النقص العظيم أو في مديح الجهل المعرفي

تكوين

(أ)

ثلاث مآثر لسقراط:

الأولى متعلقة بقدرته على نقل أعقد المسائل الفلسفية من الرؤوس الفردية والصالونات الأكاديمية والغرف المغلقة، إلى الشارع والناس العاديين، بصفتهم شركاء في الهمِّ المعرفي، ما عزَّز فكرة إنسانية الفلسفة وتواصليتها المباشرة مع الناس، أيّاً كانت توجهاتهم الحياتية.

الثانية متعلقة بمقولته الخالدة: “الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً”

الثالثة متعلقة بقدرته على التوليف بين مأثرتيه الصغرى والوسطى، فهو إذ يجنح إلى وضع معرفته بإزاء الآخرين، فإنه يتلمس تلمُّسَ الواعي أنَّ بناء العالَم والدفع قدماً بعجلة الحضارة الإنسانية، بحاجةٍ إلى معارف ذواتٍ كثيرة وعديدة، من شأنها المساهمة والمشاركة في بناء معمار الحضارة الكبير، لذا جعلَ من معرفته الشخصية بالعالَم وقضاياه لبنةً من لبنات المعمار الكبير، الذي لا يمكن له أن يكتمل إلا بلبناتِ الآخرين ومساهماتهم المعرفية.

فلسفة سقراط

بعبارة أخرى، كمنت عَظَمَة “سقراط” في انتقاله من حالة (الخلاص المعرفي) إلى حالة (الخُلاصات المعرفية)، بصفته إنجازاً هائلاً وحاسماً في مسيرة الوعي الإنساني. فالخلاص يؤبِّد الذَّات الإنسانية في زمنٍ لا يتحرَّك، والخلاصات تُحرِّك الذَّات الإنسانية في أبدٍ مُتدفق. الخلاص بنية عمودية مُدمِّرة، والخُلاصات بنية أفقية مُعمِّرَة. الخلاص يُميت الإنسان أولاً ثم يهدم الحضارة ثانياً، والخُلاصات تُحيي الإنسان والحضارة معاً. الخلاص يُنتج مُهلوسين بمعارف صوابيَّة صواباً مُطْلَقاً، والخُلاصات تُنتج أصحَّاء بمعارف نسبية. الخلاس يشتغل على ثيمتي: النحر والانتحار، نحر المُخالفين جسدياً وانتحار المهلوسين عقلياً، والخُلاصات تشتغل على ثيمة: الاكتمال بالنقص.

هذا الإنجاز السُّقراطي الكبير كان مدار تشارك مع نصوص إنسانية تأسيسية، يمكن الاشتغال عليها لإنتاج أجيال أكثر سواء وصحَّةً على المستويين: الإنساني والحضاري. فهي الأخرى، أعني تلك النصوص والاقتباسات، انحازت بشكلٍ حاسم للخُلاصات المعرفية على حساب الفكر الخلاصي، ما جعلها في مرمى إنساني رَحِبٍ ومُتسِّع. فالشَّاعر الألماني “غوته” كتب يقول: “لن يصل المرء إلى الحقيقة إلا إذا انتحر”. في تأكيدٍ ضمني على استحالة حلول المعرفة الكليَّة في شخص واحد طالما هو خاضع لشرطي الزمن والمكان. فالمعرفة غير متناهية، في حين أن الشرط الحياتي –شرط الولادة والموت- للإنسان شرط متناهٍ، لذا من مواصفات الإنسان السليم دخوله في حراكٍ تواصلي مع معارف الآخرين، لغاية إتمام النقص الحاصل لديه على المستوى المعرف،. فأيّ اكتمال أخير في هذا العالَم هو بمثابة الانتحار، للأفراد كما للأمم والشعوب.

إقرأ أيضاًً: التفكير الهوياتي ومحنة العقل المنفتح

وفي النص القرآني: {لَقَد كُنْتَ فِي غَفْلةٍ مِنْ هَذا فَكشَفْنَا عَنْكَ غطاءَكَ فَبَصُرَكَ اليَوْمَ حَديد} (سورة ق: 22)؛ دلالة واضحة على استحالة الاكتمال المعرفي عند الإنسان الواحد طالما هو على قيد الحياة، لذا تصير التشاركية مأثرة إنسانية على المستوى المعرفي، فما نقص عند الفيلسوف يُكمله الموسيقي، وما انثلم عند الرُّجل تشحذه المرأة، وما احتاجه إنسان العصور الحديثة استعاره من إنسان العصور القديمة، وما عجز عنه الحدَّاد يقوم به النجَّار، وهكذا دواليك، حتى تبقى جذوة الشعلة الحضارية حاضرة في الاجتماع السياسي.

أعظم إجابة للسؤال الخالد: “ما الحقيقة”؟ الذي كان “بيلاطس البنطي” قد طرحه على المسيح؛ قدّمها الروائي “تولستوي” في رائعته (الحرب والسلم) إذ كتب: “في العالمين؛ في مجموع الكون، تُوجد الحقيقة”[1] فالحقيقة المُطْلَقة هي برسم الإنسان على الإطلاق، وما الإنسان المتموقع في الزمن والمكان إلا حالة عبور لهذه الحقيقة الهائلة، لذا عليه أن يتواضع أكثر، والطبيعي أن يزيد تواضعه كلما زادت معارفه[2]

ثمة سؤال مُلحّ هَهُنا:

أينها حدود المعرفة البشرية على المستوى الخارجي؟ حقيقةً، لا حدَّ لها. لذا من موجبات الاستحقاق المعرفي أن يتواضع الإنسان على المستوى الفردي بإزاء المعرفة الكُليَّة، فهي مستحيلة كميّاً لأنها مناط الإنسان المُطْلَق، اللانهائي، المُفتَّت في الزمن والمكان؛ ابتداءً من أول إنسان وُجد في الزمن والمكان وصولاً إلى آخر إنسان سيوجد هنا والآن. فما يعرفه إنسان يعيش في موسكو عن الثلوج، سيستعصي على بدوي يعيش في صحراء الرُّبع الخالي. وما يعرفه “هنبعل” عن الخطط العسكرية، سيستعصي على كانط المهتم بالقضايا الفلسفية المجرَّدة. وما يعرفه الناقد “ميخائيل باختين” عن أدب دوستويفسكي، سيكون صعباً على مزارع من فلاحي بابل القديمة. واستغراق عالِم البيولوجيا استغراقاً كاملاً بأبحاثه حول الخلايا الجذعية، سيجعله منشغلاً عن آخر نتاجات النقد الأدبي. وتأليف ول ديورانت كتاباً يختصر قصة الفلسفة، لن يمنع بول فيري من تأليف كتاب عن أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. وتجربة بوذا التنويرية تحت الشجرة الشبيهة بشجرة التين، ستختلف يقيناً عن التجربة الرُّوحية للنبي موسى في جبل سيناء. كما أن اعترافات القديس أوغسيطينوس، ستختلف يقيناً عن اعترافات جان جاك روسو. وتحدُّث أزولد أشبنجلر عن تدهور الحضارة الغربية، لن يمنع فرنسيس فوكوياما من الحديث عن نهاية التاريخ إذ يتجلَّى تجليّه الأكبر في الحضارة الغربية.

إذاً، لقد تفتَّت الإنسان المُطْلَق إلى ذواتٍ لا حصر لها، وبموجب هذا التفتُّت لا معنى لفكرة (الخلاص) بقدر ما هنالك من معنى لفكرة (الخُلاصات). فالمعرفة الكُليَّة قارَّة في عموميتها في كل الذوات الإنسانية على إطلاقها. ففي البداء، كان الذكر والأنثى حمل كل منهما رؤيته الخاصة للحياة، ثم حدث فعل تواصلي بينهما أدَّى إلى إيقاظ جذوة الحضارة الإنسانية، إذْ دبَّت الكائنات على الأرض وبدأت رحلة وجودها.

اليوم –عقب التدافع الكبير بين الذكر والأنثى على مدار مئات الآلاف من السنين- نتحدّث عن عدَّة مليارات من بني البشر يستقرون على سطح كوكب الأرض؛ كان قد سبقهم مليارات أخرى، وستلتحق بهم مليارات أخرى. سيكون لكُلِّ واحد منهم اهتماماته الخاصة على المستوى المعرفي، لذا ستكون حماقة كبيرة لأيّ شخص يدعِّي امتلاكاً لكل المعارف البشرية؛ من البداية إلى النهاية، ولديه –وفقاً لدعوى التملُّك المُطْلَقة تلك- كتالوجاً يسير وفقه الناس، لما ستنطوي على هذه الحماقة من هلوساتٍ تقود إلى كوارث جمَّة، إذ سيتم تحويل الوجود الإنساني إلى مصفوفة مُرعبة، تُثبتّهم في بنياتٍ غير مُتحرِّكة، وتحوّلهم إلى روبوتات منزوعة الروح من ثمَّ.

ومثلما تفتّت الإنسان المُطْلَق عبر تاريخه الطويل إلى ذوات كثيرة، كذلك تفتّتت المعرفة الكليَّة إلى معارف جزئية كثيرة، بحيث أصبحت مُستعصية على إنسانٍ واحد حتى لو كان خالداً على طول الزمن. لذا من الأولى أن تندمج معارف المرء مع معارف الآخرين، بطريقة تُفضي إلى البناء والإعمار، لا إلى الدمار والخراب على طريقة المُهلوسين وأتباع المعارف اليقينية المغلقة.

(ب)

إنَّ الجهل المعرفي ليس نقيصةً في الذات الباحثة بدأبٍ ونشاطٍ كبيرين عن المعرفة أنَّى تواجدت؛ بل هو إشهارٌ لأعظم إنجاز إنساني على هذه الأرض؛ أعني الإنجاز الأخلاقي. فالمرء إذ يُؤشِّر على نقص معرفي عنده بشكل مُطْلَق، نظرًا لانعدام الكمالات في الزمن والمكان، فإنه يُشهر وجوده الأخلاقي بالأحرى. لناحية أنّ معارفه محض (خُلاصةٍ) من ضمن (خُلاصاتٍ) كثيرة يتشارك فيها مع الآخرين، ولا يمكن أن ترقى إلى درجة الخلاص إلا على المستوى الفردي. أي لا يمكن النظر إليها في حالة التخارج مع الآخرين إلا على أساس أفقي وليس على أساس عمودي. فالذات العارفة – في هذا المقام – لا تتمثل دور المُستبد الذي يُريد ممارسة دور البطولة الزائفة على حساب عقول وأجساد الآخرين، بل هي ذات تعي حجم مكانتها في هذا العالَم، لكنها لا تمارس دوراً إلغائياً لأدوار غيرها. إنها ذات مُتفرّدة، لكن لا يمكن لفرادتها أن تُحقّق كينونتها في هذا العالَم إلا بإزاء فرادات الآخرين. لكن في حال تحوّلت الذات العارفة من مرحلة (الخُلاصات) إلى مرحلة (الخلاص)، فإن جهلها سيكون حقيقياً ساعتئذ، إذ ستكون قد قفزت قفزة هائلة من الزمن إلى الأبد؛ من الحركة إلى الثبات؛ من الفيزيقي إلى الميتافيزيقي، من التشاركية إلى الأحادية، من الحياة إلى الموت، من السير الطبيعي إلى السير إلى الهاوية. فاليقين الذي يُخلّفه الخلاص يجعل المرء يستوقي على الناس بمعارفه، بصفتها معارف خالصة ولا تشوبها أي شائبة. وإزاء هذا الوضع القاتم لن تقوى شكيمة هذا الاستقواء فقط، إذا ما تحوّلت صيغة الخلاص من صيغة فردية إلى صيغة جمعية، بل سيتحوّل إلى أداة قتل ممنهج لكل مظاهر الحضارة على الأرض؛ فالصيغة الخلاصية ها هنا صيغة أحادية وقارَّة في الروح الجمعية، لذا هي أداة قتل كبيرة.

لكن صيغة الجهل المعرفي على المستوى الخارجي، كما تنتصرُ لها هذه المقالة؛ هي صيغة مضادة لليقينية والموت والصوت الواحد، إذ تنتصر الرغبة الأفقية لدى الذات المعرفية، وتحدث عملية تهذيب كبيرة لتلك المعارف، فهي تسير جنباً إلى جنب مع معارف الآخرين، بطريقة تُفضي إلى نقد المعارف كلها – أولها معارف الذات – ليس لغايات هدمها بطريقة عبثية، بل لغاية البحث عن بناءات جديدة، تكون أكثر ملائمة لسياقات حضارية جديدة. لذا فإنَّ الجهل المعرفي أكبر اكتمال عقلي في هذا العالَم، فهو نقص لا يفتأ يتنامى كلمّا زادت معارف الذات، بما يضع هذه الذات أمام استحقاق أخلاقي، يجعلها تتغنّى بجهالاتها المعرفية، فهي جهالات مثمرة ومُنتجة في رحلة الحضارة الإنسانية

(ج)

إنَّ الجهل المعرفي الذي تنتصرُ له هذه المقالة، هو جهل على المستوى الخارجي، وليس على المستوى الدَّاخلي. إذ ينبغي أن تكون المعرفة، أعني على المستوى الداخلي، متينة وقوية وخالية من الهِنات والمزالق، إذ تُصبح معارف متهالكة ومتهافتة ولا معنى لها. فالبناء المعرفي ينبغي أن يكون مُحْكَمَاً سواء أكان صادراً عن فيلسوف أو أديب أو مُفكِّر، إذ لا يصح أن تنسحب فكرة الجهل المعرفي على المستوى الخارجي، على البنى الداخلية للمعرفة، فالفيلسوف الذي يكتب أطروحة فلسفية عليه أن يُجوُّد هذه الأطروحة، بعد أن يتحصَّل على أكبر كمٍّ من المعارف، حتى حدودها القصوى، بحيث يتجاوز ثغراتها ابتداءً. لكن هذا التجويد لا يُحوّل الفيلسوف إلى مؤمن بفكرة الخلاص التي تنطوي عليها اطروحته، بل عليه أن يؤمن بأنها محض خُلاصة معرفية تتجاور إلى جانب خُلاصات أخرى، ستُساهم معاً في بناء الحضارة الإنسانية والدفع بها قدماً ناحية الأمام على الدوام.

هذا التوازن بين: 1- الجهل المعرفي على المستوى الخارجي. 2- المتانة والقوة على المستوى الدَّاخلي. سيجعل الإنسان: 1- أكثر تواضعاً في تجلياته الخارجية. 2- أكثر إبداعاً في تجلياته الدَّاخلية. وهذا ما سينعكس بدوره، إيجاباً وخيراً وعطاءً، على مجمل الحضارة الإنسانية.

المراجع:

[1]  للمزيد حول هذه النقطة يمكن مراجعة مقالتي: (ما الحقيقة: من الخلاص الجمعي إلى الخُلاصات الفردية)، موقع تكوين، على الرَّابط التالي:

https://taqueen.com/%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82%d9%8a%d9%82%d8%a9%d8%9f-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%84%d8%a7%d8%b5-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d8%b9%d9%8a-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8f%d9%84/

[2]  حظيت الثقافات الإنسانية المختلفة بنماذج جد متطورة في هذا الشأن، لكني اقتصرتُ ها هنا على ضرب بعض الأمثلة لتحقيق الغاية من المقالة.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete