تكوين
تُعدُ الكنيسة الأرثوذكسية من أقدم المؤسسات الدينية التي لعبت دورًا مركزيًا في تكوين الهُوية الرُوحية والثقافية بين الأقباط، مما يجعل مسألة انتخاب البطريرك من أبرز القضايا التنظيمية. هذه المسألة تُمثل في جوهر الكنيسة الأرثوذكسية العتبة التي يمر من فوقها القائد الرُوحي للكنيسة الأرثوذكسية، مما يدفع لائحة انتخاب البطريرك لتبرز بوصفها واحدةً من الركائز الأساسية التي ينبغي أن تضمن اختيار الشخص الملائم لقيادة الكنيسة، التي احتشدت عبر سنوات ومراحل تاريخية كونها جزءًا رئيسًا من المجال العام، الذي لَفَتَ السلطة الزمنية وعمل لوضعها داخل إطار المصلحة العمومية وفق مفهومه.
انتخاب البطريرك ومفهوم الديموقراطية
ربما تستند فلسفة انتخاب البطريرك في التاريخ المعاصر إلى مبادئ تقترب من التقليد الكنسي العريق ومفهوم الديمقراطية بتأويلاتها المتعددة، فتُبنى الديمقراطية هنا بوصفها مشاركة جماعية تقوم على روح المسئولية والإيمان العميق، كما أنها تهدف إلى ضمان اختيار البطريرك الذي تتوافر فيه الصفات الرُوحية والقيادية، ويكون قادرًا على تلبية احتياجات الكنيسة في ظل التحديات المتغيرة، وكذا يتوافق بطريق أو بآخر مع متطلبات السلطة الزمنية المعاصرة.
تتباين الرؤى والمفاهيم نحو التدقيق في مفهوم انتخاب البطريرك، ومدى ارتباطه بتمثل الإكليروس لمبدأ الديموقراطية، مما يُقربنا بدرجة عميقة إلى فهم تراتبية السلطة الكنسية، وتكريسها لتلك السلطة على رعاياها، خاصة وأن سلطة البابا الإكليروس عمومًا سلطة أبدية لا يمكن نفيها أو تغييرها ما دامت الحياة قائمة، سوى عبر استثناءات قليلة ربما نادرة الحدوث.
ولا ينبغي فهم الديموقراطية نحو لائحة انتخاب البطريرك في سياق الكنيسة الأرثوذكسية وتاريخها المعاصر، سواء قبل ثورة يوليو التي شهدت ذلك مرات عديدة أو بعدها، بالمحددات نفسها لمفهوم الطريقة السياسية التقليدية، بل يلزم إدراك ذلك من طريق فهم السياق العام الذي كانت عليه مصر وظرفها السياسي، والذي استوجب مقاربة تموضع ذلك المنصب بما يلائم المجال العام. ومن هنا كان الهدف المركزي هو بلوغ درجة من فكرة “التوافق الجماعي”، تتجلى فيها رؤية الجماعة المؤمنة “مجتمع الناخبين” من طريق مشاركتها في اختيار القائد الرُوحي، مع الاعتماد على شرطية العامل الإيماني ومنسوب العلاقة مع السلطة الزمنية.
لائحة انتخاب البطريرك والتطور السياسي في مصر
ربما يُمثل التدقيق في لائحة انتخاب البطريرك عبر مراحل التاريخ المعاصر لمصر، مقاربة مهمة لذلك التاريخ، ورواية أخرى من الأهمية بمكان الالتفات إليها، خاصة وأن الأحداث الدالة في هذا الأمر لطالما ارتبطت ارتباطًا كبيرًا مع لحظات فاصلة في الحيز السياسي وجانبه، الأمر الذي يدفع اتجاه محاولة الحفر التاريخي لاستدعاء الدلالات داخل المسار الزمني وتحليلها.
كان عام 1927 عامًا دالًا في التاريخ المصري، إذ شَهِدَ وفاة زعيم حزب الوفد سعد زغلول والبابا كيرلس الخامس بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية وكذا شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، مما صاغ مقاربة مهمة في شكل اختيار البطريرك اللاحق وطريقته. جاءت اللائحة الأولى لانتخاب البطريرك في أثناء حكم الملك فؤاد الذي ارتأى ضرورة أن يأخذ مسار انتخاب البطريرك شكلًا تنظيميًا وقانونيًا بعد ما كانت الكنيسة تفتقد بنية تنظيمية يُحسمُ من طريقها اسم البطريرك.
إقرأ أيضا: بنية السلطة الدينية داخل الكنيسة القبطية وتجلياتها.. مدارس الأحد أنموذجاً
بينما جاءت اللائحة الأخرى بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، وعزل البابا يوساب الثاني، وشغور الكرسي البابوي لثلاث سنوات متصلة، من طريق بنود تستهدف إقصاء شخصيات بعينها. إلى ذلك وفي أثناء ثلاثة عقود تقريبًا فيما بين عام 1928 وعام 1956، اُختير ثلاثة بطاركة على كرسي مارمرقس الرسول عبر مطارنة الأبرشيات: الأنبا يؤنس التاسع عشر (1928-1942) وهو البطريرك الـ 113، والأنبا مكاريوس الثالث البطريرك الـ 114 (1944-1945)، والأنبا يوساب الثاني البطريرك الـ 115 (1946-1956). الأمر الذي دفع إلى اللائحة الجديدة التي وضعت في حبرية البابا تواضروس الثاني أن تجعل حدوث ذلك في أضيق النطاقات والضرورة القصوى.
ومع حبرية البابا شنودة الثالث التي امتدت من مطلع حقبة السبعينيات وحتى نياحته (وفاته) في شهر مارس آذار عام 2012، ورغم تعدد كتاباته في مجلة “مدارس الأحد” عن انتخاب البطريرك ورؤيته لعدد من الثغرات في اللائحة، إلا أنه أشار غير مرة إلى أنه سوف يترك الأمر لمن يأتي بعده.
عقب أحداث عام 2011 و2013، ومن طريق لحظة فارقة ومفصلية في التاريخ المصري الراهن، كانت اللائحة التي سوف يُختار من طريقها البابا القادم التي وُزِنَ فيها النسبية بين رؤى متعددة في شكل اختيار البطريرك، سواء من طريق السن أو مدة الرهبنة والرتبة الكنسية السابقة على الترشح التي كانت دومًا محل خلاف شديد وعميق.
مفهوم القُرعة الهيكلية: الإرادة المطلقة والأهداف الخاصة
يمضي مترجلًا وهو معصوب العينين وخطواته لا يدركها سوى ثلاثة، في حين يتبعهُ أعداد غفيرة من الأقباط الأرثوذكس ليتبينوا من اختارته العناية الإلهية ليجلس على كرسي مارمرقس الرسول بيد طفل. رغم أن مبدأ القُرعة الهيكلية التي جاءت به لائحة انتخاب البطريرك في عام 1957، راكم انتقادات واسعة لتفريغه فلسفة الانتخاب ومبدأ الاختيار من مضمونه الواسع، إلا أن تلك الانتخابات عرفت مشاركة جيل الرهبان الجامعيين واحتشادهم مؤقتا خلف السلطة الكنسية لترسيم مبدأ الإصلاح الكنيسة ونهضتها. ومع ذلك فإن إجراءات انتخاب البطريرك في مراحل مختلفة عبر التاريخ كانت تعكس بصورة أو بأخرى مدى رؤية السلطة الزمنية للكنيسة القبطية ودرجة علاقتها بالأقباط الأرثوذكس وتوظيفهم وفق المجال العام.
كانت واقعة عزل البابا يوساب من الكرسي البابوي عام 1955، وقرار اللجنة في شهر أيلول/ سبتمبر من العام ذاته بعزله وتكوين لجنة ثلاثية لإدارة السلطة الكنسية، استجابة لمقتضيات اللحظة التاريخية وامتصاص لغضب الجهة المنفذة لواقعة اختطافه “الأمة القبطية“، مما عَبَّدَ الطريق نحو استدعاء مبدأ القُرعة الإلهية أو الهيكلية بوصفها مرتكزًا لاختيار البطريرك، وكأنه اختيار إلهي لم تمسسه يد بشر.
ما يجعلنا ندقق جيدًا في تلك الكلمات التي دونها السيد نظير جيد (البابا شنودة لاحقًا) في مجلة “مدارس الأحد“، العدد السابع عشر عام 1953، حين كتب قائلًا[1]: “بقاء الكرسي المرقسي خاليًا خير من أن يجلس عليه شخص غير مستحق”.
المرحلة الأولى: لائحة العام ١٩٢٨ وانتخاب ثلاثة مطارنة
بعد أقل من أسبوعين على صدور قانون المجلس المِلِّي عام 1927 حتى غَيَّبَ الموت البطريرك كيرلس الخامس في السابع من شهر آب/ اغسطس من العام ١٩٢٧ قبل أن يقوم بمهمة تسمية قائم مقام. وربما كان ذلك الغياب بعد حبرية طويلة امتدت نصف قرن مليئة بالتحديات ضد بعثات التبشير ودعاة الإصلاح والمجلس المِلِّي وكذا العمل لدعم مدارس الأحد وتأسيسها -ربما– كان ذلك الغياب مساحة زمنية بدت فيها تحركات الجميع وأهدافهم، سواء من يرغب في تمركز بنية الإصلاح، وكذا هدف المجلس المِلِّي أن يبلغ درجة أعلى نحو الانخراط في مهام الكنيسة، فضلًا عن أهداف السلطة السياسية عند الملك فؤاد آنذاك والاحتلال الإنجليزي أيضًا في التأثير في المؤسسات الدينية، خاصة الكنيسة وكذا التنافس بين الملك وسلطة الاحتلال نحو ذلك دون أن نغفل كون تلك المرحلة شهدت تحركات لبلوغ أطماع بعض المطارنة في المنصب[2].
كان الصراع بين دعاة الإصلاح والمجلس المِلِّي الإكليروس “رجال الدين” في تلك الفترة يدور حول بعض الشروط التي ينبغي أن تتحقق في المرشح للائحة انتخاب البطريرك وكان منها:
- شرط الرهبنة أو البتولية.
- تكوين المجمع الانتخابي.
- ترشيح المطارنة لأنفسهم لمنصب البطريرك وكان ذلك من شروط المجمع المقدس.
في هذه الأثناء ظهر مُرشحان لمنصب النيابة البطريركية، الأنبا يؤانس مطران الإسكندرية والبحيرة والمنوفية ووكيل الكرازة المرقسية يرشحه رجال الدين، وهو الذي أصبح بطريركا والأنبا مكاريوس مطران أسيوط يرشحه أنصار النهضة الاصلاحية وأعضاء المجلس المِلِّي العام، وقد أصبح بطريركا بعد نياحة “وفاة” الأنبا يؤانس.
حاول وبالأحرى سعى حثيثًا الأنبا يؤانس في جذب دعاة الإصلاح، لا سيما أعضاء المجلس المِلي، إلى صفه متى أفصح جهرًا أمام جمع من الأراخنة “الأعيان” أنه يقدر المطالب الإصلاحية المُثارة، وأنه يوافق على تنفيذ قانون المجلس المِلِّي الجديد، وذلك لدعم هذا الفريق لجانبه والجلوس على الكرسي البابوي[3].
نحو ذلك مع منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر 1927، دعا الدكتور سوريال جرجس -وهو من أنصار الإصلاح- لاجتماع حضره عدد من وجهاء الأقباط عُقد بفندق الكونتيننتال، وطالب فيه بضرورة انتخاب بطريرك، ورشح القُمص يوحنا سلامة نفسه، وانتُخِبَ وأُرسل القرار إلى وزارة الداخلية في الثامن عشر من كانون الأول ديسمبر 1927. بينما جاء تعقيب الملك فؤاد الذي كان يميل للأنبا يوآنس على ذلك بأن أصدر قرارًا بتعيين الأنبا يوآنس مطران البحيرة قائم مقام للكرسي البابوي لمدة ستة شهور في مناخ من القلق الذي ساد الرأي العام القبطي من أن يصبح للكنيسة أكثر من بطريرك في وقت واحد.
إقرأ أيضا: المجلسُ المِلِّي وقصة الصراع بين الإكليروس والتيار الإصلاحي في الكنيسة القبطية
في الوقت ذاته استدعى الملك فؤاد وزير المواصلات آنذاك “توفيق دوس” باشا، وأبدى انزعاجه من مسألة ترشيح القُمص يوحنا سلامة، وما يتردد عن علاقته بالإنجليز، ونقل الملك فؤاد لدوس باشا رغبته في أن يعتلي الأنبا يوآنس كرسي البطريركية، إذ إنه يعرفه جيدًا ويثق فيه نحو مواجهة المرشحين الآخرين سواء الأنبا مكاريوس أو القُمص يوحنا سلامة. في أعقاب ذلك عقد الأنبا يوساب مطران جرجا اجتماعا للمجمع المقدس في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو 1928 أكدَ عدم الممانعة أن يأتي البطريرك من طائفة المطارنة، فقد كان يوحنا سلامة المنتخب من وجهاء الأقباط وتيار الإصلاح وكيلا لمطرانية الخرطوم.
في تلك اللحظة من الصراع على الكرسي البابوي، كانت هناك قوى على المسرح السياسي تتحرك للسيطرة على المراكز المؤثرة في مصر، وهم تحديدًا الإنجليز والملك فؤاد، وكانا يسعيان في السيطرة على الكنيسة والتأثير فيها، فقد تحرك الملك فؤاد وحصر الناخبين الذين يملكون حق التصويت لانتخاب البابا البطريرك في ثلاث فئات حصرًا وهم: الوزراء الحاليون والسابقون، أعضاء مجلس البرلمان، بعض الأثرياء وقد اختارهم الملك بنفسه. وبلغ عدد الناخبين 96 فقط، وحينذاك بدا أن كرسي البطريركية ينتظر جلوس الأنبا يوآنس مطران البحيرة بوصفه بطريركًا رسميًا مُعترفًا به من الدولة المصرية نزولًا عن رغبة الملك[4].
جرت انتخابات البطريرك وتمت بين خمسة مرشحين منهم القُمص يوحنا سلامة -الذي سبق له الزواج- وكانت النتائج كالتالي: يوآنس 70 صوتًا، يوحنا سلامة تسعة أصوات، حبيب جرجس (علماني) مدير الكلية الإكليريكية صوتين، حنا الأنطوني (راهب) صوتين، الأنبا بطرس (مطران أخميم). وتشير مصادر متعددة إلى أن الانتخابات جرت في جو مفعوم بالتوتر والقلق إلا أن الأمر الملكي بتنصيب الأنبا يوآنس بطريركًا صدر بالفعل في التاسع من شهر كانون الأول ديسمبر 1928[5].
ينبغي أن نلفت أن الملك فؤاد دعم هذا الاتجاه من طريق بعض الشخصيات مثل الوزير توفيق دوس[6]، وربما كان ذلك يعكس بطريق ما الكُرْه التاريخي للملك فؤاد لحزب الوفد الذي استطاع أن يكتسب القبط من طريق دعمه لمبدأ الجامعة الوطنية في ثورة عام 1919 مما دفع الملك لأن يميل هو الآخر إلى جمهور القبط، ولكن من طريق مؤسستهم الدينية الأمر الذي بدا أيضًا من طريق دعم الكنيسة والبابا في صراعهم مع المجلس المِلِّي[7].
كما أشرنا سابقًا العقود التي امتدت من نهاية العشرينيات ١٩٢٨، وحتى منتصف الخمسينيات، شهدت اختيار ثلاثة بطاركة من المطارنة الأمر الذي تعده قوانين الكنيسة فترة عثرة خبرته الكنيسة الأرثوذكسية في أعلى مراكزها التنظيمية.
عقد الثلاثينات والمتغيرات العميقة
كان مشهد الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، يموج بعديدٍ من المتغيرات الداخلية والدولية التي كان لها أبلغُ الأثر في الأوضاع السياسية والكنسية، إذ سمحت معاهدة 1936 بأن يتملك الوفد ورئيسه مصطفى النحاس الشعور بأنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم الاستقلال، وبدا أن معادلة الحكم التي كانت تنحصر في القصر والاحتلال والوفد، أضحت أكثر مرونة بغياب الملك الأب فؤاد الأول، وحلول الابن الصغير فاروق، بيد أن الأخير ورث عن والده كراهية الوفد، وهي الكراهية التي استمرت طوال سنوات حكمه ووصلت إلى ذروتها مع أحداث الرابع من شباط / فبراير 1942.
مما جعل الجميع يبحث عن الخلاص سواء كان سياسيًا من طريق تكون هيئة الضباط الأحرار أو كنسيًا من طريق تعدد الرؤى الإصلاحية عبر مسار الرهبنة، وانتظام جيل جديد داخل المؤسسة الكنسية أو ميدانيا من طريق تبلور جماعة الأمة القبطية.
الأنبا مكاريوس بطريركا
بعد وفاة البابا “يوآنس التاسع عشر” عام 1942، ظل الكرسي البابوي شاغرًا مدة سنة وسبعة شهور حتى انتخب الأنبا مكاريوس في شهر شباط/فبراير 1944، ولم يدم على كرسي مارمرقس الرسول سوى عام ونصف العام، وقد دبت في هذه المُدة خلافات وصراعات فيما بين المجلس المِلِّي والمجمع المقدس، اضطر على إثرها الأنبا مكاريوس لهجر مقر البطريركية والاعتكاف بالدير، الأمر الذى أحدث أثرًا سلبيًا بالغًا في أوساط الأقباط تمثل في تنامي الشعور بالفراغ الديني في المستوى المؤسسي حتى تُوفي الأنبا مكاريوس في نهاية شهر آب اغسطس من عام ١٩٤٥.
الانبا يوساب بطريركًا
كان البابا يوساب مطران جرجا قائم مقام بعد وفاة الأنبا مكاريوس حتى اُختيرَ للجلوس على الكرسي البطريركي في أيار/مايو 1946، وقد صاحبه في تلك الفترة تلميذه وخادمه كامل جرجس الشهير بملك، وكان البطريرك يثق فيه ثقة عمياء. عمل ملك لتضييق الأمور على مدارس الأحد وعلاقتها بالكنيسة، ووضع حاجزًا بين الأقباط والبطريرك، فساءت العلاقات بين مدارس الأحد وبين البابا وانتهى الأمر إلى مواجهة بينهما في صفحات مجلة مدارس الأحد[8].
مدارس الأحد وانتخاب البطريرك.. “بَعْثٌ جديدٌ”
هذا وقد اضطلعت مجلة مدارس الأحد من طريق الجيل الجديد بمهمة إزاحة السكون الذي غَلَّفَ الكنيسة القبطية عدة عقود وأصاب الأقباط بإحباط شديد، مما دفعهم أن يُصدروا المجلة بافتتاحية تشير إلى منهج عملهم “بيد قوية، هي يد الله العلي القدير، تصدر مجلة مدارس الأحد، وما قصدنا من إصدارها زيادة عدد ما يصدر من مجلات، لكننا رغبنا في أن نبعث بعثًا جديدًا في المجتمع القبطي. هذه المجلة تريد أن ترفع الصوت عاليًا، وتنبه كل مسئول وكل فرد أنها تريد أن تخلق الرأي العام في الكنيسة، وأن توجهه حتى يُضطر كل واحد ممن يقود كنيستنا أن يتوارى، ولا يظهر أمام الناس حين يعمل ما يُخالف رسالة الكنيسة”. جاءت تلك الكلمات مصحوبة مع صورة لغلاف المجلة وعليه صورة السيد المسيح ملوحًا بالسوط بإحدى يديه ويشير بيده الأخرى بإشارة الطرد وملامح وجهه تكسوها الحدة وأسفل الغلاف كتبوا جملة مهمة تعكس رؤية الجيل الجديد ومساره في مدارس الأحد “رسالة البعث الجديد“[9].
المرحلة الثانية
مرحلة ما بعد ثورة 23 يوليو 1952 ومقاربة اللوائح
كان اندلاع ثورة ٢٣ تموز/يوليو من عام ١٩٥٢، جسرًا حمل كثيرًا إلى عقول كثيرين ودفع الأحلام في نفوس الاقباط المصريين للنهوض بالكنيسة بعد فترة زمنية امتدت لثلاثة عقود تقريبًا، نُظِرَ اليها بكثير من القلق مما دفع جماعة الأمة القبطية بقيادة المحامي الشاب آنذاك إبراهيم فهمي هلال إلى خطف البابا يوساب من مرقده وحجزه في عام ١٩٥٤، ثم انتهى الـأمر بالقبض على رئيس الجماعة “إبراهيم فهمي هلال” والحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.
وفي 21 أيلول/سبتمبر من عام 1955 جُرِّدَ البابا يوساب الثاني رسميًا من مهامه البابوية، وأُرسل إلى الدير المحرق بالقوصية التابعة لمحافظة أسيوط، وكَلفت الدولة ثلاثة أساقفة تتولي إدارة شئون البطريركية حتى وفاة البطريرك في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1956. واختار المجمع المقدس الأنبا “إثناسيوس مطران” بني سويف قائم مقام بعد وفاة الأنبا يوساب، وكان الاتجاه يذهب نحو منع المطارنة والأساقفة من الترشح إلى المنصب، وأن يأتي اختيار البطريرك من الرهبان، وبدأ شباب مدارس الأحد العمل بنشاط وحماس داخل مجموعات لهذا الأمر، وتركزت الترشيحات في ثلاثة رهبان من دير السريان، وكانوا جميعا من رواد مدارس الأحد، وهم القمص مكاري السرياني، والقمص متى المسكين، والقمص انطونيوس السرياني –الأنبا شنودة الثالث- كما رَشَّحَ بعض الشباب من فروع مدارس الأحد الدكتور وهيب عطا الله للمنصب البابوي.
تياران رئيسان:
في تلك الأثناء كانت الكنيسة القبطية يتنازعها تياران رئيسان، تيار شيوخ المطارنة والأساقفة الذين أحس بعضهم بأن مدارس الأحد استطاعت أن تحقق التواجد بكثافة داخل الأوساط القبطية، وأن روادها بعد دخولهم عالم الكهنوت يستطيعوا أن يحوزوا الرُتَبَ الكنسية العليا، وتيار مدارس الأحد الذي دخل عالم الرهبنة وأضحى على عتبات قيادة الكنيسة. وعلى خلفية التطور الذي جعل فرصة حيازة الرهبان الجامعيين رواد مدارس الأحد المنصب البابوي قريبة الحدوث، وأنه قد يكون منصب البطريرك من بين هؤلاء، جاءت جهود بعض شيوخ المطارنة لعقد اجتماع للمجمع المقدس بهدف دفعه لوقف العمل بلائحة 1927 وتعديلاتها للانتخابات البابوية، وطالبوا بوضع لائحة جديدة تحتشد خلف رُؤاهم.
لم يكن اسم الراهب مينا البرموسي (القمص مينا المتوحد)، على قائمة المرشحين للكرسي البابوي بعد رحيل البابا يوساب الثاني، وكانت الكنيسة وربما الدولة الجديدة آنذاك “دولة يوليو” ينظران بتوجس إلى المرشحين من شباب الرهبان، فاتفقا على تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك ما ينتج عنه انزياح أحقية هؤلاء الشباب في الترشح، وقد كان، لتصدر اللائحة المعدلة عام 1957، وقد أضيف فيها ضمن شروط الترشيح أن لا يقل سن المرشح عن أربعين عامًا وألا تقل مدة رهبنته عن خمسة عشر عامًا، وهكذا استُبعِدت أسماء تيار مدارس الأحد إجرائيًا.
بتلك اللائحة نجح شيوخ المطارنة في تجاوز تيار مدارس الأحد الذين حاولوا أن يحوزوا المنصب البطريركي، فقد كان أكبرهم سنًا وأطولهم مدة في الرهبنة القُمص متى المسكين يبلغ من العمر سبعًا وثلاثين سنة، بمدة في الرهبنة لا تتجاوز ثماني سنوات، و”عندئذ اندلعت المظاهرات تحت رعاية قيادات مدارس الأحد بقيادة كمال حبيب الذي كان خادمًا في مدارس أحد كنيسة مارمينا بشبرا الذي أصبح فيما بعد أسقف ملوي (1975-)، وفي هذا السياق أيضا اقترحت “الحديث على لسان د. مراد وهبة“[10] هذه القيادات أن أكتب مذكرة وأرفعها إلي رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر برجاء تعديل المادة ج “الخاصة بعمر المرشح للكرسي البابوي ومدة رهبنته” كي يكون من المشروع ترشح الرهبان الثلاثة، وقد كان إذ التقيت خالد محيي الدين الذي كان حينها رئيس تحرير جريدة المساء التي أنشأها جمال عبد الناصر بعد أن عاد من منفاه بسويسرا، وكنت علي علاقة حميمة معه بحكم تعاطفي مع التيار اليساري، وافق على عرض المذكرة على الرئيس عبد الناصر وكان في حينها علي موعد للالتقاء به في الساعة الثانية عشر ظهرًا في اليوم التالي، وكان رأي الرئيس عبد الناصر بعد أن أطلع علي المذكرة، أن مسألة تعديل اللائحة ليست من مسئوليته، بل هي من مسئوليات المجمع المقدس.
وقبل انتهاء المقابلة قال عبد الناصر لخالد محيي الدين: علي فكرة يا خالد، مدارس الأحد متعصبين زي الإخوان المسلمين، وكانت هذه الفكرة قد صرح بها في عام 1955، وكان من شأن هذا التصريح أن يُغيِّرَ اسم مدارس الأحد لتصبح مدارس التربية الكنسية، ومع ذلك كررها عبد الناصر في عام 1957، إلا أن الرئيس السادات أعادها إلي ما كانت عليه. وفي هذا السياق للمرة الثالثة قابلني الوزير المختص بالشئون القبطية الدكتور كمال رمزي ستينو ودار حديثه معي بشأن مظاهرات مدارس الأحد التي رآها بلا مُبرر، بدعوى أن الراهب القُمص مينا المتوحد “البابا كيرلس السادس لاحقًا” هو المرشح لأن يكون بطريركا، والرهبان الثلاثة هو الذي وافق على رسامتهم رهبانًا رغم رفض القيادة الكنسية، ومن ثم فإنهم سوف يكونون بجواره لمساعدته في إدارة شئون البطريركية. وعندئذ سألته: وإذا لم ينتخب؟ وهنا أنهى الوزير الجِلسة![11].
البابا كيرلس السادس والاستقرار الوظيفي
بدا أمام تيار شيوخ المطارنة والأساقفة اسم مرشدهم القمص مينا المتوحد، ولم يكن مرشحًا، فسعوا لدى بعض المطارنة ونجحوا من طريقهم في طرحه بوصفه مُرشحًا، وتُجرى الانتخابات ويكون اسم القمص مينا ضمن الثلاثة مرشحين أصحاب أعلى الأصوات وتأتي القرعة الهيكلية، وهو إجراء مستحدث وقتها، ليفوز فيها الراهب القُمص مينا المتوحد، ويحمل اسم البابا كيرلس السادس في 10 أيار/مايو 1959. وتسترد به الكنيسة عُرفها المستقر بأن يكون البابا من الرهبان الذين لا تعلو رتبتهم الكهنوتية عن رتبة “القُمص”، بعد ثلاثة بطاركة اُختيروا من المطارنة. في الوقت ذاته كانت تسمية جمال عبد الناصر رئيسًا لمصر عبر الاستفتاء في عام 1956 بوصفه إجراءًا جديدًا في الحياة السياسية المصرية[12]. وكان البابا كيرلس السادس أول بابا في تاريخ الكنيسة يُنتخب عن طريق القُرعة الهيكلية وفقًا للمادة 18 من لائحة انتخاب البطريرك التي تنص على: يَعلن القائم مقام البطريرك عن موعد إجراء القرعة الهيكلية ومكانه وتتم القُرعة وفقًا للقواعد الكنسية وتقاليدها. ويَعلن القائم مقام البطريرك اسم من اختارته القرعة ويعمل لذلك محضرًا يحرر من نسختين ويوقعه رئيس لجنة الانتخاب والحاضرون من أعضاء المجمع المقدس ولجنة الترشيح وترسل نسخة منه إلى وزارة الداخلية في اليوم التالي، ويصدر قرار جمهوري بتعيين البطريرك ويقوم القائم مقام البطريرك برسامته وفقًا لتقاليد الكنيسة[13].
بعد سنوات قليلة وتحديدا في عام 1962 كان تيار مدراس الأحد على موعد مع تاريخ مُهم، تحدث فيه محاولات التموضع أمام تيار شيوخ المطارنة. ففي هذا العام رَسَّم البابا كيرلس السادس، أول أساقفة عموميين في عهده، وكان من بينهم القُمص مكاري السرياني، أُسقفًا للخدمات العامة والاجتماعية “باسم الأنبا صموئيل” وهو من أسس مشروعَ الخدمة الريفية، ووصلت من طريقه مدارس الأحد إلى كل قرية ونجع في المحافظات المصرية، والقمص أنطونيوس السرياني، أسقف الكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية ومدارس التربية الكنسية باسم الأنبا شنودة، وأضحت مدارس الأحد منذ ذلك الحين جزءًا تابعًا لأسقفية التعليم، وتحت رعاية الكنيسة والأنبا شنودة أُسقفًا للتعليم. بيد أن الأمر لم يدم على وفاق طويلًا حتى منحت التجربة التاريخية تيار مدارس الأحد فرصة تبوء الكرسي البابوي في لحظة تاريخية جديدة سياسيًا وكنسيًا، تحققت من طريق غياب الرئيس جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس.
المرحلة الثالثة: حبرية البابا شنودة ومقترح لائحة التيار العلماني القبطي
حَرِصَ أعضاء التيار العلماني القبطي منذ لحظة التأسيس على الاشتباك مع قضايا الكنيسة، خاصة في بعض الجوانب التنظيمية للكنسية، بعيدًا عن القضايا اللاهوتية والعقائدية، وتؤكد أوراق التيار العلماني القبطي “أننا لا نبدأ من نقطة الصفر، بل نكمل مسيرة ممتدة لأكثر من قرن ، كانت أبرز الإسهامات فيها الدراسات والآراء التي طرحها رموز جماعة مدارس الأحد ومؤسسيها بدءًا من مؤسسها الأستاذ حبيب جرجس ( 1900 ) بدعم من قداسة البابا كيرلس الخامس، ومرورًا بأطروحات الجيل الثاني ( 1948 1954 )، وعلى رأسهم الأستاذ نظير جيد، ثم الأنبا شنودة أسقف التعليم، الذى طالب بإجراء عديد من التعديلات لمنظومة الإدارة وضبطها وتصحيحها والقوانين الكنسية واللوائح المُنظمة للعمل الرعوى والإداري داخل الكنيسة بوصفها مؤسسة تعمل في أرض الواقع المُعاش، وقد رصدنا ذلك في الأوراق البحثية التي قُدمت في ورشة العمل التي عُقدت لبحث لائحة انتخاب البابا البطريرك وتعديلها ( تموز /يوليو 2007 ) .
وقد استشعرنا انتباه الكنيسة لأهمية هذا عندما أضافت إلى العمل المجمعي الرسمي أُسقفتي التعليم والبحث العلمي في حقبة الستينيات من القرن الماضي، وتولاها اثنان من أساقفة رموز مجموعة مدارس الأحد وأبرز المطالبين بضبط المنظومة القانونية للكنيسة: نيافة الأنبا شنودة ونيافة الأنبا غريغوريوس. وتأتى مراجعة لائحة انتخاب البابا البطريرك وتعديلها على قمة الاهتمامات كونها تتعلق بالمركز القانوني الأعلى في المنظومة الكنسية لتكون متطابقة ومتوافقة مع القواعد الكنسية التقليدية الصحيحة وهو ما رصده من سبقونا، وتأتى مُحققة لاحتياجات الكنيسة اليوم، خاصة بعد ما أضفى على هذا الموقع السامي من أبعاد دولية وإعلامية في حبرية قداسة البابا شنودة الثالث الأمر الذي جعله محط أنظار قوى عديدة، ويصبح التدقيق في رسم ملامح من يشغله مهمة غاية في الأهمية والحتمية[14].
إلى ذلك وضع البنية الأساسية القانونية لمشروع لائحة انتخاب البابا البطريرك الأستاذ نبيل منير حبيب وهو محامٍ بالنقض وخادمٍ له تاريخ في الخدمة الكنسية المسكونية ومن مؤسسي التيار العلماني، وطرحناها على الرأي العام منذ إعلان صيغتها الأولية في ورشة العمل في 21 تموز يوليو من العام 2007[15]. فإن المُدقق في مقترح التيار العلماني القبطي نحو لائحة انتخاب وترشيح البابا البطريرك سوف يجد بعض المقترحات المستحدثة التي سبقت لائحة عام 2015 التي أقرتها الكنيسة في عهد البابا تواضروس الثاني ومن هذه الأشياء الجديدة ما يلي[16]:
– منصب “نائب البابا” وهو منصب إداري يضبط الحركة داخل الكنيسة في الفترات الانتقالية التي تعقب خلو الكرسي البابوي، وفى فترات غياب البابا لمختلف الأسباب، مما يُحقق لها الاستقرار. فهذه الفترات عادة ما تكون بمنزلة ثغرات في السياج الداعم للكنيسة والذي عادة ما يستغله عدو الخير للتسلل إلى الكنيسة.
– إلغاء منصب “قائم مقام البطريرك” بوصفه أحد موروثات دولة الطوائف والملل وعدم ملائمته للعصر.
– استحداث نظام الدوائر المتخصصة في مجالات عمل الكنيسة المختلفة بوصفها خطوة ضرورية للتحول من النظام الفردي في قيادة الكنيسة إلى النظام الجماعي والمؤسسي، وهو ما درجت عليه الكنيسة في عصور الاستنارة، وما اتخذته بعض الكنائس لتثبيت واقعها وتأكيده أمام متغيرات العصر الجارفة. وهذه الدوائر ليست أجهزة استشارية، بل هي مكون أساسي في منظومة اتخاذ القرار.
– توسيع القاعدة الانتخابية بضوابط لازمة، حتى تأتى أكثر تَحقيقًا للمبدأ الكنسي (حق الشعب في اختيار راعيه) ومتماشية مع التوسع الجغرافي والبشرى الذي تشهده الكنيسة، سواء في داخل الوطن أو خارجه.
-اقتراح إلغاء نظام القُرعة الهيكلية لأسباب عديدة أهمها:
- عدم اتساقها مع فلسفة الانتخاب، بل وإهدارها له.
- عدم قانونيتها فالمفترض أن تُجرى بين متساويين وهو ما لا يتوافر في حالة المرشحين إلى الكرسي لتباين الأصوات الحاصلين عليها.
- أنها لم تُتَّبَع في الكنيسة على مدى تاريخها إلا ثلاث مرات وفى عصور حديثة ولأسباب مختلفة فلا ترقى لأن تكون قاعدة يُقاس عليها.
- دفعت بنمط التواكل إلى الذهنية القبطية العامة بزعم أن الإنسان ليس عليه الاختيار، بل هي مهمة يختص بها الله مما دفع بالإنسان القبطي إلى السلبية والتواكل والعزلة انتظارًا لحلول سمائية معجزية دون المشاركة الإيجابية في فعل التغيير والتصحيح والتطوير.
- التعارض مع قوانين الرُسل التي تؤكد فكرة قبول الله لمن اختاره الشعب (فإذا قبلوه جميعا قبله الله)
- عدم تحصنها في مواجهة تدخلات غير معلنة مما يُشكك في مصداقيتها.
اختتم اعضاء التيار العلماني القبطي مشروع مقترحهم الذي قُدِّمَ إلى الكنيسة في عهد البابا الراحل شنودة الثالث من طريق قولهم إن هذا المشروع هو “عمل بحثي فكرى أملته علينا الضرورة وحاجة الكنيسة في عالم متغير، وحكمنا فيه انتمائنا العضوي للكنيسة، ونؤكد أننا نقدمه إلى الكنيسة مُمثلة في مجمع أساقفتها برئاسة قداسة البابا شنودة الثالث بوصفها السلطة العليا في الكنيسة، نقدمه تقدمة فكرية من منطلق محبتنا لكنيستنا وحرصنا على أبنائها ومستقبلهم الذي هو مستقبلها ونشهد الله أن هذا هو هدفنا الأول والأخير”.
جاء المقترح في خمسة أبواب والباب السادس مَثَّلَ أحكامًا عامة/في حين كان الباب الأول بعنوان البابا البطريرك ومعاونيه/والباب الثاني عن المرشح للكرسي البابوي ويقترب كثيرًا من مواصفات لائحة عام 2015 عدا نقطة السماح بترشيح أسقف الإيبارشية التي جاءت في لائحة 2015 بوصفها استثناءً ضروريًا، في حين مقترح التيار العلماني حدد ذلك بقولهم: “ألا يكون قد وضعت عليه الأيادي لرتبة الأسقفية قبلًا، ويستوي في هذا أسقف الإيبارشية والأسقف العام”. والباب الثالث عن ترشيح البابا البطريرك، والباب الرابع مراحل العملية الانتخابية وضوابطها والباب الخامس عن المجمع الانتخابي والعملية الانتخابية.
عُرف مقترح التيار العلماني القبطي مجمع الأساقفة برئاسة البابا البطريرك “أو النائب البابوي في حالة غياب البابا” هو السلطة العليا في الكنيسة، ويقوم بإدارة الكنيسة من طريق عدد من الدوائر المتخصصة التالية:
- دائرة التعليم اللاهوتي والمعاهد الكنسية المتخصصة، ومهمتها المعاونة في تحضير المحاضرات والأبحاث التي يلقيها البابا البطريرك أو الأسقف، ومراجعة الكتب اللاهوتية، ومراجعة المواد التعليمية بكل وسائل الميديا التي تُنتجها الكنيسة أو تَصدر عنها، وإعداد المراجع الخاصة بالتعليم اللاهوتي والكنسي، ومتابعة المعاهد المتخصصة والإكليريكيات ووضع المناهج وفتح قنوات الاتصال مع المعاهد الأكاديمية المناظرة بالكنائس والجامعات الأخرى وتضم في عضويتها أساقفة التعليم والبحث العلمي والشباب.
- دائرة التشريع والقانون الكنسي، ومهمتها مراجعة القوانين الكنسية وإعداد المجموعات القانونية للكنيسة، وإعداد القوانين واللوائح المنظمة للإدارة الكنسية، واقتراح وبحث وإضافة التعديلات التي تفتضيها متغيرات العصر في إدارة مؤسسة الكنيسة.
- دائرة الطقوس والعمارة الكنسية، ومهمتها مراجعة وضبط الطقس وشرحه وترجمته إلى لغات المَهجر، وتسجيل الألحان بالطرق العلمية والمساعدة في ضبط عمارة الكنائس وتقنينه وإحياء التراث الفنون القبطية وتوثيقه.
- دائرة الإعلام، ومهمتها تنظيم قنوات مخاطبة الراي العام والتعامل مع وسائل الإعلام وإعداد البيانات الإعلامية الكنسية والإشراف على الإنتاج الإعلامي الكنسي الفني. والقنوات الفضائية الكنسية بالتنسيق والتكامل مع دائرة التعليم.
- دائرة الرعاية الكنسية، ومهمتها دعم الرعاية الاجتماعية والرُوحية وإعداد الدراسات والنظم والسجلات التي تحتاجها منظومة الرعاية بصورة متكاملة وعلمية وعملية، وتضم في عضويتها أسقف الخدمات الاجتماعية.
- دائرة العلاقات العامة، ومهمتها تعضيد الوحدة المسيحية بين الكنائس، والأنشطة المسكونية والمدنية والوطنية، وإعداد التقارير والبيانات والدراسات المتعلقة بالمجتمع العام والكنائس والأديان الأخرى.
- دائرة كنائس المهجر، ومهمتها الاهتمام بالكنائس والأديرة والتجمعات القبطية الأرثوذكسية بأفريقيا ودول المهجر والدول العربية، ومتابعة احتياجاتها وطرق تنمية الخدمة والرعاية بها وربطها بالكنيسة الأم وتبادل الخبرات معها وتضم في عضويتها أساقفة المهجر.
- دائرة الديوان البطريركي والسكرتارية، ومهمتها تنظيم أعمال إدارة الديوان البطريركي المالية والإدارية والعامة وتنظيم العمل الإداري للبابا البطريرك.
وتتكون كل دائرة من عدد من المتخصصين علميًا في نطاق عمل الدائرة لا يقل عن سبعة ولا يزيد عن خمسة عشر، يُختاروا من أهل الخبرة العملية والعلمية بواسطة لجنة مشكلة من مجمع الأساقفة ومجلس العلمانيين، ويُراعى توافر واحد على الأقل في كل دائرة من الحاصلين على درجة الدكتوراه في تخصص الدائرة ويختارون من بينهم الرئيس وهيئة المكتب.
المرحلة الرابعة:
حبرية البابا تواضروس ولائحة عام ٢٠١٥
جاءت وفاة البابا شنودة الثالث في لحظة حاسمة في تاريخ مصر المعاصر، إذ كانت القاهرة تئن من تجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين، وتحديدًا كان ذلك في السابع عشر من شهر آذار/مارس من عام 2012، ورُسِّمَ البابا تواضروس الثاني في الرابع من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام ٢٠١٢ بإشراف من القائم مقام الأنبا باخوميوس. في شهر شباط فبراير من عام 2014 أنهى المَجمع المقدس بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية لائحة انتخاب البطريرك الجديدة لتحل محل لائحة 1957 بعد جلسته الاستثنائية التي استغرقت ست ساعات ترأسها البابا تواضروس الثاني، والتي لاقت جدلًا واسعًا عقب وفاة البابا شنودة الثالث ومطالبات أساقفة بتعديلها لعدم مواكبتها للعصر، وبعد مناقشات ودراسة استمرت أكثر من عام حسمت اللائحة الجديدة النقاط الخلافية بالتصويت المباشر وأبرزها ترشيح أسقف الإيبارشية للكرسي البابوي، فقد وُضع نص “توافقي” فبعدما لاقى المجمع المقدس تيارين أولهما يترأسه الأنبا بيشوي مطران دمياط، ويطالب بحق ترشيح أسقف الإيبارشية والتيار الآخر يترأسه الأنبا سرابيون أسقف لوس أنجلوس، المطالب بترشيح الرهبان والأساقفة العموم فقط، فقد وضع المجمع المقدس نصًّا يُتيح ترشح أسقف الإيبارشية في حالة الضرورة القصوى.
إلى ذلك أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم الإثنين الموافق 23 آذار/مارس من عام 2015، قرارًا جمهوريًا بشأن اعتماد لائحة قواعد وإجراءات ترشح بابا الإسكندرية وانتخابه وبطريرك الكرازة المرقسية، فقد أَلغى اللوائح المعتمدة منذ عام 1957، وأقر اللائحة الجديدة التي تقدمت بها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعُدلت شروط المرشح للكرسي البابوي، فبعد أن كانت سن المرشح لا تقل عن 40 ولا تتعدى 60 أصبحت لا تقل عن 45 عامًا ولا تتعدى 65 عامًا، وقت خلو الكرسي البابوي وأن يكون قد قضى في الرهبنة عند التاريخ المذكور مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة ميلادية.
وفى المؤهلات المطلوبة لمرشح الكرسي البطريركي تضمنت سبعة مؤهلات وهي: أن يكون حاصلًا على مؤهل جامعي أو ما يعادله، أن يكون مُتعمقًا بعلوم الكنيسة الأرثوذكسية وقوانينها، أن يكون مُعلمًا أرثوذكسيًا بإخلاص، أن يكون على دراية بوسائل التكنولوجيا والتواصل الحديثة، ويُجيد اللغة العربية ويُجيد الصلاة باللغة القبطية وعلى دراية بإحدى اللغات الأجنبية، ويفضل أن يكون له خبرة رعوية مشهود لها بالنجاح يفضل ألا تقل عن عشر سنوات قبل أو بعد الرهبنة.
كما عُدلت المادة8 فحُذفت عبارة: “على كل من يرغب في ترشيح نفسه إلى كرسي البابا أن يُقدم إلى اللجنة العليا طلبًا بذلك…” وأصبحت عن طريق تزكيات، وطورَ النص ليكون: “أن يُرفق بالأوراق والبيانات تَزكية مُحررة على النموذج الذى أعدته اللجنة العليا ومُوقع عليها من عدد من المطارنة أو الأساقفة أو رؤساء الأديرة يُمثل 10% من أعضاء المجمع المقدس، أو من ضعف هذا العدد من أعضاء أو نواب المجلس المِلِّي العام أو المجلس المِلِّي السكندري الحاليين أو السابقين أو أعضاء مجلس إدارة هيئة أوقاف الأقباط الأرثوذكس الحاليين أو السابقين أو من شخص من إيبارشيه بالداخل والخارج، ويرفق مع التزكية أسباب التزكية لشخص المرشح”.
حصرت المادة 14 مواصفات وشروط من يقيد اسمه في جداول الناخبين أن تتوافر فيه الشروط الآتية بالإضافة لما هو وارد في المادة (15)[17]:
- أن يكون مسيحيًا قبطيًا أرثوذكسيًا.
- أن يكون حاصلًا على مؤهل دراسي، ويُستثنى من هذا الشرط الكهنة والرهبان والراهبات بالأديرة المعتمدة من الكنيسة.
- ألا يكون قد سبق الحكم عليه بعقوبة جنائية أو بعقوبة جنحة في جريمة مُخلة بالشرف مالم يكن قد رُدَّ إليه اعتباره.
- أن يكون قد بلغ من العمر خمسة وعشرون عامًا على الأقل في تاريخ خلو كرسي البابا البطريرك.
- ألا يكون واقعًا تحت أحكام كنسية لم تُلغ.
المراجع:
[1] للمزيد: انظر مجلة مدارس الأحد، العدد السابع عشر، عام ١٩٥٣.
[2] أحمد شفيق غربال: حوليات مصر السياسية، الحولية الرابعة، القاهرة، 1927، ص ص 440-441.
[3] صحيفة مصر، عدد ١٠ آب / أغسطس١٩٢٧.
[4] جرجس فيلوثاؤس، عثرة الكنيسة في القرن العشرين، ج1، القاهرة، 1930، ص 116.
[5] سليمان شفيق، الأقباط بين الحرمان الكنسي والوطني، القاهرة، ١٩٩٦، ص75.
[6] كان توفيق دوس من مؤسسي الأحرار الدستوريين. وكان عضوًا بلجنة الثلاثين التي وضعت دستور 1923، وعرف بدفاعه عن التمثيل النسبي للأقباط، وانضم الأنبا يؤانس إليه في موقفه.
[7] طارق البشري المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الشروق، القاهرة، ٢٠٠٤، ص ص ٤٨١ -٤٨٥.
[8] انظر: تاريخ مدارس الأحد في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مئة عام، إعداد لجنة احتفالية مئوية مدارس الأحد، ص 202.
[9] مجلة مدارس الأحد، العدد الأول من العام الرابع، كانون الثاني/يناير،١٩٥٠.
[10] مراد وهبة: مظاهرات شباب مدارس الأحد، جريدة وطني، عدد١٠ كانون الأول/ديسمبر، ٢٠١٩.
[11] المصدر السابق نفسه.
[12] كمال زاخر: الكنيسة صراع أم مخاض، مؤسسة بتانة، القاهرة، 2018، ص ١٢٠.
[13] إيريس حبيب المصري: قصة الكنيسة القبطية، مكتبة المحبة، الكتاب السادس، القاهرة، ١٩٨٤، ص ٦٥.
[14] أوراق التيار العلماني القبطي نحو منظومة كنسية معاصرة، مقترح لائحة انتخاب وترشيح البايار البطريرك في الكنيسة القبطية، أوراق غير منشورة.
[15] في لقاء خاص مع الكاتب كمال زاخر.
[16] انظر: أوراق التيار العلماني القبطي، مصدر سابق.
[17] انظر: نص لائحة انتخاب البابا في العام ٢٠١٥، نسخة منشورة على الرابط: