تكوين

ما معنى أن نكون نحن أنفسنا؟ سؤال مركوز في صميم التفكير يؤرق الإنسان ويتعبه. ليس في نيتنا أن ننساق وراء الاشتقاقات اللُغوية لتدبير أصل الكلمة أو وراء الاصطلاحات المتعارف عليها، ولن ندخل في أبعاد التسميات المرفقة إلى الهُوية سواء المتعلقة بالبعد الذاتي أو النوعي أو الكمي أو الرقمي. من البدهي القول إن أولى عتبات الشرط الهُووي تنسل في مجموعة من المعايير التي تحاول تحديدها، يكاد يكون أولها الشعور الداخلي المبني على حس الانتماء. وهذا الشعور بالانتماء يرافقه الإحساس بالاتحاد والقيمة والاستقلالية الذاتية والثقة وإرادة العيش، بالإضافة إلى الرؤية الأنثروبولوجية والتاريخية والألسنية والبيولوجية.

غير أن ما يستثيرنا في هذا المقام، التحديد الذي يتوقف في معظم الأحيان على أولوية المسائل المُحدقة بالإنسان، وعلى ضوء ذلك تصبح الهُوية رهينة لذلك الوضع، فتدخل في الحضور المطلبي القائم على المُهمة الضرورية، سواء في السياسة أو في الدين أو في مواضيع أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير في مسلكها واتجاهاتها، وفي هذا الإطار يمكن أن تُصنع، كما يمكن أن تُستغل وهذا ما يظهر في كل حقبة زمنية، وأظن أننا نعرف النتائج المترتبة عليها. ولا ننسى العولمة وأثرها الميديائي الاستهلاكي في صناعة الهُويات المختلفة والمتعددة في العالم.

تحت وقع الظاهرة الإسمية أو الأنطولوجية أو السوسيولوجية أو التثاقفية (acculturation)، وفي ظل التموضعات الجغرافية والاستعارات النَسَبية نخال أنفسنا أننا قد اكتشفنا هُويتنا. غير أن مسار الهُوية يكمن في رحلة تطواف لشكل الحياة وصورها التي نصيرها بعد أن كنا جواهرَ أو موادَ محضة. وفي أثناء الأويسة العبورية تبدأ الهُوية بالنهل من كل الممكنات والتجارب التي بحوزتها، ويغدو حضورنا في هذا السياق كمحطة لعدة شبكات وأجهزة وبالتحديد في عصر الواقعية المفرطة (l’ère de l’hyperréalité)[1] كما يقول الفيلسوف الفرنسي بودريارد (Baudrillard)  الذي بتنا لا نميز فيه بين ما هو صحيح وما هو خاطئ. حقيقة الأمر أنَ ثمة أسئلة كثيرة تراودنا وتشغلنا سنطرح بعضًا منها على سبيل المثال: هل الهُوية هي ضرورة بوصفها مطلبًا انتسابيًا وجوديًا؟ كيف تُوجد نفسها في الإطاعة وخاصة في ظل تنامي هُوية الظاهرة الدينية؟ وما معنى هذا السر الكامن وراء التعصب لهُوية الانتماء الذي يصل أحيانًا إلى حد الانزلاق من حالة التعاطف إلى حالة الحرب أو التحفيز على الاضطهاد؟ وهل بإمكاننا بعد المحافظة على ما يُسمى هُوية في زمن الحداثة؟

غموض آليات الهُوية

مما لا شك فيه أن معضلة الهُوية تُثَوِر فينا الأسئلة التمردية، سواء أكنا من أنصار الفلاسفة المثاليين ونزعتهم الميتافيزيقية أم من أنصار الفلاسفة التجريبيين ونزعتهم الوضعية. وما يستثير دهشتنا أن الأسئلة المطروحة في هذا المجال أحيانًا تكون مدخلا لأجوبة هي السبب الذي ينهض بأفق التفكير ويساعد في تعزيز شخصية الإنسان. قد يكون من أضمن السبل لسبر الغموض الذي يكتنف مفهوم الهُوية العودة إلى الجذور، وأفضل دليل على ذلك إذا حللنا كلمة (persona) اللاتينية نرى أنها تعني دورًا تلعبه إحدى الشخصيات في مسرحية معينة. قد تكون هذه الشخصية مفترضة، لأنها تأتي في الأصل على شكل قناع مُستعار لا يتضمن شيئًا تحته، أو بتعبير آخر قد تكون وجهًا مزيفًا، وهذا يعني صناعة شيء يُتحدث من خلاله. وهذا الأمر يكشف لنا عن قابلية الشخصية وطواعيتها للتستر وراء هُويات أصيلة وغير أصيلة.

يجب الانتباه إلى أن مبدأ الهُوية يمثل قاعدة الفكر البشري المتعلقة بمسألة الرموز والأحكام المسبقة المتبنية لعدة موروثات قد تكون تاريخية أو سياسية أو دينية… ويسعفنا في هذا الجانب ما كشفه أمين معلوف في كتابه “الهُويات القاتلة” حين قال إن “كل شيء في التاريخ يُعبر عن نفسه بواسطة رموز: العظمة والانكسار والنصر والهزيمة والسعادة والاستقرار والبؤس”[2]. لكن الأمر الذي يُثَبِط من عزيمتنا هو أن هُويتنا مهددة دومًا بالإحباط والخيبة والإهانة، لأننا نستأجر دائمًا رغبة الآخرين ونُغَيب منحى التداعي الحر المؤسس لهُويتنا. والسؤال الذي نطرحه، كيف نفهم هذا العناد على امتلاك هُوية تعددية والذي يمثل ربما عائقًا أو انفتاحًا لبناء الهُوية؟

إقرأ أيضًا: جدل الهوية: الممتد والمتجدد تأصيل تاريخي وتأسيس عصري

من المتفق عليه أن الهُوية هي المونادة المتفردة والمتميزة التي تعني عدم التطابق أو التماثل مع غيرها. يُخال إلينا أننا نمتلك هُويات متعددة، لكننا في الواقع لا نمتلك سوى هُوية واحدة مكونة من كل العناصر التي كونتها ومن كل أوضاع أشكال العلائق المنصهرة في إطار المنطق الاجتماعي والسياسي والديني والميتافيزيقي والسيكولوجي. نلاحظ ومع الأسف، أن الإنسان يتغنى بانتماءاته المتعددة المتلقفة والزوالة المؤقتة (temporaires) المتعلقة فقط بأولويات مرحلة معينة من مراحل حياته، وعلى أثرها قد يجد نفسه عن قصد أو عن غير قصد أنه قد تعلق بها. وهذا الأمر قد يفضي به إلى تبنيه لعدة خيارات غير صائبة نظرًا للتعارض القائم فيما بينها أو لنظرة العبودية الاستغلالية أو تعقيدات السلطة الدينية. من هنا نرى أنه من المفترض على الإنسان حماية نفسه من الاغتراب الذهني وعدم الانجراف في الصيرورة كلما حصل على معلومة أو أمعن النظر إلى الفضاءات المملؤة بالصور والخيالات والأفكار الخداعة والجاذبة، لأنها قد تسقط حتمًا بالتقادم الآيل إلى الزوال (obsolescence). إذًا فالمسعى الأهم للإنسان في هذا الإطار تقليص مساحة الصورة الدوغمائية للفكر القائمة على التمثل والتناظر والمعطلة لإبداعات الفكر الحر.

الهوية والسؤال الفلسفي بين الثابت والمطرد

من الثابت والمعلوم أن مبدأ الهُوية هو من أهم أعمدة قوانين الفكر، والهوية كونها مفهومًا فلسفيًا من أولى مهامها تناول المسألة الميتافيزيقية لطرح العلاقات القائمة بين الذات مع ذاتها -أي الكائن مع نفسه- والذات مع العالم. من الطبيعي ألا نختلف على أن هذه الذات الواعية والنشيطة بإمكانها التفكير في عدة أزمنة وعدة أمكنة. وإذا سلمنا بمعنى أنها لا تتحدد إلا بالعلاقة مع الآخر، في هذه الحال نرى أنه من الطبيعي جدًا أن تتخذ الهُوية سماتَ وأشكالا متعددة كامنة في الثابت والمرن والمتكون والمتحول من الأزمنة وعبرها (الفيزيائية والسيكولوجية و…. ) قد تكون أتعس أنواع الهُويات وأخطرها هي الهُويات الصنمية المتحجرة القابعة في قوالب المسلمات القديمة، كما قد يكون أفضل أنواع الهُويات، الهويات المستنيرة المنفتحة على كل العوالم التي تتحول إلى ضرب من ضروب المعرفة.

وإذا كان بإمكان الذات أن تكون عند هيغل الله أو الدولة أو الفن أو المقدس أو الحقيقة، فهذا الأمر يوصف المفهوم بما هو كذلك، ومن يفكر من طريق صيغة المفهوم يتذوَت تذوتًا مطلقًا. يرى هيغل أن

“الجوهر الحي هو الكينونة التي هي في الحقيقة ذاتٌ، أو هي ما يعني الشيء نفسه، الكينونة التي هي في الحقيقة فعلية، ولكن فقط في كون أن الجوهر هو الحركة التي بها يطرح ذاته، أو هو التوسط بين أن يصير شيئًا آخر غيرَ ذاته وأن يكون ذاته. والحق هو صيرورة ذات نفسه، الدائرة التي تفترض وتمتلك منذ البداءة نهايتَها بوصفها مقصدها، وهو ليس فعليا إلا عبر تحققه وعبر نهايته. إذًا المطلق هو ذات والحق هو ذات مثلنا، وعلى الفلسفة أن تدرك الحق وأن تُعبر عنه ليس بوصفه جوهرًا، بل كذلك بوصفه ذاتاً”[3] .

رأى الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين في كتابه “رسالة منطقية فلسفية أن الهُوية ليست شيئين متطابقين، وهذا القول يُمكن أن نعده قائمًا في عُهدة السخافة أو الهراء والتفاهة، كما أن القول عن شيء واحد أنه متطابق مع ذاته فهذا ممكن أن يكون قولًا فارغًا أو كأنه بمنزلة عدم قول أي شيء”[4]. كما بين شوبنهاور أن هُوية الشخص تتوقف على الإرادة وعلى الطبع الذي تمثله، وفي صدد تساؤله عما يُحدد هذه الهُوية الشخصية، كان له موقفًا رافضًا للذين أخذوا مادة الجسم وصورته ليكونا معيارًا لتحديد الهُوية الشخصية، وذلك لخضوعهما للتغير المستمر أو للصيرورة اللامتناهية، وأيضًا لا يغيب عن بالنا طرح أفلاطون لمسألة الهُوية في “المأدبة” على افتراض أن هُوية الإنسان تعالج مسألة التعدد والصير في الزمن، وقد أبدى تساؤله من ناحية كيفية استطاعة كل واحد منا القول بأنه  الشخص نفسه، في حين أن كل أفكاره وسماته الفيزيائية لا تتوقف عن التغير والتطور منذ نشأته حتى مماته.

إقرأ أيضًا: سؤال الهوية في العالم العربي

أما ما أظهره الفيلسوف التجريبي جون لوك فيُظهر أن الهُوية قائمة على هُوية الوعي، وكل الخصائص المتشابهة تسمح بتحديد الهوية، على افتراض أنه بمنزلة الهو هو بوصفه الكيان نفسه في أزمنة وأماكن مختلفة، وما يفعله بدافع الإحساس فقط بأفعاله الخاصة لا ينفصل عن الفكر، بل يُظهر أنه تابعٌ له. كما أنها من إنتاج الذكرى ( l’identité est produite par le souvenir). ولكن الفيلسوف الألماني لايبنتز رفض أن تكون الذاكرة أو الذكرى قاعدة للهوية، مشددا بذلك على أن يكون للجسد الأولوية في تعيين الهُوية. بتعبير آخر أي أن ما يكون الهُوية هي العلاقة السببية التي تربط كل حالات الجسد المتعاقبة أو المتتالية (من الماضي إلى الحاضر)، وفي هذا المرمى صورة الذاكرة ليست أساسية، فوجودها وعدم وجودها لا يؤثر في إثبات الوضع القائم أو نفيه. بالإضافة إلى ذلك رأى لايبنتز أننا لا نملك القدرة على التمييز بين المتشابهات (indiscernabilité des identiques)، والهوية موضوع يحوي على قابلية التبادل أو الإنابة أو الاستبدال (substituabilité). أما الفيلسوف بول ريكور فأكد أن الهُوية تتطلب أن يُعترف بها، كي نوجد مع أننا نوجد، ولكن متأخرين أو بعد فوات الأوان. والفيلسوف هوبز رأى أن الهُوية ليست جوهرًا، بل هي صفة إسنادية  (adjectif prédicatif) تجعل تحديد الإنسان ممكنًا أمام العالم. ومن جهته أكد هيوم أن الانسان كونه كائنًا اجتماعيًا، فمن الطبيعي أن يتأثر ويستأثر بالسياق الاجتماعي وفقًا لمبدأ أو لمنطق التعاطف (empathie) الذي يفيد أن الإنسان يحتضن أو يجمع برغبة أراء المحيطين به.

الهُوية نتاج فعل المسِير

بات من الملاحظ أن وجهات النظر تختلف بشأن تحديد موقع الكائنات وإمكان تأصيل وجودها سواء في المستوى الأساسي الأفضل، كما تتباين أيضًا الأراء بخصوص ما إذا كانت الهُوية هُوية بينذاتية (intersubjectivité) أو هُوية شخصية متعلقة بالجسد أو بالروح أو بالذاكرة. وتسعى هذه الأخيرة (الهوية الشخصية) في إقامة توازنها الخاص مع مفهوم الإنسانية، وهذا يفيد بضرورة تركيز الشخص على وعيه الذاتي، أي أن يُبقى همه الوحيد التأطير لشخصيته الذاتية الخاصة به على الرغم من تأثير الأشياء الداخلية أو الخارجية فيه.

…لعل المشكلة الكبيرة التي نقع فيها لتحديد هُويتنا تكمن في أننا لا نُميز بين المفهوم الأنطيقي (ontique) الذي يتعلق بما هو موجود في العالم (ce qu’elle est la chose dans ) وهذا ما أطلق عليه هايدغر مصطلح (Etant)[5]، والمفهوم الأنطولوجي (ontologie) الذي يتعلق بالإنسان. وهنا يكمن الخطأ في تحديد مفهوم الهوية، وذلك بالدمج بين المفهومين. ربما كان مفيدًا في هذا السياق استحضار السؤال الهايدغري: “كيف يجب أن نكون نحن أنفسنا، والحال أننا لسنا نحن أنفسنا؟ وكيف يمكن لنا أن نكون نحن أنفسنا؟ دون أن نعرف من نكون؟ حتى نكون على يقين من أننا نحن الذين نكون”[6]؟

يطرح عالم النفس الأمريكي كورت ليقين (Kurt Lewin)[7] مسألة “الهُوية الجينية” أو ما يُسمى (génidentité) وهي العبارة نفسها التي استخدمها الفيلسوف الألماني رودولف كارناب (Rudolf Carnap)، ومعنى ذلك أن الإنسان يكبر ويشيخ وهُويته الجينية ما تزال تحمل الدوافع نفسها التي وُلدت بها، وهي لا تتغير أبدًا[8]..  وهذا الأمر مفاده أن الهُوية الأصلية هي علاقة وجودية تكمن وراء نشأة الشيء من لحظة إلى أخرى. فما نراه عادةً شيئًا واحدًا يتكون في الواقع من عدة كِيانات، هذه الكيانات تتضمن مراحل الشيء المتبلورة صوره في عدة أوقات مختلفة. ومن المفيد القول إن تطابق الشيء مع غيره لا يقتصر على امتلاك الخصائص المشتركة نفسها، بل على تطور أحدهما من الآخر. بالإضافة إلى ذلك ثمة جهة أخرى تمثل التصور الانقطاعي للشخص وتحدده بوصفه تراكمًا للمستويات المتعاقبة التي تحل مكانها مستويات أخرى يكون فيها الشخص مُغيبًا.

إقرأ أيضًا: من الهوية المبنية إلى بناء الهوية

إن إفراغ الهُوية الشخصية من كل حمولة يعود بالدرجة الأولى إلى استحالة تحولها إلى لا شيء أو إلى فراغ ، ومن ثم فالهُوية ليست مسألة شخصية فقط، وإنما هي تُختبر في العالم بالاحتكاك مع الآخرين، وهذا ما يولد ما يُسمى الهُوية الجماعية. وما دام أن الإنسان هو كائن في قلب العالم، فمن الطبيعي أن تسري عليه صيرورات التحول المطرد الذي يختبره الكون في أشكال مختلفة حتى الوصول إلى العود الأبدي. ولعل ما تقوم به الفينومينولوجيا الاجتماعية والوجودية ينتهي بمنح دور للآخر في انبثاق الوعي بالذات، لكن يبقى أمر العناد على امتلاك هُوية تعددية أحيانًا عائقا وأحيانًا أخرى انفتاحًا أمام تطلعات الإنسان وأراءه. والسؤال الذي نطرحه إذا كانت الهُوية قائمة على الذاكرة والتاريخ فكيف نضبط التاريخ الكوني والكينوني وصيروراته التدفقية، ليكون أمينًا للحفاظ على الهوية؟

لا بُد من الإشارة إلى أن أول ما يجب أن تنصرف الملاحظة إليه هو أن الإنسان كائن تاريخي لا يُملى عليه سلوكه انطلاقًا من إرثه البيولوجي فحسب، وإنما تحظى الثقافة بأهمية نافذة تساعد في بناء شخصيته وتطويرها . من الممكن أن نقول إن الإطار الثقافي هو الذي يُنظم من طريقه علاقته بالطبيعة وبـ “النحن” الجماعي وبـ “الأنا ” الفردية، لأنه نتاج تاريخي واجتماعي وثقافي، وحتى إذا كنا لا نعرف مسار هذا النتاج فينحت بفعل المسير وفق قول العالم الاجتماعي إدغار موران. وبما أن حياة الإنسان محفوفة بالسِيَر التاريخانية، هذا الأمر يجعلها تتأثر بتقلبات الأحوال وتنازع الأوضاع وتغير المصالح، هذه التاريخانية هي التي تحدد مفهوم الإنسان على الرغم من خضوعها الحتمي لمزاجية أو مسلكية الوجود الإنساني الفردي والجماعي المتعلقة بالانغلاق أو الانفتاح، كما أن معضلة الكائن البشري هي مبنية على حقائقُ أنثروبولوجية وتاريخية وثقافية، ينفرد بها الوجودُ المبنيُ على جوهر الوعي وذلك على طول امتداد المسافة الفاصلة بين الحقيقة والتأويلات الناجمة عنها. وطالما أن الهُوية هي حصيلة الانتماءات اللغوية والدينية والثقافية…. التي لا تستطيع التدبر من دونها، فكيف تُتبنى هذه الانتماءات؟

الإنسان وتبني الانتماءات الهُوَوِية      

على الرغم من أن مفهوم الكائن هو المفهوم الأكثر كلية وشمولية وما يعنيه هذا المفهوم (universel) ، وعلى الرغم من وعينا وفهمنا أن هذه الكلية لا تتعلق بالنوع، ولا يتحدد مفهومها من طريق المحمولات الإسنادية المرفوعة من الموجودات الكامنة في الوجود، ومع كامل قناعتنا من أن الهُوية تتجاوز أو تفوق كل كونية، ترانا نسلم بالاعتراف بمحدوديتنا الوضعية وبأن الإنسان هو تعدد في انتماءات، في ولادته انتماء وفي سكنه انتماء وفي فكره انتماء وفي لغته انتماء وفي التزامه بالقضية انتماء…  حتى في الحروب والاضطهاد انتماء. نستنتج إذًا أن فعل الانتماء مُحايث في كينونته . وهذا التنوع يسهم في تكوين شخصيته، وأي خلل في قضية من القضايا يؤثر فيه، كما أن أي انتهاك لصيغة واحدة من صيغه ينفعل ويتأثر بكل كِيانه. وإذا كانت أواصر اللغة هي طريق إقامتنا في هذا العالم، إذ كنا نشهد أحيانًا أنها كانت تحل في موضع قرابة النسل والدم، وإذا كان الطرح الفلسفي للهُوية يستقي مقام راهنيته من الأفق اللغوي، وعلى هذه الحال تغدو “كل نظرية لُغوية تابعة لتصور معين عن الذات”[9] وفق قول الفيلسوفة البلغارية جوليا كريستيفا. ما نريد قوله من كل ذلك أن الرهان قائم على معرفة الخلفيات التي تسمح ببناء الهويات الثقافية، وبدلًا من أن تتضمن روح التعددية الثقافية غنى وحضارة، نراها تخفي وراء الحقيقة التبسيطية لهذه الثقافة لعبة الأرقام المجردة لحقيقة البشر المعقدة والضائعة والمسلوبة، وعلى أثرها يصبح الوضع البشري برمته تهمة هُووية ندفع ثمنها طوال حياتنا.

في الختام نريد أن نقول إن الهُوية كالحدث والحدث ينطوي على إمكان الاستحالة، إزاء هذا الوضع نقف خارج هذا الحدث مدهوشين ومكتوفي الأيدي ومحتارين بين أن ننتمي إليه أو أن نواصل طريقنا وكأن شيئا لم يحدث. من النافل القول إن الادعاء بالحقيقة هو التبرير العميق لأي شعور بالهُوية. وكم هو مؤسف أن يحتاج حضور الهُوية في مجتمعاتنا إلى خلق أزمة طاعة مأخوذة من النفوس الخائفة من موتها في حياتها.

الأنطولوجيا تحدد ظروف الهُوية الفردية، والحداثة أخفت علاقتنا بالإرث الماهوي للهُوية. وعلى الرغم من أننا نتهادى بين منحيين: منحى الإرث الأفقي (العصر ومعاصريه) ومنحى الإرث العمودي (الأسلاف وتقاليد الشعب)، فنحن لا نسعى في قراءة أنفسنا أو حتى لا نستطيع قراءتها. لذلك من الطبيعي ألا يكون هناك إمكان للتعرف إلى مصادر الهوية.

مما لا شك فيه أن الإنسان هو مشروع أُعد للموت وفق هايدغر، غير أن فهمه يبقى دائمًا مشروعًا مؤجلا، وما دامت حرية الحياة متقدمة على حرية الذات، فهذا يفرض على الإنسان أن يصرف همه للائتزار والنهل من شجاعة الوجود والتحرر من الخوف وذلك بحثًا عن هُويته الضالة. ويبقى المشكل عالقًا بخصوص تدبر كيفية الوصول إلى حال من الرضا والفهم الكامل في هذا الوضع المتأزم المحفوف بالتخلف والنكوص والتخمين، الموثق لحالنا النارسيسية التي لا تحلم بصورتها المثالية فقط، وإنما بالصيغة الاستنساخية لصور هوياتها المتكثرة والمتكسرة.

 

الحواشي والمراجع:

امين معلوف، الهويات القاتلة، دار الفارابي، 1998.

هايدغر، الأعمال الكاملة، ج، 65.

Baudrillard, L’autre par lui même, Paris, Galilée, 1987

Hegel, Phenomenologie des Geistes, Hamburg: Felix Meiner Verlag, 2011.

Julia Kristiva, Le sujet en procès: Le langage poétique”. In: L’Identité. Paris, Seuil,1977

Desilet Gregory, The Enigma of Meaning Wittgenstein and Derrida, Language and Life. McFarland, 2023, p. 133.

[1] Baudrillard, L’autre par lui même, Paris, Galilée 1987, p. 10.

[2]  امين معلوف، الهويات القاتلة، دار الفارابي، 1998، ص. 66.

[3]. Hegel, Phénoménologie des Geistes (Hamburg: Felix Meiner Verlag, 2011), pp: 13-14-15.

[4] Desilet Gregory, The Enigma of Meaning Wittgenstein and Derrida, Language and Life. McFarland,2023, p. 133.

         ) τὸ ὂν, τὰ ὂντα ( نذكر أن هذا الأفهوم الفلسفي كان موجودًا منذ زمن أفلاطون وأرسطو ، يعني في اللغة اليونانية القديمة ) [5] استخدم للتمييز بين التجربة الفينومينولوجية التي تفيد الاتصال بالعالم المعيشي (le monde vécu) الذي يغمر الإنسان وبين الأفهوم الميتافيزيقي الذي يسائل جوهر هذا الحضور للكائن وذلك بغية الكشف عن حقيقته (dévoilement de la vérité de l’être)..

[6]  هايدغر، الأعمال الكاملة، ج، 65، ص. 49.

[7]   كورت ليفين عالم نفس أمريكي ألماني المولد (1890- 1947 ) يعرف باعتباره أحد رواد علم النفس الاجتماعي والتنظيمي والتطبيقي الحديث في الولايات المتحدة. صاغ مفهوم الهُوية الأصلية الذي شكل أهمية كبيرة في نظرية الزمكان(الزمان المكان) والمجالات ذات الصلة.

[8] Lewin Kurt, Der Begriff der Genese in Physik, Biologie und Entwicklungsgeschichte, Berlin, Springer, 1922.

[9] Julia Kristiva, Le sujet en procès: le langage poétique”. In: L’Identité, Paris, Seuil, 1977, pp 223-246.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete