لعل الثنائية التراثية التي اصطلح على تسميتها بثنائية النص والعقل، أو المنقول والمعقول، أو ظاهر النص وتأويله، تكون من بين أكثر ثنائيات الفكر الإسلامي لا معقولية ومعاداة للواقع. ذلك أنها ثنائية تنهض على أساس وهم مطلق بوجود معنى واحد أصلي ودلالة نصية وحيدة، معنى نهائي يمكن أن يحظى باتفاق لا يتغير بتغير الأفهام، ودلالة تتمتع بإجماع لا يتبدل عبر العصور، معنى ودلالة يتميزان بالثبات على اختلاف العقول والثقافات والمجتمعات والأزمنة والسياقات (سياقات النصوص وسياقات القراءة). وهي الفرضية التي ثبت بطلانها منذ اللحظات الأولى لنزول نصوص الوحي، ومنذ التلقي الأول لها عبر صحابة الرسول. فكل مدونات التفسير والمأثور الباقية منذ العصر المبكر للإسلام لا تزال تنقل لنا اختلاف تأويل المتلقين الأول من صحابة النبي – وكذلك من تابعيهم – لنصوص القرآن. ولعل العبارات التي شكلت ملامح ومفاتيح في مدونة المفسر الأشهر “ابن جرير الطبري” (210 – 338هـ)، وهو صاحب أقدم مدونة تفسير للقرآن بالمأثور، تعبر في حد ذاتها عن اختلاف الأوائل في تفسير معاني الآيات وتعدد قراءتهم لها، بما ينفي كل احتمال لوجود المعنى الأصلي والدلالة النصية الوحيدة التي لا يمكن تجاوزها أو تخطيها في لغة القرآن، وأقصد عباراته على شاكلة: “قالوا وقال آخرون”، “وقد اختلفوا في تأويله على وجوه”، “ذكر من قال ذلك وذكر من قال كذا”…إلخ.
كان لإدراك الأوائل لهذا الوضع التفسيري المتعدد والتأويلي المتشعب لآيات القرآن تعبيره الواضح والمميز في مقولاتهم العملية التطبيقية والنظرية التنظيرية على السواء. من أبرزها مقولة لـ”علي ابن أبي طالب” (23ق.هـ- 40هـ) قال فيها: “هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، إنما ينطق عنه الرجال”. وهي عبارة رأى المستشرق “جوزيبي سكاتولين” أنها تعبر عن جوهر علاقة اللغة بالمعنى عبر التأكيد على أن: “كل قراءة لنص ما، حتى تلك القراءة التي تدّعي أنها حرفية إلى أقصى درجة، تأتي دائما ولا مناص، تفسيرا وترجمة لذلك النص”، أي أن كل قراءة للنص تبقى – مهما توهمت من احتكارها للمعنى الأصلي – غير النص ذاته.
وهو إدراك يبدو أنه بلغ منتهاه عند كبار المفسرين في العصور التالية لزمن الصحابة، ومنهم “مقاتل بن سليمان” (ت: 150هـ) الذي يعزى له القول: “لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة”. وكتأكيد “سهل بن عبدالله” (ت: 283هـ) للطابع اللامتناهي لتفسير القرآن: “لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه، لأنه كلام الله، وكلامه صفته. وكما أنه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله عليه” وكإيجاز “الفخر الرازي” (544 – 604هـ): “أكثر لطائف القرآن (أي: معانيه الدقيقة) مودعة في الترتيبات والروابط”.
تضفيف المعاني
هذا الإدراك المؤسس لعلاقة الإنسان بالوحي والعقل بالنص جوهره أن القرآن – بتعبير المفكر الإسلامي “نصر حامد أبوزيد”- وحي إلهي في ثوب لغة بشرية، وأن آياته وإن كانت نتاجا للوحي فإن استنباط معانيها من عمل عقول البشر، تتولد تبعا لاختلافها ولتغير سياقاتها العامة والذاتية عبر الأزمنة والأمكنة، وانعكاسا لاختلاف محصولها المعرفي المرتبط بالحياة البشرية.
وهو الإدراك الذي حدا بالمفكرين الإسلاميين إلى محاولة تضفيف الفهم اللامتناهي لآيات القرآن وتسييج دلالاته عبر جهاز تفسيري أو تأويلي قوامه عدد من الضوابط والمحددات أسماها القدماء “علوما” أضافوها إلى القرآن فجرت على ألسنتهم باسم “علوم القرآن”، ثم تفننوا عبر القرون في تفصليها وتبويبها والتصنيف فيها، غير أنهم أدركوا بعد كل الجهد النظري المتراكم على مدار الأجيال ما عبر عنه “جلال الدين السيوطي” (849 – 911هـ) في مقدمة كتابه “الإتقان في علوم القرآن” بقوله: “فإن العلوم وإن كثر عددها وانتشر في الخافقين مددها، فغايتها بحر قعره لا يدرك، ونهايتها طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يُسلك، ولهذا يفتح العالم بعد الآخر من الأبواب ما لم يتطرق إليه من المتقدمين الأسباب”. وهو ما سبق إلى التعبير عنه “بدر الدين الزركشي” (745 – 794هـ) بالنص في مقدمة كتابه الشهير “البرهان في علوم القرآن” على أنه: “ما من نوع من هذه الأنواع (العلوم) إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه، لاستفرغ عمره، ثم لم يحكم أمره”.
وسوف يقتصر المقال على الولوج إلى عالم نوع / فن / علم واحد من “علوم القرآن” هو “الوقف والابتداء” أو “الفصل والوصل”، بوصفهما أحد تلك الضفاف والسياجات التأويلية التي مثلت مقترحا لاستنباط المعني من آي القرآن. والوقف والابتداء يكاد يكون – على الأخص – أحد أكثر تلك السياجات التصاقا بقراءة القرآن فهما وتدبرا عبر التصاقه بتلاوته الشفهية، لأنه يدور حول الإجابة عن سؤال رئيس هو: كيف نتلو القرآن تلاوة واضحة ومفهومة ودالة على المعنى الذي يستنبطه القاريء والسامع من الآيات؟.
هدف التناول النقدي هنا هو إطلاع القاريء على ضرورات تجديد هذا الفن / العلم، والنوع الفكري / النشاط العقلي من أنشطة القراءة والفهم واستنباط المعنى القرآني. وليس المقصود تجديده من جهة أسسه وفرضياته وقواعده العامة – فقط على أهميته، وإنما تجديده عبر اللقاء المباشر لعقل الفرد المسلم بالقرآن، ومع كل كيفية واقتراح للمعنى يتلوا بها قاريء القرآن الكريم آياته.
الوقف والابتداء / الفصل والوصل
المقصود من الوقف والابتداء أو الفصل والوصل هو تلك المواضع التي يجب / أو يحسن / أو يرجح أن يقف عندها قاريء آيات القرآن لتؤدي تلاوته لها المعنى الذي يريد إليه. طبقا لذلك يعرّف “السيوطي” الوقف على أنه: “عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة، لا بنية الإعراض، ويكون في رؤوس الآي وأوسطها، ولا يأتي في وسط الكلمة، ولا فيما اتصل رسما”.
ولعل القاريء يستشف ما وراء هذه الآلية في تعريف “السيوطي” من أبعاد ترتبط بالمعنى لو أتبعناه بما أورده “عبدالقاهر الجرجاني” (400 – 471هـ) في كتابه “دلائل الإعجاز” من أن بلاغة آداء المعنى تكمن في الوقف والابتداء والفصل والوصل، يقول عبدالقاهر: “فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عن البلاغة فقال: معرفة الفصل من الوصل، ذاك لغموضه ودقة مسلكه وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة”.
وهو ما يذهب “أبوبكر بن مجاهد” (245 – 324هـ) في تفصيله إلى حد القول بأن إتقان الوقف والابتداء في المعنى القرآني في حاجة لإتقان مختلف العلوم، إذ يؤكد: “لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص وتلخيص بعضها من بعض، وعالم باللغة التي نزل بها القرآن، وقال غيره: وكذا علم بالفقه”.
فالوقف والابتداء في تلاوة القرآن إذن هو فن بناء المعنى على هيئة صوتية وجعله ظاهرا مهيئا للسمع أو بتعبير الزركشي: “جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التآلف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء”. ولذلك تفننوا في تقسيمه إلى فنون وأقسام، أحدها يقسمه إلى (تام مختار، كاف جائز، حسن مفهوم، قبيح متروك)، وآخر إلى (تام، ناقص، أنقص، أتم)، وثالث إلى (لازم، مطلق، جائز، مجوز بوجه، مرخص ضرورة). وكذا يشعبون مذاهبه لمذاهب كثيرة كالسكون والروم والإشمام والإبدال والنقل والإدغام والحذف والإثبات والإلحاق. لكن “ابن الجزري” (751 – 833هـ) يرى بعد كل تراكم لجهود التنظير والتدقيق: “إن أكثر ما ذكر الناس في أقسامه (الوقف) غير منضبط ولا منحصر”.
وسوف لا نقف اهتمامنا على تلك التفريعات الدقيقة بقدر ما سنركز على خصائص الوقف والابتداء كأداة عقلية من أدوات انتاج المعنى، ولذلك نذهب مباشرة إلى تقديم نماذج لتلك الخصائص. نماذج يتصل قسم منها بالجانب العملي المنتج للحكم الفقهي في جوانب العبادات والمعاملات، نقدم لها نموذجين: أحدهما خاص بالعبادات وهو حكم قصر الصلاة، والآخر يتصل بالمعاملات وهو مسألة شهادة القاذف. أما القسم الثاني – المتأخر – فهو يتصل بالجانب اللاهوتي العقائدي ونموذجه المختار هو مسألة عصمة الأنبياء.
حكم قصر الصلاة
يقول تعالى: “وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا”- النساء: 101
وكما يقول “السيوطي”: “فإن ظاهر الآية يقتضي أن القصر (قصر الصلاة) مشروط بالخوف وأنه لا قصر مع الأمن، وقد قال به لظاهر الآية جماعة منهم عائشة، لكن بيّن سبب النزول أن هذا من الموصول المفصول، فأخرج ابن جرير من حديث عليّ قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله: “وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة” ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم. فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله بين الصلاتين: “إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا” إلى قوله: “عذابا مهينا”- النساء: 102، فنزلت صلاة الخوف، فتبين بهذا الحديث أن قوله: “وإن خفتم” شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف لا صلاة القصر”.
وبصرف النظر عما يمكن قوله في نقد رواية سبب النزول التي أدت إلى فصل حكم صلاة القصر عن حكم صلاة الخوف في الآية، وعلى وجه أخص ما يمكن أن يلحظ بداهة من أن الله أنزل الآيات التي تشرع في الصلاة لكنه لم يخبر الرواة بحديث المشركين الذين عقدوا النية على مهاجمة المسلمين أثناء الصلاة، وهي نية لا يمكن للرواة تخمينها، إلا أن ما يهمنا هو أن الوقف والابتداء في تلاوة الآية أداة تتعدى في استخدامها محض الفهم والتفسير إلى حد الاستخدام كأداة منشئة للحكم التعبدي.
مسألة شهادة القاذف
الآيتان (4) و(5) من سورة النور هما اللتان يتعلق بهما الاختلاف في مسألة حكم شهادة قاذف المحصنات، وهما قوله تعالى: “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم”
إقرأ أيضًا: حَدُّ الزِّنَا.. قِراءةٌ مَقَاصِديَّةٌ كُليَّةٌ
فمن لا يقبل من الفقهاء شهادة القاذف وإن تاب يقف في قراءته للآية (4) عند نهايتها: “ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا”، ومن يقبل منهم شهادته بعد توبته وإصلاحه يعتبر التوبة في الآية (5) بمثابة وضع الحد للاستمرارية الكامنة في كلمة (أبدا) في الآية (4)، ومن ثم ناسخة في حال التوبة لحكم عدم قبول شهادة القاذف.
عقيدة عصمة الأنبياء
النماذج النظرية / اللاهوتية / العقائدية دالة – من وجهة نظر الكاتب – بصورة أعمق على تجذر وظيفة الوقف والابتداء في صلب أنشطة الفهم والتفسير واستنباط المعنى من النص القرآني، بكل ما يترتب على استخداماتها من نتائج وتبعات عقائدية. دالة أيضا على الوظيفة المنشأة للمعنى الكامنة في آلية الوقف والابتداء.
إقرأ أيضًا: لماذا لا تكون المرأة نبيا أو رسولا؟
النموذج الأول: عصمة يوسف
في سورة “يوسف” يأتي قوله تعالى: “يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين”- آية: 29.
في هذه الآية يفصل الوقف والابتداء بين جزئيها “يوسف أعرض عن هذا” “واستغفري لذنبك”، فطبقا لتفسير الطبري للآية: “عنى بقوله: يا يوسف أعرض عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه فلا تذكره لأحد”، وهو ينقل عن ابن زيد نفس المعنى: “يوسف أعرض عن هذا”، قال: لا تذكره، و”استغفري” أنت زوجك”.
ويكشف “الزركشي” الغطاء عن هذا النحو من التفسير بقوله: “يوسف عليه السلام أُمر بالإعراض وهو الصفح عن جهل من جهل قدره وأراد ضره، والمرأة أُمرت بالاستغفار لذنبها، لأنها همت بما يجب الاستغفار منه، ولذلك أُمرت به، ولم يهم يوسف عليه السلام، ولذلك لم يؤمر بالاستغفار منه، وإنما هم بدفعها عن نفسه لعصمته”.
وإذن أراد المفسرون بذلك أن يصرفوا المعنى بالتأويل عن ظاهر ما يؤدي إليه السياق، وهو إعراض واستغفار النبي يوسف وزوجة عزيز مصر عما “همت به وهم بها”، وهو قوله تعالى: “ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه” – يوسف: 24. ورغم أنهم ينقلون عن “ابن عباس” قوله في تفسير مبلغ ما هم به يوسف من أنها “استلقت له، وجلس بين رجليها، وحل ثيابه أو ثيابها”، إلا أن الغرض الواضح من وقفهم وابتداءهم في الآية (29) هو إثبات عصمة يوسف النبوية.
النموذج الثاني: عصمة آدم
في سورة الأعراف يقول تعالى: “وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به، فلما أثقلت دعوا ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما، فتعالى الله عما يشركون”- الأعراف: 189/190.
ظاهر الآيتين كما يميل أغلب المفسرين هو حديث عن آدم وحواء، ولكن حسب ما يقول “السيوطي”: “ولكن آخر الآية مشكل حيث نسب الإشراك إلى آدم وحواء، وآدم نبي مكلم والأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها إجماعا، وقد جر ذلك بعضهم إلى حمل الآية إلى غير آدم وحواء، وأنها في رجل وزوجته كانا من أهل الملك، وتعدى إلى تعليل الحديث والحكم بنكارته”.
ويصف “السيوطي” نفي ظاهر الآية لعقيدة عصمة الأنبياء بأنه عقدة ومعضلة، وأنه بقى بسببها في “وقفة من ذلك”، حتى أتاه الحل عن طريق قول لأحد المفسرين الأوائل – هو “السدي” (ت: 128هـ): “في قوله: “فتعالى الله عما يشركون” قال: هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب”. ورغم أن الحل الذي يقترحه “السيوطي” قد لا يكون حلا معقولا، حيث يتكأ إلى تغيير الضمير إلى الجمع في: “فتعالى الله عما يشركون”، بعد التثنية في: “جعلا له شركاء”، وصولا بالقول إلى تخّلص الآية إلى قصة العرب وإشراكهم الأصنام، مما يعني من وجهة نظره أن الشرك ليس موصولا بآدم، لكنه يتناسى بذلك بقاء الشرك متصلا به في ضمير التثنية: “جعلا له شركاء فيما أتاهما”. غير أن اعتقاد المفسرين – على كل حال – هو أن الوقف عند هذا الموضع الأخير من الآية والفصل بينه وبين ما يتلوه (فتعالى الله عما يشركون) يعد كافيا لإثبات عصمة آدم وتنزهه عن الشرك.
النموذج الثالث: عصمة سليمان
في قصة النبي سليمان يأتي على لسان ملكة اليمن في قوله تعالى: “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون”- النمل: 34.
الوقف عند أصحاب التفسير يجب أن يقع عند كلمة “أذلة” ليكون ما سبقه من كلام بلقيس، أما ما بعده: “وكذلك يفعلون” فيقرأ مفصولا بوصفه من قول الله تعالى. وما يمنعهم من قراءته متصلا بوصفه من كلام بلقيس هو وقوع القصد منه في حال القراءة المتصلة على سليمان وجنوده، أي أن سليمان وجنوده سيفعلون فعل الملوك من تخريب وإفساد مصاحب للغزو، بينما يؤدي الوقف مع فصل “وكذلك يفعلون” بوصفها من كلام الله يجعل العبارة تأمينا على إخبار بلقيس عن فعل الملوك، ويسل سليمان وجيشه بذلك من إفساد غزو الملوك للقرى. وهو ما يصب إيجابا بالتالي في مصب عصمة سليمان.
ولعلنا بتلك النماذج السابقة المكثفة نكون قد لفتنا الأنظار إلى أهمية فن الوقف والابتداء كآلية للتفسير وإنشاء المعنى في كل قراءة أو تلاوة للقرآن الكريم، وإلى أهمية نقده وتجديده والتوفر عليه.