لماذا النخبة؟
يقال بأن كل مجتمع يفرز نخبته، وكل واقع هو وجه من الوجوه التي يمكن أن تقرأ فيها شكل مثقفيه أو نخبته أو دوائر قراره. هذه بديهية طبيعية تستند إلى الواقع، ويصدقها الاجتماع البشري منذ بداياته، إذ لا يمكن أن نتوقع من واقع مهترئ فكريا أن ينتج لنا عقولا يمكنها تجاوزه إلا في حدود دنيا. وهنا تتجلى أهمية الثقافة والفكر والاجتماع البشري، فلا يمكن أن نؤسس أو نفكر في واقع جديد، أو أفق آخر بعقليات تنتمي إلى عالم قديم، أو أفكار رجعية، أو ذهنيات ارتكاسية لا تؤمن بالجهد البشري والمكتسبات الإنسانية. وإذا تأملنا في الواقع الإنساني نجد بأن مختلف الطفرات العلمية والاجتماعية والفكرية قادها مفكرون وفلاسفة وإصلاحيون بأبعاد يتقدمها العلم والمعرفة والبناء الحضاري. وإذا غابت هذه النخبة الطليعية أو ارتكست أو عجزت عن إيجاد بدائل لمجتمعاتها، تحولت هذه المجتمعات إلى فضاءات للهدر الإنساني، وإعادة إنتاج التخلف بما يسمح بالمزيد من الهدر لمقومات الإنسان وموارده وقدراته.
وبما أننا نعيش اليوم المجتمع المفتوح بكل أبعاده الإنسانية والثقافية والاقتصادية، فإن دور النخبة يزداد، كما يزداد الضغط على أفكارها وعقولها وإمكاناتها داخل مجتمعات باتت عبءا على العالم من ناحية قدرتها على الاستهلاك الثقافي والفكري، حيث لم يعد بإمكانها أن تخاطب الناس بما ينفعها، بل انخرطت هي الأخرى في مجريات المجتمع الاستهلاكي، لتتحول بدورها إلى ما سماه آلان دونو بنظام التفاهة. هذا النظام الذي اجتاح بشكل كبير المجال الثقافي والفكري، إلى درجة أصبحت النخبة جزءا من المشكلة بدل أن تكون جزءا من الحل. ولتوضيح هذه الفكرة يلزمنا المرور على ما أورده أيضا آلان دونو في كتابه السابق، حيث يرى أن ما نحياه في عوالمنا المعاصرة، يمكن إرجاع أسبابه إلى عاملين اثنين: اجتماعي واقتصادي، كما في السياسة والشأن العام الدولي.
العامل الأول:
تغير مفهوم العمل في المجتمعات المعاصرة. فالمهنة صارت وظيفة، حيث أن الموظف يتعامل معها باعتبارها وسيلة للبقاء لا غير. فمثلا يمكن للعامل أن يعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، لكنه لا يجيد إصلاح عطل بسيط في سيارته. يمكنه أيضا أن ينتج غذاء لكنه لا يقدر على شرائه. أو يبيع كتباً ومجلات، وقد يعمل في مجال تعليمي ولا يقرأ سطراً واحدا.
العامل الثاني:
مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين. فبمجيئ التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحكامة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، والدولة مجرد شركة خاصة. وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة جماعته.
وإذا كانت النخبة في عالم اليوم أمر يخضع أيضا لمجموعة من الاعتبارات والحساسيات، فإن هذا الأمر يحيلنا إلى بداية العشرينات، وتحديدا إلى مدرسة فرانكفورت التي كانت تعتبر بأن الثقافة صناعة مثلها مثل غيرها من الصناعات، حيث تدار دواليبها وأفكارها ومواضيعها داخل أروقة السياسة ودوائر القرار العالمي.
فكيف تحولت الثقافة إلى صناعة؟
هنا لا بد من المرور على مدرسة فكرية ونقدية أثرت أفكارها في مختلف جوانب الحياة الأوروبية والعالمية بدايات القرن العشرين، إنها مردسة فرانكفورت أو المدرسة النقدية. حيث كانت الانطلاقة الفعلية لها بألمانيا في عشرينيات القرن العشرين، واهتمت بالنقد الاجتماعي والثقافي، خاصة من خلال دمج الفلسفة الماركسية مع التحليل النفسي وعلم الاجتماع. ودراسة المجتمع من منظور نقدي، وتسليط الضوء على العلاقات بين الاقتصاد، الثقافة، والسياسة. وكان من أبرز روادها ثيودور أدورنو الفيلسوف وعالم الاجتماع، الذي اهتم بدراسة الثقافة الشعبية، الموسيقى، والفن، وكان من أبرز نقاد “صناعة الثقافة” التي عملت على تحويل الفنون والثقافة إلى منتجات تجارية تُسهم في استدامة النظام الرأسمالي وتغيب الأفراد عن التفكير النقدي. كما برز الاسم الثاني في هذا الصدد وهو ماكس هوركايمر الفيلسوف وعالم الاجتماع، الذي اشتُهر بعمله على نظرية النقد الاجتماعي. حيث ركّز على كيفية استخدام المعرفة والفكر لتحليل وتغيير الهياكل الاجتماعية. كما اشترك مع صديقه أدورنو في كتابهما النقدي المسمى ب” جدل التنوير “. وهو كتاب ينتقدا فيه التنوير الأوروبي نفسه باعتباره أداة تحولت لخدمة السيطرة على المجتمعات.
وبما أن دور النخبة في كل مجتمع على حدة هو دور مؤثر فإن دوائر القرار العالمي جعلت من النخبة والثقافة أمرا خاضعا للصناعة وخدمة أجندات التحكم العالمي، وتوجيه الرأي العام بما يخدم السياسات الكبرى. وهو الهدف الرئيسي لكتاب جدل التنوير الذي أظهر فيه أدورنو وهوركايمر نقدا حادا لفكرة التنوير الأوروبي كما عرفتها أوروبا، حيث بدلاً من تحقيق إنسانية الإنسان الكاملة من خلال فكرة التنوير، أصبح هذا الأخير أداة للسيطرة والقمع والتسلط على مقدرات الإنسان المختلفة، ووسيلة من وسائل الهدر الإنساني بتجلياته الكبرى. فالعقل في بعده الكوني، والعقلانية التي تغنت بهما الفلسفات التنويرية، بدل تحرير الإنسان من ربقة الرأسمالية المتوحشة، والنظام العالمي الجائر، أصبح خادما لمفهوم السلطة والدولة والنظام القطبي الواحد، مما أدى إلى ما يصفانه بـ”عقلانية مدمرة”.
الثقافة والهوية: أيهما يعبر عن الآخرHaut du formulaire
Bas du formulaire
يبدو أننا في عالم تسقط فيه كل المثاليات، كما تسقط كل السرديات والميثولوجيات الكبرى، لأن داخل الثقافة الواحدة هناك ثقافات وهويات وأشكال لا نهائية من التعبيرات المختلفة. لهذا يمكن أن نجزم بأن الهوية الخالصة هي ضرب من المستحيل، كما أن الثقافة الواحدة، أو الثقافة الخالصة وهم من الأوهام. بل إن هناك من يعتبر بأن مسألة الهوية والخصوصية في مجتمعاتنا العربية هو نوع من الشّيزوفرينيا كما عبّر عن ذلك داريوش شايغان، هذه الشّيزوفرينيا ناتجة عن مستويين من المعرفة ينتميان إلى نمطين من العيش، فتنجم عن ذلك غالباً حركات عفوية وردود فعل غير متوقّعة[1]. فالواقع الثّقافي الحالي يعيش بشكل أدقّ بين مستويين من أشكال الهوية: أحدهما: هوية متعالية متسامية بل ومقدَّسة في الذهن. والثاني: هوية عملية بل مدنّسة في الذِّهن رغم الممارسة[2].
إنّ ما يجعل إمكانيات تقليص الحديث عن إشكالية الهوية الثقافية في المجتمعات الغربية بالمقارنة مع نظيرتها العربية، هو مسلسل العولمة الذي يمثِّل أكبر مظهر من تجليّات هذا الواقع الرأسمالي في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية. في ظلّ هذا الواقع الجديد والمعيش تطرح الثّقافة العربية نفسها بصفتها منظومة قيم ومبادئ وتصوّرات لهذا الإنسان العربي، القابع في رقعة جغرافية جلُّ بلدانها لا زالت تلهث وراء ركب التنمية دون أنْ تدركها، وتتخبّط في مجموعة من الأزمات بدءاً من الاقتصادية، انتهاءً بما هو فكري ثقافي، حيث تمثِّل الأميّة رقماً صعباً في مقياس الكثير من هذه البلدان.
يقرّ الباحثون في المجال الفكري على صعوبة إيجاد تعريف قارّ للثقافة. فابن نبي بتتبّعه لكلمة الثقافة يجد بأنّها تأتي تعبيرا عن الكلمة culture بالحروف اللاتينية. والجذر العربي لهذه الكلمة ” ثقِف ” موجود في القرآن الكريم، لكنْ بدلالات لا تتوافق مع معنى culture. فمن نقل الكلمة إلى العربية بحسب تعبير ابن نبي كان صنّاعا ماهراً في اللغة العربية، حريصا على تجويد اللّفظ وصفائه. فالكلمة لا تزال تحتاج إلى عكّاز أجنبي مثل كلمة culture لكي تنتشر. فالخلاصة حسب ابن نبي هو أنّ هذا اللفظ هو صناعة أوروبية نتيجة عصر النهضة[3]. وإذا ما نظرنا في مختلف التّعريفات التي أعطيت فلن تخرج عن تحديدين أساسيين: الأول: أنّها منظومة من السّمات التي تميّز جماعة دون أخرى. والثاني: منظومة ما من الظواهر الأكثر تميزاً وحضوراً من منظومة أخرى من الظواهر داخل جماعة محدَّدة[4]. إجمالا يمكن التعبير عن الثقافة بالقول:” هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها “[5]. ولو أنّ هذا التعريف يشير في أبعاده إلى الاتجاه الماركسي في تعريف الثقافة بكونها هي فلسفة المجتمع. لهذا أضاف ابن نبي إلى تعريف الثقافة لدى كل من المدرسة الغربية والمدرسة الاشتراكية، في نظرتهما لمفهوم الثقافة بعداً آخر، حين ربط بين الثقافة والحضارة. ففي ضوء هذا الرّبط تصبح الثقافة نظرية في السلوك أكثر من أنْ تكون نظرية في المعرفة. وبهذا يمكن أنْ يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم[6].
بعد تحديد المفهوم يمكننا القول بأنّ سؤال الثقافة العربية كما نودّ الإشارة إليه في هذا المقام، لا يمكن أنْ يجد مصداقيته في واقع يكرّس الأمية، وتعليم هشّ ببرامج أقصى ما يمكنها فعله، هو تخريج صفوف من المعطّلين العاجزين عن اقتحام مجالات تدفع بعجلة التنمية، لتسير مسيرتها دون توقف أو تعثر، ووسط ركام من الضبابية في المجالات المتعددة، بدءاً من الحريات الفردية ثقافية كانت أو سياسية أو حقوقية، انتهاءً إلى ما هو اجتماعي يهمّ المجتمع كبنية واحدة. فالواقع العربي بمختلف مؤشراته لا يسمح في الكثير من الأحيان بالحديث عن الثقافة، إلا في أطر معينة غالباً ما يتمّ اختزالها في الجانب الفلكلوري، أو ما شاكل ذلك، مع العلم بأنّ تحديات العولمة والحضارة وقيم الحداثة تدمّر كلّ هذه الحضارات المحلية ( مختزلة إلى حدود الفلكلور) لأنّها غدت حالياً شاملة وكونية كما يعبِّر شايغان[7]..
تغيب كل المقاربات الموضوعية في طرح سؤال الثّقافة العربية، حين يغيب السّؤال عن هذا الضعف المستشري في أوصال بيئة لا تنقصها المؤهلات المادية أو البشرية، بقدر ما تنقصها الإرادات المسؤولة عن التغيير الحقيقي، ذلك التغيير الذي يرى فيه المواطن العادي ثقافة العيش، ويرى فيه الأمي ثقافة العلم الذي يمكنّه من الخروج من براثن أمّية تضرب بعمقها في الفكر العربي، ويرى فيه المتعلّم أفقاً يوظّف فيه تجربته العلمية في الميادين المتعددة، بدل توظيفها في مجالات لا تعكس حقيقة مؤهلاته المعرفية والعلمية، ويرى فيه السّياسي والمسؤول مهمته من أجل الحفاظ على الصالح العام، وعلى كرامة الإنسان التي تفضي إلى كرامة الوطن ومجده وسؤدده.
كل هذه التجليات لواقع عربي بثقافته المحتفى بها سنويا بمنطق التجمعات وإلقاء الخطب والأشعار، عاجزة على مجاراة ثقافة غربية عالمية تغزو بيوتنا، وتقنعنا كل حين بأن الجودة وما ينفع الناس هو ما يصمد أمام التحدي الحقيقي. وما الشعارات والتجمعات إلا واحدة مما سماه عبد الله القصيمي ب ” العرب ظاهرة صوتية “، حيث ظل الهاجس اللغوي وما زال هو المسيطر على هذه البنية الثقافية. فلا يلبث الإنسان العربي أن يعيش في تاريخه مستلهما أمجاده، ومعتقدا في إمكانية استرجاع الماضي بتفاصيله الأبدية.
النخبة المثقفة والدور الطلائعي
لعل أهمّ ما يمكن أن يطرح في هذا الصّدد بصفته سؤالا يتجسّد فيه ما قلناه سابقا، هو غياب ما يسمّى ب ” النخبة المثقّفة “. فكما أشرنا إلى صعوبة تحديد مفهوم الثقافة من قبل، نعيد التنبيه إلى ذلك مع لفظ ” المثقّف “. هنا يتعين الحديث عن الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي بوصفه واحدا من الفلاسفة الذين التصق بهم تعريف المثقّف بشقّيه التقليدي والعضوي. فلقد ميّز غرامشي بين نوعين من المثقفين: الأوّل يضمّ المثقّفين التقليديين كالإداريين والمتعلمين والكهنة. والثاني: يضمّ من يسمّيهم المثقفين المنسّقين، وهم من يرتبط مباشرة بالطبقات أو المشروعات التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والمزيد من الرقابة[8].
فحسب غرامشي فكلّ مجموعة اجتماعية تنتج بشكل عضوي فئة أو أكثر من المثقفين، مهمّتهم هو إكساب المجموعة تجانسها ووعيها لوظائفها في جميع المجالات. وبالتالي فما يميّز فئة المثقفين العضويين عن بقية الجماعات الاجتماعية، هو الدور الخاّص الذي يلعبونه في عالم الإنتاج. وهناك من ذهب أكثر من غرامشي في وصف فئة المثقفين بموظّفي المجموعة المسيطرة كما عبّر عن ذلك بولانتزاس[9].
إنّ المثقف العربي حسب التعاريف السابقة ينتمي إلى الدولة من جهة، كما ينتمي إلى مجموعات اجتماعية مختلفة دينيا وعرقيا ولغويا. لهذا كان لتشتّت هذه النخبة الثقافية غيابا للتأطير الثقافي، وغيابا للمشاريع الفكرية والفلسفية التي من شأنها أنْ تنهض بالمجتمع نحو التغيير. لم يكن بحقّ عدم حضور ما يسمّى بالنّخبة منفصلا عن هذا التأخّر العربي على ساحة الفكر والثقافة والاقتصاد، وغير ذلك من المجالات الحيوية في أيّ تنمية بشرية. وضع المثقّف العربي نفسه لاعتبارات عديدة في خانة السّياسي تارة، حيث كانت كل توجّهاته موجّهة للتأطير السّياسي والدفاع على نظام أو حزب أو مشروع فئوي ضيّق. وتارة كان ناطقاً باسم المعارضة المترفعة على إكراهات الواقع. لم تكن المشاركة ومنطقها في حسبانه في العديد من الأحيان، إذ لم يقدّم برامج وأفكارا وحلولا، وإنّما كان يقدّم مشروعا لا يصلح إلا لمجال الخطابة على شاكلة برامج الأحزاب العربية.
غاب المثقف العربي لأنّه لا يريد أنْ ينزل من تنظيره الفكري إلى أرض الواقع، ومعايشة الأرقام المهولة في تدنّي الأجور، ومستويات التعليم، وارتفاع أرقام الجريمة والانحراف. إذ ليست الثقافة عزلة داخل المكتبات وتصفّح الأخبار والأوراق فحسب، ولكن الثّقافة هي فنّ العيش، وملامسة الواقع، من خلال الاحتكاك الحقيقي بالطبقات الاجتماعية المختلفة، وتلبية مطالبها بالوعي، والتحسيس، والخروج من الأزمة في الوقت المناسب والمكان المناسب، لأنّ العلاقة بين الأزمة ومسمّى المثقّف علاقة جدلية كما أشار تركي الحمد:” فالأزمة توجِدُ مثقّفها والمثقّف يحدِّد مسار الأزمة بما له من موقف ذهني ومشروع عقلي تجاهها “[10]. أمّا غير ذلك فلنْ يكون ثقافة إلا عند من تستهويه كلمة مثقف، أو مفكر، أو النّخبة التي تفترض العزلة والطبقية بالضرورة، أو عند من يرون بأنّ المثقف هو الحامل لشهادات أكاديمية عليَا. حيث أنّ المعنى الغربي للثّقافة والمثقّفين هو السّائد والمقصود حين الحديث عن المثقفين بصفتهم صفوة معينة ((élite، تعتمد العقل في النظر إلى الأمور أو يفترض ذلك. وبالتالي فإنّها صاحبة موقف معين نابع من ملكاتها التي جعلتها صفوة معينة[11].
يلقي هذا السّؤال بظلاله على ذهن ثقافة شفهية لا تريد أنْ تخرج من إطارها الضيّق، لتندمج عبر منطق التفاعل مع عوالم أرحب من سلطة اللغة والتنظير، ويبقى المثقف الحقيقي معزولاً في البحث عن مصادر العيش ومضايقات السّلطة والمجتمع، أو يصارع الجهل في واقع يرى في التغيير خروجا عن النسق وتمرّداً على الشرعية. إنّ الواجب على ما يسمّى بالنخبة أنْ تعرف بأنّ قيمتها تتجلّى فيما تحمله من بُعْدٍ رسالي، وليس في شعاراتها، أو ما ينطوي عليه خطابها من مفارقات تهدف إلى تزييف الوعي باعتباره الهدف الأوّل لنضالاتها. لقد أشار هربرت ماركوز إلى هذا المعطى حينما قال:” بأنّ التناحر بين الواقع الثقافي والواقع الاجتماعي آخذ اليوم بالتراخي، فالعناصر المعارضة المتغربة المتعالية، التي كانت الثقافة الرفيعة تشكل بفضلها بعدا آخر للواقع، هي في سبيلها إلى الزوال. وتصفية الثقافة الثنائية البعد لا تتم الآن عن طريق نفي القيم واطراحها. بل تتم عن طريق دمجها بالنظام القائم وعن طريق إعادة إنتاجها وتوزيعها على نطاق واسع “[12].
فلا مكان في هذا العالم لشيء يحمل بذور الفناء فيه دون شعار الجودة والبعد عن الاصطفافات الحزبية، ومحاولة إيقاظ النّعرات الطائفية والعرقية والمذهبية لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الحق الإنساني بوازع مصلحي، بمسمّيات ومفاهيم مقلوبة كالحرية، والحق الإنساني، والديمقراطية. لن يكون هذا الوجود الذاتي للمثقّف أو من يعتبر نفسه كذلك، إلا إذا تمكّن من طرح مشروعه الفكري والفلسفي بأبعاد إنسانية وليست إيديولوجية. فما ينفع الناس يمكث في الأرض وما لا ينفع يكون مصيره الزوال. فأين النخبة…؟
التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
فرضت العولمة واقعا ثقافيا جديدا، حيث أصبح العالم المعاصر أكثر ارتباطاً وتشابكاً مع القضايا والمستجدات والمتغيرات اللامتناهية بفعل العولمة المتسارعة، التي عززت التقارب بين الدول بفضل التقدم الكبير في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي. إلا أن هذا التقارب الظاهري قد يكون خادعاً بالنسبة لأولئك الذين يتطلعون إلى وحدة الشعوب واندماجها. فالعولمة الثقافية التي تفرض على المجتمعات قالباً واحداً، دون مراعاة للاختلافات الثقافية، قد تشكل خطراً على التنوع الثقافي والتكامل بين الشعوب.
هذا الواقع يهدف إلى تسليط الضوء على التهديد الذي قد ينشأ نتيجة لتذويب الفروقات الثقافية وتنميط البشر، وعدم احترام التنوع الثقافي، ومراعاة الاختلافات الإنسانية التي تمثل الجزء الأصيل في حياة الأفراد. فالثقافة من هذا المنظور هي جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، إذ تُعبّر عن هويته الإنسانية المتكاملة مع الآخر، وتجسد بعدا أساسيا من أبعاد إنسانيته. كما تساهم في تكوين أنماط التفكير وتشكيل الرؤى والاتجاهات. لذلك فأي اعتداء على مظاهر التنوع الإنساني يعتبر اعتداء على جوهر الإنسانية نفسها.
من هنا، نرى أن لكل إنسان الحق في التعبير عن تنوعه الثقافي بحرية، دون أن يشعر بالتهديد أو بالضغط على هويته الثقافية. فالتنمية التي تتجاهل البعد الثقافي للإنسان تظل قاصرة عن تلبية احتياجاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إذ إن التنمية الحقيقية يجب أن تتضمن توسيع الخيارات المتاحة للأفراد، بما في ذلك الحريات الثقافية، ليتمكن الجميع من التعبير عن مواهبهم وطموحاتهم بحرية. فالتنوع الثقافي يعد مدخلاً أساسياً لتحقيق السلام العالمي، حيث أن الإقصاء الثقافي وعدم احترام التنوع الإنساني يؤديان إلى تصاعد العداء والكراهية، وفشل مشاريع التنمية والتطور المنشود. خاصة أن تحقيق التنمية المستدامة يتطلب وجود بيئة من الاستقرار والسلام. وهو أمر مرتبط بالأساس بالحفاظ على الحريات الثقافية وعدم قمع مظاهر التنوع المؤدية إلى الانقسامات والاضطرابات. وبالتالي فسياسة الاعتراف بالتنوع الثقافي هو المفتاح لتحقيق استقرار حقيقي في المجتمع، حيث يجب أن يتمتع كل إنسان بحرية التعبير عن هويته الثقافية دون خوف أو إكراه. الشيء الذي لن يتأتى إلا بتعزيز القيم الديمقراطية والتشاركية، وضمان تشريعات تحمي هذا التنوع الثقافي من أجل خلق بيئة إنسانية مزدهرة. فالتنمية الشاملة التي تأخذ بعين الاعتبار البعد الثقافي هي الضمان لتحقيق نمو مستدام ومجتمع متماسك.
Haut du formulaire
Bas du formulaire
المراجع:
[1] – شايغان، داريوش.(1993). أوهام الهوية . (ط1). دار الساقي. ص5
[2] – الحمد، تركي.(1999). الثقافة العربية في عصر العولمة. (ط1). دار الساقي. ص: 87
[3] – ابن نبي، مالك.(2000). مشكلة الثقافة. دمشق. دار الفكر. ص:25
[4] – كينج، أنطوني، ترجمة شهرت العالم، هالة فؤاد، ومحمد يحي. مقال: فضاءات الثقافة وفضاءات المعرفة. كتاب: الثقافة والعولمة والنظام العالمي. سلسلة الفكر. مكتبة الأسرة. ص: 20
[5] – الحمد، تركي. المرجع السابق. ص: 90
[6] – ابن نبي، مالك. ترجمة عمر كامل مسقاوي، وعبد الصبور شاهين.(1986). شروط النهضة. دمشق. دار الفكر. ص: 82
[7] – شايغان، داريوش. المرجع السابق. ص: 11
[8] – إدوارد، سعيد. ترجمة محمد عناني.(2006). المثقف والسلطة. رؤية للنشر والتوزيع. ص: 34
[9] – نادية رمسيس، فرح. المثقفون والدولة والمجتمع المدني. مركز البحث العربية. ندوة القاهرة 1990. غرامشي. مؤسسة عيبال. ص: 320
[10] – الحمد تركي. المرجع السابق. ص: 164
[11] – نفس المرجع ص: 163
[12] – هربرت، ماركوز. ترجمة جورج طرابيشي.(1988). الإنسان ذو البعد الواحد. (ط3). بيروت. منشورات دار الآداب. ص: 92