تكوين
-
- وضْعٌ بشري أم وضْعٌ إنساني؟
في ثقافتنا الكثير من العوائق والحواجز المعرفية التي تحول بيننا وبين أن نبلغ مرتبة الإنسان، هذه المرتبة التي جعلها الله فاصلا بين الآدمية والبشرية التي تعني التصاق المرء بجذوره الطبيعية، وحنينه الأبدي إلى بدايات تشكل مساره على هذه الأرض، وبين مرتبة الإنسان المكرم، الذي خط مسيرة طويلة من أجل الانتفاض على هذه الحالة البدائية، والتمرد على حدود غريزته خروجا إلى عالم الأفكار والثقافة والاجتماع البشري. وإذا تأملنا قليلا في هذه الآية:” هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” (الإنسان: 1-3)، يتضح لنا بداية أن اسم سورة الإنسان لم يوضع اعتباطا، إذ أنها تتناول اسم الإنسان من خلال قضايا جوهرية تتعلق بخلقته، طبيعته، مصيره، والغاية من وجوده. وإذا كانت الخلقة الإنسانية تشترك مع غيرها من المخلوقات في قضية النطفة والتزواج والتناسل، غير أنها تختلف مع باقي الموجودات في كون الحد الفاصل بين الإنسان وغيره هو ما صرحت به الآية:” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا “. فهذا الوضع الإنساني يمكن أن يدل باختصار على أن الإنسانية قبل أن تكون وضعا طبيعيا، فهي حالة وجودية قائمة على الاختيار. أي الإرادة الحرة النابعة من الوضع الثقافي، وليس الوضع الطبيعي، إذ معلوم أن الإنسان قبل أن يتحول إلى هذه الحالة فهو محكوم بشكل أو بآخر بما تفرضه عليه مقررات الطبيعة وحتمياتها الأساسية.
وإذا كان الوضع الإنساني وضعا ثقافيا، وليس وضعا بشريا محكوما بحتميات الغريزة والطبيعة، كما أكدت الآية السابقة نفسها، فإن ذلك يتساوق مع الفلسفة الوجودية أو الإنسانية التي كانت تعبر بشكل أو بآخر عن ماهية وجوهر الإنسان، وترفض أن يتم التعامل معه فقط في حدود الحيوانية والحتميات الطبيعية. وهذا يذكرنا بمشروع جون بول سارتر الذي قدم في 29 أكتوبر 1945، محاضرة عامة بعنوان “هل الوجودية فلسفة إنسانية؟“. سؤال يقتضي منا الوقوف عند دلالات الوجودية، وأفكارها، ومعتقدات منظريها، كي يسمح لنا هذا المرور إلى الجواب عن إنسانية الوجودية من عدمها.
-
الوجودية: صرامة منطقية أم رابطة من الاهتمامات المشتركة؟
يؤكد ستيفن أورن شاو في كتابه ” الوجودية دليل الحائرين “[1]، على أن الوجودية في نشأتها الفلسفية كانت تنطلق من قاعدة جوهرية، وهي وجود الفرد بوصفه نقطة بداية لها، أي بتعبير أدق الإنسان أولا وأخيرا. مثلت الفلسفة الوجودية رؤية للعالم الذي يحيط بنا، يسكننا ونسكنه، كما أنها كانت تعبيرا صادقا بالنسبة لفلاسفتها عن مشاعر الفرد، وأفكاره ومعرفته وأخلاقه. وبهذا كانت الوجودية قيمة مضافة في التاريخ الفلسفي الإنساني منذ بذوره الأولى، من خلال التركيز على “الفرد” بدلاً من “الكل”، وبالتالي فهي لا تهدف إلى الوصول إلى حقائق عامة. بل تصر على أن الفهم الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال الرؤى الشخصية، يعني أنها لا تدّعي امتلاك معرفة موضوعية، بل كل ما تمتلكه يدخل في خانة النسبي والجزئي. ويزيد ستيفن أورن شو تأكيدا على هذه المعاني والأفكار الوجودية بما نظَّر له سارتر مؤسس الوجودية الحديثة، حيث كان يرى بأن “الوجود هو مغامرة فردية”، الشيء الذي عبر عنه ميرلوبونتي بأشد العبارات حين قال: “أنا المصدر المطلق”. وهكذا فالوجودية قد لا يعتبرها البعض كما يؤكد الكاتب نفسه أنها تقدم تصورًا منهجيًا صارمًا لأفكارها، بل هي أقرب إلى رابطة من الاهتمامات المشتركة، لا يمكن أن نطلق عليها وصف الفلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة.
ولهذا نجد بأن هناك غنىً ممزوجا بطابع أدبي معين، وحضورا ملفتا للروايات والنصوص الأدبية الأخرى ضمن قائمة الأدبيات الوجودية، مما يجعلها تبدو أبعد عن كونها فلسفة ممنهجة. وللتعبير عن الأفكار الوجودية المحورية مثل الحرية الفردية، القلق الوجودي، والبحث عن المعنى في عالم بلا جوهر محدد، فقد زخرت المكتبة الوجودية بأعمال أدبية قد انعكست فيها هذه الأفكار بشكل واضح، حيث استخدم العديد من الكتاب الرواية والمسرح كوسائل لاستكشاف القضايا الفلسفية العميقة التي تطرحها الوجودية. هذا المزج تمثل في أعمال كبار رواد الوجودية في شقها الأدبي أيضا، كما فعل سارتر في روايته “الغثيان” (1938)[2]، حيث يقدم بطل الرواية “روكنتان” تجربة وجودية عميقة تتجسد في إحساسه بالاشمئزاز من العالم، ومن فكرة أن الأشياء والوجود نفسه بلا معنى جوهري. هذا الشعور بالغربة عن العالم هو تجربة جوهرية في الفلسفة الوجودية، حيث يدرك الفرد أن العالم ليس له معنى خارج ما يمنحه له الإنسان. أما في مسرحياته مثل “الذباب” [3]، فقد طرح سارتر فكرة أن الإنسان محكوم بالحرية، حتى لو بدا العكس. جملته الشهيرة “الجحيم هو الآخرون” من مسرحية لا مخرج[4] تعكس كيف يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تكون مصدر قلق واغتراب وجودي. الأمر نفسه كان لألبير كامو[5] بطل العبث والتمرد، فعلى الرغم من رفضه لوصفه بالوجودي، إلا أن كتاباته وأدبه حفل بالفلسفة الوجودية، أو النفس الوجودي، خاصة مفهوم العبث (Absurdism). في روايته “الغريب” (1942)، حيث يظهر “ميرسو”، بطل الرواية، كشخصية غير مبالية تعيش وفق نزواتها، غير مكترث بالقيم الاجتماعية السائدة. عندما يُحكم عليه بالإعدام بسبب جريمة قتل عبثية، لا يجد مبررًا للندم، بل يقبل موته بوصفه جزءًا من عبثية الحياة. أما في “أسطورة سيزيف[6]“، فيجسد كامو العبث بشكل موضوعي، مع أنه يدعو لأن يقاوم الإنسان العبث عبر التمرد الشخصي، أي أن يقبل العالم كما هو ويعيش وفق شروطه الخاصة.
حتى أن العديد من المقالات والكتب الفلسفية “الصارمة” التي كتبها مفكرون مثل كيركجارد ونيتشه، كُتبت بأسلوب أدبي بدلاً من الاعتماد على الخطاب الفلسفي المنهجي الصارم. قد يكون هذا التركيز على الحقائق الفردية الذاتية، وإمكانية الوصول إليها عبر الأدب، ورفضها تعريف نفسها أو مجالات اهتمامها بطريقة قطعية، هو ما يجعل الوجودية موضوعًا مثيرًا للاهتمام حتى اليوم. فاهتماماتها جوهرية ومباشرة بالنسبة إلينا من خلال الأسئلة التالية: من أنا؟ ما أنا؟ أي حياة يجب أن أعيش؟ وكيف يجب أن أعيشها؟
أسئلة محيرة ومثيرة في جوهرها، وقد تبدو مرعبة لمن اعتاد الأمان الفكري، إلا أنها تحمل في طياتها أبعادا تحريرية. أي أن الإنسان كائن يتمرد على قدره، يمتلك إرادته، والأهم أنه صانع وجوده. وربما الحرية هي أعظم ما في الإنسان، وأجمل ما فيه، وأعمق ما في دلالاته. هناك إحساس جوهري بالحركة، بالرحلة، بالاكتشاف، بالتنوير، وبالتجلي، وهو ما يُعتبر في الفلسفة الوجودية أكثر أهمية من بناء أنظمة فلسفية مغلقة وشاملة، كما هو شائع في المشاريع الفلسفية التقليدية. لكن الأسئلة التي تطرحها الوجودية تتم صياغتها بطريقة تجعلها مختلفة إلى حد ما عن الطريقة التي تتناول بها علم النفس، والفلسفة الأخلاقية، وكتب تطوير الذات، والدين الأسئلة نفسها.
يجادل هايدغر بأنه لا يمكننا الوصول إلى أي مكان ما لم نفكر في السؤال الأكثر جوهرية على الإطلاق: ” ما معنى الوجود “. ومن الواضح، سواء في فلسفة هايدغر أو في فلسفة سارتر، أن الذات والوجود ليس لهما تعريف ثابت. فالوجود الإنساني، في جوهره، يعني طرح هذا السؤال باستمرار : ” ما هي الكينونة؟”. يرى هايدغر أن الوجود هو نوع من “الإمكان”، بينما يراه سارتر باعتباره “حرية لأن يكون”، بحيث يكون كل فرد “فريدًا” في كينونته، مما يجعله يفلت من أي تصنيف شامل أو كلي. ومعنى هذا الكلام أن هايدغر يرى أن الوجود ليس مجرد حالة ثابتة أو جوهر متحقق، بل هو إمكان مفتوح. أي أن الإنسان يوجد بوصفه كائناً يمتلك إمكانيات متعددة للوجود، وليس مجرد شيء مكتمل أو محدد مسبقًا. هذا يعني أن الكائن البشري (الذي يسميه هايدغر “الدازاين” أو Dasein) دائمًا في حالة تكوّن وتشكل، وليس مجرد جوهر ثابت. فالإنسان ينفتح على احتمالات وجوده، ويقرر أي مسار سيتخذه، مما يجعله في حالة “توجّه مستمر نحو المستقبل” بدلًا من كونه مجرد كيان منجز نهائيًا. أما سارتر، الذي تأثر بهايدغر لكنه سار في اتجاه مختلف، يرى أن الوجود هو حرية مطلقة. أي أن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرًا، مما يعني أنه مسؤول بالكامل عن تشكيل ذاته بدون أي جوهر مسبق. فعند سارتر، الإنسان ليس له ماهية ثابتة، بل هو الذي يصنع ماهيته بنفسه عبر اختياراته وأفعاله. فهذا يقود إلى فكرة الفردانية الفريدة، حيث لا يمكن تصنيف الإنسان ضمن أي إطار كلي أو شامل، لأنه يخلق هويته بنفسه باستمرار.
وإذا رجعنا إلى الكتاب السابق ” الوجودية دليل الحائرين “[7]، نجده أيضا يؤكد بأن التصور التقليدي للذات يقوم على أنها كيان ذو جوهر، شيء موجود بداخل الإنسان يمكن تحديده وتعريفه على أنه “أنا”. لكن بدءًا من كيركجارد وصولًا إلى سارتر، يتم رفض هذا الفهم، إذ لا تُعتبر الذات وجودًا ملموسًا ثابتًا، أو شيئًا مستقلًا عن إدراكنا له، وكأنه موجود مسبقًا في انتظار أن نتعرف عليه وقتما نشاء. بدلًا من ذلك، في الفلسفة الوجودية، تُفهم الذات على أنها “علاقة”، أي طريقة وجود تتشكل ديناميكيًا أثناء التفكير فيها، حيث يقوم الفرد بتكوين ذاته في نفس اللحظة التي يتأمل فيها ذاته التي تبدو له كأنها موجودة مسبقًا. ويؤكد كيركجارد أن “نظامًا للوجود لا يمكن تقديمه”، بينما يقول سارتر إن “كينونة الواقع الإنساني ليست في أصلها جوهرًا، بل هي علاقة معيشة”. وهذا التعبير، “علاقة معيشة”، يسلط الضوء على جانب آخر من الوجودية، وهو مسؤولية الفرد عن تشكيل ذاته بطريقة تضمن له وجودًا حقيقيًا، بدلاً من الانقياد العشوائي في الحياة دون وعي أو إدراك.
وختاما فالأسئلة التي تطرحها الوجودية ليس لها إجابات سهلة، كما أن الوصول إلى أي استنتاجات بشأنها نادر ويحتاج إلى مجهود شاق. وهذا ما يجعل الانخراط في الفلسفة الوجودية تجربة مثيرة ومحبطة في آنٍ واحد.
-
الفلسفة الوجودية والبعد الإنساني
شكّلت المحاضرة التي ألقاها سارتر بعنوان ” هل الوجودية فلسفة إنسانية ” نقطة انطلاق حاسمة للحركة الوجودية، حيث لم تكن مجرد لقاء فكري، بل لحظة فارقة ساهمت في انتشار هذا التيار في مختلف بقاع العالم فكريا وجغرافيا وثقافيا، ما جعلها واحدة من التيارات الشائعة الانتشار خلال سنوات القرن العشرين. وسنحاول أن نقف مع هذه المحاضرة من خلال ما كتبه عنها توماس آرفلين[8]، وهو يرصد البعد الإنساني في المذهب أو الفلسفة الوجودية. فمن خلال هذه المحاضرة، قدم سارتر فكرته الجوهرية التي أصبحت علامة مميزة للوجودية: “الوجود يسبق الماهية”، مؤكدًا أن الإنسان يُولد دون هدف محدد مسبقًا، وعليه أن يخلق معناه بنفسه، في ظل غياب أي نظام أخلاقي جاهز يمكن الاعتماد عليه. وهكذا، لم تعد الحرية مجرد مفهوم نظري، بل تحولت إلى قيمة أساسية تدور حولها كل أفعال الإنسان، كما عبّر سارتر عن ذلك بقوله: “عند اختيار أي شيء على الإطلاق، فإنني قبل أي شيء أختار الحرية.” لم تقتصر أهمية المحاضرة على شرح أفكار سارتر، بل جاءت ردًّا على الانتقادات التي واجهتها الوجودية، سواء من الشيوعيين الذين رأوا فيها انعزالًا برجوازيًا، أو من الكاثوليك الذين اعتبروها فلسفة خالية من البعد الأخلاقي. كان المعارضون يجادلون بأن الوجودية تروج لنزعة فردانية متطرفة تشجع الشباب على الانسحاب من قضايا المجتمع، بدلًا من المشاركة في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وبذلك، كانت المخاوف تدور حول فقدان الوجودية لمصداقيتها إذا لم تتمكن من تقديم رؤية متماسكة تربط بين الحرية والمسؤولية الجماعية.
حاول سارتر التصدي لهذه التحديات بالاستناد إلى الفكر الكانطي، حيث أكد على أن الحرية الفردية لا تكتمل إلا إذا كانت متاحة للجميع. ومن هنا، جاءت عبارته الشهيرة: “عندما أختار، فإنني أختار لجميع الناس.” كان هذا تأكيدًا على أن أي اختيار فردي يحمل في طياته مسؤولية اتجاه المجتمع، مما يربط بين الاستقلالية الشخصية والتزام أوسع اتجاه الإنسانية. وقد طرح سؤالًا جوهريًا يعكس هذا المبدأ: “هل يحق لي أن أتصرف بطريقة تجعل الإنسانية بأسرها تتبنى نفس نمط سلوكي؟”
رغم محاولته إيجاد توازن بين الحرية والمسؤولية الجماعية، ظلت بعض جوانب فكر سارتر غامضة، حيث بدت المحاضرة وكأنها خطوة تكتيكية لحماية الوجودية من الهجمات الأيديولوجية، سواء من الماركسيين أو من المؤمنين. ومن المفارقات أن سارتر نفسه أعرب لاحقًا عن عدم رضاه عن نشر هذه المحاضرة، رغم أنها أصبحت واحدة من أكثر أعماله تأثيرًا وانتشارًا. عندما أعلن سارتر أن “الوجودية فلسفة إنسانية”، كان يؤكد أن الإنسان هو محور الفلسفة، وأن حريته تظل القيمة العليا التي لا يجوز التضحية بها من أجل أي سلطة خارجية، سواء كانت الدين أو الأيديولوجيا السياسية. هذا التوجه يتماشى مع رؤية نيتشه عن “الأرواح الحرة”، حيث يكون الإنسان مسؤولًا عن تشكيل ذاته دون خضوع لأي قوى خارجية.
وخلاصة الأمر فقد شكّل كتاب سارتر “الوجودية مذهب إنساني” [9]عرضًا موجزًا ودفاعًا عن الوجودية ضد منتقديها. في هذا الكتاب، يؤكد سارتر أن الوجودية ليست دعوة للتشاؤم أو العدمية، بل هي فلسفة إنسانية تمنح الفرد الحرية والمسؤولية الكاملة عن وجوده.
- الإنسان والحرية والمسؤولية: يرتكز مذهب سارتر على مقولة أساسية الوجود يسبق الماهية. ويعني ذلك أن الإنسان يوجد أولًا، ثم يحدد ماهيته من خلال أفعاله واختياراته. بخلاف الفلسفات التقليدية التي ترى أن الإنسان يولد بمفهوم محدد سلفًا (كما في الأديان أو الفلسفات الجوهرانية)، يرى سارتر أن الإنسان يولد بلا جوهر مسبق، وهو المسؤول عن تشكيل ذاته من خلال قراراته. هذه الفكرة ترتّب على الإنسان مسؤولية فردية مطلقة، فهو لا يستطيع التذرّع بطبيعته أو بالمجتمع أو بالإرادة الإلهية لتبرير أفعاله. وهكذا، تصبح الحرية جوهر الوجود الإنساني، لكنها أيضًا عبء ثقيل، لأن الإنسان محكوم باتخاذ القرارات دون أي سند خارجي حتمي.
- القلق والالتزام: يرى سارتر أن هذه الحرية المطلقة تولّد القلق (Angoisse)، لأن الإنسان مدرك تمامًا أنه مسؤول عن تحديد مستقبله دون وجود مرجعيات مطلقة تمنحه يقينًا. لكن بدلًا من الاستسلام لهذا القلق، يدعو سارتر إلى الالتزام (Engagement)، أي أن يعيش الإنسان وفق قناعاته الشخصية ويتحمل نتائج قراراته.
- مواجهة الاتهامات بالإلحاد: كان كتاب “الوجودية مذهب إنساني” في جزء كبير منه ردًا على منتقدي الوجودية، ومن بينهم الكاثوليك والبروتستانت، الذين اتهموا سارتر بأنه يروج للإلحاد. فقد رأوا أن مقولته “الوجود يسبق الماهية” تتعارض مع الإيمان بإله خالق يحدد طبيعة الإنسان قبل وجوده. في المقابل، شدد سارتر على أن الوجودية ليست بالضرورة إلحادية، لأن هناك مفكرين وجوديين مؤمنين مثل غابرييل مارسيل، الذي تبنى وجودية مسيحية. ومع ذلك، فإن النسخة السارترية من الوجودية ترفض وجود إله، لأن ذلك يتناقض مع فكرته عن الحرية المطلقة. فهو يرى أن الاعتقاد بإله يفرض على الإنسان ماهية مسبقة، مما يقيد حريته. لذا، لم يكن رفض سارتر للإله مجرد موقف نظري، بل كان ضروريًا لضمان أن يكون الإنسان المسؤول الوحيد عن أفعاله دون أي “مبررات ميتافيزيقية”.
- الوجودية والإنسانية: رغم ما يبدو من أن الوجودية تنزع إلى الفردية، فإن سارتر يصرّ على أنها مذهب إنساني، لأنها تمنح الإنسان قيمة كبرى باعتباره الكائن الوحيد الذي يحدد مصيره بنفسه. فكل فرد، حين يختار لنفسه، إنما يختار نموذجًا إنسانيًا عامًا، لأن اختياراته تؤثر على الآخرين وتحدد شكل العالم الذي نعيش فيه. لذلك، لا مجال للهروب من المسؤولية، لأن كل فعل فردي يحمل في طياته انعكاسات اجتماعية وأخلاقية.
هكذا يؤكد سارتر في “الوجودية مذهب إنساني” أن الإنسان ليس مقيدًا بأي طبيعة ثابتة، بل هو حر بالكامل ومسؤول عن نفسه وعن العالم الذي يساهم في تشكيله. هذه الفلسفة، رغم قسوتها الظاهرية، تمنح الإنسان كرامته الحقيقية، لأنها تجعل منه صانعًا لمصيره بدلًا من أن يكون تابعًا لقوى خارجية تحدد له ماهيته. ومن هنا، فالوجودية عند سارتر ليست دعوة للإلحاد بقدر ما هي تأكيد على مسؤولية الإنسان عن وجوده، بعيدًا عن أي مبررات خارجية.
-
كييركيجارد رائد الوجودية الدينية
-
من هو سورين كييركيجارد؟
قبل أن نتحدث عن بعض الأفكار الوجودية التي نادى بها كييركيجارد رائد الوجودية الدينية، أو الوجودية الممزوجة بالإيمان يحسن بنا أن نتحدث عن جزء من حياته لنقدم نبذة عنه كما تمت الإشارة إليها في الموسوعة الفلسفية:[10]
تقول الموسوعة بأن سورين كييركيجارد وُلد في 5 مايو 1813 بمدينة كوبنهاغن، ليكون الابن الأصغر في عائلة مكونة من سبعة أطفال. كان والده، مايكل بيدرسن كييركيجارد، رجلاً عصاميًا استطاع بناء ثروة كبيرة بعد نشأته في بيئة فقيرة في يوتلاند. كما أنه عرف عنه أنه متدين بعمق، إلى حد التشدد والتطرف، حيث ترسخت لديه قناعة بأن عائلته واقعة تحت لعنة إلهية، بسبب خطيئة ارتكبها في طفولته عندما سبّ الله في لحظة يأس. انعكست هذه الرؤية التشاؤمية على نشأة سورين، الذي نشأ في بيئة دينية صارمة داخل الكنيسة اللوثرية، لكنه تأثر أيضًا بجماعة المورافيين[11] الذين كان لوالده دور مهم بينهم.
كرّس كييركيجارد سنواته الأولى للدراسة في جامعة كوبنهاغن، حيث تخصص في اللاهوت والفلسفة. حصل على درجة الماجستير بأطروحة حول مفهوم السخرية عند سقراط، وهو موضوع شكّل جزءًا أساسيًا من فكره اللاحق. رغم إكماله للدراسات الدينية التي تؤهله للعمل كقسيس، إلا أنه لم يُرسم كاهنًا أبدًا، إذ كانت رؤيته للإيمان تتجاوز الدور التقليدي لرجل الدين، معتبرًا أن العلاقة مع الله مسألة فردية تتطلب قفزة وجودية في المجهول.
أما عن قصة الحب التي غيرت حياته فقد كان ذلك في عام 1840، حيث تقدم كييركيجارد للزواج من الشابة ريجينه أولسن، لكنه سرعان ما بدأ يشعر بأنه غير قادر على الزواج. رغم أنه لم يصرّح علنًا بأسبابه، إلا أن مذكراته تشير إلى شعوره بوجود “شيء شبحي” في شخصيته، يجعله غير قادر على بناء علاقة زوجية طبيعية. عندما قرر الانفصال، لجأ إلى خطة غريبة، حيث حاول أن يبدو في نظرها كرجل لعوب غير جاد في مشاعره، على أمل أن تتخلى عنه بسهولة. إلا أن ريجينه قاومت قرار الفسخ، مما دفعه إلى مغادرة كوبنهاغن مؤقتًا إلى برلين هربًا من فضيحة اجتماعية. بقي كييركيجارد أعزبًا حتى وفاته، وحتى في وصيته، ترك ممتلكاته لريجينه، في إشارة إلى أن ارتباطه بها كان يعني له الكثير رغم انفصالهما.
بعد انتهاء علاقته بريجينه، دخل كييركيجارد في مرحلة غزيرة الإنتاج، حيث كتب أهم أعماله الفلسفية، بدءًا من “إما/أو” عام 1843، وهو كتاب استكشف فيه مفهوم الاختيار وقلق الإنسان بين الحياة الجمالية والحياة الأخلاقية. تلا ذلك عدد من الأعمال التي تناولت قضايا القلق والإيمان والتجربة الدينية، مثل “الخوف والرعدة”، “التكرار”، “مفهوم القلق”، و**”الخاتمة غير العلمية”**. كان يكتب بأسلوب سردي مميز، مستخدمًا شخصيات وهمية وأسماء مستعارة، ليعبر عن أفكاره بطرق متعددة، وكأنه يريد استفزاز القارئ ودفعه للتفكير الذاتي.
إحدى المحطات المهمة في حياته كانت خلافه مع مجلة “الكورساير” الساخرة، التي بدأت بنقده لأحد كتابها، لكنها تحولت إلى حملة استهزاء طالت شخصه ومظهره. كان كييركيجارد معروفًا بمشيه اليومي في شوارع كوبنهاغن وتفاعله مع الناس، لكنه بعد هذه الحملة أصبح منعزلًا، متجنبًا الأنظار، مما عزله اجتماعيًا وزاد من غربته الوجودية. مع ذلك، لم يدفعه هذا الانعزال إلى الصمت، بل بالعكس، أطلق العنان لمرحلة جديدة من التأليف، تناول فيها قضايا الحب، الإيمان، والمأساة الإنسانية.
- مذنب أو غير مذنب؟:
قبل أن نسوق بعض الأفكار التي تحدث عنها كييركيجارد في كتابه مذنب أو غير مذنب يحسن بنا أيضا أن نشير إلى أهمية الفرد داخل فلسفته، فالمثير في كييركيجارد أنه كان يتمنى أن يكتب في قبره عند موته عبارة: ذلك الفرد. عبارة مربكة وحمالة لأوجه، فقد تفهم بأن المقصود منها هو التفرد، والخصوصية، والاستثناء. كما يفهم منها أنه هو ذلك الفرد الشقي الذي حكمت عليه الحياة أن يعيش وحيدا، ويموت وحيدا دون أن ينعم بطعم الحياة السعيدة. ولقد أشار إمام عبد الفتاح إمام[12] إلى هذا التباين، منتصرا إلى فرادته وخصوصيته، وأنه خارق للعادة، وغريب غرابة سيرته التي سماها بهذا الاسم ” الأسرة اللغز “.
يعد كتاب مذنب أو غير مذنب، من الكتابات الوجودية المثيرة في الحياة الفكرية والفلسفية لسورين كيركيغارد، وأحد أكثر أعماله عمقًا من حيث استكشاف القلق الوجودي المرتبط باتخاذ القرارات المصيرية. يعكس هذا الكتاب تأملات كيركيغارد الشخصية حول الإحساس بالذنب، وتحمل المسؤولية في اتخاذ القرارات الحاسمة في الحياة، والحرية في القرار. وإذا أردنا أن نموضع هذا العمل فلا بد من الإشارة إلى أنه وليد تلك العلاقة الخاصة التي جمعت بينه وبين ريجينا أولسن، والتي قرر الانفصال عنها دون أسباب واضحة كما تمت الإشارة إلى ذلك في سيرته الذاتية. ولكنه، في الوقت ذاته، يطرح تساؤلات فلسفية أوسع حول المعنى الحقيقي للاختيار، وما إذا كان الإنسان قادرًا على اتخاذ قرارات “صحيحة” دون الشعور بالندم أو الذنب. ولهذا يعتبر هذا الكتاب، وعبارة مذنب أو غير مذنب سؤالا يبنض به دم كييركيجارد، ويفيض بمحنته مع ريجينا أولسن كما ذهب إلى ذلك أيضا عبد الرحمن بدوي[13].
وإذا كانت القصة المشهورة مع ريجينا أحد الدوافع الأساسية في إنتاج هذا العمل، فإن ذلك لا يعني خلوه من أفكار أخرى، فالعمل في أساسه يركز على ازدواجية الاختيار، حيث يقسمه إلى مسارين متوازيين: الأول: إذا كان مذنبًا فهو يتحمل مسؤولية الألم الذي سببه للآخرين بسبب قراره، كما في حالته عندما قرر إنهاء خطوبته. إذا لم يكن مذنبا: فهو يعيش في وهم الطمأنينة، لكنه يخدع نفسه والآخر، لأنه يعلم أن الاستمرار في العلاقة قد لا يكون صادقًا. يعكس هذا الطرح فكرة أن كل خيار يحتم علينا تحمّل عبء معين، سواء كان الذنب الناتج عن اتخاذ القرار، أو الشعور بالخيانة الذاتية الناتج عن تجنّب القرار. وقد تمت الإشارة في أول هذا المبحث إلى أن الفردانية في فكر كييركيجارد فكرة أصيلة، إلى الحد الذي تمنى أن تكتب على قبره عبارة ” ذلك الفرد “، وهذا يدل على أن الكتاب يركز على أهمية التجربة الفردية في البحث عن الحقيقة. فهو يرى أن الإنسان لا يمكنه الاعتماد على القواعد العامة للمجتمع أو الدين لحل مشكلاته الشخصية، بل عليه أن يعيش تجربته الخاصة، ويتحمل نتائج اختياراته بمفرده. وهذا ما ينسجم مع الفلسفة الوجودية، أو المذهب الوجودي في التفكير، فالفرد هو المسؤول عن قراراته وخياراته الاستراتيجية، ولا يجوز الاختباء وراء المجتمع، أو الثقافة، أو الأفكار لتبرير أفكارك، واختياراتك المصيرية.
إن ما يمكن أن نستخلصه من الدرس الكييركيجاردي في هذا الكتاب، أو بالأحرى هذا السؤال الوجودي: مذنب أو غير مذنب؟، هو أن كييركيجارد في هذا الكتاب، يقدم لنا الذنب بوصفه حالة وجودية وليس حالة أخلاقية فقط، بمعنى أن الذنب في هذا الكتاب، ليس صحوة ضمير، أو إحساس بالخطأ، بل هو حالة وجودية ترتبط بكون الإنسان كائنًا حرًا. فالحرية تحمل في طياتها مسؤولية اتخاذ القرارات، وهذه المسؤولية تؤدي إلى القلق والذنب، بغض النظر عن صحة القرار نفسه. وكأنه يريد أن يقول لنا بتعبير آخر أن السؤال الذي انطلق منه في هذا الكتاب، هو تعبير عن إشكالية فلسفية عميقة تتجاوز كونه مجرد تأمل شخصي لكيركيغارد، فالقضية ليست قضية انفصال عن ريجينا من عدمه، ولكن السؤال تحديدا يرمي إلى الدفع بالقارئ أن يتساءل هو أيضا عن: هل يمكن أن يتخذ الإنسان قرارات حاسمة دون الشعور بالذنب؟ أم أن الذنب هو ثمن لا مفر منه لكل اختيار جوهري؟. بهذه الطريقة، يظل الكتاب نموذجًا للقلق الوجودي الذي يرافق الإنسان في كل مفترق طرق في حياته.
- إما… أو” (Enten – Eller):
هناك ثلاث مستويات تحدث عنها كييركيجارد تعتبر مثل المدارج عند الوجوديين: المدرج الجمالي، والمدرج الأخلاقي، والمدرج الديني. هذه المدرجات الثلاث، أو المستويات الثلاث تشكل تناغما عجيبا، حيث إن الأول كما يؤكد عبد الرحمن بدوي[14] يحيا في اللحظة الحاضرة المنعزلة، والثاني يحيا في الزمن، والثالث يحيا في السرمدية. وإذا أردنا أن نفهم هذا الموضوع بشكل أدق يمكننا أن نوضح ذلك بالطريقة التي أشار إليها جون دي كابوتو في كتابه الماتع كيف تقرأ كييركيجارد[15].
يُعَدُّ كتاب «إما/أو» العمل الذي دشَّن أعمال كيركجارد التي تحمل أسماءً مستعارة، وجعل مؤلفه مشهورًا محليًّا، رغم الجدل حول هويته الحقيقية. ويرتكز الكتاب على مرحلتين من مراحل الوجود: الجمالية، التي تتمحور حول السعي وراء المتعة، والأخلاقية، التي تعتمد على المبادئ. التقى كيركجارد بريجين أولسن عام 1837، وعقدا خطبتهما عام 1840، لكنه فسخها لاحقًا، مسافرًا إلى برلين ليبدأ حياته ككاتب. في هذا الكتاب، حاول كيركجارد تفسير موقفه تجاه ريجين والعالم، حيث يُلَمِّح في نهايته إلى المرحلة الدينية دون التركيز عليها. الكتاب ذو بُنية معقدة، إذ قُدِّم بوصفه مجموعة من الأوراق عثر عليها شخص يُدعى فيكتور إريميتا. يتكوّن الجزء الأول «إما» من «أوراق أ»، التي تضم «يوميات مُغوٍ» المنسوبة ليوهانس. أما الجزء الثاني «أو»، فيحتوي على «أوراق ب»، وهي رسائل من القاضي فيلهلم إلى «أ»، تتضمن في النهاية خُطبة مرسلة من قسٍّ في شمال يوتلاند. استخدم كيركجارد خمسة أسماء مستعارة داخل الكتاب، مما أثار تساؤلات حول هويته الحقيقية، إلا أنه لاحقًا كتب مقالًا بعنوان «مَن هو مؤلف إما/أو؟» تحت اسم مستعار آخر، محاولًا صرف الانتباه عن هذه المسألة والتركيز على مضمون الكتاب. بحلول 1845، صار من المعروف عمومًا أنه هو مؤلف هذه الأعمال.
- المدرج الجمالي:
يجسّد «أ» نمط الحياة الجمالية، الذي يركّز على المتعة بأي ثمن، في حين يدافع «ب»، القاضي المتزوج، عن الأخلاق والمسؤولية. وقد أشار كيركجارد لاحقًا إلى أن «يوميات مُغوٍ» كُتبت لصدّ ريجين وإقناعها بأن فراقهما كان الأفضل لها. في تناوله للفلسفة الهيجلية، ينتقد كيركجارد منطقها الجدلي القائم على وحدة التناقضات، حيث يرفض «أ» اتخاذ أي موقف كي يتجنب الندم الناتج عن الاختيار. وبدلًا من خوض الصراع الجدلي، يتبنى أسلوب اللاقرار، محاولًا البقاء في منطقة الاحتمالات. تظهر فكرة «أسلوب المناوبة» كاستراتيجية للتملّص من الملل، حيث يُمارَس التغيير المستمر سواء في العلاقات أو في الاهتمامات. يُشَبِّه «أ» ذلك بالزراعة، حيث يمكن التنقل بين «حقول» مختلفة أو التناوب في زراعة محاصيل متنوعة في الحقل ذاته. في سياق العلاقات، يُمارَس الإغواء إما عبر تعدد العلاقات أو عبر التلاعب طويل الأمد، بحيث تُقنع الفتاة نفسها بأن فسخ العلاقة كان قرارها هي. بهذا، يعرض الكتاب تصويرًا نقديًّا للحياة الجمالية القائمة على الهروب من الالتزام، مؤكدًا في النهاية على حتمية الانهيار الذي ينتظر من يرفض مواجهة الواقع وتحمل مسؤولياته.
- المدرج الأخلاقي:
في الجزء الثاني من كتاب “إما/أو”، ينتقل كيركجارد من الحديث عن الوجود الجمالي إلى الوجود الأخلاقي، حيث تتبلور فكرة “الذات الوجودية”. لم يعد مفهوم الذات يُنظر إليه وفق التصورات الكلاسيكية باعتباره جوهرًا ثابتًا، بل أصبح يُعرّف من خلال الحرية والاختيار والقرار. فالذات ليست مجرد كيان موجود، بل هي ما تصنعه من نفسها وما تختار فعله أو الامتناع عنه. هذا التصور الجديد للذات أثار جدلًا بين الفلاسفة التقليديين، حيث رأوا فيه خروجًا عن النظام الطبيعي وانفصالًا عن سلسلة الوجود الكبرى. لكن كيركجارد كان يرى أن هذه الحرية تُمارس أمام الله، باعتباره نقطة ارتكاز وجودية.
في هذا الجزء، يقدم القاضي سلسلة خطابات يوجهها إلى الشخص الجمالي، محاولًا إقناعه بأفضلية الحياة الزوجية على حياة العزلة والانغماس في المتع السطحية. يرى القاضي أن الشخص الجمالي، بسبب تردده الدائم وعجزه عن اتخاذ القرارات، لا يملك ذاتًا حقيقية. ويستند في حجته إلى الفارق بين الزمن والأبدية؛ فالشخص الجمالي يعيش للحظة العابرة، بينما الشخص الأخلاقي يعيش ضمن التزام مستمر يتجاوز اللحظات الفردية. يمثل الزواج بالنسبة للقاضي التزامًا يتطلب الاستمرارية والوفاء، وهو نقيض للحب الرومانسي العابر الذي يصعب تمثيله فنيًا بسبب طبيعته اللحظية.
يعتمد القاضي في تحليله على مفهوم “التكرار”، الذي يميّزه عن “التذكر”. فالتذكر هو إعادة استحضار الماضي، بينما التكرار هو إعادة خلق المعنى في المستقبل من خلال الالتزام المستمر. الشخص الجمالي يتعامل مع الماضي باعتباره مجرد مناسبة للتأمل، أما الشخص الأخلاقي فيعتبر المستقبل هو الهدف، حيث يُبنى المعنى عبر الالتزام اليومي. هذا المفهوم يرتبط بفكرة الإيمان والصراع من أجل تحقيقه، كما نجد في كتابات بولس الرسول وأوغسطينوس ولوثر. من وجهة نظر كيركجارد، فإن الحياة الأخلاقية هي رحلة مستمرة من الاختيار، حيث يكون كل يوم فرصة جديدة لتأكيد الالتزام. على العكس من ذلك، يرى أرسطو أن الأخلاق تُبنى من خلال العادة، بينما يشدد كيركجارد على أن التكرار عملية صعبة تتطلب جهدًا دائمًا. الحب الزوجي، في نظره، يجمع بين رومانسية الحب الأول واستمرارية الإخلاص مدى الحياة.
يؤكد القاضي أن الشخص الجمالي يفتقر إلى وحدة الذات، إذ يعيش في لحظات منفصلة لا يربط بينها التزام أخلاقي. فهو يهرب من الواقع عبر نسيان ما هو غير سارٍّ والتشبث بالمتع العابرة، دون أن يتحمل مسؤولية الماضي أو يلتزم بالمستقبل. وبذلك، فإن الشخص الجمالي لا يمتلك ذاتًا حقيقية، بل يفضل العيش في عالم وهمي من دون قيود. هذا المفهوم للذات الوجودية، كما طرحه كيركجارد، كان له تأثير كبير على الفلسفة الوجودية لاحقًا، خاصة عند هايدجر في كتابه “الكينونة والزمان”. يختتم كيركجارد جدله بتأكيد أن الشخص الجمالي يرفض الاختيار من أساسه، مما يجعله عاجزًا عن تبني حياة ذات معنى. القاضي لا يسعى لإجبار الشخص الجمالي على اختيار طريق معين، بل فقط دفعه إلى اتخاذ قرار، أي “اختيار أن يختار”. بمجرد أن يبدأ الشخص في الاختيار، فإن وعيه الأخلاقي سيقوده نحو الخير.
في النهاية، يوضح كيركجارد أن الحياة الأخلاقية ليست مجرد التزام خارجي، بل هي تأكيد مستمر للذات أمام الله. فالإنسان لا يُحاسب أمام الله بناءً على إثبات أنه كان على صواب، بل على أساس مدى صدقه في اختياراته. وهكذا، فإن كتاب “إما/أو” لا يقدم مجرد مقارنة بين نمطين من الحياة، بل يدفع القارئ إلى مواجهة السؤال الوجودي الأساسي: هل ستختار أن تختار؟
- المدرج الديني:
يستعرض كيركجارد في خوف ورعدة توترًا فلسفيًّا حادًّا بين الإيمان المطلق والأخلاق العامة، حيث يتجلى هذا التوتر في تجربة إبراهيم مع ابنه إسحاق. يضع كيركجارد القارئ أمام مأزق وجودي: كيف يمكن للإنسان أن يوفق بين النداء الإلهي الذي يتجاوز كل منطق بشري، وبين القيم الأخلاقية الراسخة التي تحكم المجتمعات؟. يقدم الفيلسوف الدنماركي مفهوم “الفارس المؤمن” الذي يتجاوز الأخلاق العامة ليصل إلى علاقة مباشرة مع المطلق، وهو ما يضعه خارج نطاق الفهم العقلاني المعتاد. فإبراهيم، في امتثاله للأمر الإلهي، لم يكن مجرد بطل تراجيدي يخضع لمنطق التضحية، بل كان رجلاً اختار الإيمان رغم العبث الظاهر في الموقف.
في هذا السياق، لا ينظر كيركجارد إلى الإيمان بوصفه مجرد شعور ديني أو التزام أخلاقي، بل باعتباره قفزة تتجاوز كل معايير الفهم البشري. هنا، تتجلى الفكرة الجوهرية في الكتاب: أن الإيمان ليس مجرد تصديق، بل هو مخاطرة وجودية تتطلب الاستعداد الكامل للانعزال عن منطق العالم، والتسليم التام لما هو غير مرئي وغير مفهوم. ومن خلال هذه الفكرة، يتحدى كيركجارد الفلسفة الهيغلية التي تسعى إلى إدراج الدين ضمن نظام عقلاني شامل، مؤكدًا أن الإيمان تجربة فردية مطلقة لا يمكن اختزالها في منطق فلسفي عام. وهكذا، يضع القارئ أمام معضلة لا تزال تُثير الجدل: هل يمكن للإنسان أن يكون أخلاقيًّا في نظر المجتمع، وإيمانيًّا في نظر الله، في آن واحد؟
-
بول تيليش والفلسفة اللاهوتية
قبل أن نتحدث عن الفلسفة اللاهوتية لبول تيليش، يحسن بنا أن نذكر بأن بول تيليش (Paul [16]Tillich) هو فيلسوف ولاهوتي بروتستانتي ألماني-أمريكي، يُعد واحدًا من أهم المفكرين الدينيين في القرن العشرين. جمع بين الفلسفة واللاهوت بشكل مميز، وسعى إلى إعادة تفسير الدين المسيحي بلغة فلسفية حديثة، يمكن أن تكون مفهومة ومعقولة في عصر الحداثة والعلمنة. ولعل ما كتبته يمنى طريف الخولي حول الوجودية الدينية[17] لبول تيليش يفيدنا في هذا المجال، على اعتبار أن يمنى طريف من الرائدات في تقديم هذا اللاهوتي في السياق التداولي الإسلامي، وسنحاول تقديم هذا اللاهوتي اعتمادا على ما كتبته هذه المفكرة ليسهل الفهم والاستيعاب:
-
ثلاثة فلاسفة مؤثرون في فكر تيليش:
حدّد تيليش ثلاثة فلاسفة أساسيين أثّروا على فكره وعمّقوا ارتباطه بالوجودية، وهم فريدريك شلنج، وسرن كيركجور، وفريدريك نيتشه. رغم أن تيليش لم يقرأ نيتشه إلا بعد بلوغه الثلاثين، فإن تأثير الأخير كان عميقًا عليه، إذ رأى فيه فيلسوفًا امتلك “شجاعة النظر في هاوية العدم”، خاصةً من خلال فكرة “موت الله”. أمّا شلنج، فقد اعتبره تيليش الرائد الحقيقي للوجودية، إذ كان أول من هاجم فلسفة الماهية عند هيجل، واضعًا أسس الفلسفة الإيجابية التي تؤكد على دور الفرد وخبرته التاريخية في صياغة الوعي الفلسفي. من ناحية أخرى، كان كيركجور المصدر الأكثر تأثيرًا على تيليش، حيث اشترك معه في الاهتمام بالمغزى الديني للوجود الإنساني، مؤكدًا أن التساؤلات الدينية لا يمكن أن تُطرح إلا من داخل التجربة الإنسانية المباشرة. ورغم أن تيليش كان أكثر ارتباطًا بالمؤسسات الدينية المسيحية من كيركجور، فإنه حافظ على نقده لللاهوت التقليدي، محاولًا إعادة صياغته ضمن رؤية وجودية تدمج الإيمان بالعقل.
-
هيدجر والوجودية الحديثة في فكر تيليش:
رأى تيليش في الفلسفة الوجودية الحديثة، خاصةً لدى مارتن هيدجر، استكمالًا للاتجاه الذي انصهرت فيه أفكار شلنج وكيركجور ونيتشه. كان تيليش شديد التأثر بكتاب هيدجر الوجود والزمان، الذي اعتبره أهم إنجاز فلسفي ألماني في القرن العشرين بعد كتاب هوسرل دراسات منطقية، حيث استفاد تيليش من الفينومينولوجيا في صياغة رؤيته اللاهوتية الوجودية، مؤكدًا أن اللاهوت يجب أن يطبّق المنهج الفينومينولوجي لفهم مفاهيمه الأساسية.
-
الإنسان بين الوحدة والكينونة
يرى تيليش أن الإنسان وحيد في هذا الكون، فريدٌ في تجربته الوجودية، ولا يمكن لأي كائن آخر أن يحلّ محلّه. هذه الفكرة يعبّر عنها في كتابه الآن الأبدي، حيث يصف الإنسان بأنه مدفوع بقلق الوجود، الذي يتجلى في إحساسه العميق بوحدته وانفصاله عن العالم. لكنه يميز بين نوعين من الوحدة:
الانفراد (Loneliness): وهو الجانب المأساوي للوحدة، الذي يتجلى في الشعور بالذنب والموت، حيث لا يستطيع أحد أن يشارك الفرد في تحمّل عواقبهما.
التفرّد (Solitude): وهو الجانب الإيجابي للوحدة، حيث يتيح للإنسان القدرة على الإبداع والتأمل وتحقيق ذاته.
يؤكد تيليش أن هذا التفرّد هو مجد الإنسان، لكنه أيضًا الحمل الثقيل الذي يحمله طوال حياته. وهنا يبرز التساؤل المركزي في الفلسفة الوجودية: هل يواجه الإنسان وحدته بالإلحاد واليأس، أم بالإيمان والشجاعة؟
- شجاعة الكينونة: الوجودية بين الإلحاد والإيمان:
يقدم تيليش في كتابه شجاعة الكينونة تحليلاً معمقًا لمفهوم الشجاعة بوصفه مقولة بنيوية في التجربة الإنسانية. يرى أن الفلسفة الوجودية في القرن العشرين جاءت استجابةً لقلق اللامعنى، وهو القلق الذي نبع من رفض الألوهية في الفكر الغربي الحديث، خاصةً بعد إعلان نيتشه عن “موت الله”. غير أن هذا القلق أدى إلى مسارين مختلفين داخل الوجودية:
الوجودية الملحدة: التي تجسّدت في شجاعة اليأس، حيث يتقبل الإنسان العدم بوصفه حقيقة نهائية، كما في فلسفة نيتشه وهيدجر.
الوجودية الدينية: التي تؤكد على شجاعة الكينونة، أي تأكيد الذات رغم تهديد العدم، وهو المسار الذي تبناه تيليش.
يرى تيليش أن الإيمان لا يتناقض مع الوجودية، بل على العكس، هو أعمق تعبير عن مواجهة القلق الوجودي، حيث يوفر الإيمان قوةً لمواجهة العدم دون إنكاره. وبهذا، فإن مفهوم الشجاعة لديه لا ينفصل عن الإيمان، إذ إنه ليس مجرد مقاومة للخوف، بل هو تأكيد للوجود في مواجهة التهديد بالعدم. وقد قدّم بول تيليش رؤيةً فريدة للوجودية، مزاوجًا بين الفكر الفلسفي واللاهوتي في مقاربة جديدة لمشكلة المعنى. وبينما احتفت الوجودية الملحدة بشجاعة اليأس، قدّم تيليش بديلًا وجوديًا دينيًا يرتكز على شجاعة الكينونة، حيث لا يكون الإيمان مجرد هروب من القلق، بل وسيلةً لمواجهته وتجاوزه. وفي زمنٍ يشهد تصاعد القلق الوجودي، تظل أفكار تيليش ذات صدى عميق، لأنها تعيد طرح السؤال الأزلي حول علاقة الإنسان بذاته، وبالعالم، وبالمطلق.
هكذا يضع بول تيليش تحليلاً دقيقًا وعميقًا لظاهرة القلق الوجودي، مُمَيِّزًا بين ثلاثة أنماط رئيسة تتجلَّى في حياة الإنسان، وتشكِّل جوهر تجربته الوجودية. هذه الأنماط الثلاثة هي: القلق الأونطيقي، والقلق الأخلاقي، والقلق الروحي، وكلٌّ منها يحمل في طياته تهديدًا مزدوجًا، أحدهما نسبي، والآخر مطلق، مما يجعل الإنسان في مواجهة دائمة مع العدم، وساعيًا في الوقت ذاته إلى إثبات ذاته رغم هذا التهديد المتواصل:
- القلق الأونطيقي: مواجهة المصير والموت: يُعد القلق الأونطيقي أحد أكثر أشكال القلق تجذُّرًا في بنية الوجود الإنساني، إذ ينبع من وعي الفرد بمحدوديته وانتمائه إلى عالمٍ عارضٍ لا يملك فيه ضمانات مطلقة. يتخذ هذا القلق صورتين مترابطتين: قلق المصير، وقلق الموت. الأول يمثل تهديدًا نسبيًّا لوجود الإنسان، حيث يشعر الفرد بأن مصيره غير قابل للتحكم الكامل، وأنه محكوم بقوى تفوق إرادته الفردية. أما الثاني، فهو التهديد المطلق، حيث يقف الموت في نهاية المطاف كحقيقة لا مفرَّ منها، مبدِّدًا بذلك كل محاولات الإنسان في تأكيد ذاته بشكل نهائي.
يحاول الإنسان، بطرق شتى، التخفيف من وطأة هذا القلق عبر تحويله إلى خوفٍ محدَّد يمكن مواجهته، كأن يُركِّز على أمراضٍ معينة، أو حوادث محتملة، مما يمنحه شعورًا واهمًا بالتحكم في تهديد المصير والموت. لكن الحقيقة الأعمق تظل قائمة: لا يمكن حصر القلق الأونطيقي في شيءٍ بعينه، لأنه متجذر في الموقف الإنساني نفسه. وهنا يبرز السؤال الوجودي الحاسم: هل يمكن للإنسان امتلاك شجاعة الكينونة، شجاعة تأكيد الذات، رغم هذا التهديد الأونطيقي العميق؟
- القلق الأخلاقي: الذنب والإدانة: يتجلَّى القلق الأخلاقي في إدراك الإنسان لعجزه عن تحقيق ذاته أخلاقيًّا على النحو الكامل. فالوجود الإنساني محفوفٌ بالتناقضات والالتباسات، وكل فعل أخلاقي يحمل في طياته إمكانية النقص أو الزلل. وهكذا، ينشأ قلق الذنب، وهو تهديد نسبي يجعل الإنسان يشعر بأنه لم يكن على المستوى الأخلاقي المنشود، في حين يمثِّل قلق الإدانة التهديد المطلق، حيث قد يصل الأمر بالذات إلى رفضها الكامل لنفسها، والإحساس بأنها غير جديرة بالوجود ذاته. فمحاولة الإنسان لمواجهة هذا القلق الأخلاقي تندرج في إطار سعيه لتحقيق توازن بين طموحه الأخلاقي وواقعه المحدود. لكن، مهما حاول الفرد تحسين سلوكه والتقرب من المثال الأخلاقي، يبقى إدراكه لعدم الكمال قائمًا، ويظل السؤال مطروحًا: هل ثمة شجاعة كينونة تستطيع تأكيد الذات رغم تهديد الإدانة والذنب الأخلاقي؟
- القلق الروحي: الخواء واللامعنى: أما القلق الروحي، فهو الأشد وطأةً في العصر الحديث، حيث تواجه الذات الإنسانية تهديدًا من نوعٍ مختلف، يتمثَّل في فقدان المعنى والفراغ الداخلي. ينقسم هذا القلق إلى شقين: قلق الخواء، الذي يمثل تهديدًا نسبيًّا حين يعجز الإنسان عن إيجاد الإشباع في القيم الثقافية والحضارية التي ينتمي إليها، وقلق اللامعنى، الذي يمثِّل التهديد المطلق حين يصل الإنسان إلى درجةٍ من الشك تجعله غير قادرٍ على إيجاد أي معنى للحياة نفسها. فالعصر الحديث، وفق تيليش، هو عصر القلق الروحي بامتياز، حيث فقدت الأيديولوجيات الكبرى قدرتها على إشباع الإنسان معنويًّا، وأصبح الأفراد يعانون من إحساسٍ عميقٍ بالضياع، غير قادرين على تأكيد ذواتهم عبر قيمٍ واضحة ومحددة. وهنا يبرز السؤال النهائي: هل هناك شجاعة كينونة تستطيع الصمود أمام هذا التهديد الروحي الذي يفرغه من كل محتوى وجودي؟
- شجاعة الكينونة: الحل الديني لمعضلة القلق: يؤكد تيليش أن القلق الوجودي، بأشكاله الثلاثة، ليس ظاهرة عابرة يمكن التغلب عليها بشكلٍ كامل، بل هو جزء لا يتجزأ من الموقف الإنساني ذاته. وبالتالي، فإن الحل لا يكمن في القضاء على القلق، وإنما في مواجهته بشجاعة، تلك الشجاعة التي تتجلى في القدرة على تأكيد الذات رغم التهديد المستمر للعدم. لكن هذه الشجاعة، كما يرى تيليش، ليست مجرد موقف فردي أو قرار شخصي، بل هي في جوهرها شجاعة دينية. فالإيمان بالعناية الإلهية هو ما يمكِّن الإنسان من تجاوز قلق المصير والموت، والإيمان بالغفران هو ما يسمح له بمواجهة قلق الذنب والإدانة، أما الإيمان بالوجود ذاته، أي بالبعد المطلق للكينونة، فهو ما يمنح الإنسان القوة لتجاوز قلق الخواء واللامعنى. من هذا المنطلق، يرى تيليش أن الفلسفة الوجودية تصبُّ في قلب الإيمان الديني، حيث إن مواجهة القلق الوجودي لا تتم إلا عبر إدراك أعمق لحقيقة الإيمان كاهتمام قصي، أي كالتزامٍ وجوديٍّ مطلقٍ لا يتوقف عند حدود الاعتقاد العقلي، بل يشمل التجربة الحياتية بأسرها.
- الوجودية والدين: التفسير المتبادل: لا يكتفي تيليش بتقديم تفسير ديني للوجودية، بل يعمل أيضًا على تقديم تفسير وجودي للدين، حيث يُعيد قراءة العقائد الدينية من منظورٍ وجودي، فيجد أن كل تعاليم المسيحية الأساسية تتعلق بالوجود الإنساني في جوهره. فالسقوط، مثلًا، لا يعني مجرد خطيئة تاريخية، بل هو تعبير عن انتقال الإنسان من الماهية إلى الوجود، أي من حالة الكمال الأصلي إلى حالة التناهي والصراع. كما أن فكرة الخطيئة ليست مجرد ذنب أخلاقي، بل هي انعكاس لحالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان في هذا العالم. إن هذا التفسير الوجودي للدين يمنح الإيمان بعدًا أكثر عمقًا وديناميكية، حيث لم يعد الدين مجرد منظومة من العقائد الجامدة، بل أصبح تجربة وجودية تهدف إلى قهر القلق والخوف اللذين يشكلان ميراث البشرية بأسرها. وهكذا، يصبح الإيمان شجاعةً تتجاوز الشك، لا عبر إنكاره أو رفضه، بل عبر استيعابه واحتوائه ضمن تجربة الإيمان ذاتها.
- الدين بوصفه استجابة للقلق الوجودي: في نهاية المطاف، يقدِّم تيليش رؤية فريدة تجمع بين الفلسفة الوجودية والتجربة الدينية، حيث يرى أن القلق الوجودي هو جوهر التجربة الإنسانية، وأن الاستجابة له لا تكون عبر إنكاره أو تجنبه، بل عبر مواجهته بشجاعةٍ تستند إلى بُعدٍ روحي يتجاوز محدودية الوجود الفردي. وهكذا، يتحول الدين، في تفسيره الوجودي، إلى ملاذٍ يمنح الإنسان القدرة على الصمود أمام تهديدات العدم، ويعيد إليه إحساسه بالمعنى والقيمة في عالمٍ يتسم بالتحوُّل وعدم اليقين.
- المصادر والمراجع
- [1] – STEVEN EARNSHAW. EXISTENTIALISM: A GUIDE FOR THE PERPLEXED. British Library Cataloguing-in-Publication Data Reprinted 2007 (twice), 2011. P.1
[2]، فيلب تودي، وهوارد ريد. أقدم لك سارتر. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2OO2 . ص: 20.
[3] – المرجع نفسه. ص: 52 .
[4] -jean paul sartre. Huis clos suivi de les mouches. Éditions Gallimard, 1947.p,14
[5] – أوليفر، جلوج. ألبرت كامو مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مؤمن محمود رمضان أحمد. مؤسسة هنداوي، ط1، 2O22. ص: 49.
[6] – المرجع نفسه. ص: 55.
[7] – STEVEN EARNSHAW. EXISTENTIALISM: A GUIDE FOR THE PERPLEXED. British Library Cataloguing-in-Publication Data Reprinted 2007 (twice), 2011. P.2
[8] – توماس، آرفلين. الوجودية مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مروة عبد السلام. مؤسسة هنداوي، ط1،2O16. ص: 53.
[9] – جان بول، سارتر. الوجودية مذهب إنساني. ترجمة عبد المنعم الحفني. دون دار نشر، ط1،1964. ص: 5.
[10]– Stanford Encyclopedia of Philosophy. John Lippitt and C. Stephen Evans 2023. Link:https://plato.stanford.edu/entries/kierkegaard/.
[11] – يمكن الاطلاع على العديد من الأفكار حول هذه الجماعة بالموفع الرسمي للكنيسة: https://www.moravian.org/2018/07/a-brief-history-of-the-moravian-church/
يرتبط اسم “المورافية” بجذور هذه الكنيسة التاريخية التي نشأت في بوهيميا ومورافيا القديمة، وهي مناطق تقع اليوم في جمهورية التشيك. في منتصف القرن التاسع، دخلت هذه المناطق في المسيحية بفضل جهود المبشرين اليونانيين الأرثوذكس، كيرلس وميثوديوس، اللذين قاما بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة المحلية وأدخلا طقوسًا دينية وطنية. وعلى مر القرون التالية، خضعت بوهيميا ومورافيا تدريجيًا لسلطة روما الكنسية، لكن بعض التشيكيين عارضوا هذا النفوذ.
يُعتبر جون هس (1369-1415) من أبرز المصلحين التشيكيين، وقد كان أستاذًا للفلسفة وعميدًا لجامعة براغ. أصبحت كنيسة بيت لحم في براغ، حيث كان هس يعظ، مركزًا لحركة الإصلاح التشيكية. وبفضل دعمه من الطلاب وعامة الناس، قاد حركة احتجاجية ضد العديد من ممارسات رجال الدين والهرمية الكاثوليكية الرومانية. وُجّهت إليه تهمة الهرطقة، وخضع لمحاكمة طويلة في مجمع كونستانس، وانتهى به الأمر بالحرق على المحرقة في 6 يوليو 1415.
[12] – إمام عبد الفتاح إمام. كيركيجور رائد الوجودية حياته ومؤلفاته. القاهرة، دار الثقافة، دون طبعة، 1982.ص: 45.
[13] – عبد الرحمن، بدوي. دراسات في الفلسفة الوجودية. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1،1980. ص: 38.
[14] – عبد الرحمن، بدوي. المرجع السابق. ص: 47.
[15] جون، دي كابوتو. كيف تقرأ كيركيجارد. ترجمة دعاء شاهين. مؤسسة هنداوي،ط1،2O17. ص: 27.
للمزيد من التفاصيل عن بول تيليش (1886–1965) يرجى مراجعة الكتاب أدناه، الذي خصص سيرة مطولة ومفصلة لهذا الفيلسوف. يقول في مجماها ان بول تيليش.
-JEAN RIEUNAUD. PAUL TILLICH Philosophe et Théologien .Éditions FLEURUS 1969 ,P.14
[17] – يمنى طريف، الخولي. الوجودية الدينية. دراسة في فلسفة بول تيليش. مؤسسة هنداوي، ط1،2O17. ص: 83.