تكوين
منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا ، وأنا أرى حرص كثير من الأسر والعائلات المصرية في قرى مصر و مدنها على إحياء ليلة المولد النبوي الشريف ، باستدعاء القارئين لتلاوة القرآن الكريم ومعهم المنشدين الذين يتميزون بالأداء الغنائي لما كتبه الشعراء و المحبون في وصف تلك الليلة وفي وصف الصفات الخِلقية و مدح السجايا الخُلقية لأجل وأجمل مولود عرفته الدنيا ، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.
و إذا كان المقطوع به أن ولادته قد وافقت يوم ” الاثنين” وهذا بلا خلاف ، أما الخلاف فقد وقع في تحديد الشهر و تاريخ اليوم.. بالنسبة للشهر فالراجح أنه شهر ربيع الأول على قول جمهور العلماء وإن كانت هناك آراء أخرى ترى غير ذلك ، كما وقع الخلاف أيضا في تحديد تاريخ هذا ” الاثنين” الذي ولد فيه صلى الله عليه و سلم ، فتعددت الأقوال ما بين الثالث ، و الثامن ، و التاسع ، والعاشر ،و الثاني عشر ، و الثالث عشر ، و السابع عشر من ربيع الأول.
وإذا كان المشهور عند الغالبية من المسلمين أنه يوم الثاني عشر ، فإن محمود باشا الفلكي قد توصل عبر دراسة فلكية شديدة الدقة و التعمق و ربما التعقيد أن مولده (ص) كان في يوم التاسع من ربيع الأول ، الموافق ٢٠ أبريل سنة ٥٧١ للميلاد. وقد سجل ذلك في كتابه (نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام و في تحقيق مولد النبي و عمره عليه الصلاة و السلام ) الذي نشره سنة ١٨٥٨م ، وقد ألفه صاحبه باللغة الفرنسية، و ترجمه إلى العربية أحمد ذكي أفندي مترجم محافظة الإسماعيلية، كما هو مدون على غلاف الكتاب. و قد صاغ الفلكي باشا نتيجة ما توصل إليه بتلك الكلمات : ” و يتلخص من هذا أن سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ولد في يوم الإثنين 9 ربيع الأول الموافق 20 ابريل سنة 570 مسيحية، فاحرص على هذا التحقيق و لا تكن أسير التقليد”.
وبالعودة إلى الجذور التاريخية لهذه الظاهرة الاحتفالية ، فالمرجح أن مصر الفاطمية هي الأسبق إلى الاحتفال بالمولد النبوي الكريم، وغالبا ما كانت تشيع في هذا الاحتفال روح البهجة والأنس والإسراف.. ثم انتقلت العادة ليتوارثها المصريون جيلا بعد جيل وحتى وقتنا الحالي ، ليبقى مضمون الاحتفال واحدا وإن تغيرت مظاهره أو تنوعت تفاصيله واختلفت أشكاله عن القرون والعقود الماضية.
البداية كما قلت كانت مع دخول الفاطميين مصر،هذا الدخول الذي ترك أثره الواضح في الوجدان الشعبي المصري بما استحدثه من عادات وما أضافوه إلى الموروث الثقافي والإجتماعي للمصريين .. فبعد أن كان المصريون لا يحتفلون إلا بعيدي الفطر والأضحى منذ ما بعد الفتح الإسلامي ، تغير الحال وأضيفت احتفالات ومناسبات لم تكن في الحسبان ، وفي ذلك يقول شيخ المؤرخين المصريين تقي الدين المقريزي في كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ) متناولا الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها عيداً ومواسم في مصر تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم:
“كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم رأس العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه”.
و من المراجع الحديثة التي أكدت أسبقية الفاطميين في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، كتاب (أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام) للشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية من ديسمبر 2014 و حتى 1920، حيث ذكر في سياق كلامه عن الاحتفال بالموالد عموما و في مقدمتها مولد النبي الكريم ، إن أول من أحدثها في القاهرة الخلفاء الفاطميون.
و في كتابه (المعز لدين الله ) يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن والدكتور طه أحمد شرف الذي شاركه تأليف هذا الكتاب أن ” المعز كان يشترك مع رعاياه في الاحتفال بعيد رأس السنة الهجرية، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة أول رجب ونصفه، وليلة أول شعبان ونصفه، وموسم غرة رمضان؛ حتى لا يثير نفوس السنيين! ويقرب مسافة الخلف بين المبادئ السنية والعقائد الشيعية!! وكذلك كان المعز لدين الله يستغل هذه الأعياد التي كان زخر بها عهده في نشر خصائص المذهب الإسماعيلي وعقائده! لذلك كان يحتفل بيوم عاشوراء ليحيي فيها ذكرى الحسين رضي الله عنه، كما كان يحيي ذكرى مولد كثير من الأئمة، وذكرى مولد الخليفة القائم بالأمر، وهكذا اتخذ المعز من الاحتفال بهذه الأعياد وسيلة لجذب رعاياه إليه ونشر مبادئ المذهب الإسماعيلي”
ولعل اهتمام الفاطميين بتلك الاحتفالات ، هو ما جعل كثيرا من المصريين المحدثين و المعاصرين ينظرون إلى الدولة الفاطمية بمصر كدولة أفراح وليالي ملاح – حسب تعبير الأستاذ جمال بدوي – ، فلا يذكر الفاطميون إلا ويتذكر الناس معهم الموالد والزفة والمواكب التي تجوب الشوارع احتفالا بالمناسبات التي لا تنتهي ، وما يصحب ذلك من حلويات وقطايف وكنافه وخشاف و متعة وطرب.
كان المصريون لا يهتمون كثيرا بمثل هذه المناسبات ، وإن اهتموا بها فعلى استحياء وبشكل محافظ للغاية ، أما الفاطميون فقد حولوا حياة المصريين إلى مسلسل لا تنتهي حلقاته من الاحتفالات والأعياد ، والأهم أنهم جعلوا من تلك المناسبات الدينية فرصة للبهجة و للتفاريح وانتقلوا بها من نطاق المسجد حيث مشاركة النخبة والخواص ،إلى فضاء الشوارع الواسعة حيث الجمهور والعوام .
وقد أقيم أول احتفال بالمولد النبوى الشريف فى عهد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عام 363هجريه – 973ميلادية.
وبداية التفكير في ذلك أن هذا الخليفة الداهية ، قرأ بذكائه
طبيعة المصريين الذين يميلون بالقلب والعاطفة إلى آل بيت النبي (ص) ويكنون لهم محبة خالصة دون أن يكون ذلك دافعا لأن يتشيعوا ، ومن هنا قرر المعز أن يستميل قلوب المصريين إليه وإلى سياساته باللعب على تلك العاطفة الدينية
من خلال استحداث وإقامة مواسم حافلة وأعياد مبهرة لمناسبات دينية ترتبط بتاريخ المسلمين ولها مكانها في ذاكرتهم الجمعية .
وصادف احتفال المعز بالمولد النبوي في مصر لأول مرة ، قبولا وتأثيرا سحريا لدى عموم الشعب المصري ، الذي كان يعاني في ذلك الوقت أزمة مجاعة ومحنة قحط عاش فيها الناس في ظل ظروف نفسية ومادية ضاغطة وقاتله.
في هذا الوقت قامت أجهزة الدولة بحشد كل طاقاتها وإمكانياتها لأجل إحياء ذكرى المولد النبوي على أفضل ما يكون ، وتبعا لأوامر الخليفة المعز وزعت الأموال على الناس كافة ، ووزعت الهدايا والنفحات على كل الطبقات.
في علاقة الدين والفنّ: من خلال إغاثة اللّهفان في مصائد الشّيطان لابن قيم الجوزية
ووفقا لما جاء في كتاب ( تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي) لحسن السندوبي فإن أعيان الدولة ووجوه الأمة وكبرائها قد تباروا في إقامة الزينات وصناعة الولائم والمآدب وإسداء الصدقات ، وتلاوة القرآن الكريم في المساجد الجامعة والزوايا الصغيرة ، وكان ذكر الله في كل مكان وكذلك الصلاة والتسليم على صاحب الذكرى العطرة عليه الصلاة والسلام . . ثم كان من جمال المظهر وتمام الحشد بحيث يحدث الأثر المطلوب في النفوس وبشكل أوسع ، تسيير المواكب الفخمة والمنظمة سواء من الجند الفرسان بأعلامهم وطبولهم أو الجند المشاه ، إلى جموع الأهالي المحتشدة بنظام دقيق حسب طبقاتهم ومقتضى حرفهم وصنائعهم ، يتقدم كل هؤلاء قضاة الدولة ودعاتها وأهل الرأي فيها ، بشكل يلتقي فيه الجمال بالجلال على أحسن ما يكون اللقاء .
وعلى خطى المعز ، سار من بعده أبناؤه وخلفاؤه ، فواصلوا الطريق ولم يقطعوا العادة ، ولأنه لم تكن هناك أزمة سكر في عصرهم فقد أفرطوا في صنع الحلوى بأشكالها المختلفة كالطيور والقطط والخيول ( حصان المولد ) والعرائس (عروسة المولد) .. وحرص الفاطميون طول الوقت على أن يكون لهم احتياطي من جميع المواد التموينية من سمن وسكر وزيت ودقيق، كي يصنعوا منها الحلوى، وكانت هذه الحلوى توزع بأمر الخليفة على جميع طبقات الشعب فى جميع المناسبات الدينية وبصفة خاصة المولد النبوي.
صحيح أن المراجع التاريخية تقول لنا بعد ذلك أنه في سنة 488 هجرية – 1095 م ، كان المستعلي بالله على كرسي الخلافة الفاطمية ، وكان على وزارته الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي وكان مستبدا بأمور الدولة دون الخليفة ، فأمر بإبطال الاحتفال بالمولد النبوي ومعه كذلك مولد الإمام علي ،و مولد السيدة فاطمة الزهراء ، ومولد الخليفة الفاطمي الحاضر ، فتوقفت الاحتفالات بها جميعا وألغيت إلى حين ، ومع ذلك فإن الناس في مصر وفي غيرها من الدول البلاد الأخرى كانت قد تمكنت منهم العادة واستعذبتها نفوسهم ورضيت بها قلوبهم ، فظلوا على عهدهم بالاحتفال بالمولد النبوي بشكل شعبي وتلقائي دون دعم من دولة أو قرار من خليفة .
ولم يمر وقت كثير حتى آلت الخلافة إلى الآمر بأحكام الله في سنة 495 هجرية وكان محببا إلى الناس قريبا من قلوبهم ، فأعاد الأمور إلى ما كانت عليه ، إلى أن قراره بعودة الاحتفالات لم توضع حيز التنفيذ الفعلي إلا بعد اغتيال الوزير الأفضل بن بدر الجمالي وإسناد منصب الوزارة إلى المأمون البطائحي 517 هجرية .
وبهذه البدعة الحسنة التي ابتدعها الشيعة الفاطميون ، تنبهت حكومات وشعوب الدول الإسلامية على اختلاف مذاهبها إلى فكرة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و سلم ، وفيما يبدو ستظل عادة راسخة مع مرور الزمن وتعاقب السنوات لن تلغيها أو تمحوها من القلب والذاكرة فتاوى التشدد و التحريم التي لا ترى فيها إلا بدعة منكرة ما أنزل الله بها من سلطان.
قائمة المراجع:
– المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار
تقي الدين المقريزي
– أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام
محمد بخيت المطيعي
– المعز لدين الله
حسن إبراهيم حسن – طه شرف
– الفاطمية دولة التفاريح و التباريح
جمال بدوي
– تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي
حسن السندوبي