تكوين

هل يحقّ لنا أن ننتقد الضّحايا والمظلومين الذين نتعاطف معهم، أم أنّ التعاطف توقيع على بياض !؟ بالأحرى هذا هو السؤال الآن، هل يتّجه التاريخ إلى نصرة الضحايا وانتصار المظلومين بصرف النظر عما يفعلون وما لا يفعلون، كما لو أنهم معصومون عن الأخطاء، منزهون عن المساءلة، سائرون على درب النّصر والتكمين كيفما كانت خطواتهم وخطاياهم؟

في كل الأحوال، هناك وهم راسخ في اللّاوعي الجمعي، تستثمره الإيديولوجيات الخلاصية بمختلف أطيافها لا سيما في اللحظات الحرجة من التاريخ، ينحدر من مبدأ العناية الإلهية في العالم القديم، حيث القضايا العادلة موعودة بالنصر الإلهي عاجلًا أو آجلًا، وحيث راية الحق تعلو مهما طال أمد الباطل، وحيث المظلومون ينالون حقهم من الإنصاف في آخر المطاف، وحيث الفجر قادم والليل زائل مهما طال الزمن، وحيث الآمال العظيمة بخيباتها الجسيمة تنتهي إلى إضعاف القضايا مهما لمع بريقها !

لا ننكر أنّ تلك الآمال لم تمنع من تحقيق انتصارات خاطفة لا تخلو من بطولات أحيانًا، إلّا  أنها سرعان ما تصير نقاط ضعف، حيث تحرم الإنسان من النفس الطويل، ومن القدرة على التكيّف السريع، كما تضعف قدرته على حفظ طاقته، وتجعله عاجزًا عن التركيز الذهني، وإعمال النقد والنقد الذاتي، وفي النهاية تزرع في العقل أوهاما تحجب الرؤية، تضعف المرونة، وتعيد إنتاج الهزيمة في المستوى النظري قبل أن يتحول الأمر إلى هزائم في الميادين !

لقد نجحت الإيديولوجيات الخلاصية بكل أطيافها العلمانية والدينية، في جعل نقد الضحايا والمظلومين يبدو كأنه خذلان وتواطؤ، أو مجرد جلد مجاني للذات ! وبهذا النحو فإنها حرمت الضحايا والمظلومين من أن يكون لهم أصدقاء جيدين.

ما معنى أن يكون لك صديق جيد؟

ثمة معادلة أساسية يخبرنا بها أب الفلسفة السياسية، أفلاطون، في كتابه الجمهورية، حين يؤكد بأنّ الطاغية ليس له أصدقاء، وبالتالي ليس له من يخبره بالحقيقة، تلك آفته، بل هي أيضا آفة كل الإيديولوجيات الشمولية التي تنطق باسم الضحايا والمظلومين، مثلما حدث للماركسية نفسها إبان القرن العشرين.

بالمناسبة، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بحوالي نصف قرن من الزمن، تنبأ تروتسكي في كتابه “الثورة المغدورة”، وبحدس مبكر، بأن الاتحاد السوفياتي قد ينهار يوما، لكن ليس بسبب أعدائه بل أصدقائه الذين أخفوا عنه الحقائق بدعوى التضامن الرفاقي. والواقع أن الرفاق، والإخوان أيضًا، ممن لا يحسنون إلّا التصفيق ورفع شارات النصر غالبا ما يضرّون بالقضايا أكثر من الأعداء أنفسهم.

بعيدا عن أوهام “التضامن غير المشروط”، فإن النقد لا يمثل أي نوع من العدوان على المنقود، بل فرصة سانحة للتجاوز نحو ممكنات أفضل. أما إذا كان المنقود يحظى بالأغلبية، المشروعية، أو المظلومية، فهذا لا يمنحه العصمة في أن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء، طالما لا شيء معصوم، ولا شيء يتطور خارج النقد، وخارج النقد الذاتي كذلك.

إقرأ أيضاً: الخطاب النقدي:زرْعٌ في تربة مالحة

كان نقد روسو للتمدّن جذريا، لكنه نجح بذلك النحو في تجذير قيم التمدُّن نفسها، مثلما نجح كانط من خلال نقده للعقل في تجذير العقلانية، وكذلك الأمر بالنسبة لنقد نيتشه وماركس وهيدغر للحضارة المعاصرة. هؤلاء الناقدون الكبار للحضارة المعاصرة سرعان ما صار نقدهم للذات جزء من سيرورة بناء الذات. بهذا المعنى كانت الحضارة الحديثة أوّل حضارة تراجع نفسها بنفسها وباستمرار.

ضمن المشروع النهضوي العربي المتعثر، كان ينبغي أن يكون الوعي النقدي بالذات هو المنطلق، وذلك منذ أصدر علال الفاسي كتاب ّالنقد الذاتي”، لكن صعود تيارات “الإسلام هو الحل” إبان النصف الثاني من القرن العشرين، زرع مفاهيم ملغومة ( الحاكمية، الاحتراب، التدافع، الطاغوت، إلخ)، فتلاشت مشاريع النقد الذاتي، وطغت على أجوائنا الثقافية حساسية مفرطة من كل أشكال النقد الموجه نحو الذات. على أثر ذلك انحاز الكثيرون إلى الكتابات التي تحترف ما يمكننا أن نصطلح عليه بالنقد النرجسي للحضارة المعاصرة، سواء بدعوى مواجهة الاستعمار، الامبريالية، المؤامرة، الاستكبار، الشيطان الأكبر، أم ما إلى ذلك من “طواحين الهواء”.

نسي الكثيرون أنّ العقل لا يتطوّر إلّا من خلال قدرته على نقد ذاته، وأنّ الحضارة لا تتطور إلّا من خلال قدرتها على نقد ذاتها، وأنّ مختلف الآراء والرؤى لا تتطور إلّا من خلال قدرتها على نقد نفسها بنفسها. وحين يتوقف النقد سواء بدعوى القداسة، أو المظلومية، أو الشرعية، أو الحقيقة، أو ما شابه ذلك، يبدأ الذبول ثم الأفول.

ليس مصادفة أن الفترة التي أصدر فيها علال الفاسي نقده الذاتي، هي نفسها التي صاغ فيها مالك بن نبي مفهوم القابلية للاستعمار، ما يحيل إلى أولوية نقد الذات حتى حين يتعلق الأمر بالمواجهة المباشرة مع الاستعمار، ذلك أن الهزيمة قبل أن تأتي من الخارج فهي تنبع من الداخل، وهذا هو الدرس الذي عملت تيارات الإسلام السياسي على مسحه من الذاكرة.

النقد الذاتي

كان “النقد الذاتي” مشروعا فكريا مفتوحا على المستقبل، وكان يُفترض أن تعمل الأجيال اللاحقة على استكماله سواء على سبيل استكمال بناء المشروع الوطني، أو لغاية استكمال المشروع النهضوي العربي الإسلامي، لكن الذي حدث هو العكس تماما، حيث انحدر السقف الاجتهادي سريعًا، لا سيما عقب صعود تيارات الإسلام السياسي، مقابل ذلك وقعت تيارات علمانية كثيرة في فخ اختزال مشاكلنا في “الخطر الخارجي”، فيما اصطلحت عليه أدبيات اليسار بالامبريالية العالمية، قبل أن تترجمه أدبيات الإسلام السياسي بـالاستكبار العالمي. وهكذا أجهض مشروع النقد الذاتي مبكرًا.

لا ننكر أن هناك من أجاز النصيحة حين يبديها “أهل النصيحة”، غير أن النصيحة لا تحيل إلى النقد، بل بدورها لا يمكن إعفاؤها من النقد، طالما تنطلق من ادعاء امتلاك الحقيقة، ولقد كانت الإيديولوجيات الشمولية تنطلق في بداياتها من ادعاء تقديم النصح باسم حقيقة غائبة أو مغيبة.

حين نتحدث عن النقد، نتحدث عن واجب العقل النقدي في الاشتغال بلا توقف، نتحدث عن مهمة المثقف كناقد عمومي، ليس فقط فيما يتعلق بنقد إيديولوجيات الجلادين، حيث يتطلب النقد القليل من الشجاعة، بل أيضا نقد إيديولوجيات الضحايا، والتي تتطلب في الغالب كثيرًا من الشجاعة.

حين ندرك بأن النقد آلية للنمو والتطور، وأن الحداثة الغربية نفسها لم تتطور إلا من خلال النقد الذاتي الذي مارسه كبار فلاسفتها، من ماركس ونيتشه إلى فوكو وديريدا، فإننا قد نفهم بأن النقد الذاتي فرصتنا بدورنا لأجل تجديد البناء الحضاري.

في هذا الوجود النسبي والمحكوم بالعوز والنقصان، لا شيء معصوم عن النقد، بل حتى النقد نفسه ليس معصومًا عن النقد، إذ أنّ كل نقد كيفما كان نوعه سيحتاج بالضرورة إلى نقد النقد، وذلك لئلّا يتاح لأي اتجاه نقدي أن يتحول إلى آلية لتكريس التسلط باسم النقد نفسه، مثلما حدث مرارًا، إذ باسم نقد العبودية ظهرت أنماط من العبوديات، وباسم نقد الأوهام ظهرت أشكال من الأوهام، كما باسم الثورة الفرنسية ظهرت المقصلة، وباسم الثورة البلشفية ظهرت معتقلات الغولاغ، وباسم الثورة الإيرانية أُعدم المئات.

منح الضحية الحصانة من النقد لن يفيدها في أي شيء، الّلهم إن كان المقصود أن تتحوّل إلى جلاد جديد قد يكون أشدّ شراسة.

صدق إدوارد سعيد يوم قال: لكي تنتصر  الضحية، عليها أن تتفوق أخلاقيا على الجلاد.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete