تكوين
شهد عصرنا الراهن تقدمًا هائلًا في العلم الذي أسهم بدوره في التطور التكنولوجي، لكن مع هذا التقدم المذهل للعلم والتكنولوجيا نشأت عديدٌ من المشكلات التي فرضت نفسها وبقوة على البشرية مثل: القنابل النووية التي أصبحت تُهدد ليس الوجود الإنساني فقط، وإنما وجود وبقاء الحياة بأسرها ولكل الأنواع على كوكب الأرض، كذلك ظهرت عديدٌ من المشكلات البيئية بسبب هذا التقدم التِقْني الهائل، ونذكر منها على سبيل المثال: الاحتباس الحرارى Green House Effect والإفراط في استخدام الموارد الطبيعية لدرجة نضوب بعض مصادر الطاقة … كما ظهرت عديدٌ من الاكتشافات في مجال البيولوجيا مثل الاستنساخ cloning والهندسة الوراثية genetic engineering التي أثارت تساؤلات بخصوص جوهر الإنسان وكرامته، لكن هذه المشاكل والتحديات أثارت أيضًا أسئلة أخلاقية جديدة نحتاج إلى مقاربتها، وسوف نركز في مقالتنا على التحدي الثالث (الهندسة الوراثية) نظرًا إلى خطورته، فهو يتعلق بالإنسان تعلقًا مباشرًا، وربما نتعرض في مقالات أخرى للتحديين الآخرين محاولين إلقاء الضوء عليهما من منظور فلسفي أيضًا.
بخصوص التحدي الذي تواجهنا التكنولوجيا به في عصرنا الراهن فيتمثل -كما قلنا- في الهندسة الوراثية والاستنساخ، يُشير أحد الفلاسفة الألمان وهو يوناس إلى عجرفة الإنسان المعاصر الذي أصبح بسبب امتلاكه للتكنولوجيا يشارك الله في الخلق قائلًا:
” بسبب التطورات الهائلة في التكنولوجيا الطبية (…) انقلب الإنسان الصانع Homo Faberعلى نفسه، وأصبح مستعدًا لأن يقوم بدور الخالق”([1]).
ويكمن الخطر الأكبر وفق ما يرى يوناس، عند تطبيق هذه التكنولوجيا على البشر في أنه “يجعلهم موضوعات من الممكن أن يُعاد تكوينها وفقًا لتصميمات التكنولوجيا الحيوية Biotechnology فحسب”([2]).
تكمن خطورة هذا النوع من التكنولوجيا إذن في أنه أحال الإنسان إلى شيءٍ أو موضوع من الموضوعات التي يُمكن أن تُعرض للتجربة، شأنه في ذلك شأن الموضوعات المادية، فهي تختزل الإنسان إلى عينة فحسب، لكن يحذرنا يوناس من أن نتعامل مع الذوات الإنسانية مثل تعاملنا مع الأشياء المادية، فهناك فرق كبير بينهما. وهنا يُفرق يوناس بين التجريب على الذوات الإنسانية وعلى الموضوعات المادية، انطلاقًا من فكرة البديل surrogate، إذ أن
“هناك اختلاف جوهري بين التجريب على الذوات الإنسانية، والتجريب على الموضوعات المادية وهو: إن التجريب المادي يوظف بدائل صناعية لهذا الذي يجب أن نحصل على معرفة بخصوصه، أي أن هناك شيءٌ ما صناعي ينوب عن الشيء الحقيقي، فعلى سبيل المثال تنوب الأجسام الكروية عن الشمس والكواكب(…) لكن لن يكون هذا البديل ممكنًا في المجال البيولوجي، إذ يجب أن نجرب على الأصل نفسه، وربما نؤثر فيه بأخطاء يتعذر محوها”([3]).
ويتفق رأى فرانسيس فوكوياما مع رأى يوناس في خطورة التجريب على الذوات الإنسانية، إلى درجة مكنته القول: “إن العقبة التي سوف تقف في وجه الهندسة الوراثية تتعلق بأخلاقيات التجريب على الإنسان (…) فأخطر ما تُهددنا به البيوتكنولوجيا هو احتمال أن تُغير الطبيعة البشرية “([4]). نستنتج إذن أن العقبة الكؤود التي سوف تواجه الهندسة الوراثية هي قدرتها على تغيير الطبيعة البشرية، انطلاقًا من فكرة التجريب على الذوات الإنسانية، وهو ما سوف يؤدى -في نظر البعض- إلى تشويه جوهر هذه الطبيعة.
وعلى الرغم من أن النتائج الطبية المترتبة على تطبيق التكنولوجيا على الإنسان جديدة وباهرة وغير مسبوقة مثل: الإخصاب الصناعي artifical insemination،* والإخصاب خارج الرحم in – vitro fertilization ** وهو ما يُطلق عليه أطفال الأنابيب test – tube babies ([5])، وكذلك القدرة على التلاعب بالجينات genetic manipulation المسئولة عن العوامل الوراثية، إذ أصبح في مقدورنا الآن عن طريق استخدام هذه التكنولوجيا تحديد الصفات التي نريدها في المولود، مثل أن يكون قوى البنية أو ذكي أو عدواني… كما جعلت في مقدورنا تأجيل الشيخوخة عن طريق إبطال عمليات الكيمياء الحيوية التي تُسبب هذه الشيخوخة. كذلك لم يعد الموت عملية ضرورية وحتمية لطبيعة الحياة([6])، إلا أنها قد لاقت من المعارضة أكثر مما لاقت من التأييد، وتنطلق الرؤى والتصورات المعارضة لها من الدين والفلسفة، فالدين أوضح الدوافع للاعتراض على هندسة البشر وراثيا، فهي -من المنظور الديني- تكنولوجيات خاطئة لأنها تضع البشر في مكان الإله في خلق حياة بشرية أو تحطيمها، وهو ما يُمثل انتهاكًا لمشيئةِ الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله([7]).
وتأتى الفلسفة أيضًا بمبررات الرفض المنطقي لتطبيق التكنولوجيا على الإنسان، فتقدم الأسئلة الأخلاقية الخاصة بالمساواة وبطبيعة الإنسان وكرامته، وقد طرح يوناس عديدًا من هذه الأسئلة التي تحمل بين طياتها تخوفه من تطبيق هذه التكنولوجيا على الإنسان مثل: “من يجب أن يُنتخب لهذه المهمة؟ أهم الأفراد ذو الكفاءات والجدارات الخاصة، أم أصحاب السمو الاجتماعي؟ ومن يستطيع أن يدفع لذلك؟ وأليس من الممكن أن يُدفع إلى غاية عكسية؟”([8]). ويُعبر يوناس هنا عن تخوفه من أن تكون الهندسة الوراثية سببًا في خلق أشكال جديدة من العنصرية والتمايز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
إن تخليق عديدٍ من العباقرة مثل موزارت وأينشتين ربما يكون شيئًا مرغوبًا فيه، لكن يجب أن نتذكر أيضًا هتلر وموسوليني، ومن ثمَّ يجب أن نضع في اعتبارنا السؤال التالي: من سوف يُقرر ما هو الشيء المرغوب فيه؟ وما هو الشيء غير المرغوب فيه؟
هذا التخوف الأخلاقي نفسه من نتائج تطبيق الهندسة الوراثية على الإنسان، نجده أيضا عند جاك إلول الذي يؤكد عدم قدرتنا على توقع نتائج يقينية عند تطبيق هذه التكنولوجيا على الإنسان، فربما تأتى النتائج على عكس ما نتوقعه، وهنا تكمن خطورتها الكبرى، وهذا ما يؤكده عندما يقول:
“إن المغامرة الكبرى للهندسة الوراثية تواجه بعقبة عملاقة، فلا أحد باستطاعته الإجابة عن هذا السؤال: ما نوع الشخص الذي تريدون تخليقه؟ أهو شخص يمتاز بالذكاء؟ أم بالتدين؟ (…) إننا نعرف كيف ننتجه، لكن لا نعرف من هو؟”([9]).
إن ما يُشدد عليه إلول في نصه هذا هو أن نولي قدرًا كبيرًا من الاهتمام لفكرتي الجهل والخطأ الإنسانيين، فالإنسان لا يستطيع التنبؤ بدقة بكل شيء، لذلك لا بُد أن يضع في حسابه فكرة الطارئ وغير المتوقع.
وتتعدد أسباب رفض يوناس لتطبيق التكنولوجيا الحيوية على الإنسان، فمن جهة فهي تعمل ضد الطبيعة، ويرفضها من جهة أخرى بسبب النتائج المترتبة عليها، إذ:
“إن التطور الصناعي القائم على التلاعب بالجينات يعمل ضد الطبيعة، لأنه يُمكِّن بعض الأشكال التي لم تسمح الطبيعة بوجودها من أن تظهر إلى الوجود”([10]).
أما رفضه لها في نتائجها فيتبلور في أن التطورات الهائلة في هذا المجال تُحقق أيضًا حلم البشرية في إلغاء الموت، أو على الأقل إرجائه بواسطة التقدم في هندسة الخلايا لزيادة امتداد الحياة عن طريق إبطال counteracting عمليات الكيمياء الحيوية التي تُسبب الهِرَمْ، ومن ثمَّ لم يعد يظهر الموت كونه ضرورةً حتميةً لطبيعة الحياة، بل أصبح شيئًا يُمكن تجنبه على الأقل فمبدئيًا التأجيل المُطول لسوء الوظيفة العضوي malfunction، وهو ما يؤثر بدوره في توازن الميزان السكاني الذي يجب أن يكون فيه معدل العمر الممتد متلائم مع تقليل التكاثر للحياة الجديدة، فالنتيجة الناجمة عن التدخل التكنولوجي لزيادة الأعمار ربما تكون تقليل نسبة الشباب لصالح المسنين، في حين أن الفناء ليس سوى الجانب الآخر للانبثاق الدائم لنسبة المواليد([11]).
ويُعبر يوناس عن قلقه وتخوفه من نتائج هذا الأمر، لذا نجده يطرح عديدًا من التساؤلات الأخلاقية التي تُعبر عن استهجانه للإفراط في تطبيق هذه التكنولوجيا على الإنسان، مؤكدًا أنها وإن كانت تستطيع أن تُقدم أشياءً ما صناعية ودخيلة على طبيعة الإنسان، فهذا سوف يكون على حساب أشياء أخرى طبيعية ومتأصلة في الإنسان، ويتضح هذا في تساؤله التالي:
“إلى أي مدى يكون هذا خيرًا أو شرًا مقارنة بالظروف العامة للإنسان؟ وبأي حق يستولي هؤلاء المسنين على حقوق الشباب؟ فالنتائج الجديدة ربما تُفضي إلى أن يصبح لدينا عالم مليء بالمسنين دون شباب (…) فإذا كانت التكنولوجيا قادرة على التدخل في إطالة العمر، إلا أنها لن تستطيع أن تُعيد فضول الطفل الذي يعيش في عطش دائم للمعرفة”([12]).
إن ما يُدافع عنه يوناس إذن هو التلقائية والعفوية المتأصلة في الطبيعة البشرية، واكتساب المهارات الفردية عن طريق التعلم والمحاولة والخطأ، وهذا ما يضمن التنوع والتعدد بين الأفراد “فالصدفة هي ما يضمن بأن كل فرد مولود فريد، ولا يوجد شخص يشبه الآخر تمامًا، وهي التي تفاجئنا بما هو جديد، وحتى بالمفاجئات السارة والمكدرة”([13]). لهذا كان من الطبيعي أن يرفض يوناس الاستنساخ، فأن يُعرف المرء ذاته بوصفه نسخةً من شخص كان موجودًا في السابق، فإن هذا يؤدى إلى تقييد أصالة وجود المرء وحرية اكتشاف ذاته، فهناك حق أساسي في الجهل بالمستقبل، ولهذا يصف يوناس هذا المشروع بأنه “يفتقد إلى عذر الطارئ المُلح، إذ هو بالأحرى من عمل الغطرسة والفضول والنزوة”([14]). ويركز يوناس هنا في القيم الأخلاقية الخاصة بفكرة جوهر الإنسان، فربما نستطيع تخليق إنسان، لكنه سيكون إنسان يعيش وفقًا لحتمية جينية آلية خُلقت صناعيًا، وهو ما سيمكننا من القدرة على التنبؤ بكل أفعاله حتى قبل أن يفعلها، وهو ما يعنى إلغاء فكرة الصدفة والمفاجأة في الفعل الإنساني.
وتكمن الخطورة الأكبر في الفوائد الاقتصادية المترتبة على الهندسة الوراثية، المُتمثل في الانتقال من مجال البحث إلى مجال السوق، وهو ما يجعل البشر سلعًا يُمكن اقتنائها أو استبدالها، وهنا يتحول دور الطبيب إلى تاجر، وهو ما يؤدي أيضًا إلى ظهور شركات قطع الغيار البشرية “إن تكنولوجيا الدى . إن . آيه D. N. A جعلت ثمة إمكان للانتقال من البحث إلى إنتاج السوق”([15]).
لكننا لا يجب أن نتسرع وننسب إلى يوناس صيغة الرفض المطلق للهندسة الوراثية بجميع أشكالها، فيوناس يتخذ موقفًا وسطًا لا يرفض فيه الهندسة الوراثية رفضًا مطلقًا، ولا يقبلها قبولًا مطلقًا، بل إنه يوضح المجالات التي يجب أن تعمل فيها الهندسة الوراثية ولا تتعداها، ويقدم يوناس تصورًا معياريًا لما ينبغي أن تكون عليه فيحدد وظيفتها في إصلاح العيوب وليس إعادة الخلق، وهذا ما عبر عنه عندما قال: “هناك هرمونات يمكن أن تُستخدم لمنع نمو الإعاقة لطفل لديه عيب في الجينات، وهذا شيءٌ مرغوبٌ فيه إلى حد ما، ولكن الهرمون نفسه يُمكن أن يُستخدم بطيش لتحسين من ليس مصابًا على الإطلاق، مثل قصير القامة، ومن الممكن استخدامه للتحسين الطبقي أو الجنسي”([16]).
نستنتج إذن أن ما يرفضه يوناس ليس استخدام الهندسة الوراثية في ذاتها، ولكن إساءة استخدامها، وإلى هذا الرأي يذهب أيضًا جاك إلول في كتابه خدعة التكنولوجيا، فكتب يقول: “لندع الهندسة الوراثية تُصحح بعض الأخطاء الطبية، وتجعل من الممكن تلافى بعض المآسي النفسية والجسدية فقط، فمهمتها ليست اختراع بشرية جديدة”([17]). يتضح مما سبق أن موقف يوناس وإلول يتضمن وضع حدود وضوابط لتطبيق الهندسة الوراثية على الإنسان، فوظيفتها ليست إعادة الخلق، بل التدخل لمعالجة بعض العيوب المرضية.
لكن على الرغم من دعوات الحذر الشديدة التي تطالب بفرض ضوابط على تطبيق هذه التكنولوجيا على الإنسان، فإن هناك عديدٌ ممن يؤيد استخدامها، دون وضع حدود لها أو قيود عليها، انطلاقًا من الفوائد الشخصية المترتبة عليها، ” فاستنساخ البشر سيتيح للنساء اللاتي بلا بويضات، والرجال الذين بلا حيوانات منوية من أن ينجبوا ذرية لها علاقة بيولوجية بهم (…) كما سيُمكن الأزواج أيضًا الذين يكون أحدهما مصدرَ خطرٍ لنقل مرض وراثي خطير من أن ينجبوا دون التعرض لهذا الخطر”([18]).
نحن إذن بصدد موقفين متعارضين تمام التعارض بخصوص الاستنساخ، يرى أصحاب الموقف الأول، أنه نتاج الغطرسة العلمية فهو -في تصورهم- مشروعًا يفتقد وجوده إلى المبررات الشرعية، فهناك مخاطر كثيرة مترتبة عليه، لكنه يُمثل لدى الآخرين تقدمًا علميًا هائلًا يُمكِّن بعضهم من تحقيق سعادتهم وأمانيهم عن طريق الإنجاب، وكذلك عن طريق تلافي نقل بعض الأمراض الوراثية إلى ذريتهم المستنسخة.
ونحن بدورنا نتفق مع الرأي الذي يرى أن هناك مخاطر جسيمة تترتب على الاستنساخ خاصة من النواحي الاجتماعية، لأنه سوف يخلقُ شكلًا من أشكال اللامساواة بين الفرد المستنسخ والفرد العادي، لأنه إذا حدث وكان الفرد المستنسخ أكثر ذكاء وأكثر عبقرية من الإنسان العادي فإنه سيحتل مكانه في كل شيء: في المدرسة والجامعة والعمل. وهو ما يعني أن الآباء الأغنياء سيمتلكون بفضل المال ما لا يستطيع غيرهم أن يمتلكه، كما سيؤدى هذا أيضًا إلى وجود شركات خاصة لصنع الأفراد المستنسخين، ومن يدرينا أن هؤلاء المستنسخين لن يكونوا على شاكلة هتلر أو موسوليني، ولن يكونوا أصحاب نزعات عنصرية متطرفة: صهاينة أو نازيون على سبيل المثال… وهنا يُمكننا القول بأنه إذا كان من حق البعض أن يكون لديه أولاد، فيمكنه تحقيق ذلك عن طريق الإخصاب الصناعي داخل الرحم أو خارجه، وإن كنا نضع في اعتبارنا أيضًا بعض المخاطر الاجتماعية والقانونية التي نراها في ذلك، لكننا نعتقد أنها أقل وطأة من عواقب الاستنساخ.
إقرأ أيضًا: تساؤلات وإشكالات راهنة
بقيت نقطة أخرى لا بُد لنا من تناولها وهي خاصة بتدخل التكنولوجيا لإطالة حياة المريض، وهو ما أثار عديدًا من التساؤلات الأخلاقية الخاصة عن معنى الحياة والموت، وأوجد أيضًا غموضًا والتباسًا كبيرين في تشخيصنا لحالة مريض ما بأنه ميت أو ما يزال على قيد الحياة، “فإذا كان بوسع الطب المعاصر -بواسطة التكنولوجيا- أن يُحافظ على الحياة في جسد ممدد باستخدام وسائله وأجهزته، فهل هذه هي الحياة؟! وإلى متى يستمر المريض في التقاط أنفاس الحياة من الآلات والماكينات؟ وإذا استمر قلب المريض في العمل مُستعينا بهذه الأجهزة زمنًا غير محدود، فمتى يُمكن اعتباره ميتًا؟”([19])، كل هذه الأسئلة الأخلاقية المُعقدة التي أختلط فيها معنى الحياة بالموت، إذ لم يعد ثمة خط فاصل يُفرق بينهما بوضوح كما كان في السابق، نتجت بسبب التطور الهائل في تطبيق التكنولوجيا الطبية على الإنسان.
وقد لاقت فكرة التدخل الصناعي لإطالة حياة المريض انتقادات متعددة، فيؤكد يوناس أنه يُؤيد انتزاع ماكينات التنفس، وينطلق في رفضه من أن هذا يُعَدُّ ضد الحياة الطبيعية، إذ “لم يعد للمريض القدرة الطبيعية على مواصلة التنفس بنفسه، فلم يعد المخ قادرًا على تدعيمه بطريقة طبيعية، ومن ثمَّ فهو مُجبر على التنفس بواسطة الوسائل الصناعية الخارجية، وإن إجبار المريض على أن يستمر في الحياة في ظل هذه الظروف لهو شيء غير مقبول ليس فقط بسبب العاطفة، وإنما بسبب الكرامة الإنسانية”([20]). يرفض يوناس إذن التدخل الصناعي لإطالة حياة المريض لأن هذا ضد طبيعة عمل الحياة ذاتها التي يجب أن تعمل بطريقة طبيعية انطلاقًا من مبدأ دع الطبيعة تأخذ مجراها.
كما يُفرق يوناس في هذا الإطار بين تصورين: الأول، الأخذ الإيجابي للحياة positive taking of life ، و والآخر، هو السماح للمريض بأن يموت letting to die، أو الموت الرحيم euthanasia ويقصد بالأول، الأخذ الإيجابي للحياة؛ التدخل لإيقاف ماكينات التنفس الصناعية، ومن ثمَّ يكون الطبيب سببًا في موت المريض، أو وفق تعبير بيتر سنجر Peter Singer الذي يتساءل عن مشروعية التدخل الإيجابي لإنهاء حياة المريض، عندما يرى: أننا لو تمادينا في القول بأنه من الأفضل للمريض في حالات خاصة أن يموت بدلًا من أن يستمر في الحياة، أليس من المنطقي لدى الطبيب أن يتدخل ويُنهي حياته بواسطة الحقن؟ هنا يرفض يوناس فكرة التدخل الطبي لإنهاء حياة المريض، فتتحدد وظيفة الطبيب -وفق ما يرى يوناس- في أنه يستطيع أن يفعل عدة أشياء منها “الشفاء وإغاثة المريض وتخفيف المعاناة، لكن القضاء على الحياة لا يجب أن يكون واحدًا من مهام الطبيب، فالمريض لا يجب أن ينتابه شك بأن طبيبه لا يجب أن يكون منفذ حكم الإعدام فيه”([21]).
ويقصد يوناس بالآخر، السماح للمريض بأن يموت، بأن هناك حالات طبية معروفة لفقدان الوعي والغيبوبة المستمرة comatose يُعَدُّ فيها السماح للمريض بأن يموت هي الفعل الإنساني الوحيد والملائم في هذه الحالة، ولهذا لا يجب أن نتدخل لإطالة حياته بواسطة تدعيم ماكينات التنفس الصناعي، ولا يجب أن ننهي حياته بإيقافها أو بواسطة الحقن، لكن يجب أن ندعه يموت موتًا طبيعيًا، إذ: “ليس من الخطأ أن نسمح للمريض الذي يُعاني غيبوبةً مستمرة أن يموت بكرامة (…) فلندع الطبيعة تأخذ مجراها”([22]).
فهناك عديدٌ من الحالات التي تكذب تنبؤات المتخصصين، ويسرد يوناس إحدى هذه الوقائع التي يؤكد فيها أننا لا نستطيع أن نُحدد الخط الفاصل بين الحياة والموت فيقول: “هناك حالة كارين كوينلان Karen Quinlan من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد حصل والديها على حكم محكمة بإبعاد أبنتهم عن جهاز التنفس الصناعي، وقد توقع المتخصصون موتها فور إيقاف الأجهزة، لكن عندما تم ذلك بدأت تتنفس بطريقة طبيعية وعاشت لتسع سنوات أخرى دون أن تسترد الوعي”([23]).
إقرأ أيضًا:مظاهر القمع الحضاري المعاصر عند ماركيوز: الجزء الأول
في ظل هذه التحديات الأخلاقية التي تفرضها التكنولوجيا المعاصرة على الإنسان في المجالات الطبية، يرى يوناس أنه من الضروري وضع الحدود التي تحدد علاقة المريض بالطبيب، ولهذا يضع مجموعة من الامتيازات والحقوق للمريض تقابلها مجموعة من الواجبات على الطبيب تجاه مريضه فيقول: “في مسار العلاج يكون الطبيب ملتزمًا تجاه المريض وليس تجاه أي شخص آخر، فهو ليس مسئولًا عن تقدم العلوم الطبية، أو عن مرضى المستقبل الذين يعانون المرض نفسه، فالطبيب يكون مسئولًا عن المريض عندما يدخل تحت رعايته في أثناء العلاج، بواسطة القانون البسيط للعقد الثنائي، وربما يجوز لنا أن نتحدث عن الثقة المقدسة”([24]).
وانطلاقًا من هذه الثقة المقدسة بين الطبيب والمريض يرفض يوناس رفضًا مطلقًا فكرة التجريب على مرضى يكون التجريب غير متصل بأنواع أمراضهم، وهو ما عبر عنه بصيغة إيجابية عندما قال: “إن القاعدة الأولى تتبلور في أنه يجوز التجريب على المريض فقط عندما يكون التجريب متصلًا بمرضه الخاص، فالمرضى لا يجب أن يُستدعوا لتحمل أعباء إضافية أو مخاطر”([25]).
وفى النهاية يُمكننا القول بأن الإنسان قد دخل في صراع مع نفسه، فقد بات بسبب إساءة استخدام التكنولوجيا قادرًا على التدخل في تعديل صفاته الوراثية وإطالة حياته وتقصيرها، وهو ما أصبح يُمثل خطرًا على جوهر وجوده، وكرامته بوصفه إنسانًا، كما يُمكننا القول بأن موقف يوناس من الهندسة الوراثية يتسم بأنه موقفٌ معتدلٌ، فهو لا يقف من جهة موقف المفكر الرافض لتطبيق التكنولوجيا الطبية على الإنسان جملةً وتفصيلًا، بل نجده يدعو إلى أن تتحدد وظيفة هذه التكنولوجيا وعملها في معالجة العيوب المرضية، وليست في إعادة تخليق البشر، كما يرفض من جهة أخرى الاستخدام الحر لتطبيق هذه التكنولوجيا، لخطورة هذا على البشر أنفسهم من ناحية، وخطورة أن يخضع هذا لمنطق السوق الرأسمالي من ناحية أخرى، وهو ما سوف يؤدى إلى التعامل مع البشر بوصفهم سلعًا وقطعً غيارٍ، وهو ما سوف يخلق بدوره شكلًا من أشكال التمايز والعنصرية كما قلنا من قبل.
المراجع:
(1) Hans Jonas, The Imperative of Responsibility : in Search of an Ethics for The Technological Age, op.cit., p. 18
(2)Hans Jonas, Mortality and Morality : a Search for The God after Auschwitz, op.cit., p. 5
(1) Hans Jonas, “ Philosophical Reflections on Experimenting with Human Subjects “ in Philosophy in The Age of Crisis, ، Vol.48, No.2, 1969, pp.219 – 247
(2) فرانسيس فوكوياما، نهاية الإنسان : عواقب الثورة البيوتكنولوجية، ترجمة / أحمد مستجير، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، صـ 123.
* لا يقصد بالإخصاب الصناعي أن المادة التي تستخدم في الإخصاب غير السائل المنوي، وإنما المقصود هو أن العملية التي يتم من خلالها الحمل ليست بنفس الطريقة التي تعودت عليها البشرية منذ بداية الخليقة، بمعنى إنها تتم بواسطة أداة للتلقيح الصناعي، بدون أن يكون هناك اتصال جنسي بين الذكر والأنثى ( نقلا عن : ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق )
** يقصد بكلمة in – vitro ” في الزجاجة ” والمقصود بالتعبير ككل هو عملية الإخصاب التي تتم بين الحيوان المنوي والبويضة خارج الرحم، وتترك البويضة لتنمو فترة، ثم تتم زراعتها بعد ذلك في رحم الأنثى لإتمام الحمل (نقلا عن : ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق )
(3) ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 174، 1993، صـ 84، 88.
(1) Hans Jonas, The Imperative of Responsibility : in Search of an Ethics for The Technological Age, op.cit., p. 18
(2) فرانسيس فوكوياما، مرجع سبق ذكره، صـ 138.
(3)Hans Jonas, The Imperative of Responsibility : in Search of an Ethics for The Technological Age, op.cit., p. 18
([9]) جاك إلول، مرجع سبق ذكره، صـ 480.
(1) Hans Jonas, “ Ethics and Biogenetic Art “ in Social Research, Vol. 52, No.3, 1985, p. 491, 14p
(2)Hans Jonas, The Imperative of Responsibility : in Search of an Ethics for The Technological Age, op.cit., p. 19
(4) Hans Jonas, “ Ethics and Biogenetic Art “ in Social Research, Vol. 52, No.3, 1985, p. 491, 14p
(4) جاك إلول، مرجع سبق ذكره، صـ 480.
([18]) مارتاسي. نسبوم، كاس ر. سانشتين، استنساخ الإنسان : الحقائق والأوهام، ترجمة / مصطفى إبراهيم فهمي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، صـ 144، 145.
([19]) سعيد محمد الحفار، البيولوجيا ومصير الإنسان، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 1984، صـ 144.
(1)Don Hoff, Marion “ Not Compassion alone : on Euthanasia and Ethics “ in Hastings Center Report, Vol. 25, Issue. 7, 1995 supplement, p.44, 7p
(3) Stuart F. Spicker ( ed ), Organism, Medicine, and Metaphysics : Essays in Honor of Hans Jonas on his 75Th Birthday May 10, 1978, Dordrecht, Reidel Publishing Company, 1978, p.177
(4) Don Hoff, Marion “ Not Compassion alone : on Euthanasia and Ethics “ in Hastings Center Report, Vol. 25, Issue. 7, 1995 supplement, p.44, 7p
(1)Hans Jonas, “ Philosophical Reflections on Experimenting with Human Subjects “ in Philosophy in The Age of Crisis, ، Vol.48, No.2, 1969, pp.219 – 247