغل سلطات الدولة في الاقتصاد لا يعني تحيزه لليبرالية، فلم يكن إلول منحازا في يوم إلى الاقتصاد الليبرالي ولا حتى من المدافعين عنه، فهو يدرك جيدا آثاره السلبية من الناحية الاجتماعية. لكن ما يخشاه إلول هو أن التقنية تنحو بالدولة نحو الشمولية والاستبداد الاقتصادي، وهو ما سيترتب عليه تقليص مصالح الأفراد والمجموعات لصالح زيادة سلطة الدولة الاقتصادية. وهو ما سيؤدي إلى ظهور الاقتصاد الموجهة.

قاد هذا التخوف المشروع من توغل سلطات الدولة في الشئون الاقتصادية إلى المطالبة بضرورة إحياء الاقتصاد الليبرالي مرة أخرى باعتباره ضامنا لعدم إساءة استغلال الدولة لسلطاتها في الشئون الاقتصادية. مثل هذه الأصوات المطالبة برفع يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد جون كينيث جالبريث John Kenneth Galbraith خير تمثيل عندما قال:

“سوف يظل الاقتصاد الكلاسيكي قائما لأنه يحل مشكلة السلطة في الاقتصاد والسياسة، وليس هناك شك في أن الأعمال الكبرى الحديثة تعد أداة لممارسة السلطة(…) فإن آلت للسوق هذه السلطة فإنها لا يمكن أن تكون ملكا لفرد أو لمؤسسة”([20]).

لكن يرفض إلول مثل هذه الصيحات التي ترى أننا سنعيش مرة أخرى في أزهى العصور في ظل الاقتصاد الليبرالي وفي ظل السوق المفتوح الذي تصب المنافسة فيه بين المنتجين لصالح المستهلك. ففكرة أن التقدم التقني سيصب في مصلحة الأفراد في ظل الاقتصاد الليبرالي هي فكرة واهية وخادعة ويجب أن نتحرر منها. لأن التقنية والاقتصاد الليبرالي، من وجهة نظر إلول، لا يمكن أن يتعايشا معا أو يتصالحا معا لاختلافهما الجذري في الرؤية والأهداف

” فالتقنية معارضة لليبرالية، والاقتصاد المرتكز على التقنية لا يمكن أن يكون اقتصادا حرا،(…) لأن غاية التقنية هي الفاعلية والكفاءة القصوى في حين أن غاية الليبرالية الاقتصادية هي تحقيق الأرباح القصوى”([21]).

وبما أننا نعيش في عصر التقنية فلن يسود أية نزوع ليبرالي على المستوى الاقتصادي أو السياسي.

لا يقف إلول عند توضيح التعارض المطلق بين التقنية والاقتصاد الليبرالي، ولا عند اختفاء الاقتصاد الليبرالي من الوجود الفعلي بسبب التقدم التقني، بل يمضي لأبعد من ذلك عندما يوضح الآليات التي فرضتها التقنية على الاقتصاد لتخرج لنا نموذجا اقتصاديا جديدا هو الاقتصاد التقني. وما يقصده إلول بالاقتصاد التقني هو الاقتصاد الذي لا يقتصر دوره على فهم وتفسير الوقائع المادية والاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل الاقتصاد الذي يمتد دوره إلى تغيير هذه الوقائع وإعادة تشكيلها وفقا لمقتضيات التقنية نفسها، فبفضل ” تطور التقنية أصبح الاقتصاد مضطرا لأن يضع في اعتباره كل ما هو إنساني (…) فلم يعد يكتفي بتفسير الواقع، بل أصبح يهدف إلى تعديله”([22]). الاقتصاد التقني إذن، وبحسب تصور إلول له، ليس نظرية خالصة للمعرفة بل استراتيجية للفعل.

لقد عمل الاقتصاد التقني على إدخال تعديلات جوهرية واستحداث مناهج جديدة في علم الاقتصاد، بحيث يربط المعرفة بالفعل. وقد نجح هذا الاقتصاد في تطوير ما أسماه إلول تقنيات الملاحظة الاقتصادية وهي: الإحصاء، والمحاسبة، والرياضيات الاقتصادية. والغاية الأساسية من هذه العلوم المستحدثة ليس تقديم تصورات نظرية، بقدر ما هي تقديم معلومات مفيدة للفعل. وفي هذا المضمار يبرز إلول الدور الهام لعلم الإحصاء المعاصر قائلا:

“فيما مضى، كان يتم التقليل من دور الإحصاء باعتبارها عملا للهواة لا يقدم إلا معلومات مضللة. أما اليوم، فيقع قدر كبير من المسئولية على عاتق المشتغلين بها، وعلى دقة المعطيات التي يقدمونها، لأنها تحدد المواد الخام للاقتصاد، وتقدم تنبؤات دقيقة للاقتصاديين.(…) ونظرا لأهمية دورها فقد تم إنشاء ستة وخمسين وكالة فيدرالية في الولايات المتحدة تتخصص كل منها في طريقة إحصائية واحدة”([23]).

وبالتالي، لم تعد الإحصاء مجرد علم يهتم بجمع البيانات وتصنيفها في أعمدة وجداول رياضية على طريقة بيرسون وسبيرمان للوصول إلى نتائج نظرية تتسم بالدقة واليقين فحسب، بل نظرا لأهميتها الشديدة في قراءة وتحليل وفهم الوقائع، ولدورها التنبؤي بأفضل الطرق والوسائل الممكنة لتغييره، أصبحت الإحصاء ترتبط بمراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي. ففي المجال الاقتصادي، يجمع المشتغلون بالإحصاء بيانات السوق واحتياجات ورغبات المستهلكين، ويقومون بدراستها وتحليلها، ويقدمون التقارير للمسئولين التنفيذيين. ولهذا “عندما تصرف الدولة على الأبحاث الإحصائية، فإنها تنتظر الحصول على المقابل، وبالأخص على المساعدات في الشئون القومية”([24]). إن ما يريد أن يقوله إلول هو أن الدولة تمول وتوجه الأبحاث العلمية لخدمة أغراضها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو ما سيزيد من سلطتها وقدرتها على التحكم في المجتمع والمواطنين.

التصور نفسه ينطبق أيضا على رؤية إلول للمحاسبة، فمن المفترض أن تهتم عمليات المحاسبة بتسجيل حركة رأس المال عن طريق معرفة الإيرادات والمصروفات. لكن إلول يرى أن التقنيات الحديثة للمحاسبة جعلت من المحاسب “مهندسا للفوائد الذي تضم عملياته ليس فقط متابعة حركة الأموال، لكن كل عناصر الإنتاج. فالمحاسبة أصبحت تهتم بتفاصيل المواد الخام، والآلات، والأدوات المقترحة لإنتاج منتج محدد”([25]). وهكذا نلاحظ أن التقدم التقني قد عمل على إعادة هيكلة العلوم الإنسانية التي تنتمي إلى مجال المعارف النظرية أو الصورية المحضة، وفرض عليها الاهتمام بالأبعاد العملية.

على أية حال، إن التقدم التقني سيقود حتما، من وجهة نظر إلول، إلى سيادة الاقتصاد المخطط الذي يعرفه إلول بأنه “هو أن تقرر الدولة كل شيء، وتنظم كل شيء مقدما”([26]). وهو ما يعني أن الدولة هي التي تتولى مهمة وضع خطط قصيرة الأمد أو بعيدة الأمد لإدارة عمليات النمو الاقتصادي. وهو النظام الذي ساد في معظم البلدان الاشتراكية في منتصف القرن الماضي، والذي طبقته الكثير من الدول الرأسمالية التي كانت تتبنى مبدأ السوق الحرة فيما سبق، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن في الوقت الذي يُرجع فيه إلول سيادة الاقتصاد المخطط إلى التقدم التقني، يرفض فون هايك هذا التصور. فهو لا يقبل أن يكون التقدم التقني ذريعة لفرض هذا النمط الاقتصادي، وهي الحجة التي أصبحت تتردد كثيرا والتي يستند أنصارها إلى”أن التغيرات التقنية جعلت المنافسة مستحيلة في عدد يتزايد باستمرار من الميادين، وأن الاختيار الوحيد المتروك لنا هو السيطرة على الإنتاج بواسطة احتكارات خاصة أو توجيهه بواسطة الحكومة”([27]). ويرد هايك على هذا التصور بأنه ” إذا كانت التقنية الجديدة لإشباع حاجتنا أفضل حقا، فإنها يجب أن تكون قادرة على الصمود أمام كل منافسة”([28]). يطرح هايك المسألة هنا في ضوء فكرة أن السوق الحرة والمنافسة بين المنتجين هما القادران على الحد من السيطرة الاحتكارية لتقنيات محددة، إذ سيجد المتنافسون وسائل أخرى يقلصون بها من احتكار هذه التقنية المتقدمة، وهو ما يجنبنا التورط في الاقتصاد المخطط، والعمل مرة أخرى وفقا لمباديء السوق الحرة.

لكننا نعتقد، بالاختلاف مع هايك، أنه في ظل التقدم التقني الهائل سيكون من الصعب، بل ومن المستحيل على الوسائل غير التقنية مثل: الزراعة البيئية والمنتجات اليدوية أن تصمد في وجه التقدم التقني، فالمنافسة لن تتم إلا بين تقنيات متكافئة، وهو ما سيؤدي إلى تدخل الدولة لحماية سياسات احتكارية بعينها لتحقيق مصالحها.

الخلاف بين إلول وهايك حول دور التقدم التقني في فرض المزيد من الاقتصاد المخطط ليس محل إجماع، حيث توجد قراءات أخرى لا تربط بين التقدم التقني والاقتصاد المخطط. إذ يرى الدكتور فؤاد مرسي أن امتداد الاقتصاد المخطط إلى البلدان الرأسمالية يعود إلى الظروف الاقتصادية التي فرضت نفسها عقب الحرب العالمية الثانية، إذ

“جعل اقتصاد الحرب الدولة تسبر غور عمليات إدارة وتوجيه الاقتصاد على المستوى القومي، فالأزمات التي تعرض لها الاقتصاد الرأسمالي منذ الثلاثينيات قد أضعفت الإيمان المطلق بمبدأ المشروع الحر والتوازن التلقائي لاقتصاد السوق(…) ففي فرنسا خطة قومية تتكفل بها الدولة. وهناك خطة في بريطانيا واليابان”([29]).

لكننا يجب أن ننوه إلى أن امتداد الاقتصاد المخطط إلى بعض البلدان الرأسمالية لا يعني اشتراكها مع النظم الاشتراكية في شيء. فالنظامان مختلفان تماما، إذ أن التخطيط في الأنظمة الاشتراكية مقترن بإلغاء الملكية الخاصة، أما في الأنظمة الرأسمالية فهو ملتزم بالحفاظ على الملكيات الخاصة، والهدف منه هو التدخل لضبط آليات السوق الحرة دون المطالبة بإلغائها كلية، هذا الفارق بين النظامين هو ما أبرزه إلول “إن امتداد التخطيط لا يحضر بالضرورة مجتمعا اشتراكيا. فالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لن يطولها التعديل عندما نتحول إلى الاقتصاد المخطط “([30]). إن ما يشدد عليه إلول هنا هو أن التخطيط في البلدان الرأسمالية لم يقترن بظهور ديكتاتوريات اقتصادية مطلقة، لكن الأمر لديه لا يخلو أيضا من شبهة الديكتاتورية.

ويتفق رأي الدكتور فؤاد مرسي مع رأي إلول في أن التخطيط في ظل الأنظمة الرأسمالية مختلف عن نظيره في ظل الأنظمة الاشتراكية من حيث الطبيعة والغاية. ويمضي مرسي لأبعد من ذلك عندما يحدد الدور المنوط للدولة في عملية التخطيط الاقتصادي في الأنظمة الرأسمالية قائلا: “تتدخل الدولة عن طريق التمويل العام لتساعد المشروعات الخاصة على توفير إنفاقها لخلق الفنون الجديدة والمنتجات الحديثة، وتحسين مراكزها في المبادلات الدولية، وتسهيل عملياتها في الأسواق الخارجية، ولتساعدها على تدويل أنشطتها الإنتاجية”([31]). وهكذا لا يمحو الاقتصاد المخطط المشروعات الخاصة، ويصبح اقتصاد الدولة والاقتصاد الخاص شريكين في نمو الاقتصاد القومي، وهو ما يحقق، من وجهة نظر مرسي، الصالح العام والخاص معا.

لكن رغم اتفاق إلول ومرسي في رؤيتهما بوجود تباين في هدف الاقتصاد المخطط بين الرأسمالية والاشتراكية إلا أنه يبقى بينهما اختلاف جوهري؛ إذ يرى إلول أن التخطيط سيؤدي إلى المزيد من الديكتاتورية الاقتصادية التي تعد سمة أساسية من سمات المجتمع التقني المعاصر، والتي يحذر إلول دائما من توغلها. بينما يرى مرسي أن التخطيط هو إجراء صحي استطاعت الرأسمالية من خلاله أن تجدد نفسها، وأن تتجنب أخطاء الماضي، فهو لديه آلية لتصحيح المسار.

لكن هل ثمة تلازم واقتران بين الاقتصاد المخطط والديكتاتورية، أم أنه من الممكن سيادة الاقتصاد المخطط الذي فرضه علينا التقدم التقني في ظل وجود أنظمة ديموقراطية ومن دون أن يُعرض حريات الأفراد والجماعات ومصالحهما لأية مخاطر؟

في الحقيقة، ساد في منتصف القرن الماضي اقتران كبير بين الاقتصاد المخطط والنظم الشمولية، وهو التلازم الذي طال العديد من الأنظمة التي امتلكت فيها الدولة وسائل الإنتاج، والتي لم تسمح فيها بوجود أي ملكيات خاصة مثل: الاتحاد السوفيتي، ودول أوروبا الشرقية والصين، ودول العالم الثالث. وبالفعل، مارست هذه الأنظمة أبشع صور الديكتاتورية، حيث؛ وجود معسكرات الاعتقال، والتعذيب، وقمع واغتيال المعارضين. أما العالم الغربي الذي اعتبر الحق في الملكية والحق في تكوين الثروات حقوقا لصيقة بالفرد لا يمكن سلبها أو انتزاعها منه، فقد كان يُطلق عليه اسم العالم الحر، وحتى عندما امتدت يد الدولة إلى الشئون الاقتصادية، فكان الدافع هو حماية غير القادرين. فالأنظمة الديموقراطية ادعت أن شغلها الشاغل هو الدفاع عن ممتلكات وحريات الأفراد وحمايتها.

لكن إلول يرى أن النظامين موسومان في جوهرهما بالديكتاتورية والاستبداد، ولا فرق بينهما سوى أن الديكتاتورية في الحالة الأولى علنية وواضحة، واستخدم فيها النظام أجهزة الدولة القمعية. أما في الحالة الثانية فهي ديكتاتورية مُقنعة تتخفى وراء المصطلحات الزائفة للحرية، والديموقراطية، واستُخدمت فيها أجهزة الدولة الإيديولوجية. لكن يبقى الفرد في ظل هذه الأنظمة خاضعا ربما دون وعي منه، لآليات السيطرة والهيمنة التي ازدادت تعقيدا بسبب التقدم التقني. وحاليا، لم تعد الأنظمة السياسية بفضل التقدم التقني الهائل الذي تمتلكه في حاجة إلى اللجوء للأدوات القمعية لفرض ما تريده، لأنها تمتلك من الوسائل الناعمة ما يجعلها قادرة على تزييف وعي البشر وإيهامهم بأنهم أحرار.

وبالتالي، فإن الخطورة الفعلية تكمن، بحسب رأي إلول، ليس في طبيعة النظام السياسي ولا في شكل المنظومة الاقتصادية بقدر ما تكمن في أن التقدم التقني يقترن في وجوده بالأنظمة الديكتاتورية التي تتلاعب بالأفراد. ويصل إلول في النهاية إلى رأي حاسم لا لبس فيه وهو أن التقنية والديموقراطية لا يجتمعان معا. فكل تقدم في التقنية يكون مصحوبا بتراجع في الممارسة الديموقراطية الحقيقية “فالتقنية هي الحد من الديموقراطية، وبقدر ما تكسب التقنية تخسر الديموقراطية”([32]).

ولا يختزل إلول مفهوم الديموقراطية في التمثيل السياسي، بل يمتد بمصطلح الديموقراطية لأبعد من ذلك، عندما يربطه بالممارسات الاقتصادية للإنسان المعاصر. فيصيغ لنا إلول مصطلحا جديدا وهو الديموقراطية الاقتصادية والتي تعني لديه أن القرارات الاقتصادية ينبغي أن تؤخذ من أسفل وليس من أعلى. فهو يريد أن يكون للإنسان دور فعال في تشكيل المنظومة الاقتصادية وفي اتخاذ القرارات.

لكن هذا غير متحقق فعليا بسبب التقدم التقني الذي أحال الإنسان إلى ترس صغير في الآلة الاقتصادية الكبرى، وجعله لا يلتقي بالعالم الاقتصادي ولا يعرف عنه شيئا إلا في فعل الاستهلاك فقط، هذا الوضع هو ما يستنكره إلول ويشجبه قائلا: “هل يختار الشعب المحاسبين أو المهندسين أو المنظمين؟ هل يمكنه إصدار أحكام على طرق ومناهج عملهم؟(…) فلماذا لا تطبق الديموقراطية في هذه الميادين؟”([33]). لقد أصبح الإنسان المعاصر، في نظر إلول، معزولا عن عالمه الاقتصادي بسبب تعقد التقنيات الاقتصادية، وأصبح في موقع المفعول به لا الفاعل، وهو ما يعني الغياب التام للديموقراطية الاقتصادية.

إن إقصاء حريات الأفراد ورغباتهم خارج المجال الاقتصادي لا يرجع إلى ظلم واستبداد أصحاب رؤوس الأموال كما كان الحال في القرن التاسع عشر، ولا إلى ظلم الأفراد لبعضهم البعض، ولا إلى اضطهاد طبقة بواسطة أخرى. بل يرجع إلى أن الضرورة التقنية تفرض على الجميع: منتجين ومستهلكين إتباع محددات اقتصادية معينة لا يمكن الحيد عنها. وهو ما يعني أن عمليتي الإنتاج والاستهلاك أصبحتا تعملان باستقلالية عن إرادة البشر، إنهما تخضعان إلى توجيهات الضرورة التقنية فقط، لأن “الاقتصاد التقني لا يمكن أن يتسامح أبدا مع تدخل رغبات الأفراد”([34]).

ولا يتوقف الأمر مع إلول عند عقد الصلة بين التقدم التقني والديكتاتورية الاقتصادية، بل يمضي إلول لأبعد من ذلك عندما يوضح أهم تجليات هذه الديكتاتورية في المجتمع المعاصر. وتعتبر عملية فصل الاستهلاك عن متطلبات الأفراد واحتياجاتهم الضرورية ملمحا هاما من ملامح هذه الديكتاتورية. فالبشر لا يستهلكون إلا ما تقدمه لهم التقنية، دون أن تتوافر لديهم أي إرادة حرة للاختيار، أو لتحديد ما يريدون استهلاكه، فهم مجبرون على التكيف مع السلع الموجودة. هذا الإكراه هو ما يبرزه إلول، فلم ” تكن الجماهير هي من طلبت رحلات الطيران والتليفزيون، فالتقدم التقني هو من صنع هذه الأشياء وفرضها عليهم فرضا”([35]). ليس إلول وحده من يؤكد على إقصاء الاقتصاد التقني لرغبات المستهلكين، بل يتفق معه أيضا ثورستين فبلن Thorstein Veblen الذي سعى جاهدا إلى تقويض فكرة سيادة المستهلك

“إن فكرة سيادة المستهلك خرافة، فالسيادة الحقيقية للمؤسسات الاحتكارية وما تنتجه من سلع”([36]).

رغم اختلاف رؤية إلول وفبلن حول مفهوم السيادة في المجال الاقتصادي، والتي يعزوها الأول إلى التقنية بينما يعزوها الثاني إلى السوق، تبقى فكرة إقصاء احتياجات المستهلك خارج دائرة الاهتمامات الاقتصادية قاسما مشتركا بينهما.

ويتجلى الملمح الثاني للديكتاتورية الاقتصادية في انعدام المساواة بين البشر، وتكريس المزيد من التفاوت بين من يملكون ومن لا يملكون، وفي هذا الصدد يقول إلول: “لا يقنعني النقاش بأن التقنية تنتج مساواة اجتماعية، لأن المصباح الكهربائي للفقير متطابق مع مصباح الغني(…) فهناك بالتأكيد اختلاف كبير بين الدراجة البخارية والسيارة الكريسيلر، ويمكننا أن نضيف عددا لا نهائيا من المقارنات”([37]). لقد رسخ المجتمع التقني لوهم المساواة بين البشر عندما جعلهم يعتقدون أنهم متساوون عندما يستهلكون المنتجات نفسها، ويشاهدون الأفلام نفسها، ويستمعون إلى الموسيقى نفسها. لكن إلول يرفض هذا التصور، ويؤكد في المقابل، على أن هذا المجتمع يرفع في ظاهره شعار المساواة، لكن باطنه التفاوت واللامساواة. المعنى نفسه هو ما أكده أيضا هربرت ماركيوز قائلا: “العامل ورب العمل يشاهدان نفس البرنامج التليفزيوني، والسكرتيرة ترتدي ملابس لا تقل أناقة عن ملابس ابنة مستخدمها، والزنجي يمتلك سيارة كاديلاك فارهة. لكن هذا التماثل لا يدل على زوال الطبقات”([38]).

ولا يقف إلول وماركيوز وحدهما في تأكيد وهم المساواة، إذ يبدو أن غياب المساواة عن مجتمعات القرن العشرين قد أصبح سمة بارزة لفتت انتباه قطاع عريض من الفلاسفة وخاصة نقاد المجتمع الصناعي المعاصر. إذ نجد فروم يؤكد أيضا على انعدام المساواة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. فالأنظمة القائمة، بحسب رأي فروم، تغذي ثقافة التماثل والتطابق بين الأفراد تحت اسم المساواة. لكن تخلو هذه المجتمعات من وجود مساواة حقيقية. إذ “يروج المجتمع للمساواة التي لا تفرد فيها، لأنه يحتاج إلى ذرات إنسانية كل منها هي نفس الذرة الأخرى، لكي يجعل الذرات تعمل في تجمع هائل بنعومة ودون انقسام، وكلها تطيع الأوامر نفسها”([39]). لكن يترتب على هذا التماثل تلاشي الذوات المتفردة والأصيلة ليحل محلها الحشد أو الجمهور الذي يشعر بالمساواة عندما يسلك سلوكا واحدا.

عندما يتم اندماج الفرد في الجماهير، فإننا نصل مع إلول إلى ملمح آخر من ملامح الديكتاتورية التي تمحو الذات الفردية وتقمع الملكات العقلية والنقدية للإنسان، فما تحتاجه التقنية لتحقق تقدمها هو الإنسان الجماهيري المندمج في الحشد، إذ “يتطلب تطور التقنية مجموعات إنسانية طيعة(…) لذلك فإن الشكل الاجتماعي الأكثر ملائمة للتقنية هو الجماهير”([40]).

نظرة إلول السلبية إلى الجماهير ودورها في ترسيخ دعائم المجتمع التقني وإعاقتها للتحرر تجعل هناك أواصر قربى بين تصوراته وبين تصورات الوجوديين الذين أكدوا أيضا على أن الوجود مع الحشد والجمهور هو بمثابة تدمير للذات الفردية الأصيلة التي تسعى إلى التحرر من قيود الواقع المغترب. وهذا ما نجده، على سبيل المثال، عند هايدجر الذي عبر عن رفضه لهذا الوضع قائلا: “… ولهذا فإن الوجود أيضا هو وجود مع، وجود مع الغير في العالم: إلا أن هذا الوجود مع من شأنه أن يزيف الوجود الحق، لأنه ينزل بهذا الوجود إلى حياة زائفة مبتذلة يومية، لأنها حياة متشابهة، ذلك أن الآنية التي تعيش بين آنيات تعيش غرار هذه الآنيات ولا تعيش عيشتها الذاتية الخالصة. فالإنسان الذي يعيش بين الناس يعمل كما يعمل الناس، ويفكر كما يفكر الناس، ويقيس الأمور بمقاييس الناس، وبالجملة يصبح مجرد نسخة من كائن بلا اسم هو الناس(…) وفي هذا يقضى الإنسان الفرد على فردانيته، أي على وجوده الحق، أي على كل ما يكون ذاتيته وشخصيته وأصالته، ويصبح مجرد شيء بين أشياء، وموضوع ضمن موضوعات، وأداة في وسط أدوات، وفي هذا إهدار كامل لحقيقة الإنسان([41]). هكذا نجد أن الآثار السلبية للتقنيات الاقتصادية وحدت آراء العديد من الفلاسفة الذين ينتمون إلى تيارات ومدارس فكرية متباينة. لقد اتخذوا مواقف نقدية متشابهة بقدر كبير ضد الأعراض الجانبية لآثار التقنية الاقتصادية على الصعيدين: الإنساني والاجتماعي، وتعد مسألة الاغتراب واحدة من أخطر هذه الأعراض الجانبية للتقنية في المجال الاجتماعي.

عندما نتعرض إلى موقف إلول من قضية الاغتراب، سنجد أنه لا يضيف جديدا إلى ما قدمته المقاربة الماركسية، حيث يرى أن انهماك الإنسان في عمليتي الإنتاج والاستهلاك جعله غريبا عن نفسه وعن الآخرين، والاغتراب عند إلول يمتد إلى البرجوازية  فلقد

“أصبح الإنسان آلة للإنتاج والاستهلاك، وهذا ينطبق على البرجوازي بالضبط مثلما ينطبق على البروليتاري”([42]).

لقد غير المجتمع التقني من معايير تقييم الإنسان لذاته، وتقييم الآخرين له. فلم تعد معايير التقييم معايير داخلية نابعة من سمو القدرات العقلية والروحية والأخلاقية والعاطفية، ولا من القدرة على الحب والبذل والعطاء، بل أصبحت كلها معايير مادية محضة، لذا “لم تعد البنية العقلية والنفسية للموجود البشري هي المهمة، لكنه التدفق الذي لا ينتهي للبضائع. ارتبطت السعادة بالاستهلاك، ولا شيء سوى هذا المبدأ لديه قيمة في مثل هذه الحياة، فالمال هو العامل الحاكم، أما الثقافة والروح والأخلاق فلا تؤخذ بجدية”([43]). ما يريد إلول تأكيده هو أن عبادة المال في المجتمعات التقنية المعاصرة أصبحت هي الديانة المسيطرة التي زادت من اغتراب الإنسان، إذ “أصبح المال هو المعيار الأساسي لتقييم الإنسان وأنشطته، فالفن والكنائس والدولة خضعت كلها إلى سلطة المال”([44]).

لكن في ظل تفشي ظواهر الاغتراب والتفاوت وذوبان الهوية الفردية في الجماهير بسبب التقدم التقني، يكون سؤال ما العمل سؤالا جوهريا. فما العمل؟ هل يكمن الحل في تغيير النظام الاقتصادي؟ أم في تغيير النظام السياسي؟ أم في الاستغناء عن التقنية ومحاولة إيجاد بدائل لها؟

يقترن القضاء على الاغتراب واللا مساواة عند ماركس بالتخلص العنيف والثوري من النظام الرأسمالي. كما يقترن لدى ماركيوز بإحداث انقلاب سياسي يأتي بنظام جديد تتحول فيه التقنية من أداة للسيطرة إلى أداة للتحرر. ويقترن لدي الكثير من الوجوديين بضرورة عودة الذات الإنسانية إلى حالة العفوية والتلقائية الخلاقة التي يتحرر فيها الإنسان من التافة واليومي المبتذل. لكننا نجد لدى إلول طرحا آخر لا يعول فيه على تغيير الأنظمة الاقتصادية أو السياسية، بقدر ما يعول على السمو الروحي والأخلاقي للإنسان المعاصر، فهذا لديه هو السبيل لإصلاح ما أفسده المجتمع التقني “فإذا أعطى الإنسان من عمقه أسبقية للروحي، فلن يعاني من نقص الأشياء المادية”([45]).

على أية حال، ذكرنا أن سيطرة التقنية على الاقتصاد أدت إلى سيادة نمط من الاقتصاد المخطط والشمولي، فهل سيكون لسيطرة التقنية على السياسة نتائج مماثلة؟ أم ستجد لنا السياسة مخرجا من الأزمات التي فرضتها علينا التقنية؟ وإذا كان للسياسة دور في عملية التحرر، أفلا يتناقض هذا مع تصريحات إلول التي يصر فيها دائما على أن الحل ليس سياسيا ولا اقتصاديا بقدر ما هو روحي وأخلاقي؟ أم أن السياسة التي ينشدها إلول تنطوي على إعلاء الجوانب الروحية والأخلاقية والإنسانية؟

 

التقنية والسياسة:

يعزو أفلاطون في محاورة الجمهورية الدور الأهم لرجال السياسة في إدارة شئون الدولة، ونظرا لخطورة هذا الدور فقد اشترط أفلاطون أن يكون الحاكم ملكا وفيلسوفا، أي يجمع بين السلطة من جهة، والمعرفة والحكمة والفضائل الأخلاقية من جهة أخرى. كذلك يعزو ميكيافيللي إدارة شئون الدولة إلى الأمير وحده، وتعتمد كل القرارات على حكمة ودهاء هذا الأمير.

لكن لإلول رؤية مغايرة تماما، إذ يرى أنه لم يعد لرجال السياسة في المجتمعات التقنية المعاصرة القدرة المستقلة على اتخاذ القرارات الهامة. فمن وجهة نظره، تتسم العلاقة بين السياسة والتقنية بأنها علاقة تبعية وخضوع شأنها شأن كل العلاقات التي تمتد إليها سطوة التقنية. حيث أدى التقدم التقني إلى تراجع وانحسار دور الساسة المعاصرين الذين لم يعد لديهم المقدرة على اتخاذ قرار ما بمعزل عن التكنوقراط، فبسبب “ التقدم التقني تم تقليص دور رجال السياسة الذين أصبحوا يعتمدون كلية على الخبراء والتقنيين والإداريين”([46]). لم تعد إدارة الشئون الداخلية والخارجية للدولة تعتمد على حكمة وتقدير رجال السياسة للموقف، بقدر ما أصبحت تعتمد على ما تمليه وتفرضه الضرورة التقنية على هؤلاء الساسة. فالقرارات الحاسمة مثل شن الحرب مثلا، أصبحت تتخذ بناء على تقديرات الخبراء ورجال التقنية، فهم الأكثر معرفة ودراية بالأسلحة الموجودة وكفاءتها في تحقيق أغراضها من عدمه. كل هذا دفع إلول إلى التوصل لنتيجة حاسمة عبر عنها قائلا:”إنها لأكذوبة كبرى أن رجل السياسة هو صاحب القرار النهائي، فرجال السياسة محصورين داخل إطار مصمم بواسطة التقنيين، وسوف تخضع القرارات السياسية للتقييمات التقنية في المقام الأخير”([47]).

ولا يعد استنتاج إلول في هذا الشأن أمرا فريدا، إذ نجد ماركوس جاركفا Marcos Garcfa يسير على خطى إلول عندما يرى أن هدف التكنوقراط هو القضاء على الحكومات بمعناها التقليدي، فما يسعى إليه التكنوقراط “هو قمع السياسة، وهذا هو المعنى الأساسي لفكرة نهاية الحكومات “([48]).

لكننا نجد أنفسنا بصدد تساؤل مهم وهو أنه إذا كانت التقنية تعبر عن أرقى تجليات العقل البشري في الوصول إلى الدقة والكفاءة والفاعلية، فما الداعي إلى قلق إلول من أن تُتخذ القرارات السياسية بناء على التقديرات الدقيقة والمحسوبة للخبراء والتكنوقراط؟!

في الحقيقة، لا يشكك إلول في دقة النتائج التي يصل إليها الخبراء فحسب، بل إنه يشكك أيضا في مصداقية هؤلاء الخبراء أنفسهم. فهو يعتبرهم جزءا لا يتجزأ من النسق التقني الذي لا يتوانى عن تزييف الحقائق وخداع الرأي العام. ويستشهد إلول على ذلك بحادثة تشيرنوبل “أثناء حادثة تشيرنوبل(…) ظهر أحد الخبراء على شاشة التليفزيون، وأبلغنا أنه ليس ثمة سبب للانزعاج، وأنه ليس من فرصة للسحابة لكي تصل إلى فرنسا لأن إشعاعها ضعيف، في حين وصلت السحابة إلى فرنسا وغطت أجزاء منها”([49]). ما يريد أن يقوله إلول هنا هو أن ذريعة الدقة التي من المفترض أن يتحلى بها الخبراء أصبحت موضع شك، لذا يجب ترك عملية اتخاذ القرارات السياسية لأصحاب الحكمة، فتقديرات هؤلاء للمواقف تتسم بنزوعها الإنساني والأخلاقي بدرجة أكبر من تقديرات الخبراء التي لا تعرف سوى منطق الحسابات الكمية.

إقرأ أيضا: التفاهة والهيمنة

عدم دقة الخبراء ليست وحدها ما تثير مخاوف إلول من سيطرة التقني على السياسي، بل يضيف إلول بعدا آخرا يتمثل في أن هذه السيطرة للتقني سوف يترتب عليها تغير جذري في الرؤية لبنية الدولة نفسها. فالدولة من وجهة نظر رجال السياسة والقانون هي “مجموعة من المؤسسات المنظمة الموجودة في مكان محدد، ويعيش فيها مجموع المواطنين، ولديها الأنظمة التشريعية لتنظيم أنشطة المجتمع، وتسوية المطالب المتعارضة بين الأفراد والجماعات المنتمية لها. وللدولة وظائف إيجابية تتمثل في تحقيق الرفاهية والعدالة لمواطنيها، إضافة إلى استخدام القوة لردع العدوان وحفظ النظام وتحقيق أمن مواطنيها”([50]).

الدولة إذن هي الضامن لتحقيق حريات الأفراد ولتحقيق العدالة والمساواة والأمن والنظام…، وهي أيضا بحسب توصيف فلاسفة العقد الاجتماعي الضامن للانتقال من حالة الطبيعة الأولى المتسمة بالوحشية والفوضى إلى حالة المجتمع المدني الذي ينعم فيه كل فرد بالحق في الحياة والحرية. وهكذا نجد، أنه بجانب الوظائف السياسية والاقتصادية للدولة توجد المهام الأخلاقية التي ينبغي أن تضطلع بها الدولة.

لكن يرى إلول أنه بسبب سيطرة التقنية على السياسة، وتواري دور رجال السياسة إلى الظل، وتعاظم دور الخبراء والتقنيين، اختلفت النظرة تماما إلى الدولة. فلم تعد الدولة كيانا ضامنا للحقوق وللحريات، بل أصبحت، من وجهة نظر التقنيين، مشروعا يهدف إلى تحقيق الحد الأقصى من الفوائد والأرباح. كما أصبحت مجالا لتطبيق واستخدام الأدوات والوسائل التي يخترعها ويطورها التقنيون. كل هذا يحيل الدولة إلى مجرد آلة، ويكون الشغل الشاغل للتقنيين هو “البحث عن الاستخدام الأمثل لهذه لآلة، وعن أفضل السبل لبلوغها الحد الأقصى من الفاعلية والكفاءة”([51]).

تقترن هذه النظرة التقنية للدولة بتغير في المباديء السياسية التقليدية مثل: العدالة والمساواة والحرية…، لتحل محلها مباديء جديدة مثل: السرعة والإنجاز والدقة والكفاءة. لقد كانت المباديء السياسية التقليدية مباديء تأسيسية في النظرية والفعل السياسيين، كانت غايات يجب بلوغها في حد ذاتها مثل: قيمة العدالة لدى الاشتراكيين، وقيمة الحرية لدى الليبراليين. وكانت الدولة تحشد كل طاقتها من أجل تحقيق هذه الغايات، ويصف إلول أهمية الدور الهام للمبدأ السياسي قائلا: “كان المبدأ السياسي في القرن التاسع عشر مبدءًا تأسيسيًا وتوجيهيُا، كان معيارا للفعل(…) وتحكمت المباديء في الحياة السياسية، ولم تكن مجرد نزوات”([52]).

لكن تغير هذا الدور للمبدأ السياسي في القرن العشرين بسبب التقدم التقني الذي عمل على زعزعة هذه المباديء لتحقيق مقتضيات تطوره الخاص، وفي هذا الصدد يقول إلول: “بسبب تدخل التقدم التقني في العملية السياسية أصبح دور المبدأ مختلف كلية، فلم يعد يمثل المبدأ غاية أو هدف في حد ذاته، ولم يعد معيارا للفعل، فالمعيار الوحيد هو الفاعلية”([53]). ما يريد أن يوضحه إلول في هذا النص هو أن الفاعلية قد أصبحت بمثابة الكلمة السحرية التي ينطلق منها الخبراء والتقنيين لتبرير كل ما يريدون تحقيقه. وبالفعل، لاقى مبدأ الفاعلية استحسانا وقبولا كبيرين من قبل الإنسان المعاصر في المجتمعات التقنية بسبب الترويج والدعاية المستمرة له “فالدعاية ضرورية لكي تدمج الفرد في عالم التقنية الفعال، فالشغل الشاغل لها هو الترويج للفاعلية والكفاءة”([54]).

لكن إذا كانت التقنية قد عملت على التغيير الجذري للكثير من المعطيات السياسية التقليدية، ليحل التكنوقراط محل رجال السياسة والحكم، ولتصبح الدولة مشروعا يدر الربح والفوائد، ولتتوارى الفضائل والمباديء السياسية ليحل محلها الفاعلية والدقة والكفاءة، فثمة سؤال وهو: هل يعيش الإنسان المعاصر مسرحية هزلية اسمها الديموقراطية؟ وبماذا نفسر ذهاب المواطنين إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يمثلهم؟ في حين أن هؤلاء الممثلين الذين يتم اختيارهم عبر الآليات الديموقراطية ليس لهم حيلة ولا دور في اتخاذ أي قرارات مهمة، إنهم يملكون ولا يحكمون. وبالتالي، لنا أن نتساءل أيضا: هل ما تبقى من الديموقراطية الغربية بسبب التقدم التقني شكل أجوف دون مضمون حقيقي يضمن السيادة الشعبية، والرقابة على السلطات، والفصل بين هذه السلطات لنيل أكبر قدر من الحرية للأفراد؟

في الحقيقة، يعد نقد الديموقراطية التمثيلية جزءا من ميراث الفلسفة السياسية الحديثة والذي يمتد حتى عصرنا الراهن. إذ تعرضت هذه الفكرة إلى انتقادات لاذعة منذ القرن الثامن عشر على يد روسو. فقد كشف روسو عن تناقض في بنيتها الداخلية عندما رأى أنها لم تعد تعني حكم الشعب، إذ لا يشارك المواطنون مشاركة مباشرة وفعالة في شئون الحكم، بل ينتهي دورهم عند انتخاب ممثليهم، ولذلك طالب روسو بضرورة أن نستبدل بالديموقراطية التمثيلية الديموقراطية المباشرة على نحو ما كانت عليه عند اليونانيين القدماء.

الأمر نفسه نجده عند فيلسوف السياسة المعاصر كارل بوبر Karl Popper الذي انطلق عند تأسيس فلسفته من نقد المسلمات والبديهيات المستقرة في تاريخ الفلسفة السياسية، وخاصة فكرة أن الديموقراطية هي سيادة الشعب. فهو يرى أنه لم يحدث أبدا أن ساد الشعب، لأن الحكومات هي التي تسود، ولهذا صاغ بوبر تعريفا جديدا للديموقراطية شدد فيه على أن وظيفة الديموقراطية لا تكمن في اختيار الشعب لممثليه، بل في “التخلص من الحكومة دون إراقة دماء متى أخلت بواجباتها”([55]).

أما إلول فيقدم تصورا مغايرا للتصورين السابقين، فهو يرى أنه لا الشعوب ولا الحكومات هي التي تسود على أرض الواقع، فالسيادة الفعلية للتقنية ورجالها. ولهذا لم يتردد إلول في رفع الشعار التالي: إننا نعيش في عصر الأوهام السياسية. وإيمانا منه بهذا الشعار فقد أفرد كتابا كاملا بعنوان الأوهام السياسية شرح فيه أهم هذه الأوهام التي يعيشها الإنسان المعاصر في ظل المجتمع التقني وأفضل السبل للتغلب عليها.

وتأتي الديموقراطية وما يرتبط بها من إجراءات في مقدمة هذه الأوهام. فالديموقراطية الغربية بوضعها الحالي، وبحسب رؤية إلول لها، لا تختلف عن الشمولية في شيء إلا من حيث المظهر فقط. إذ يبقى النظامان موسومين في جوهرهما بالاستبداد القائم على تضليل وتزييف وعي المواطنين وإيهامهم بأنهم أحرار. وبالتالي، فالديموقراطية التمثيلية لا تصلح أن تكون أساسا يرتكز عليه بناء إنسان قادر على تحقيق ذاته ونيل حريته. ولذلك لم يتردد إلول في وصفها بالنظام الذي فشل فشلا ذريعا. ويقول في هذا الصدد: “لقد أخفقت الديموقراطية التمثيلية سياسيا، وقانونيا، ومجتمعيا. إنها نظام غير مجدٍ ويجب هجرانه”([56]).

لم يقف إلول عند تقديم نقد عام للديموقراطية التمثيلية وبيان إخفاقها، بل يمضي لأبعد من ذلك حينما يفند ما يرتبط بها من إجراءات مثل: فكرة السيادة الشعبية، وهي الفكرة التي يرفضها إلول رفضا مطلقا، مؤكدا على أن كل الشواهد تكذب تحققها على أرض الواقع. ويتساءل إلول مستنكرا ومشككا في وجود هذه الفكرة من الأساس “منذ متى كان المواطنون جزءا من القرارات المهمة في الأزمنة الحديثة؟ ومنذ متى فحصت مجموعة من المواطنين سياسات الإدارة؟ إنهم لا يسنون القوانين، ولا يحكمون. بالفعل ليس للشعوب أي سلطة”([57]). ما يحاول إلول إبرازه في هذا النص هو التأكيد على أن انتفاء السيادة الشعبية هو بمثابة تقويض حقيقي للممارسات الديموقراطية، فالسيادة الشعبية هي اللبنة الأولى للبناء الديموقراطي الحقيقي، ولذلك فإن غيابها يسبب بالفعل غيابا الديموقراطية.

هناك مشهد آخر يزيح إلول الستار عنه ليكشف مدى زيفه الحالي، وهو المشهد الخاص بفكرة أن الديموقراطية تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات لحماية الحريات الفردية. نقول نعم، لقد استقر في الأذهان أن البرلمانات في الأنظمة الديموقراطية هي الجهة التي يناط إليها مراقبة أعمال الحكومات، وبجانب سلطة البرلمان الرقابية والتشريعية، تُعزى إليها صلاحيات أخرى مثل: عزل الحاكم، ونزع الثقة من الحكومة متى أخلت بواجباتها. وبالفعل أدت العديد من البرلمانات هذا الدور الرقابي بمنتهى الدقة في القرن السابع عشر، وبالتحديد في إنجلترا، عندما شن البرلمان الإنجليزي عام 1645 بقيادة أوليفر كروميل حربا ضروسا ضد الملك تشارلز الأول الذي أساء استغلال سلطاته آنذاك.

لكن لإلول رأي مختلف، إذ يرى أنه لم يعد لمبدأ الفصل بين السلطات الذي أرسى لوك ومونتسكيو دعائمه في القرنين: السابع عشر والثامن عشر أي وجود فعلي في القرن العشرين. فلم يعد البرلمان جهة رقابية حقيقية كما كان من قبل، إذ انحرفت البرلمانات، حسبما يرى إلول، عن الأدوار التي خولتها لها الدساتير الديموقراطية، وأصبحت تتماهي مع الحكومات في توجيه وحشد الجماهير وفقا لمقتضيات المجتمع التقني المعاصر. إنها لا تستطيع مراقبة أعمال التكنوقراط أو التحكم فيها. لأن ” فكرة مراقبة المواطن لأفعال الدولة ترتكز على الافتراض بأن البرلمان يوجه بفاعلية الجسد السياسي والإداريين والتقنيين، لكن هذا وهم محض”([58]). إذن في ظل الديموقراطية التمثيلية يتلاشى الدور الرقابي للمؤسسات التي منحها الشعب ثقته، وأسند إليها مهمة الدفاع عن مصالحه، وبالتالي، ينهار، من وجهة نظر إلول، العمود الثاني الذي تقوم عليه البنية الديموقراطية برمتها.

تُرى ألا يوجد بريق أمل يمكن أن تقدمه لنا الأحزاب وبخاصة الأحزاب المعارضة، بحيث تضعنا مرة أخرى على الطريق الصواب الذي انحرفت عنه الديموقراطيات التمثيلية؟ ألن يكون لليسار دور حقيقي في إنارة الوعي بما تمارسه الأنظمة الديموقراطية الحالية من استبداد خفي وتزييف وتضليل للبشر؟

في الحقيقة، تنامى في الآونة الأخيرة بسبب تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية التي يعيشها الإنسان المعاصر السؤال عن دور اليسار والأحزاب المعارضة وقدرتهما على إحداث تغيرات حيوية في المجتمع، وهناك شبه إجماع على غياب هذا الدور حاليا، لكن يبقى الخلاف قائما حول سبب هذا الغياب.

يرجع هربرت ماركيوز في كتابه اليسار الجديد سبب هذا الغياب إلى عدة أسباب، منها الأسباب الاقتصادية، فقلة الإمكانيات المادية لا تمكن اليسار من عرض أفكاره على المواطنين بالقدر الكافي، حيث “يتشكل الرأي العام بواسطة إعلام الاتصال الجماهيري، وطالما أنك لا تستطيع شراء الوقت الكافي والمناسب في الإعلام بقدر متساو مع المؤيدين للنظام، فكيف ستغير الرأي العام؟ لقد أصبح الرأي العام يتشكل بهذه الطريقة الاحتكارية”([59]). ويضيف ماركيوز سببا آخر يعزو فيه هذا الغياب لدور اليسار إلى استبداد النظام الرأسمالي وتربصه به، يقول ماركيوز: “لن تستطيع في أيامنا الراهنة أن تشكل حزبا قويا، ليس لأنه لم يعد هناك جماهير ثورية، بل لأن أدوات القمع قد أصبحت أقوى وأعنف بدرجة غير مسبوقة”([60]).

نستنتج من نصوص ماركيوز السابقة أن تراجع دور اليسار يعود إلى أسباب خارجية مفروضة عليه من قبل النظام الرأسمالي الذي يعمل بكل السبل لإعاقته عن أن يكون فعالا ومؤثرا. إن اليسار يريد أن يعمل لكنه مقيد بالأغلال. ورغم ذلك، تحاول القوى اليسارية والمعارضة أن تستجمع كل قواها لمواجهة هذا الاستبداد الرأسمالي.

لكننا عندما نتطرق إلى رأي إلول في اليسار، سنجد لديه نظرة مغايرة تماما لنظرة ماركيوز. فإذا كانت معوقات عمل اليسار عند ماركيوز مفروضة عليه من الخارج، فإنها لدى إلول معوقات داخلية نابعة من إفلاس اليسار إيديولوجيا وفكريا. فلم يعد لدى اليسار قضايا جوهرية يدافع عنها، فهو لا يتصدى إلى معالجة المشكلات التقنية وآثارها السياسية والاجتماعية على الإنسان والمجتمع، أنه مازال حبيس أفكار ومقولات تقليدية لم تعد تتماشى مع المستجدات التي يمر بها عالمنا المعاصر. من تجليات هذا التراجع الفكري لليسار الغربي المعاصر، نجد أنه “تتسم تحليلات اليسار بأنها عتيقة وبلا معنى، وخاصة في رؤيته للبنية التقنية والاجتماعية لمجتمعنا. إن ضعفه لا يرجع إلى عدم قدرته على رؤية ما يحدث بقدر ما يرجع إلى أن قراءاته للواقع تتم بمنهجيات تأويلية غير ملائمة”([61]).

ليس الانغلاق والجمود الفكري وحدهما هما ما يأخذهما إلول على اليسار المعاصر، بل يرى أن الشغل الشاغل لليسار قد أصبح محاولة الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وهذا ما يدفعه إلى التحالف مع القوى المحافظة والرجعية في المجتمع من أجل تحقيق مصلحته. ولذلك نجده بدلا من أن يسلط الضوء على أخطاء وسلبيات الحكومات، أصبح يقدم المبررات للدفاع عنها من أجل المشاركة في السلطة. هذا التوصيف لحال اليسار الذي تخلى عن مبادئه هو ما يصادق عليه إلول “لقد أصبح هدف اليسار هو الاستيلاء والمحافظة على السلطة، لقد تمحورت وظيفته في منع نشوب الثورة والتغيير، فالقوى الثورية قد تم استيعابها(…) واليسار اليوم موجود في مكاتب رئيس الجمهورية، وفي المناصب الهامة في الدولة”([62]). وبالتالي، أصبح اليسار المعاصر يساهم في تكريس الأوضاع الراهنة وإضفاء المشروعية عليها، وهو بذلك يبعد المواطنين عن رؤية واقعهم المأزوم، وبالتالي ” يخون اليسار اليوم الاكتشاف الغربي لقيمتي: الفردية والحرية”([63]).

نحن إذن أمام تصورين على طرفي نقيض بخصوص الموقف من اليسار المعاصر. فبينما يرى ماركيوز أن هناك مؤامرات تحاك ضد اليسار لتشل حركته وقدرته على التغيير، يرى إلول أن اليسار خان مبادئه من أجل الوصول إلى السلطة. وفي الوقت الذي يدعو فيه ماركيوز اليسار لاستجماع قوته لمواصلة دوره التحرري والتنويري، يرى إلول أن اليسار لن يستطيع تأدية هذا الدور لأنه تم استيعابه وأصبح أداة من أدوات النظام لتكريس الأوضاع الراهنة. لكن يتفق الاثنان في النهاية على أن اليسار غير فاعل بجدية في المجتمع المعاصر.

ومن جهتنا نعتقد أن تصورات إلول عن اليسار هي الأقرب إلى الصواب، لقد استطاع النظام الرأسمالي المعاصر أن يغلق الباب تماما في وجه مطالب اليسار الخاصة بالعدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، والتي ما زال اليسار يتمسك بها حتى الآن.

لقد استطاعت الرأسمالية أن تجدد نفسها عندما وضعت في اعتبارها الأبعاد الاجتماعية التي أهملتها من قبل. كذلك، تخلت الرأسمالية عن طرق الهيمنة والسيطرة والاستغلال التقليدية، وسعت إلى تعظيم مقولة الحرية الإنسانية إلى أقصى حد وروجت لها عبر منظومة هائلة من الدعاية والإعلان التي رسخت في عقول البشر أنهم أحرار بالفعل. وإذا أضفنا إلى ذلك، إحساس المواطنين أنفسهم بأنهم يعيشون في دولة الرفاهية التي توفر لهم كل ما يحتاجونه، سيكون السؤال: ما الداعي إلى الثورة على هذا النظام أو حتى المطالبة بتغييره؟ هل لدى اليسار جديد ليقدمه؟ وهل يستطيع إحداث ثورة روحية وأخلاقية ترتكز على المطالبة بالحد من الاستهلاك والتخلي عن مستوى المعيشة المرتفع؟ وهل ستتلقى هذه الدعوات قبولا جماهيرا؟ أمام هذه التساؤلات التي تثير كثيرا من الشكوك في قدرة اليسار على الفعل أجد نفسي مضطرا إلى الاتفاق مع قول إلول نفسه: “لن يكون للدعاية التي تؤكد على أولوية الفضيلة على السعادة، والتقشف على الراحة أي جمهور على الإطلاق”([64]). إن ما يلوح في الأفق هو أنه لا أمل في التغيير الآجل أو العاجل، فلن يحدث بواسطة اليسار ولا بواسطة اليمين، سيظل التغيير أمنية يعز نيلها.

على أية حال، إن إخفاق اليسار المعاصر يطيح أيضا بفكرة تداول السلطة التي تعد ركنا أصيلا من أركان النظام الديموقراطي، فطالما تم استقطاب ودمج القنوات الشرعية لليسار مثل: الأحزاب والصحف المستقلة داخل بنية النسق الرأسمالي لتكون بمثابة أدوات ووسائل له، فالسؤال الآن: ما هي الخيارات المتروكة أمام المواطنين للمشاركة في العملية السياسية؟ في الحقيقة لا يوجد أمامهم سوى الارتماء في أحضان الدولة. فهي، بالنسبة لهم، الضامن لتحقيق سعادتهم ورفاهيتهم وحرياتهم، وانطلاقا من إيمانهم بهذا “يتجه البشر على نحو متزايد تجاه الدولة للبحث عن حلول لمشكلاتهم”([65]).

ومن جهتها تعمل الدولة على تعزيز ثقة المواطنبن فيها، فتلجأ إلى الدعاية التي تهدف إلى إعادة صياغة وتشكيل وعي الرأي العام بما يتفق مع سياستها، “ففي الديموقراطية يجب أن يرتبط الفرد بسياسات الحكومة، وهذا هو الدور العظيم الذي تؤديه الدعاية”([66]).

لكن يحذر إلول من مغبة هذا التماهي بين الدولة والمجتمع، وزيادة الاعتماد على الدولة في كل شيء، لأن هذا سيؤدي إلى المزيد من استبداد الدولة وتوغل سلطاتها، لدرجة تصبح معها الممارسات الحرة أمرا مستحيلا، فبقدر” ما يلجأ الإنسان إلى الدولة بقدر ما يمنحها القوة(…) فالبشر الواقعون تحت سطوة الدولة يرون أنه من المألوف أن توسع مناطق فعلها وأن تستخدم وسائل أكثر قوة”([67]). إن ما يحذرنا منه إلول هو أن توسع وامتداد سلطات الدولة سيؤدى إلى ابتلاع حريات الأفراد وذوبانها في الكيان الجمعي الذي يرسخ في الأذهان لفكرة أن تحقيق الخير والسعادة والرفاهية لن يتم إلا في الدولة ومن خلالها فقط.

قد تنجح الدولة بالفعل في تحقيق بعض الكمالات المادية للإنسان، لكنها لن تبالي بتحقيق احتياجاته الوجودية والروحية التي تعد مكونا جوهريا من مكوناته الشخصية. إنها لن تهتم باحتياجه للحب، أو للشعور بالرضا عن الذات، أو بإزالة شعوره بالاغتراب. عجز الدولة بين في هذه الجوانب ” إن الدولة والسياسة يمكن أن تحل المشكلات الإدارية، ومشكلات التطور المادي للمدينة، ومشكلات التنظيم الاقتصادي(…) لكنها لا يمكن أن تحل مشكلات الإنسان المتعلقة بمعنى الحياة وشعوره بالخير والشر”([68]).

إننا لو أخذنا بعين الاعتبار ما ينبهنا إليه إلول، وافترضنا معه هيمنة واستبداد الأنظمة السياسية المعاصرة، فإننا ينبغي أن نطرح عليه الأسئلة التالية: ما العمل؟ هل مازال لدى الإنسان المعاصر الإمكانية لتجاوز أخطاء هذه الأنظمة؟ أم أن انحرافها قد وصل إلى درجة تستعصي على الإصلاح؟ ألا يمكن تغييرها بواسطة الثورة؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فما البديل الذي يقدمه إلول لهذه الأنظمة؟ وما السبيل إلى بلوغه؟

في الحقيقة، يدرك إلول تماما صعوبة الثورة على هذه الأنظمة والتخلص منها، والسبب في ذلك يرجع إلى تكيف الإنسان المعاصر معها، لدرجة أن هذه الأنظمة أصبحت تشكل جزءا من تكوينه وشعوره بالأمان، وذلك بفضل التقنيات التي عملت على “إذابة التناقضات، وأعادت للإنسان عالما متحدا تنسجم فيه المطالب مع الوقائع، إنها سمحت له بأن يندمج في العالم المحيط دون أن يدخل في صراع معه”([69]).

ورغم صعوبة المهمة، إلا أن هذا لم يمنع إلول من الاجتهاد للبحث عن حلول يتلافى بها أخطاء وخطايا هذه الأنظمة. إذ نجده يُعلي من شأن الفوضوية anarchism في مقابل الأنظمة المعاصرة سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية، فهو يعتبرها النظام السياسي الأقدر على مواجهة التحديات الراهنة التي يفرضها علينا عصر التقنية، ويبرز إلول جوانب الفوضوية الإيجابية التي سيستعيض بها عن الأنظمة الموجودة قائلا: “إذا كان نظامنا الانتخابي والبرلماني وأحزابنا السياسية تتسم بالدكتاتورية والتعصب بسبب التقنيات التي تعتمد عليها سلطة الحكومات، فإنني أرى الفوضوية هي الوسيلة الأفضل لإنارة الوعي. إننا يجب أن نرقيها أكثر من أي وقت مضى، إنها يجب أن تسود، فالمستقبل أمامها مشرق”([70]). هكذا، يرى إلول في الفوضوية بريق أمل سيعمل على تحرير الإنسان المعاصر من الأوهام والقيود التي كبله بها المجتمع التقني. وهنا يتحول السؤال إلى البحث عن أهم المزايا التي جعلت إلول ينحاز إلى الفوضوية، لكن قبل هذا لابد أن نضع إيدينا على ماهية الفوضوية.

يشير جورج كرودر George Crowder في موسوعة الفلسفة إلى أن النشأة الحديثة للفوضوية كفلسفة سياسية واجتماعية بدأت في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وتتشعب الفوضوية إلى تيارين أساسيين: الفوضوية ذات التوجه الاشتراكي وترفض الملكية الخاصة، والفوضوية ذات التوجه الليبرالي وتدافع عن حق الملكية وتؤيد السوق الحرة. ورغم ما بين التيارين من اختلاف جذري، إلا أنهما يتفقان معا حول مجموعة من المطالب يمكن إجمالها على النحو التالي:([71]).

  • إلغاء الدولة.
  • عدم التزام البشر بطاعة الأوامر والقوانين المفروضة عليهم.
  • قيام مجتمع دون حكومة هو أمر ممكن ومرغوب فيه بل وواقعي.

يتفق إلول مع المطالب السابقة للفوضويين، ويعلنها صريحة وبدون مواربة أنه من أشد الرافضين والمعادين للدولة وسلطاتها. فبنية الدولة لديه موسومة بالاستبداد والعنف، وكيانها السياسي لا يمكن المحافظة عليه إلا من خلال الممارسات العنيفة. فالعنف ضرورة من ضرورات وجود الدولة ” فكل الدول مؤسسة بواسطة العنف(…) ولكي تبقى حكومة في السلطة، فيجب عليها محو أعدائها وتأسيس بُنى جديدة وكل هذا لا يمكن فعله إلا بواسطة العنف”([72]).

رفض العنف هو سمة مشتركة بين كثير من الفوضويين الذين يرون أنه مع إلغاء الدولة والسلطات والفوارق بين البشر، لن يكون هناك أي مبرر لوجود العنف أو حتى لاستخدامه. فاللاعنف هو الاستراتيجية لبلوغ الأهداف، وهذا ما يوضحه باكونين مؤسس الاتجاه الفوضوي في العصر الحديث عندما يقول:”سوف تنتصر العدالة دون عنف”([73]).

لكن ثمة خلاف جوهري بين إلول والفوضويين حول الرفض للسلطات والعنف، ففي الوقت الذي يتأسس فيه هذا الرفض عند الفوضويين على دوافع سياسية واقتصادية محضة مثل: المساواة، بين البشر والدفاع عن حريات الأفراد، نجده يتأسس عند إلول على تصورات دينية، وهو بهذا يحاول أن ينسج لنا ثوبا لفوضوية جديدة، فوضوية مسيحية تتأسس على الكتاب المقدس وحده. مؤكدا على وجود أواصر قربى بين المسيحية والفوضوية. إذ أنه: “كلما درست وفهمت الكتاب المقدس توصلت إلى وجود الاتجاه الفوضوي فيه”([74]).

من الشائع عن الفوضوية عداؤها الشديد لوجود الله بوجه عام، وللأديان بوجه خاص. إذ يرفع الفوضويون شعار: لا إله ولا سيد. وقد عبرت كتابات باكونين عن هذا العداء العلني عندما طالبت صراحة بإلغاء “كل ديانات الدولة، وكل الكنائس، وخاصة التي يتم تدعميها بواسطة الدولة”([75]). والسؤال الآن: كيف نجح إلول في التوفيق بين الفوضوية والمسيحية وهما على طرفي نقيض ؟

كان على إلول أن يقدم تأويلا للكتاب المقدس يتماشى مع تصوراته الفوضوية المناهضة للسلطة والاستبداد، والمؤيدة لحرية الإنسان. وقد استلهم في محاولته هذه من عداء السيد المسيح لسلطة اليهود والرومان، ومناهضته لهما سلميا وليس باستخدام العنف. وقد استشهد إلول ببعض آيات الكتاب المقدس التي ترصد لحظات لقاء السيد المسيح بهذه السلطات وجها لوجه، فقد ورد في إنجيل لوقا(إصحاح 22 آية 52: 53) “ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي، إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا على الأيادي، ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة “. يصف السيد المسيح أصحاب السلطة في هذه الآية بالعنف والظلم والاستبداد، وبالتالي، بالشر. كما قد ورد في إنجيل يوحنا (إصحاح 18 آية 19: 24) ما يلي “فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه، أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائما. وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم، ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفا قائلا أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع إن كنت قد تكلمت رديا فأشهد على الردي، وإن أحسنت فلماذا تضربني. وكان حنان قد أرسله موثقا إلى قيافا رئيس الكهنة “. انطلاقا من هذه الآيات التي تشير إلى صدام السيد المسيح الدائم بالسلطات الدينية والسياسية يستلهم إلول دعائم للفوضوية المسيحية قائلا: “لا نجد في الكتاب المقدس سوى السخرية والاحتقار وعدم التعاون واللامبالاة، وأحيانا الاتهام لهذه السلطات”([76]).

ولا يقف إلول عند الكشف عن عداء المسيحية للسلطة، بل يشتق من آيات الكتاب المقدس أيضا ما يؤكد رفضه للتمايز واللامساواة. فالكتاب المقدس لم يدع إلى تأسيس أي تراتبية أوهيراركية بين المسيح والبشر ” فلم يقدم السيد المسيح نفسه كسيد يفرض إرادته علينا، ولم يعتبرنا يوما أدنى منه”([77]). صحيح أن السيد المسيح أعلن منذ البداية عن رسالته مؤكدا أنها رسالة روحية خالصة، أو طريقا لخلاص النفوس لا علاقة له بالعالم وما فيه. إذ يصرح في أكثر من موضع بهذا قائلا: “مملكتي ليست من هذا العالم” وكذلك دعوته لأتباعه “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم “. رفض العالم يقترن، لدى إلول، برفض سلطاته وشهواته بكل أنواعها؛ سواء كانت سلطة المال أو السلطة السياسية أو السلطة الدينية…

يطالبنا إلول باتباع الوحي الإلهي المقدس إذا أردنا التحرر من آفات المجتمع التقني. فالمسيحية، كما وردت في الكتاب المقدس وليست كما تقدمها الكنيسة ولا رجال الدين، هي الطريق للخلاص وللسمو الروحي والأخلاقي الذي ينأى بالإنسان عن كل آثام وشرور مجتمعنا المعاصر، وكل ما عداها من الديانات الحديثة يقف عقبة في سبيل هذا التحرر. لهذا لم يتردد إلول في المطالبة بتحطيم هذه العقبات قائلا: “إننا يجب أن نحطم كل الأوثان الحديثة مثل: المال، والدولة، والعلم… وأيضا الديانات الحديثة مثل: الشيوعية، والمادية، يجب تحطيم كل شيء يهدف إلى أن يحل محل الوحي الإلهي”([78]).

لم تقتصر دعوة إلول الفوضوية المناهضة للسلطات على رفض السلطة السياسية فحسب، بل إنه وجه نقدا عنيفا للسلطات الدينية ممثلة في الكنسية وسلطة رجال الدين، محملا إياهما قدرا كبيرا من المسئولية عن التدهور الذي وصل إليه العالم الغربي. فلولا انحرافهما عن مهامهما التي رسمها لهما الكتاب المقدس، لما ظهرت هذه الأوثان الجديدة. ويبرز إلول هذه الانحرافات التي لا يتوانى عن وصفها بالخيانة العظمى للإنسان، إذ يقول: “كان على الكنيسة أن تعول الفقراء(…) لكنها خدمت كدعامة للأقوياء، بل كانت دائما في جانب المُستغلين. الكنيسة سلطة من ضمن السلطات، لقد قدمت المبررات اللاهوتية لبقاء الأنظمة السياسية، لكنها عندما فعلت ذلك فإنها لم تشارك فقط في صنع الشر، بل خانت تعاليم وشخص المسيح”([79]).

رغم تعدد الآيات التي يستند إليها إلول في رفضه للسلطات، فهناك العديد من الآيات التي تؤيد وجود السلطة، وتبرر أفعالها، سواء كانت هذه السلطة دينية أو سياسية. فلقد أعطى السيد المسيح، على سبيل المثال، سلطة دينية لأتباعه عندما قال لهم: “الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء “(إنجيل متى 18: 18) وفقا لهذه الآية، يجعل السيد المسيح من تلاميذه بوابة عبور إلى السماء، عندما أعطاهم السلطة ليكونوا المصدر لتحديد الخير والشر، والصواب والخطأ، فما يقرونه يكون مقبولا أمام الله، وما يرفضونه يكون مرفوضا أمام الله. مثل هذه الآيات هي ما استند إليها رجال الدين في تبريرهم لفكرة أنهم وحدهم من يمتلكون مفاتيح السماء التي لن يصل إليها أحد إلا بموافقتهم، وهو الأمر الذي استغلوه في تكوين ثروات طائلة من أموال الفقراء.

لا نجد التبرير للسلطة الدينية فحسب، بل نجد أيضا إضفاء شرعية إلهية على السلطة السياسية، فقد ورد في رسالة القديس بولس إلى أهل رومية(13: 1ـــــ 4) ما يلي “لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة. لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مُرتبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة(…) لأنه خادم الله للصلاح “. تقدم هذه الآيات الحاكم على أنه الحارس الخَير لمملكة الله على الأرض، وفي الوقت نفسه تغض الطرف عن استبداد وفساد وعنف الحكام. وهذا ما برر فكرة الحق الإلهي المقدس للملوك طوال فترة العصور الوسطى. فالملك هو صورة الله على الأرض. وبالتالي، لا يجوز مساءلته أو محاكمته أو عزله، لأن هذا سيكون ضد الإرادة الإلهية.

عندما نتعرض إلى تأويل إلول لهذه الآيات التي تضفي على السلطة السياسية شرعية مقدسة، سنجده يقدم تفسيرا يتعارض مع ما طالبنا به من قبل، إذ يقول: “إننا يجب أن نحترم السلطات، لا أن نحبهم، ويجب أن نقبل نظامهم لأنهم وصلوا إلى السلطة بفضل المشيئة الإلهية”([80]). كذلك يتعارض هذا التأويل لإلول مع روح الكتاب المقدس الذي يشدد دائما على فكرة المحبة. إذ يطالبنا السيد المسيح في أكثر من موضع بمحبة العدو قائلا: “أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم “(لوقا 8: 26) فأي فضل للمسيحية إذا طالبت بمحبة القريب والصديق فقط، ولم تطالب بمحبة الحكومات والسلطات المستبدة؟! إضافة إلى ذلك، إن الفكرة التي ينادي بها إلول والمتمثلة في احترام السلطات وقبول نظامها دون أي مقاومة تعد بمثابة التدعيم لأنظمة سياسية قد تكون مستبدة. وكذلك ألا تتناقض فكرة احترام السلطات وقبول نظامها مع مباديء الفوضوية أصلا؟ وما دور الفوضوية المسيحية في مقاومة السلطات بوجه عام والسلطات المستبدة بوجه خاص؟

في الحقيقة يرفض إلول أي مقاومة عنيفة للسلطات، لأنه يرى أن العنف يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس من جهة، ولن يؤدي إلا إلى المزيد من العنف من جهة أخرى، يقول إلول: “دعني أؤكد أن اللجوء إلى العنف دليل حاسم على عدم القدرة على حل المشكلات الأساسية لعصرنا(…) فالمسيحي الذي يقبل العنف تخلى عن المسيحية الحقيقية كطريق للحياة”([81]). وبالتالي، فمن المستبعد أن تكون الثورات أو المقاومة العنيفة، لدى إلول، طريقا للحل. ويكون السؤال: ماذا عن المقاومة السلمية المتمثلة في العصيان المدني أو الإضراب عن العمل من أجل الضغط على هذه السلطات لتغيير سياستها؟

في الحقيقة لا نجد لدى إلول أطروحات المقاومة السلمية بالمعنى الذي أشرت إليه، لكننا نجد لديه فكرة شبيهة بهذه الفكرة، فهو يطالب بمضاعفة التوترات والصراعات. فهذان العنصران لديه هما الدافع لإيجاد حراك سياسي شعبي يكون المواطنون هم دعامته الأساسية. بحيث يتخذ هؤلاء المواطنين مواقف مناهضة لسياسات الدولة التي تمنحهم حرية منقوصة ومزيفة، ويبرز إلول أهمية هذه التوترات والصراعات على المستوىين: الإنساني والاجتماعي قائلا: “فقط التوتر والصراع ينمي الشخصية(…) فمن خلال مواجهة وتحدي العقبات والقيود والأوامر المفروضة من أعلى يشعر الإنسان بقوته وحريته”([82]). يتشكل الكيان الشخصي والشعور بالكينونة، وفقا لهذا النص، بمقاومة السلطات والسعي للتغلب عليها.

بالتأكيد، لا تعد الحرية منحة أو هبة يهبها الحاكم للمحكومين، وليست حقا طبيعيا يُمنح للإنسان لكونه إنسانا كما يرى فلاسفة العقد الاجتماعي، بل هي حق مكتسب يُنتزع انتزاعا إما عن طريق الثورات أو عن طريق الإجراءات السلمية التي تطالب بإجراء إصلاحات دستورية وسياسية واجتماعية لزيادة حرية الإنسان. أما بالنسبة لإلول فلن يتسنى نيل الحرية إلا عن طريق تأسيس مجموعات اجتماعية مستقلة عن الدولة ماديا وأخلاقيا وفكريا. بحيث تكون هذه المجموعات بمثابة حائط صد منيع ضد سلطات الدولة وأفعالها. فالهدف من زيادة التوترات والصراعات هو خلق كيانات سياسية واجتماعية واقتصادية تعمل باستقلالية عن الدولة، ويكون غرضها هو المعارضة والرقابة. إنها أقرب ما تكون إلى منظمات المجتمع المدني باعتبارها قائمة على الإرادة الحرة للمواطنين.

إن ما يريده إلول هو خلق معارضة بديلة عن تلك التي تحالفت مع الأنظمة من أجل المشاركة في السلطة، وهذا ما عبر عنه قائلا: “إن ما نحتاجه هو وجود مجموعات قادرة على المعارضة وممارسة الضغوط على الدولة(…) وهذه المجموعات ستقدم نفسها ليس على أنها إنكار للدولة، لكن على أن لها قيمة مثلها مثل الدولة”([83]). يشير إلول في هذا النص إلى الإبقاء على الدولة وسلطاتها، وهو ما يتعارض مع تصوراته عن الفوضوية التي أشرنا إليها. لكن ربما يقدم إلول هذا الطرح لأنه يدرك جيدا مدى صعوبة التخلص من الدولة وسلطاتها، فأراد أن يعزو إلى تلك الجماعات القوى والصلاحيات التي تتمتع بها الدولة، حتى تكون قادرة على مناهضة استبداد الدولة بمواطنيها.

لكننا نبقى حتى الآن في حالة من الحيرة أمام مطلب إلول بمضاعفة التوترات والصراعات، وخاصة أنه لم يوضح ما المقصود بهما، كما أنه لم يبين آليات ممارستهما، ولا القنوات الشرعية التي سيضغط من خلالها المواطنون على الدولة لنيل حريتهم والحد من الممارسات المستبدة. على أية حال، لن تكون هذه التواترت والصراعات مدعومة بالعنف، فإلول من أشد الرافضين لمبدأ العنف كما ذكرنا.

أشرنا فيما سبق إلى أن إلول ضد الثورات كوسيلة للتغيير، فهي لن تؤدي إلا إلى المزيد من العنف، إذ أن الثورات التي حدثت في القرن العشرين، ومن قبلها الثورة الفرنسية قد استبدلت بنظام مستبد نظام أكثر استبدادا “فالانتقال من الملكية إلى الجمهورية في فرنسا لم يؤد إلا إلى المزيد من المركزية والنزعة السلطوية وصرامة النظام السياسي”([84]).

لكن في الوقت الذي يرفض فيه إلول نشوب الثورات السياسية كلية، نجده يدعو إلى نشوب ثورات من نوع آخر وهي الثورات الروحية “فالثورة التي يجب أن ينشدها المسيحي، والتي يجب أن تحدث في قلبه وفي حياته اليومية وفي مجتمعه هي ثورة روحية على وجه الخصوص”([85]). ربما أدرك إلول استحالة التحقق الواقعي لفكرة تشكيل معارضة حقيقية من المجموعات التي طالب بامتلاكها قوة وصلاحيات الدولة، فلجأ إلى فكرة أن الإصلاح الحقيقي والمعارضة الحقيقية تتطلب إصلاح النفوس البشرية، وهو ما سيتم عبر إعلاء القيم الروحية في الإنسان. وسوف يحدث هذا عن طريق الإقتداء بالكتاب المقدس. فالمحبة والتعاطف مع الآخرين سيكونان، بحسب تصور إلول لهما، الأساس الذي يرتكز عليه العزوف عن المشاركة في الأعمال الشريرة. وهذا ما يطالبنا به إلول عندما يقول: “عندما يكون الإنسان مُستغَلا بواسطة آخرين، فإن المسيحي يجب أن ينهمك في المملكة الروحية، فهي التي تمنعه من الانضمام إلى الأحزاب المُستغِلة والعنيفة”([86]). هكذا يرى إلول في المسيحية الدواء للداء الذي تعاني منه المجتمعات المعاصرة، فقيم المسيحية وحدها هي ما تخلصنا من شرور الرأسمالية والاشتراكية، وترد للإنسان إنسانيته وحريته المسلوبة. لكن كيف سيتحقق هذا؟ هل سيتطور الوعي المسيحي من تلقاء نفسه؟ أم ستقوم الكنيسة بنشر وعي سياسي واجتماعي يرتكز على أسس روحية؟ أم سيتم تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية؟

ذكرنا آنفا نقد إلول للكنيسة ورجال الدين، لأن الكنيسة ناصرت الأقوياء والأغنياء على حساب الضعفاء والفقراء. وبالتالي، فالكنيسة غير مؤهلة للقيام بمهمة إيقاظ الوعي البشري بشرور المجتمعات المعاصرة. فهي، من وجهة نظره، شريك أساسي في تكريس الأوضاع الراهنة. وفيما يتعلق بفرضية تأسيس أحزاب سياسية على ذات مرجعيات دينية تنطلق من عملية التنوير الروحي، فهذه الفرضية مرفوضة أيضا لدى إلول الذي يؤكد على أن تسييس الدين هو التشويه الحقيقي لتعاليم الكتاب المقدس. وتبقى فرضية تطور الوعي الفردي من تلقاء نفسه موضع شك بالنسبة لإلول ولنا، وخاصة أن الإنسان المعاصر قد أصبح مشمولا بالراحة والرفاهية في ظل المجتمعات المعاصرة. وبالتالي، فليس لديه ما يجعله يلتفت بدقة إلى التحذيرات الفلاسفة والمفكرين من شرور الأنظمة والمجتمعات، فهي بالنسبة للإنسان العادي مجرد تأملات تكذبها حياته الواقعية المكتظة بالراحة والرفاهية. وهكذا يتركنا إلول دون أن يوضح لنا كيفية نشوب الثورات الروحية، ولا الجهات التي ستشعل شرارة هذه الثورة، مكتفيا بالتأكيد على أن انتشار قيم المحبة والتعاطف بين البشر كفيل بحل كل المشكلات.

ما زال التأرجح بين السياسي والديني هو سبيل إلول لمحاولة التغلب على المشكلات المعاصرة المفروضة علينا، فبجانب الثورة الروحية يقدم إلول مقاربة سياسية أخرى تقوم في جوهرها على إحياء فكرة الديموقراطية المباشرة كبديل للديموقراطية التمثيلية وما ارتبط بها من كوارث أشرنا إليها آنفا.

ينطلق إلول في فرضيته هذه من فكرة أننا إذا أردنا التحكم في التقنية وشرورها فإننا يجب أن نتبنى نظاما سياسيا جديدا يرتكز على النموذج القديم للديموقراطية المباشرة على نحو ما كانت عليه عند الأثينيين. أي أن نعود بالفعل لأن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وأن يسن قوانينه بنفسه، وأن يتخذ قراراته بنفسه في كل المشكلات المطروحة عليه. هذه الضرورة المُلحة للحكم الذاتي هي ما طالب بها إلول قائلا:”يجب أن ينظم الشعب نفسه بواسطة قوانين يسنها بنفسه، ليضع الخبراء ورجال التقنية تحت رقابته”([87]). فعلى الديموقراطية المباشرة أن تبدد الحتمية التقنية، فبدلا من أن تمارس التقنية سيطرتها وتحكمها يتمنى إلول أن يخضعها للرقابة الشعبية، بحيث يبقى القرار الأخير لا لرجال التقنية لكن للمواطنين العاديين.

ولا يكتفي إلول بالرقابة الشعبية على أعمال رجال التقنية، بل يمضي لأبعد من ذلك حينما يعزو إلى المواطنين سلطة تقرير مصير وجود التقنيات التي يريدونها من عدمه، إنهم يستطيعون المفاضلة بين تقنية وأخرى في ضوء “المخاطر والتكلفة وإيقاف التقنيات الخطيرة قبل أن تخرج إلى حيز الوجود”([88]). هكذا يريد إلول أن تكون السلطة الحقيقية في يد المواطنين وليست في يد رجال التقنية.

السؤال إذن سيكون عن الإجراءات التي تمكننا من بلوغ النظام السياسي الجديد الذي ينشده إلول. يضع إلول عدة خطوات لبلوغ الديموقراطية المباشرة، يمكن إجمالها على النحو التالي:([89])

  • إلغاء الساسة المتخصصين، والحد من دور الأشخاص الذين جعلوا السياسة وظيفة لهم. أي ألا تكون الممارسة السياسية حكرا على فئة بعينها، بل إن جموع المواطنين مدعوون للتأمل والتفكير السياسي في كل ما يتعلق بمشكلات مجتمعهم، فهم من يقرون الحلول وآليات تطبيقها، وتؤخذ القرارات بأغلبية أصوات المواطنين.
  • الاستقلال المحلي والعودة مرة أخرى إلى المجتمعات الصغيرة مثل: القرى والتجمعات محدودة العدد من المثقفين. يؤكد إلول هنا على استحالة اجتماع كل المواطنين لاتخاذ قرار ما، لكن هناك إمكانية لتقسيم هؤلاء إلى مجموعات صغيرة وفقا لمناطق سكنهم أو عملهم، بحيث لا تزيد كل مجموعة عن خمسمائة عضو، فيكون من السهل التشاور فيما بينهم بخصوص مشكلاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
  • يجب أن تمتلك مؤسسات النظام الجديد الحد الأقصى من المرونة، والحد الأدنى من التنظيم. ما يطالب به إلول هنا هو التخلي عن النزعة المركزية الصارمة المقترنة بالتنظيمات الدقيقة، وضرورة أن يُفتح المجال أمام المبادرات الفردية الحرة للمشاركة في الشأن العام. فالمبادرات الحرة هي النقيض التام للبيروقراطية التي يمقتها إلول ويدعونا إلى التخلص منها.
  • يجب أن يتغير الموقف كلية من دول وشعوب العالم الثالث، فالحروب الموجودة في العالم الثالث يتم تصعيدها بسبب صفقات الأسلحة، والتطور التقني والاقتصادي للغرب.

فلا يمكن أن تتأسس ديموقراطية حقيقية عندما تكون قطاعات كاملة من الاقتصاد موجهه نحو استغلال دول وشعوب فقيرة. لذا، يجب علينا مساعدة دول العالم الثالث والتخلي عن استغلالهم، وأن نساعدهم في تحقيق مصلحتهم، وليس لتحقيق مصلحتنا. ما يريده إلول هنا هو الحد من التطور التقني في مجال الأسلحة، وألا تكون الشعوب والدول الفقيرة حقولا لتجريب هذه الأسلحة. كذلك، عدم استغلال الموارد الطبيعية لهذه الدول، بل مساعدتها في استغلال مواردها بما يحقق مصلحة ورفاهية شعوبها بغض النظر عن مدى استفادة الغرب من ذلك، وهو ما يتطلب التغير التام للتقنيات وللنظام الاقتصادي الموجود. إذن، ما ينشده إلول هو تحقيق العدالة الاجتماعية على المستوى العالمي.

  • يجب أن يتم تزويد المواطنين بالمعلومات حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات واضحة وسليمة بخصوص المنافع والمخاطر التي قد تنتج عن قراراتهم.
  • يجب أن يتحمل كافة المواطنين مسئوليتهم إذا أرادوا أن يعيشوا الحرية الحقيقية، فلا حرية بدون مسئولية. كذلك يجب أن يتحمل التقنيون مسئوليتهم عن المشروعات التي يعملون فيها، فيجب التأكد من أن هذه المشروعات ليست مكلفة وليست ضارة بالإنسان أو بالبيئة، ويجب معاقبتهم في حالة حدوث أي خسائر.

قدم إلول هذه الشروط باعتبارها ركائز أساسية يقوم عليها النظام الديموقراطي الجديد الذي سيجنبنا مخاطر عصر التقنية، ويؤكد إلول على أن تصوراته هذه ليس مجرد تأملات خيالية، بل هي أفكار قابلة للتحقق على أرض الواقع وليس هناك ما يمنع انتشارها على نطاق أوسع إذا تبنتها عدة مجموعات.

لكننا إذا حاولنا امتحان تصورات إلول ووضعها على محك الاختبار الفعلي لنرى قدرتها على الصمود أمام الأنظمة والجماهير سنجد أنه لا يوجد دافع يجعل المواطنين يتخلون عن الرفاهية والراحة والاستهلاك غير المحدود وتخفيض مستوى المعيشة. بل على العكس، نرى أنهم يطالبون بالمزيد. وإذا كان إلول يرى أن الإفراط في الاستهلاك والخلود إلى الراحة والرفاهية يحدث بسبب التلاعب بالجماهير عن طريق الدعاية والإعلان، وأنه متى تم القضاء على هذه الدعاية المضللة سوف يعود للإنسان وعيه المستلب، وهذا ما يؤكده سؤاله الاستنكاري “هل ستبقى الجماهير مُضَلَلة إذا تم محو هذه الإعلانات؟!”([90]). فإننا من جهتنا نعتقد، أن أطروحة إلول هذه تقف في وجهها العديد من الشواهد التاريخية. لقد سعت حكومات كثير من الدول مثل: إنجلترا، وإيطاليا، وأسبانيا، واليونان في الآونة التاريخية إلى ترشيد النفقات، ووضع خطط للتقشف للحد من الإفراط في الاستهلاك، ولتقليل استنزاف الموارد الطبيعية. لكن خرج المواطنون في مظاهرات حاشدة ضد سياسات الحكومات التقشفية معترضين على تقليص الدخل وعلى تدني مستوى المعيشة. وهو ما يعني، بالنسبة لنا، أن الإنسان الغربي المعاصر قد أصبح غير مستعد للتخلي عن نمط حياته القائم على الرفاهية وراحة الحد الأقصى.

لا تقلل ملاحظتنا هذه من تأملات إلول السياسية التي تتسم بالأهمية والجدية وخاصة في كشفها عن الأوهام السياسية المعاصرة، وكذلك في بحثها عن حلول للنجاة من المشكلات التي فرضها علينا المجتمع التقني، ورغم صعوبة إعادة بعث الديموقراطية المباشرة في عصرنا الراهن، إلا أنها تبقى أملا يراود كثيرين، وخاصة أولئك الذين يؤمنون بإمكانية تقسيم المجتمع إلى مجموعات صغيرة محدودة العدد، بحيث يكون لكل المواطنين دور فعال في حل المشكلات التي يعانون منها.

 

المراجع:

[1]– R. H. Tawney, op.cit., p: 12

[2]-Jacques Ellul, The New Demons, Translated by: C. Edward Hopkin, New York, The Seabury Press, 1973, p:9,10

[3]– Diana Wood, Medieval Economic Thought, Cambridge, Cambridge University Press, 2002, p: 17

[4]-جون لوك، مقالتان في الحكم المدني، ترجمة/ ماجد فخري، بيروت، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، 1959، صـ 153

[5]– Adam Smith,  An Inquiry Into The Nature And Causes Of The Wealth Of Nations, An Electronic Classics Series Publication, 2005, p: 19

[6]– ibid., p: 276

[7]– Dinesh D’Souza, The Virtue Of Prosperity: Finding Value in an  Age of Techno – Affluence, New York, The Free Press, 2000, p: 116

[8]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 220

[9]– كارل ماركس، فريدريك انجلس، بيان الحزب الشيوعي، مرجع سبق ذكره، صـ 66

[10]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 152

[11]– Jacques Ellul, The Technological System, op.cit., p: 142

[12]– ibid., p: 141

[13]– Donald MacKenzie, “Marx and The Machine”in Technology and Culture, Vol.25, No.3, 1984, pp: 473- 502

[14]– أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008، صـ 250

[15]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 152

[16]– جاك إلول، خدعة التكنولوجيا، مرجع سبق ذكره، صـ 287

[17]– فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 147، 1990 صـ 60

[18]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 156, 157

[19]– ibid., p: 236

[20]– جون كينيث جالبريث، تاريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر، ترجمة/أحمد فؤاد بلبع، تقديم/ إسماعيل صبري عبد الله، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 261، 2000، صـ 317

[21]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 200, 201

[22]– ibid., p: 158,159

[23]– ibid., p: 163, 164

[24]– ibid., p: 170

[25]– ibid., p: 166

[26]– ibid., p: 173

[27]– ف.أ. هايك، الطريق إلى العبودية، ترجمة/ محمد مصطفى غنيم، القاهرة، دار الشروق، 1994، صـ 65

[28]– المرجع السابق، صـ 70

[29]– فؤاد مرسي، مرجع سبق ذكره، صـ 195، 196

[30]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 183

[31]– فؤاد مرسي، مرجع سبق ذكره، صـ 197

[32]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 209

[33]– ibid., p: 209

[34]– ibid., p: 210

[35]– ibid., p:212

[36]– نقلا عن أشرف منصور، الليبرالية الجديدة، مرجع سبق ذكره، صـ 253

[37]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 211

[38]– هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، صـ 44

[39]– إريك فروم، فن الحب، ترجمة/  مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة، مكتبة الأنجلو، 1980، ص37

[40]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 207, 208

[41]– عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د.ت، صـ 91، 92

[42]– Jacques Ellul, The Technological Society, op.cit., p: 221

[43]– ibid., p: 221

[44]– Jacques Ellul, Money and Power, Translated by: Lavonne Neff, Downers Grove, Intervarsity Press, 1984, p: 20

[45]– ibid., p: 192

[46]– Jacques Ellul, What I Believe, Translated by: Geoffrey W. Bromiley, Grand Rabids, Erdmans Publishing Company, 1989, p: 135

[47]– Jacques Ellul, The Political Illusion, Translated by: Konrad Kellen, New York, Alfred A. Knoph, 1967, p:38

[48]– Carl Mitcham (ed), Philosophy of Technology in Spanish Speaking Countries, Kluwer Academic Publishers, 1993, p: 11

[49]– جاك إلول، خدعة التكنولوجيا، مرجع سبق ذكره، صـ 224

[50]– Nicholas Bunnin, Jiyuan Yu, The Blackwell Dictionary of Western Philosophy, Oxford, Blackwell Publishing, 2004, p: 657

[51]– Jacques Ellul, The Technological society, op.cit., p: 277

[52]– ibid., p: 280

[53]– ibid., p: 280

[54]– Jacques Ellul, Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes, Translated by: Konrad Kellen, Jean Lerner, New York, Vintage Books, 1973, p: x

[55]– كارل بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، ترجمة/ بهاء درويش، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1998، صـ 231

[56]– Jacques Ellul, Technology and Democracy, in Langdon Winner (ed), Democracy in a Technological society, London, Springer, 1992, p: 39

[57]– ibid., p: 40

[58]– Jacques Ellul, The Political Illusion, op.cit., p: 138

[59]– Herbert Marcuse, The New Left and The 1960 S, London, Routledge, 2005, p: 124

[60]– ibid., p: 124

[61]– Jacques Ellul, The Betrayal of The West, Translated by: Matthew J.O, Connel, New York, The Seabury Press, 1978, p: 141

[62] – ibid, p: 141, 142

[63] – ibid., p: 142

[64]– Jacques Ellul, Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes, op.cit., p:40

[65]– Jacques Ellul, The Political Illusion, op.cit., p: viii

[66]– Jacques Ellul, Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes, op.cit., p: 127

[67]– Jacques Ellul, The Political Illusion, op.cit., p: 197

[68]– ibid., p: 186

[69]– Jacques Ellul, Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes, op.cit., p: 159

[70]– Jacques Ellul, Anarchy and Christianity, Translated by: Geoffrey W. Bromiley, Library of Congress, 1991, p: 22

[71]-, p: 330

[72]– Jacques Ellul, Violence: Reflections From a Christian Perspective, Translated by: David Gill, New York, The Seabury Press, 1969, p: 84,85

[73]– Guy A. Aldred, Bakunin Writings, Bombay, Modern Publishers, p: 25

[74]– Jacques Ellul, Anarchy and Christianity, op.cit., p: 3

[75]– Sam Dolgoff (ed), Bakunin on Anarchy: Selected Works by The Activist Founder of World Anarchism, New York, Ventage Books, 1971, p: 77

[76]– Jacques Ellul, Anarchy and Christianity, op.cit., p: 71

[77]– ibid., p: 97

[78]– Jacques Ellul, Jesus and Marx: From Gospel To Ideology, Translated By: Joyce Main Hankes, Michigan, William B. Eerdmans Publishing Company, 1988, p: 2

[79]– ibid., p: 6

[80]– Jacques Ellul, Anarchy and Christianity, op.cit., p: 81

[81]– Jacques Ellul, Violence: Reflections From a Christian Perspective, op.cit., p: 68, 70

[82]– Jacques Ellul, The Political Illusion, op.cit., p: 210, 212

[83]– ibid., p: 222

[84]– ibid., p: xiv

[85]– Jacques Ellul, Violence: Reflections From a Christian Perspective, op.cit., p: 47

[86]– ibid., p: 134

[87]– Jacques Ellul, Technology and Democracy, op.cit., p: 40

[88]– ibid., p: 40

[89]– ibid., p: 41: 44

[90]– ibid., p: 45

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete