يفرض علينا الواقع العربي في الحقبة المعاصرة وقفة تأمّلٍ وتحليل، مما يستوجب إعادة النظر والمراجعة النقدية لمسار طال زمنه، ووفُرت أحداثه المؤلمة، وانتهاكاته الفاضحة. وكأن العقل في إجازة طويلة الأمد، والتحرّر عملية خطيرة تؤدّي بأصحابها إلى الهلاك. المقاييس مقلوبة، والأنفاس محصاة، والرقابة صارمة. والأخطر من كل ذلك أن وضع الخطوط الحمراء أصبح أمراً تلقائياً لا واعياً تمارسه الذات على نفسها، والإنسان على أقواله وأفعاله. هناك عملية تدجينٍ نجحت في إخفاء صوت النقد قبل أن يتلفّظ بأي كلمة، وفي كبت الصرخة المنتفضة قبل أن تمرّ بالحنجرة. وكأن الرضوخ هو الأمر الطبيعي، والانصياع هو الضامن للسلامة، والطاعة العمياء هي السبيل المؤدّي إلى حماية النفس من النزاعات المذلّة والخانقة في آن.
إن الكلام على الواقع العربي والفكر النقدي في هذا الوضع بالتحديد، يضعنا أمام ضرورة السؤال حول كيفية انبناء الموقف النقدي، وفي الحق في التفكير الحر؟ هل لدينا الحق في رفض ما هو سائد وعدم الاكتفاء بالمألوف على الصعيد المعرفي؟ هل بالإمكان ترك مسافة نقدية تفصل كلا منا عما هو قائم غصباً عنه، عما هو متعارف عليه ومقبول من قبل الأكثرية؟ هل لدينا همّ ارتكاب جرم التفكّر والتعقّل بهدف بناء رؤية نقدية للأمور؟ أين نحن اليوم من طرح الأسئلة الموجعة والمقلقة التي لا تهدأ؟
من الملفت أن تراجع الفكر النقدي في الساحة العربية الإسلامية منذ زمن المناظرات الفعلية في بلاط الخليفة العباسي، قد أدّى الى تراجع خطير على صعيد الإبداع الفكري إن فلسفياً أو أدبياً أو سياسياً أو فنياً. بات مجال المعرفة خاضعاً للرقابة الصارمة التي تحدّ من ديناميكية الفكر وتضيّق أفق الانتاج المثمر والذهاب الى أبعد مما هو مُتاح.
يشكّل فعل النقد الركن الأساس والجوهر المحرّك للفكر الفلسفي بعامة، وللعقل القلق الذي ينهمّ بالبحث عن المعنى بخاصة. إنه الدافع الأساس الذي يحثّ المفكر على بلورة ما هو جديد، واستكشاف ما هو محجوب. إنه كالافق يدعو القوة العاقلة إلى الانطلاق قُدماً نحو ما هو أبعد، من دون التوصّل إلى القبض على الحقيقة كاملة وبشكل نهائي، مع الوعي المسبق بعدم التمكّن من التوصّل إلى القبض على الحقيقة كاملة وسجنها بين دفّتي كتاب، بشكلٍ نهائيٍّ وثابت. اقترن فعل التفلسف منذ القدم بأخذ مسافة نقدية من موضوع المعرفة، واعتماد المناقشة والطرح المغاير، وعدم الاكتفاء بالتكرار لما قد قيل في خصوص مسألة ما.
للنقد مناهج عمَل العقلُ على تأسيسها واحداً تلو الاخر منذ أن بدأ بطرح الاسئلة المؤشكلة التي تحمل في طياتها قلق المعنى، وهمّ التوصل الى أقرب موقع من الحقيقة الحقة، وعدم الاكتفاء بالإجابات التي قُدّمت سابقاً. ومع دخول الفكر مرحلة الحداثة والعبور الى ما بعدها، تبلورت في الغرب مدارس منهجية عديدة تعتمد النقد أساساً لها، فنتج عن ذلك أن طُرحت مصطلحات غير مألوفة في حيّز التداول الفكري واللغوي، شغلت المفكرين ودفعتهم الى مزيد من الانخراط في المشاريع النقدية المتعدّدة الاأعاد، وأصبح النقد عنواناً عريضاً يكلّل الابداعات الفكرية الحديثة والمعاصرة.
للنقد شروط وقواعد يعمل من خلالها، قد تكثر أو تنقص وفقاً لما يفرضه المفكر على نفسه أو ما يفرضه المناخ المعرفي والاجتماعي عليه. للنقد مسارات وأهداف أبرزها:
1- الشك في المسلّمات وإعادة النظر في كيفية انبنائها.
2- وضع الإنسان في مواجهة مع أخطائه وجهالاته.
3- الغوص في العمق وعدم الاكتفاء بمقاربة الظاهر فقط.
4- كشف النقاب عما أُُريد حجبه، وتسليط الضوء على الزوايا المظلمة.
5- إعادة النظر في المنهج، في المسار، وفي النتائج.
6- الحفر في طبقات المعنى والإسقاطات المتراكمة عبر التاريخ التي من شأنها طمس الحقيقة.
7- موضعة الأمور في سياقها التاريخي والبحث في المرجعيات المعرفية المعتمدة.
8- التعاطي مع الأفكار باعتبارها آراء فيها احتمال الصواب كما الخطأ.
9- البحث في جذور الأفكار، في أصولها، في القواعد والنُظم التي بُنيت عليها.
10- تمهيد الطريق من أجل إحداث قطيعة معرفية مع النهج المعرفي التقليدي وتشييد بناء جديد.
11- الانفتاح على الآخر المختلف وقبول التعدّدية والنسبية.
12- الانخراط في مشروع الحداثة الفكرية.
الفلسفة والنقد
بين الفلسفة والنقد امتدّت منذ القدم جسورٌ متشعّبةٌ تذهب في أكثر من اتجاه، بعيداً عن التأطير، والتنميط، واجترار ما سبق إنتاجه. بين الفلسفة والنقد فوران وطفراتٌ متدفقةٌ مع كلّ قلق أو خشية أو إشكال. فالتفلسف في الأصل فعلُ خروجٍ من التقوقع، فعلُ انفتاحٍ على المختلف، فعلُ حوارٍ مع آخر قد يكون في الجهة المقابلة أو المعادية.
يقول جاك دريدا: “إن من يريد أن يتفلسف حقاً، وجب عليه أن يسير نحو الأمام وبشكل مباشر؛ فأقصر طريق الى الفلسفة هو السير صعوداً نحو الأمام؛(…). إن الفلسفة هي كل ما في العالم يتقاسمه الجميع، ولا أحد يملك الحق في أن يمنع أحداً من بلوغه؛ ولذلك، فمتى توفرت لدينا الإرادة والرغبة فيها، صار سهلاً علينا الحصول عليها…”.[1]
من هنا الربط بين فعل التفلسف والسير قدماً أبعد مما يوفّره الواقع المأزوم. إنه فعل تخطٍّ متجدّد، لا يستريح في الانكماش، ولا يستقيم في القوقعة، ولا يرضى بالتشرنق داخل المسلّمات التي تحدّ العقل، وتكبت الطموح، وتسجن حرية التفكّر. التفلسف مبنيٌّ على النقد، وعلى نقد النقد. يتعلّق الأمر بإعادة النظر بما هو مسلّم به، وعدم القبول بالتنازل عن الحق في اختراق دائرة ما هو مباحٌ أو “مسموح التفكير فيه”. فالتطور محكوم بالخطوة النقدية التي تقطع مع ما سبق التصديق به لفترات. إنه عملية رجوعٍ الى الوراء، وحفرٍ في الجذور، في عمق البُنى التي أسّست نظرية ما، والكشف عن مكمن الخلل.
يذكر برغسون أنه: “ما من حالة عقلية، مهما كانت بسيطة، الا وتتغيّركل دقيقة”، لذا من الضروري أن يقوم الفكر العربي المعاصر برصد مساره ولحظ تغيّراته عبر الزمن. تجدر الإشارة هنا إلى أن عملية تحقيب تاريخ الأفكار الفلسفية منذ زمن اليونان وحتى الفترة الراهنة التي باتت تُعرف بحقبة ما بعد الحداثة، ترتكز على مقياسٍ نقدي، وعلى الاتيان بشيءٍ جديد، نتج إثر ثورة فكرية أدّت الى انقلابٍ للمفاهيم السائدة، أو نقضٍ للنظريات الراسخة. هذا ما بلوره ميشيل فوكو عندما درس تاريخ الفلسفة، وجعل من “القطيعة المعرفية” مقياساً لبداية حقبة جديدة، يُنتَج فيها “نظام فكري” (إبستمه) جديد، يؤسّس لآلية اشتغال العقل على نحوٍ مغاير لما سبق.
يرى هوسرل في سياق كلامه على الطابع المميّز للفلسفة الحديثة “أن “الثورات” الحاسمة بالنسبة الى تقدّم الفلسفة، إنما هي تلك التي يتمّ فيها هدم ادعاء الفلسفات السابقة أنها علم، من خلال نقد طريق سيرها العلمي المزعوم. وعندئذ تنهض الرغبة الواعية تماماً، لتنشئ من جديد، وعلى نحو جذري، الفلسفة بمعنى العلم الدقيق، موجِّهة ومحدِّدة ترتيب المهام التي يتحتّم علينا القيام بها، وأولى هذه المهام هي أن يركز الفكر جَماع طاقته في أن يوضح، عن طريق إجراء فحص منهجي، شروط العلم الدقيق توضيحاً كاملاً، وهي الشروط التي كانت الفلسفات السابقة تغفلّها أو تسيء فهمها بصورة ساذجة؛ وذلك لكي يحاول الفكر في ما بعد تأسيس بناء جديد لنظرية فلسفية…”.[2]
واضح مما تقدّم مدى أهمية النقد الجذري، والدعوة إلى التشبّه بالمسار المعرفي الذي اتّبعته العلوم، وذلك من أجل بلوغ حالة التجديد المنشود في مجال إنتاج الأفكار الفلسفية. فالعلوم برهنت من خلال مسارها أنها أنتجت مناهج وآليات بحث وتدقيق، إذ قامت بمراجعةٍ للمقدمات والفرضيات، وهي لا تقف عند حدّ.
الحداثة والنقد
يرى فوكو في مقالٍ له بعنوان “مساءلة الحاضر” أن “هناك دائماً محاولة للنظر إلى الحداثة كوعيٍ بالحركة المتقطّعة للزمن، أي كقطيعة مع التقاليد وإحساسٍ بالجدّة والنشوة بما يمرّ الآن، ويبدو أن هذا فعلاً هو ما يعنيه بودلير حين يعرّف الحداثة بـ “المتنقّل أو الهارب أو الطارئ”؛ غير أن هذا لا يعني بالنسبة له أنه يكفي أن تتعرّف على هذه الحركة الدؤوبة وتقبلها لكي تكون إنسانَ الحداثة؛ بل بالعكس أن تتخذ موقفاً منها. وهذا الموقف الإرادي والصعب يتمثّل في إحكام القبض على شيء خالد لا يوجد لا خارج اللحظة الحاضرة ولا وراءها، ولكن فيها؛(…)”. [3]
الدخول في الحداثة إذا مرهونٌ بمساءلة الحاضر، وبالدخول في حالة نقدية. إن الأمر يتعلّق باتخاذ موقف من اللحظة الراهنة، إنه العيش في الحاضر بكل أبعاده والإحاطة بجوانبه العديدة من زاوية إعادة النظر والمراجعة النقدية. هذا ما لم يتحقّق بعد بقوة في معظم المجتمعات الناطقة بلغة الضاد، حيث العودة الى الماضي باعتباره أصلاً، هي النهج، والتشبّثَ بالتراث بوصفه مقدساً، هو الطريق. فما هو المطلوب على الصعيد العربي؟
إقرأ أيضًا: غياب الذات العربية بين رهاني الحداثة والتراث
من هنا أنتقلُ الى القسم المنهجي التطبيقي، لكي نرصد معاً أبرز ما يمكن القيام به من أجل إحداث قطيعة معرفية مع نهج التكرار والاجترار والقياس على نموذج سبق، وذلك بهدف الدخول في عمق الحداثة الفكرية، وتأمين الطريق السالك نحو الإبداع. سأستعين بمحمد أركون صاحب مشروع نقدي منذ سبعينيات القرن الماضي، يفتح القنوات بين علوم الإنسان وعلوم اللسان والمجتمع في سبيل تقديم قراءة نقدية للظاهرة الدينية، وما ولّدته في الحضارة العربية الإسلامية. فالحقيقة بالنسبة إليه لا يمكن سبرها إذا تقوقعنا في زاوية واحدة، وتسلّحنا بعلم واحد، واكتفينا بمنهجية معينة من دون سواها.
النقد في مفهوم محمد أركون
إن النقد عند أركون ليس مجرّد موقفٍ أو فكرةٍ يتغنّى بها، ولا سلاحاً حاداً يَشهره عشوائياً في وجه الماضي، إنما هو منهجٌ منفتحٌ، ومسارٌ متعدّدٌ، يُفضي بالضرورة إلى التغيير. إنه مشروع فكري وإنساني ، يعمل على إلقاء المزيد من الضوء على حقائق تهمّ الوجود البشري، ويجتهد في تحرير الروح من السجون الفكرية التي فُرضت عليها. النقد يبدأ بالحفر والزحزحة لكي ينتهي بالتجاوز والتحديث والدخول في مشروع الحضارة الإنسانية والإسهام فيه. انه باختصار إعادة قراءة الماضي من زاوية مختلفة تستثمر كل مكتسبات علوم الانسان والمجتمع واللغة، يتعلق الأمر باتخاذ موقف مغاير من التراث.
يمكن أن نوجز الخطوات النقدية التي يمكن الاعتماد عليها لإدخال الفكر العربي بالعولمة في النقاط الآتية:
1- تفكيك “التركيبات المعرفية” للعقل الديني التي تتضمن الانظمة اللاهوتية، والتفاسير والتواريخ، من أجل تحويلها الى ورشة عمل لا تهدأ.
2- اعتبار العقلانية بمثابة تركيبة مؤقتة يتمّ تخطّيها في ما بعد لكي يحلّ مكانها عقلانية أخرى أكثر توافقاً مع المعطيات الجديدة.
3- عدم الاعتراف بإمكانية تأسيس نهائي ومطلق للعقل البشري، ولا الإقرار بوجود أصول ثابتة ونهائية له. نشير هنا الى أن هذا الامر يُعتبر من أبرز مكتسبات الابستمولوجيا الحديثة.
4- عدم الاعتقاد بأن المعنى بحدّ ذاته موجود على نحو مُسبق أو جاهز، إذ إن هناك عوامل عديدة لعبت دوراً في تشكيله وانبثاقه، وهو ينحلّ ويتبدّل بعد فترة قد تطول أو تقصر لكي يحتلّ مكانه معنى آخر، يبقى عرضة للتغيير.
5- إن إحدى مهمّات العقل النقدي تكمن في الحفر عميقاً من أجل “البحث عن الشروط (أو الظروف) التي يتمّ فيها إنتاج المعنى وما يشكّل المعنى بالنسبة للوجود البشري”.[4]
6- القيام بتفكيك جذري للماضي، ماضي اي أمة او طائفة في سبيل فهمه وتقويمه لكي يتمّ التخلّي عما لم يعد مفيداً، والاحتفاظ بما هو إيجابي ويُسهم في البناء الجديد. وهنا إشارة الى التعالق بين السياسة والدين.
7- العمل على الخروج مما هو متحجّر ومغلق ومسجون داخل الأطر الثابتة للعقائد على اختلافها. لذا ضرورة السعي الى موقف متوازن يُبرز أثر الوقوع في أسر الأنظمة المغلقة ٳن في الناحية العربية أو في الناحية الغربية.
8- إن دخول الفكر العربي في الحداثة يقتضي عدم الاكتفاء بالتعاطي مع ما هو مسموح التفكير فيه من دون سواه، والانغلاق في دائرة السياج العقيدي الضيق. يتطلّب الأمر تحريضاً بشكل مستمر على خرق دائرة “المستحيل التفكير فيه” لفتحها والحفر في طيّاتها، على الرغم من كل الضغوط والموانع المتنامية، وذلك من أجل الكشف عن أنماط المعرفة التي سبق أن أنتجها الفكر المؤدلج وأيّدها.
9- تفكيك جميع نظم الفكر والقيم التي بناها الدين، او التي أسسها العقل الحديث المسمّى عقل الانوار، والعمل على القاء الضوء على المقدمات والمسبّقات والتغطيات التي تحجب الواقع وتقدّم الحقيقة باعتبارها منزلة ومثبتة ومتحقَّقٌ منها على أكمل وجه من قِبل المدافعين عن “العقل الخالص” وعن “العقل العملي”. من هنا أهمية التوجّه بموضوعية نحو مسلّمات العقل الغربي، عقل الانوار، من أجل الإشارة الى ضرورة تفكيك الحقيقة المثبتة، ليس فقط في الاطار الديني انما ايضاً في الاطار الفلسفي.[5]
10- عدم الادّعاء بامتلاك المعنى الحقيقي. فالاقتناع بوجود معنى كلّي، منجز ونهائي وأخير، بات أمراً في غاية الصعوبة.لا بل، كل من يدّعي وحده امتلاك المعنى بكليته، يجب أن يُدحَض ادعاؤه ويُنتقد بصفته نوعاً من الايديولوجيا. والايديولوجيا يُقصد بها هنا: “تلك الإرادة التعسفية لفئة ما أو حتى لقائد ما في نشر معناه أو “قِيمه” لكي تشمل الجميع أو تسيطر على الجميع. بل ان تعبير “البحث عن المعنى” أصبح هو نفسه مشبوهاً: بمعنى أصبح يُعتبر كإيديولوجيا مقنّعة تهدف الى إعادة الأنظمة اللاهوتية والميتافيزيقية القديمة الى سابق عهدها، اي الى ممارسة وظيفتها في تبرير ارادات القوة والتوسع والهيمنة”.[6]
إقرأ أيضًا: نظرة محمد أركون النقدية
11- يستحيل دخولُ الفكر العربي الحداثة من دون الانخراط في المشروع النقدي المتفلّت من الخطوط الحمراء التي تحدّ العقل وتُخضعه لمقولاتٍ وأنظمة تجعله يقع في التبعية والتكرار والاجترار. الدخول في الحداثة يعني اذاً النقد أي الزحزحة والتفكيك فـ التجاوز. تأتي الزحزحة كخطوة أولى تطاول الاجهزة المفهومية، والمقولات القطعية التي لا تقبل النقاش، والتحديدات الراسخة والمنقولة عن الماضي، لكي يُصار في ما بعد الى تفكيكها فتجاوزها. الماضي هنا لا يعني فقط التراث العربي الاسلامي من دون سواه، انما يشمل أيضاً التراث الاوروبي الغربي. هناك في الجهتين، كثير من التصورات والرواسب المتبقية من الماضي، وهي تُسهم في تشكيل أحكام مسبقة تحول دون تأسيس نظرة تاريخية حقيقية، وتحقيق لقاء موضوعي علمي بين الطرفين.
12- اعتبار معرفة الواقع “مجازفة مستمرّة” كونها فعلَ خروج متكرّر بعيد عن حدود السياج المغلق الذي يفرضه كل تراث ثقافي، بعد أن يختبر تجربة مكثفة معينة، كتجربة الوحي مثلا، إنها رحلة مفتوحة من دون نقطة ختامية.
في الختام،
يمكن القول، إن التوقف قراءة الواقع العربي المعاصر من وجهة الفكر النقدي يعني أنه على الرغم من كل ما يحيط بنا، هناك من لا يملّ من الكتابة والتنظير والطَّرق على نافذة الوعي، والنفخ في بوق الضمير، والعزف على أوتار الحكمة، لعلنا نستيقظ أو نوقظ. عسانا ننهض أو نستنهض الآخرين من معاناة، مرارتها فاقت كل توقّع، وتخطّت كل تنظير. من السهل طبعاً أن نترك الحبر يسيلُ، ونُكثر الكلام ليملأ الرفوف والمستودعات، لكن الأصعب يكمن في السير نحو التغيير وتحقيق ما نصبو إليه، ما يجعل مجتمعاتنا تسير في خطى ثابتة نحو التغيير المنشود.
مسار التطبيق يأتي دائماً ملبّداً بالإعاقة ومضرّجاً بوجع الانتظار المؤبّد. لكن الواقع يستحق تكريس المزيد من الجهود وعدم الاكتفاء بما نحن عليه. وكأنه حُكم علينا أن نبقى قابعين في قاعة “الترانزيت”، لا نقيم في مكان ولا نصل إلى هدف. ننتظر الفرج آتياً من أفق موهوم، والنورَ مطلاً من نافذة لم تُفتح درفتاها بعد.
من أجل دخول الفكر العربي في العالمية وإسهامه في ما يُنتج اليوم، علينا أن نُبقي باب النقد مشرّعاً، وهو حقٌ وواجبٌ يمارسه كلّ مفكرٍ، وباحثٍ، ومثقف. لا بل إنه واجبٌ لا يجوز التغاضي عنه، ولا التساهل أو التراجع في شأنه. النقد والانفتاح والتجاوز والانطلاق نحو الأبعد والأعمق والأوسع عناوينُ عريضة، وصيحاتٌ مدوية، تتفجّر لتحثّ كلّ واحدٍ منا على حملِ راية التجديد، والخوض في ركاب الحداثة ، والانهمام بما يرتقي بالإنسان نحو مزيدٍ من التطوّر والرّقي، بدل التسمّر في الماضي والتغاضي عن حركة التاريخ، والتقوقع داخل المسلّمات، والتخلّي عما يميّز الإنسان ككائنٍ عاقلٍ مدركٍ لشروطه الإنسانية، كما عن حقّه في الثورة والرفض والانقلاب والتغيير والانطلاق في رحلةٍ حدودُها متفلّتة من كل حدّ.
المراجع:
[1] – J. Derrida, Du droit à la philosophie, éd Galilée, Paris, 1990, p535
[2] – ادموند هوسرل، الفلسفة علماً دقيقاً، ترجمة وتقديم محمود رجب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص23
[3] – ميشيل فوكو، مساءلة الحاضر، مقال منشور في C.F Magazine littéraire, dossier Foucault, N°207, Avril,1984، ترجمة حميد طاس، مجلة فكر ونقد، عدد5، يناير 1998، ص140
[4] – أركون، محمد.قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998، ص238
[5] – محمد اركون، م.ن. ص 85
[6] – محمد أركون،الاسلام،اوروبا، الغرب،رهانات المعنى وارادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1995، ص24