بروز رُوحانية جديدة: كيف يمكننا الخلاص إذا لم يعد العالم نظامًا متناغمًا؟

 تكوين
  • ماذا بعد سقوط تناغم الكون؟

يطرح (لوك فيري) هذا السؤال في كتابه تعلم الحياة[1]، وهو مدرك بأن مسألة الخلاص هي قضية الإنسان منذ لحظة الوعي الأولى، قضية رافقت الإنسان في مختلف مراحل نشوئه الفكري والعقلي، كما أنها عبرت عن هواجسه وتخوفاته وهو يواجه الطبيعة ووحشيتها، ويحاول قدر الإمكان أن يفك بعض الشيفرات التي يختفي وراءها سر هذا العالم المجهول. إنه الإنسان ورحلته الطويلة نحو البحث عن الخلاص أو البحث عن إسكات صوته الذاتي وأسئلته الوجودية المستمرة والمتكررة على مر التاريخ.

فإذا كان فيري يُبشر برُوحانية جديدة يمكنها أن تحل مكان كل الأيديولوجيات الكبرى والسرديات العابرة للزمان والمكان، فإننا نحن أيضًا نحاول أن نطرح السؤال بصيغة أخرى: هل يمكن أن يتجه العالم اليوم إلى مسألة الإيمان المتجاوز للأديان أو الإيمان ما بعد الأديان كما يسميها بعضهم[2]؟ ذلك الإيمان الذي يؤمن أن الإنسان يمكن أن يبحث له في خضم سيطرة الأصوليات الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية على ساحة الإيمان، وإعلانها بأنها هي صوت الإيمان المتطرف والتدين العنيف والقيم الشاذة والجافة، على خلاص يحافظ على الجوانب الرُوحية والإيمانية ويتحلى بالأخلاق والمشترك الإنساني ويندمج بطريقة إيجابية في متطلبات عصره حتى لو لم يؤمن حرفيًا بمقتضيات الدين، ما دامت هذه القيم كلها تنبثق من الدين وتصب في المصالح التي يحققها.

يبدو بأن سؤال فيري هو سؤال وجودي ولكن قبل أن يكون وجوديًا هو سؤال تفرضه ضرورات الاندماج في عالم اليوم، وفي الواقع المتجدد والمنذر بتلاشي الأجوبة التي تطرحها بعض أنماط التدين العنيف والمتطرف. فلا أحد اليوم يمكنه أن يقبل ما يراه من مظاهر الاقتتال والاحتراب والاستقطاب الذي خلقته وما تزال تخلقه أشكال التفكير الماضوي، الذي تُبشر به مختلف الأصوليات سواء كانت يهودية ومسيحية، أو في الصيغ المختلفة التي تعبر عنها الأصوليات الإسلامية. ولأننا في اللحظة المعاصرة لم نعد نملك خيارات كثيرة، خصوصًا ونحن نواجه السيولة في كل شيء بما في ذلك أنظمة وأنماط تفكيرنا.

لعل ما أثاره (زيغمونت باومان) عالم الاجتماع البولندي ينفعنا في تقريب هذا المفهوم، إذ “السيولة”[3] كما يراها باومان وقاربها بطرق مختلفة في كتاباته، تعني وصف الحالة التي وصل إليها المجتمع الحديث في عصر العولمة، ذلك المجتمع المتجاوز لحالة الصلابة التي كانت عليها الأنظمة الاقتصادية والثقافية والفكرية، حتى صارت عديد من القيم والمؤسسات والمعايير الاجتماعية غير ثابتة ومتقلبة، بخلاف الطريقة التي كانت متواجدة عليها فيما سبق.

إنه التعبير المربك الذي أطلقه باومان على هذه الحالة غير المسبوقة في التاريخ الإنساني “الحداثة السائلة”، كأنه يشير إلى الطبيعة المتغيرة والديناميكية للعالم المعاصر، مقابل “الحداثة الصلبة” التي كانت تتميز بالثبات والاستقرار في النظم الاجتماعية والسياسية. إننا أمام حالة ثقافية وفكرية واجتماعية تتجاوز الكائن الإنساني نفسه، فعالم اليوم لا يحتاج إلى أن يطرح بعض الأسئلة الوجودية التي كانت تثار بطريقة أو بأخرى في العالم القديم، بل يحتاج أن يُفكك بعض القيم التي تنتظم وراءها كل مظاهر العالم المعاصر، إذ إن الأسئلة الوجودية يُمكن أن تُصاغ في وجود طبيعي وأصلي وثابت على الأقل في منظور من يطرح هذه الأسئلة، أما في عالم متفكك وسائل تغدو أسئلة الخلاص والنهايات، مجرد علامات استفهام لا مكان لها في هذا العالم المتحول والمتغير، وكي نعرف حجم التحول الذي يعرفه عالم اليوم يكفي أن ننظر إلى السيولة في كل جوانبه:

  • تفكك الهياكل الاجتماعية التقليدية: لم تعد المؤسسات التقليدية والكلاسيكية، مثل الأسرة والدين والعمل، تكون دعائم الحياة الاجتماعية، أو تلعب الدور الرئيس الذي كانت تلعبه في الماضي، ومن ثم أصبحت أقل استقرارًا وثباتًا عما مضى، وحتى الفرد لم يعد يشعر بالانتماء الدائم لهذه المؤسسات، وهي بدورها لم تعد تقدم الأمان والطمأنينة إليه.
  • غياب الثبات في الهُويات والعلاقات: في عالم السيولة غدت كل الهويات الشخصية والاجتماعية متحولة وغير ثابتة، بل أصبحت مرنة وقابلة للتغيير باستمرار، بسبب سعي الأفراد لتغيير هُوياتهم وعلاقاتهم تغييرًا متكررًا وقابلًا للاستبدال بما في ذلك العلاقات الشخصية والوظائف…
  • التحول في مفاهيم الاستهلاك والاقتصاد: يتجه عالم اليوم في ظل نظام اقتصادي سائل نحو ثقافة الاستهلاك السريع والمتغير، كما أن الفرد من هذا المنظور صار يُعامل بوصفه سلعةً استهلاكيةً، ليُصبح النجاح الشخصي مرتبطًا بالقدرة على الشراء والاستهلاك وليس بالإنتاج أو الجهد الدائم.
  • الأمن الوجودي والشعور بالقلق: نتيجة التغيرات المستمرة وعدم الثبات، يعاني الأفراد شعورًا دائمًا بعدم الأمان والقلق، هذا القلق ينبعُ من عدم القدرة على توقع المستقبل أو الاعتماد على الهياكل الاجتماعية التقليدية التي كانت تُوفر الإحساس بالاستقرار.
  • الخلاصُ في العالم القديم

من الطبيعي أننا نعيشُ في عالم من التحولات الكبرى، ومن ثم فنحن أمام تغيرات كبيرة في النظرة إلى الخلاص والنظرة إلى الإجابات الكبرى، سواء تلك التي اقترحتها الأديان الكبرى أو تلك التي قامت بها الأيديولوجيات العابرة للحدود. وحينما نتحدث عن الخلاص فإننا نتحدث بالتحديد عن تلك العقيدة والتصور والفكرة التي ترى بأن التمسك بشيء والإيمان بمقتضياته يمكن أن يحقق لك السعادة الدنيوية والأخروية، وعلى الرغم من أن فكرة الخلاص قديمة قدم التاريخ الإنساني، إلا أنها عرفت أوجها ووهجها مع الديانة المسيحية كما سنرى لاحقا. بالفعل هناك تحولات كبيرة في عالم اليوم تشهد عليها التطورات الهائلة في البنيات الفكرية والثقافية للإنسان المعاصر، ليس هناك مجال أو ميدان لم تطله هذه التغيرات والتحولات، بما في ذلك مجال الفكر الإنساني والمفاهيم البشرية المكونة للاجتماع البشري. وإذا كانت المفاهيم جزءًا أصيلًا من عالم الإنسان، فإن ذلك يمتد إلى عمق عقائده وأيديولوجياته، ومن بينها عقيدة الخلاص التي كانت ولا تزال مثار اهتمام كل الأديان والفلسفات والأيديولوجيات قديمًا وحديثًا.

إقرأ أيضا: التعددية في عهدة الفلسفة

وعلى الرغم من أن الرؤية التقليدية للخلاص كما عرفته الفلسفات القديمة، بدأت تتلاشى تدريجيًا مع تطور الفكر الحديث، بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية التي أحدثتها الاكتشافات الجديدة، ورافقت مسيرة الحداثة الأوروبية وعصر التنوير والنهضة الثقافية، أسهمت بطريقة أو بأخرى في بلورة رؤية جديدة لما نحن عليه الآن، لم يعد الكون هو ذلك النظام المتكامل والمنسجم بين مكوناته، بل صار يفهم على العكس من ذلك بأنه شبكة معقدة من العلاقات التي تتفاعل فيما بينها وفق قوانين فيزيائية صارمة، كما أن بروز بعض المذاهب الفلسفية مثل الوجودية والعبثية والعدمية أضفى على عالم اليوم، وفرض عليه نوعا آخر من التفكير، ونمطًا جديدًا من الأسئلة التي تحتاج إلى من يقاربها بطرق تختلف عما كانت عليه المقاربات القديمة.

في ظل هذه التغيرات هناك أسئلة تطرح نفسها في الساحة الفكرية والثقافية للعالم المعاصر، ولعل أهمها كيف يمكن أن نعيش حياة ذات معنى، أو نبحث عن حياة يسودها الأمان والاستقرار النفسي، في عالم يبدو مفككاً وغير متناسق؟ هنا تبرز فكرة الروحانية الجديدة التي تكون موضوعًا مركزيًا في كتابات عديد من المفكرين والفلاسفة المعاصرين ، على رأسهم خاصة فيري في كتابه “تعلم الحياة”، فقد تساءل فيري عن كيفية التفكير في الخلاص عندما تلاشت فكرة التناغم الكوني التي سيطرت لعهود طويلة كما كان يُعتقد في السابق، فمع زوال الأطر التقليدية التي كانت تقدم معنىً شاملاً للحياة، بات الإنسان يبحث عن خلاص داخلي يرتكز على تجربته الفردية وعلاقاته الإنسانية، بدل الاعتماد على عقائد ميتافيزيقية خارجية.

لكن هذا التحول لا يعني نهاية المعنى، بل على العكس من ذلك قدّم فرصًا جديدة لتطوير رؤى روحية مختلفة تتلاءم مع ظروف العصر الحديث. ففكرة الروحانية الجديدة التي يطرحها فيري تركز في إيجاد الخلاص من طريق بناء معنى ذاتي قائم على الحرية والأخلاق والعلاقات الإنسانية العميقة، كما أنه لا يعتمد على العالم الخارجي أو على وجود قوة ميتافيزيقية خارقة، بل الذات الإنسانية هي مصدر الخلاص لنفسها وخلق المعنى من كون بلا معنى. من هنا نجد أن مفهوم الروحانية الجديدة يختلف مع السرديات القديمة، من ناحية الرؤية والمنطق والهدف، فهو ليس مجرد إعادة تفسير لأمور غيبية، أو قضايا متجاوزة لعالم الحس، بل هو استجابة فكرية ونفسية للتحديات التي يواجهها الإنسان الحديث في عالم وكون غامض ومعقد.

في هذا السياق كيف يمكن للإنسان أن يعيش حياة ذات معنى في عالم لا يعترف بالمعنى الشمولي؟ وهل يمكن للروحانية الجديدة أن تكون بديلًا ملائمًا يعوض عن الأطر التقليدية للخلاص؟

للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من المرور على الإجابات القديمة للفلسفات التقليدية والأديان الكبرى، ومقارنتها بما طُرح الآن من بدائل رُوحانية حتى يتضح المشهد بطريق أعمق.

الرواقية والكون المتناغم

المدرسة الرواقية ليست فلسفة وضعها مؤسسها زينون الرواقي، بل تطورت إلى مؤسسة حقيقية تضم طلابًا ورؤساء مدارس يُطلق عليهم “السكوﻻرﻛ”. تتضمن تطورات الرواقية ثلاث مراحل رئيسة:

  • الرواقية القديمة (القرن الثالث قبل الميلاد)، التي تركزت في أثينا وتميزت بفلاسفتها المؤسسين: زينون الرواقي، كليانثيس، وخريسيبوس، وضع هؤلاء الأسس الصارمة للنظام الرواقية في المنطق والأخلاق والطبيعة.
  • الرواقية الوسطى (القرن الثاني قبل الميلاد) التي شهدت تحوّلًا في الفكر الرواقية، إذ بدأت تتأثر بالثقافة الرومانية، وأبرز فلاسفة هذه المرحلة: ديوجين البابلي، أنتيباتر الطرسوسي، بانيثيوس الرودسي، وبوسيدونيوس الأپامي، الذين كيفوا الرواقية مع سياقات جديدة.
  • الرواقية في العصر الإمبراطوري (القرنان الأول والثاني بعد الميلاد)، التي هيمنت عليها شخصيات رومانية وركّزت تركيزًا شبه كاملٍ على الأخلاق، متجاهلةً المنطق والطبيعة، من بين الفلاسفة البارزين في هذه الفترة: سينيكا، موسونيوس روفوس، وأبكتيتوس، الذي اشتهر بتأكيده ضبط النفس والتحمل في مواجهة المصاعب[4].

ويمكن اختزال المفهوم الرواقي للخلاص انطلاقا من الأفكار الأساسية التي آمنت بها هذه المدرسة الفلسفية، في العناصر التالية:[5]

  • المشاعر السلبية نتاج أخطاء تصوراتنا: ترى الرواقية أن المشاعر السلبية أو القوية، مثل الغضب أو الحزن، هي استجابات خاطئة ناتجة عن أخطاء في تصوراتنا عن العالم وعن أنفسنا، هذه الفلسفة تساعد على فهم أن العواطف ليست خارجة عن سيطرتنا، بل هي نتيجة طبيعية لطريقة تفسيرنا للأحداث، ومن ثم نجد في الرواقية ممارسة تُمكِّن الشخص من ملاحظة مشاعره بموضوعية ومن ثم العمل لتهذيبها من طريق التأمل في أصل هذه المشاعر وتحليل أفكارها منطقيًا. وهذا يؤدي إلى حالة من التوازن الداخلي يصبح فيها الإنسان أقل عرضة للتقلبات العاطفية وأكثر استقرارًا وسلامًا.
  • التفريق بين ما يمكننا وما لا يمكننا التحكم فيه: تُعدُّ القدرة على التفريق بين ما هو ضمن نطاق سيطرتنا وما هو خارج عنها حجر الزاوية في الفلسفة الرواقية، فالرواقيون يرون أن التمسك بأشياء لا نملك القدرة على تغييرها يؤدي إلى المعاناة النفسية، لذا يؤكدون تقبل كل ما هو خارج عن إرادتنا بسلام. هذه النظرة تُخلص الإنسان من التوترات الناتجة عن محاولات تغيير ما لا يمكن تغييره، وتوجهه نحو التركيز في تطوير ذاته وسلوكه وأفكاره، وبذلك يتحقق نوع من “الخلاص” الذاتي، فيخف شعوره بالضيق تجاه العالم الخارجي ويتحول تركيزه نحو تحسين نفسه داخليًا.
  • العيش وفق الفضيلة بوصفها طريقًا إلى السعادة الحقيقية: الرواقية تعتمد على العيش وفق الفضائل الأربعة الأساسية: الحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال، لدى الرواقيين الفضيلة هي الخير الأسمى والطريق الوحيد إلى السعادة الحقيقية، فبالتزامنا بهذه الفضائل نصبح أقدر على التصرف بطريق حكيم وعادل تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، مما يعزز الشعور بالراحة النفسية والطمأنينة، فالرواقي يركز في الأخلاق بوصفها معيارًا داخليًا للسعادة، بدلًا من الاعتماد على ملذات العالم المادية أو الآراء الخارجية.
  • تقبل القدر أو “الأمور كما هي” (Amor Fati): في الرواقية، يُشجَّع الإنسان على قبول حياته وظروفه وتقبّل كل ما يمر به بوصفه جزءًا من منظومة أكبر. هذا المبدأ المعروف باسم Amor Fati، أو “حب القدر”، يحث الإنسان على الرضا الكامل عن أحداث حياته مهما كانت، كأنها جزء من نظام كوني متكامل، ومن ثم يتعلم الفرد في الرواقية أن يتحرر من رفضه للمواقف الصعبة أو الأحداث السلبية، هذا التقبل لا يعني الاستسلام السلبي، بل هو حالة من القبول النشط، ينظر من طريقها الفرد بإيجابية إلى كل ما يحدث له، فيرى الحكمة في كل تجربة ويفهم أن المعاناة جزء من عملية التعلم والنمو الروحي.
  • التأمل في الموت (Memento Mori) بوصفه وسيلة لتعزيز الحكمة ووضوح الرؤية: التأمل في الموت هو ممارسة شائعة في الرواقية يُقصد بها أن يتذكر الإنسان أن حياته محدودة وأن الموت جزء لا مفر منه، هذا التأمل يساعد في تقليل التعلق بالأشياء الزائلة ويعزز الحكمة في اتخاذ القرارات، كما يُمكّن الإنسان من فهم أولويات الحياة بطريقة أعمق، إذ يتجه نحو الأمور الأكثر أهمية وذات المعنى، مما يقلل من القلق تجاه المكاسب المادية أو النجاحات السطحية. هذه الممارسة تعزز الخلاص الروحي، لأن الإنسان يدرك أن قيمة الحياة ليست في مدتها أو فيما يجمعه من ممتلكات، بل في فضائله وعلاقاته ونظرته إلى العالم.
  • تطوير علاقات قائمة على التفهم والفضيلة: الرواقية لا تقتصر على الخلاص الشخصي، بل تشدد على أهمية المجتمع والعلاقات التي تقوم على التفهم والفضيلة. فالفرد الرواقي يسعى في فهم الآخرين دون أن يتأثر بعواطفهم السلبية، وبدلًا من التفاعل بغضب أو إحباط يسعى في الحفاظ على هدوئه ورؤية الأمور بمنظور إنساني، هذه المقاربة تسمح بتطوير علاقات متينة وأكثر إنسانية، يكون فيها التواصل مبنيًا على التفاهم، ومن ثم تتحقق الطمأنينة والراحة من طريق بناء شبكة اجتماعية صحية.

اليهود والمشيحانية

الاسم الفرنسي جاء من الاسم العبري MASSIAH، وتعني الممسوح بالزيت والمنقذ والمُفدي الذي سوف يظهر في نهاية الزمن. وقد استعمل هذا اللفظ أولا في حق الكاهن والملوك والأشخاص أصحاب المهمات الإلهية، فقد كان اليهود يمسحون هؤلاء بالزيت المقدس -على غرار الثقافات السابقة- قبل تنصيبهم من أجل المكانة التي تبوؤها وكذلك لأجل المباركة.[6]

ويمكن أن نقول بأن لفظ المسيح – مثل جميع ألفاظ اللغة- اكتسب بتوالي العصور والثقافات معنى جديدا تجسد تجسدًا واضحًا في شخص مُرسل من الله، له قدرات خاصة يتمتع بها دون غيره من الناس، إنسان أرضي بطبيعة إلهية استطاعت طبيعته أن تجمع بين الإلهي والبشري في شخص “ابن الإنسان”. هذا الملك من سلالة داود سوف يعود ليعيد مجد مملكة إسرائيل ويقضي على أعدائهم ويعيد بناء الهيكل ويحكم بالشريعة وغيرها من المفاهيم التي لبسها هذا اللفظ من جراء أحداث متوالية مر بها الشعب الإسرائيلي.

من طريق هذه الإطلالة السريعة على بعض معاني لفظ المسيح وتطوره عبر العصور، نصل إلى أن هذه السلسلة المتوالية في توظيف مصطلح المسيح تستعيد بطريقة كبيرة تاريخ التجسدات المتتابعة للفكرة المسيحانية على مر الحقب التاريخية، منذ المفهوم الديني اليهودي والمسيحي وصولا إلى المفاهيم المقارنة الأنثروبولوجية- التاريخية والاجتماعية السياسية المعاصرة مرورًا بالمسيحانية العلمانية أو الثورية أو الوطنية التي وُلدت مع عصر الحداثة، إذًا فمصطلح المسيحانية يشير إلى الاعتقاد الديني بعودة شخص يُفدي الناس مُرسلٌ من أجل تأسيس عصر جديد للسلام والسعادة و العدالة، التي تطبع نهاية النظام الحالي للعالم، هذا المعتقد الذي أصبح يقدم بعناوين مختلفة بدءًا بالإيمان اليهودي والمسيحي وصولًا إلى الإيمان الإسلامي مع المهدوية مثلًا.

إقرأ أيضا: فلسفة بناء الكِيان اللبناني في فكر ميشال شيحا

يُعد الخلاص في اليهودية موضوعًا غنيًا ومعقدًا، ويتخذ معان مختلفة عبر التاريخ اليهودي. وبعامة يتركّز مفهوم الخلاص داخل اليهودية في تحقيق الحرية والتحرر، ليس بوصفه تحررًا شخصيًا روحيًا، بل بوصفه مفهومًا قوميًا وجماعيًا لشعب إسرائيل. ويتناول الخلاص في اليهودية ثلاثة جوانب رئيسة: الخلاص التاريخي والخلاص الأخروي والخلاص الفردي.

  • الخلاص التاريخي في اليهودية: الخروج من مصر نموذجًا: يُعد الخلاص التاريخي مفهومًا محوريًا في اليهودية ويرتبط ارتباطًا أساسيًا بتجربة الخروج من مصر التي وردت في سفر الخروج، تُعدّ هذه القصة التي تدور حول إنقاذ بني إسرائيل من العبودية في مصر، حدثًا مركزيًا وأحد أبرز مظاهر الخلاص الإلهي في التراث اليهودي. يُعتقد أن الله استجاب لصراخ بني إسرائيل وأنقذهم على يد النبي موسى ليخرجهم من تحت نير العبودية ويقودهم إلى أرض كنعان التي وعدهم بها.

تُسرد قصة الخروج في عيد الفصح اليهودي (بِساح)، وهو احتفال سنوي يُعيد إحياء ذكرى تحرير بني إسرائيل من العبودية، كما يعد هذا العيد بمنزلة تذكير دائم برحمة الله وقدرته على تحقيق العدالة والخلاص لشعبه، ويشدد على فكرة أن الله يرعى شعبه ويحفظه. يحملُ عيد الفصح رسالة بأن الخلاص ليس حدثًا عابرًا أو محصورًا بالماضي، بل تجربة يعيشها اليهود في صلاتهم وطقوسهم وتذكيرا مستمرا بأن الله ينظر إلى المظلومين ويساعدهم. في هذا العيد تقام وجبة طقسية خاصة (سيدر) يُقرأ فيها الهجادة، وهي نصوص تروي قصة الخروج وتُعلم قيم التواضع والامتنان لله الذي خلّص شعبه.

لا تتوقف رمزية الخلاص عند حادثة الخروج، بل تتجاوزها لتشمل مفاهيم مثل الحرية والتحرر من أي نوع من العبودية. فكرة التحرر من العبودية تأخذ معنىً أعمق في السياق الروحي والأخلاقي، لأنها تُستخدم بوصفها رمزًا للتحرر من الخطايا والقيود التي تحدّ من علاقة الإنسان بالله، ولذلك قصة الخروج لم تكن حدثًا تاريخيًا، بل أصبحت نموذجًا للخلاص يُستعاد ويُحتفل به ليذكّر المؤمنين بأنهم مدعوون لتحرر مستمر وأن الله دائمًا إلى جانبهم.

يرتبط الخلاص في اليهودية بالعهد الإلهي الذي قطعه الله مع بني إسرائيل، ففي أثناء مسيرتهم في الصحراء بعد الخروج، قدّم الله لهم الشريعة (التوراة) على جبل سيناء، بوصفه جزءًا من اتفاق يتطلب من الشعب اتباع الوصايا مقابل حفظ الله لهم كونهم أمةً مختارةً. يُمثلُ هذا العهدُ إطارًا روحيًا وأخلاقيًا يُبنى عليه مفهوم الخلاص، فالتزام الشعب بالشريعة يعد أحد جوانب الوفاء بالعهد، وهو ما يرتبط بتحقيق السلام والحماية التي وعد بها الله تاريخيًا، تعد فكرة الخلاص من العبودية مصدر إلهام للشعب اليهودي، لأنها كونت أساسًا قويًا لهُويتهم القومية والدينية. هذا التصور للخلاص بوصفه تحررًا إلهيًا للشعب من الاضطهاد، أصبح جزءًا من الرؤية اليهودية للعالم وفهمهم لمعاناتهم عبر العصور، وعلى مر التاريخ استخدم اليهود هذه القصة بوصفها رمزًا للصمود والتماسك في مواجهة التحديات، لأنها يرون أن الخلاص سوف يتحقق في النهاية بفضل رحمة الله. هكذا فالخلاص التاريخي في اليهودية هو أكثر من مجرد حادثة تاريخية، بل هو رمز قوي للأمل والحرية والعدالة، ويعكس الإيمان بأن الله موجود في حياة الشعب يحفظهم ويرعى مصالحهم، هذا الخلاص التاريخي كون جزءًا حيويًا من الهوية والذاكرة اليهودية، وعزّز لديهم فكرة التحمل والثقة في مجيء الخلاص مهما كانت الظروف صعبة.

  • مفهوم الخلاص الأخروي (المسياني) في اليهودية: يؤمن اليهود بأن الله سوف يُحقق في النهاية الخلاص الأبدي لشعبه من طريق ظهور شخصية المسيح (المشياح أو المسيا) الذي يُنتظر أن يكون زعيمًا مُلهَمًا، يُحقق الخلاص الكامل ليس لليهود، بل يشمل جميع الشعوب. وفقًا للتقاليد اليهودية سوف يجلبُ هذا المسيح عصرًا جديدًا من السلام والرخاء، لأنه سوف تتحقق فيه العدالة في الأرض، وسوف يجتمع شتات بني إسرائيل في وطنهم. ويتميز المسيح المنتظر وفق التصورات اليهودية التقليدية بأنه زعيم سوف يأتي ليحقق وعود الله المذكورة في الكتب المقدسة ومن صفاته: العدل والرحمة، لأنه سوف يحكم وفقًا للعدالة والحق ويحرص على حماية الضعفاء والمظلومين. كذلك القوة الروحية، إذ يعد قائدًا روحانيًا يُلهم الناس ويقودهم إلى التقرب من الله. أما التجميع والوحدة، فهو سوف يجمع الشعب اليهودي من الشتات إلى أرضهم الموعودة، ويُعيد بناء الهيكل في القدس. ناهيك عن إحلال السلام العالمي من طريق حلول العصر المسياني، ذلك العصر الخالي من الحروب والاضطرابات، يُحقق فيه السلام بين الشعوب ويُقضى على الألم والمعاناة.

تتحدث النصوص اليهودية خصوصًا التلمود وكتابات الأنبياء مثل إشعياء وإرميا، عن العصر المسياني بوصفه وقتًا يعمُّ فيه السلام والازدهار الروحي والمادي، لأنه سوف تسود الأخلاق الفاضلة ويتوقف البشر عن إيذاء بعضهم، ويُعتقد أن هذا العصر سوف يشهد عودة جميع اليهود إلى أرض إسرائيل، وسيكون هناك انسجام وتوافق بين جميع الأمم، حيث تعيش الشعوب في سلام، كما يلعب الهيكل الثالث دورًا محوريًا في التوقعات الأخروية اليهودية، لأن إعادة بنائه في القدس يعد علامة على مجيء العصر المسياني والوفاء بالوعود الإلهية وتحقيق الحضور الإلهي الكامل بين شعب إسرائيل، إذ يعد الهيكل مكانًا يجمع بين العالم المادي والروحي وهو رمز للتواصل بين الله والشعب.

يعد التزام الشعب بالشريعة في العقيدة اليهودية والسعي في التوبة والإصلاح الذاتي خُطوة ضرورية لتسريع مجيء العصر المسياني، فاليهودية ترى أن التقرب إلى الله والعيش وَفق الشرائع يمكن أن يسهم في تحقيق الخلاص المسياني، إذ يُعد الشعب مسؤولًا عن تهيئة الظروف اللازمة لاستقبال المسيح المنتظر، ومن هنا فإن التوبة الفردية والجماعية تعمل بوصفها وسيلة للاقتراب من الله وتجديد العهد معه، وهو ما يُعزز الأمل في الخلاص النهائي، هكذا فالخلاص الأخروي في اليهودية ليس وعدًا مستقبليًا، بل هو عنصر يعزز الأمل في نفوس اليهود خصوصًا في أوقات الاضطهاد والمحن، فقد أسهم هذا الأمل في العصر المسياني المنتظر في إعطاء الشعب اليهودي القوة على التحمل والاستمرار في ممارسة تقاليدهم الدينية والالتزام بوصايا الله، ويكون هذا التصور نقطة دعم نفسي وروحي، بسبب ترقب المؤمنون يومًا يعيش فيه الجميع في سلام وازدهار.

  • مفهوم الخلاص الفردي:

يرتبط الخلاص الفردي في اليهودية بتحقيق التقوى والإصلاح الشخصي، إذ يُعتقد أن الإنسان يمكنه الاقتراب من الله من طريق التوبة والالتزام بالوصايا، هذه العلاقة الشخصية بين الإنسان والله تعني أن الخلاص يتحدد وفق إخلاص الفرد في حياته اليومية وتفاعله مع الآخرين، لا سيما فيما يتعلق بالتزامه بالأخلاق والشريعة. تُعدُّ التوبة (التشوفا) محورًا مهمًا في الخلاص الفردي في اليهودية، لأنه يُنظر إلى التوبة بوصفها السبيل الذي يُمكّن الفرد من التخلص من الخطايا والعودة إلى الله، كما يُنظر إلى التوبة بوصفها وسيلة فعّالة للتحرر من الخطايا الشخصية وتجديد العلاقة مع الله، وهي جزء أساسي من الطقوس والصلوات خصوصًا في أثناء يوم الغفران (يوم كيبور)، الذي يعد مناسبة خاصة للتوبة والتكفير عن الذنوب.

إن الالتزام بالشريعة اليهودية (الهالاخا) يُجسدُ الإطار الذي يُمكّن الفرد من تحقيق الخلاص الشخصي، ويتضمن ذلك مجموعة من القواعد التي تغطي جميع جوانب الحياة، بدءًا من الطقوس الدينية وحتى السلوكيات اليومية. يرى اليهود أن التزام الفرد بالشريعة وتعامله الأخلاقي مع الآخرين يعزّزان مكانته عند الله ويساعدانه على الوصول إلى الخلاص. يتطلب الخلاص الفردي في اليهودية رحلة مستمرة من العمل الذاتي والإصلاح الداخلي،  لأن الأفراد مسؤولون عن تقواهم الشخصية وملتزمون بتطوير علاقتهم مع الله. وقد يُنظر إلى هذه العملية بوصفها مسارًا دائمًا لا يتوقف، لأن الفرد في اليهودية يعد شريكًا مع الله في تطوير نفسه والارتقاء بروحه، ويسعى في تحقيق الخلاص من طريق أفعاله اليومي،. فتجربة الخلاص الفردي في النهاية هو اختبار للعلاقة بين الإنسان والله، ويتحقق من طريق العيش بما يتوافق مع الإرادة الإلهية وأخلاقيات الشريعة، مما يتيح للفرد التقرّب من الله وبلوغ السلام الروحي.

المسيحية والانقلاب على المفهوم الرواقي

إذا كانت الرواقية تتعامل مع الخلاص بوصفه انسجامًا مع المنظومة الكونية المتناغمة، وتحقيق السعادة والسلام الداخليين والحياة الطيبة، من طريق السيطرة على المشاعر والعواطف السلبية. فهذا يحدث من طريق العقل والانضباط الذاتي، فيصير الإنسان داخل هذه المنظومة الفكرية والفلسفية مسؤولًا عن شكل الحياة التي يطمح إليها، من طريق الالتزام بالعقلانية والقدرة على التحكم في المشاعر والعواطف السلبية. هذا البعد الفلسفي الرواقي كان يرى المعاناة التي يواجهها الإنسان منذ الأزل، بوصفها دليلًا على أن المعاناة جزء أصيل من طبيعة هذه الحياة، ولا بد من تقبل هذه المعاناة كونها واقعًا حتميًا، وليست أمورًا خارجةً عن طبيعة الكون والحياة، ومن هذا المنظور فالخلاص عند الرواقيين محدود بالحياة الحالية، لأنه لا توجد رؤية أو وعد بحياة بعد الموت.

وبمجيء المسيحية حدث انقلاب في التفكير الإنساني اتجاه فكرة الخلاص الأبدية، إذ قدمت المسيحية مفهومًا أبديًا عن الخلاص عكس الرواقية، يمتد الخلاص فيها ليشمل الحياة بعد الموت من طريق الإيمان بالله ومحبة المسيح، ومن ثم فالتركيز في موضوع الإيمان في الخلاص الذي اقترحته المسيحية ومحبة الله، قلب كل المفاهيم الرواقية السائدة حينذاك، فتحول الخلاص من الدنيوي إلى الأخروي، كأن المسيحية من طريق المفهوم الجديد للتضحية بخاصة صلب المسيح، أصبح هو خلاصَ البشرية من خطيئتها الأصلية، وفتحًا للبشرية من أجل الطريق إلى الحياة الأبدية. وإذا كانت الرواقية ترى بأن الموت هو جزء طبيعي من الحياة، وبأنه هو النهاية الحتمية الطبيعية للإنسان، فإن المسيحية اقترحت جوابًا آخر كان أكثرَ إغراءً، فقد وعدت بمفهوم للتغلب على الموت نفسه، وبهذا فإن الإيمان بالمسيح يحقق للإنسان أملاً بأن الموت ليس النهاية، بل بداية حياة أبدية.

إنه انقلاب مفاهيمي جذري أحدثته المسيحية، نُقل فيه معنى الخلاص من الفلسفة إلى الدين، وقدمت الخلاص بوصفه جزءًا أساسيًا من علاقة الإنسان المؤمن مع الله، ما جعل معنى الخلاص معنىً واسعًا ووعدًا روحيًا، بدل أن يبقى فلسفة ونمط تفكير في طبيعة الحياة. لقد غيرت المسيحية نظرة الإنسان إلى العالم، حين جعلت الحياة الحقيقية خارج هذه الحياة التي نعيشها، وأن الدنيا هي مرحلة نعبر من طريقها إلى العالم الأبدي، ما أثر في تطور القيم والأخلاق في المجتمعات الغربية.

مع أن هذه الرؤية المسيحية قد حققت انتصارًا فكريًا على تلك الفلسفات، إلا أن هذا الانقلاب الفكري لم يأتِ دون تكاليف كما يشير فيري[7]، كان من أبرز هذه التكاليف إخضاع العقل لسطوة الإيمان، فبدلًا من أن يكون الإنسان هو المعيار الأساسي لتحقيق سعادته، أصبحت إرادة الله هي الموجهة لهذه السعادة. فما الذي حدث؟

لقد حقق اللاهوت المسيحي انتصارًا كبيرًا على الفلسفة الرواقية، بسبب عدة عوامل معقدة: تشمل التحولات الثقافية والاجتماعية والدينية، التي شهدها العالم في العصور القديمة المتأخرة. فالرواقية كانت تعتقد في فكرة التناغم الكوني والخلود، من طريق العيش في توافق مع الطبيعة. بينما قَدَّمَ اللاهوت المسيحي مفهومًا عن الخلاص الشخصي والذي يرتكز في العلاقة الفردية مع الإله، يرى فيه الإيمان بيسوع المسيح خلاصًا للأفراد وطريقًا لضمان الحياة الأبدية، ثم قدمت المسيحية أجوبة أكثر وضوحًا عن الأسئلة الوجودية والروحانية التي كانت تشغل الإنسان في ذلك الزمن، مثل العلاقة مع الحياة والموت والفناء والمعاناة الإنسانية، هذه الإجابات كانت أكثر جاذبية في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية المضطربة التي سادت تلك الفترة.

فبينما ركز اللاهوت المسيحي في القيم الأخلاقية الشخصية مثل الحب والرحمة والتسامح، كانت الفلسفة الرواقية تركز في الانضباط الشخصي والعقلانية. هذه القيم المسيحية كونت أساسًا قويًا لجذب الأفراد نحو الإيمان المسيحي. ومع انتشار المسيحية وسيادتها في المجتمعات خصوصًا مع تبني الإمبراطورية الرومانية لها في القرن الرابع الميلادي، لم تعد تأويلاتها العقدية تمثلُ تحولًا دينيًا، بل أصبح تأثيرها يمتد إلى ما هو اجتماعي وثقافي وسياسي، مما أدى إلى اندحار وتراجع الفلسفة الرواقية مقابل الزحف المسيحي الكاسح، وهذا ما جعل الفلاسفة المسيحيين مثل أوغسطينوس إلى إعادة صياغة بعض أفكار الفلسفة اليونانية بما في ذلك الرواقية، ودمجها في الإطار المسيحي. هذا التطور جعل اللاهوت المسيحي أكثر قوة وملاءمة للزمان والمكان، مما ساعده على تجاوز الرواقية، وكأن المسيحية بهذا التحول الكبير قدمت تجربة روحية شاملة من طريق العبادة الجماعية والأسرار والشعائر، هذه العناصر الرُوحية أضافت بعدًا جديدًا للإيمان لم يكن موجودًا وجودًا قويًا في الفلسفة الرواقية. وتبقى نقطة التحول الكبرى في المسيحية هي الأمل في الخلود الشخصي، فبينما قدمت الرواقية فكرة الخلود بوصفها نوعًا من الاندماج في الكوسموس، قدمت المسيحية الأمل في خلود شخصي، مما جعلها أكثر جاذبية للناس الذين كانوا يبحثون عن معنى وهدف في حياتهم.

هذا التحول كان ثوريًا خصوصًا إذا رأينا السياق الفكري الذي كان سائداً آنذاك، وربما تظهر الفلسفة الرواقية في ظل هذا التحول وكأنها أكثر بساطة، فالرواقية كانت تدعو الإنسان إلى الذوبان في نظام كوني واسع والبحث عن الانسجام معه لتحقيق السعادة، لكن هذا الذوبان قد يؤدي إلى فقدان الفرد لهُويته الشخصية الواعية، في المقابل اللاهوت المسيحي قدم رؤية مغايرة تمامًا عن الخلاص، فهو لم يكن نوعًا من التناغم الكوني، بل قدم وعدًا بالخلود الشخصي لنا ولأحبائنا وأصدقائنا، روحًا وجسدًا وصوتًا وصورةً، هذا الخلود الشخصي جعل المسيحية تعيد صياغة مفهوم الخلاص بأسلوب جديد ومبتكر، مما مكنها من التفوق على الفلسفات اليونانية والسيطرة على الفكر العالمي لما يقارب خمسة عشر قرنًا.

خلاصٌ بلا مُخلِّص

إذا كانت المسيحية قد أحدثت انقلابًا مفاهيميًا مع الفلسفات اليونانية السابقة وعلى قمتها الفلسفة الرواقية، فإن عالم اليوم جعل مسألة الخلاص مسألة مصيرية في عالم مفكك وغير منتظم، وبتعبير (هنري أيكن) فإننا في زمن خلاص بلا مُخلص، لهذا يحسن بنا ونحن نتحدث عن طبيعة هذا الخلاص المقترح، أو هذا العنوان المُقترح “خلاص بلا مخلص”، أن نناقش ونبث ما قاله  أيكن في كتابه عصر الإيديولوجية[8]. يحدثنا أيكن عن أنه إذا أُجري استفتاء بين الفلاسفة بخصوص إنجازات (فردريك نيتشه)، لربما عُدَّ واحدًا من أعظم الفلاسفة الأدبيين، لكن كان ينقصه الشعور بالمسؤولية، فغالبية الناس والباحثين والدارسين يرون أن أفكاره مثيرة ولكن غير جديرة بالجدية.

مع ذلك أثبتت التوقعات بشأن تأثير نيتشه أنها ضعيفة، فالسؤال الأساسي الذي يُطرح: من هم أتباعه الحقيقيون؟ لقد اعتقد كثير من الباحثين بأن نيتشه هو رمز السلطوية والأيديولوجيات الشمولية، والنازية السياسية، فقد كانت له أطروحات كبيرة في تمجيد القوة، وهو المتهم بأنه الأب الروحي لكل الشموليات التي ظهرت في بداءة القرن العشرين مثل النازية والفاشية، وعلى الرغم من هذه التوجهات التي قد تُفهم من طريق بعض كتاباته عن القوة، إلا أن لنيتشه وجهه الآخر المعارض بوضوح لتلك الأيديولوجيات والشموليات، خصوصًا نظرته إلى فكرة تسلط الدولة، مما يختلف عن كثير من معاصريه الألمان، ورغم بغضه لـ “أخلاق العبيد” التي اعتقد أنها تنحدر من اليهود، فإن ذلك لا يُبرر كراهيته المزعومة للسامية.

ولفهم فلسفة نيتشه فهمًا أوضحَ يخبرنا أيكن بأن لها وجوهًا متعددة، خصوصًا علاقته بالفكر النازي السائد حينذاك، لأنه لم يكن عنصريًا ولا متأثرًا بفكرة تفوق الإنسان والروح الألمانية. أما عن المأخذ الذي يُؤخذ على فلسفته بخصوص تنظيره للإنسان الأعلى أو “الإنسان الأرقى”، فهو لم يكن سوى نظرة تقرب من كونه فنانًا مبدعًا أو نبيًا دينيًا، بدلاً من كونه باني إمبراطوريات. وبعد انتهاء الحرب العالمية تجدد الاهتمام بفلسفة نيتشه على نحو ملحوظ، فقد عُدَّ رائدًا من رواد الفلسفة الوجودية مع كيركجورد، بدلاً من أن يُنظر إليه بوصفه فيلسوفًا يتسم بالسلبية أو النقص، بدأ يُعترف بعمق شعوره بالسخافة الكامنة في الحياة.

دوما كان يُنظر إلى نيتشه بوصفه خبيرًا في “علم النفس العميق”، إذ استطاع فهم تأثير الخيبات والقلق في الأنماط الأيديولوجية والدينية، كما كان مدركًا تمامًا للمخاطر التي تهدد حياة العقل، والأقنعة التي قد يرتديها اللامعقول. ورغم أنه لم يتمكن من وضع نظام فلسفي محدد، فإن ذلك يعكس محاولات فهم فلسفته من طريق مقارنتها بفلاسفة آخرين.

فعند إجراء مقارنة بينه وهيجل نرى أن لكلًا منهما أسلوبه المميز، فبينما يظهر أسلوب هيجل معقدا وغامضا، يتميز أسلوب نيتشه بالوضوح والصدق مُركزًا في ذاته، ورغم أن كليهما يمتلك رؤية تاريخية، إلا أن نيتشه ينظر إلى هذا السياق من طريق عدسته الشخصية، ما يميزه عن هيجل، أما فيما يتعلق بموقفه من المسيحية، فهو يتبنى تناقضات معقدة، فهو يعارض المسيحية التاريخية، التي يعتقد أنها نشرت “أخلاق العبيد”، ولكنه يشير إلى أنه ليس ضد المسيح ذاته، بل ضد المسيحية بوصفها مؤسسة، حيث تتجاوز خصومته الأخلاق لتكون تعبيرًا عن رفض شامل للقيم التي تُمثلها. لقد أبرزت فلسفة نيتشه أبعادًا متعددة تعكس عمق تفكيره وتعقيده، مما يجعله شخصية محورية في تاريخ الفلسفة، ففلسفته واحدة من أكثر الفلسفات إثارة للجدل في العصر الحديث، بسبب كونه متشائمًا بشأن التطورات الاجتماعية والسياسية في عصره، وقد تنبأ بظهور طغاة يستغلون مخاوف الجماهير وعدم استقرارها، وتوجيه المجتمع وفق أساطير اجتماعية مُحكمة، مما يعكس انحدار الدولة المثالية كما تصورها هيجل، نحو تجسيد لمادية تُعلي من شأن الثروة وتُفقد المعنى.

أما بخصوص علاقته بالاشتراكية فهو يراها مجرد تطور آخر للأخلاق الديمقراطية النفعية، التي يعدها نتيجة دنيوية للمسيحية. ففي رؤيته ليست الاشتراكية نظامًا تحرريًا، بل تدعو إلى تعزيز الوضع الراهن، مما يُبرز أهمية إعادة تقييم القيم الاجتماعية بدلًا عن إعادة تنظيم وسائل الإنتاج. يشترك نيتشه مع ماركس في نقد الشرور المرتبطة بالحياة الاجتماعية الحديثة، لكنه يختلف عنه اختلافًا جذريًا، فهو لا يؤمن بقيمة العمل الجماعي أو الإخاء الاجتماعي، ولا يرى حلولًا اقتصادية أو سياسية لمشكلات حرية الفرد وإبداعه، بدلاً من ذلك يعبر نيتشه عن كراهيته لكل ما هو جماعي مُشيرًا إلى الجماهير بوصفها “قطيعًا”، مما يعكس مخاوفه من فقدان الفرد لهُويته في ظل الحياة الجماعية.

لقد استندت فلسفة نيتشه إلى مفهوم “إرادة القوة” التي تعبر عن قدرة الفرد على تكوين مصيره، فهو يعتقد أن القوة تعني الفعل وقدرة الفرد على تحقيق أهدافه، بعيدًا عن القيود الاجتماعية أو الأنظمة السياسية. وفي هذا السياق، ينتقد نيتشه الفلاسفة مثل جيرمي بنثام الذي يميل إلى المعايير الكمية، مفترضًا أن الأخلاق يجب أن تركز في الفردية والتفرد الشخصي، وعند المقارنة مع هربرت سبنسر نجد أن كليهما يميل نحو النزعة الطبيعية، لكن نيتشه يظل أكثر قسوة في رفض القيم الديمقراطية. بينما كان سبنسر يسعى في تحقيق توازن بين القيم الفردية والاجتماعية، كان نيتشه يرى أن ذلك غير ممكن، إذ تمثل الأخلاق صراعًا بين القيم الأرستقراطية واحتياجات القطيع، مما يجعله يميل إلى تفضيل الأخلاق التي تدعم القيم الفردية على حساب الرفاه العام. علاوة على ذلك يرتبط نيتشه ارتباطًا وثيقًا بشوبنهاور، بسبب أن “إرادة القوة” تعد تعديلًا لفكرة “إرادة الحياة”. فبينما يرى شوبنهاور أن الحياة الجيدة تتجلى في التأمل، يؤكد نيتشه أن الإرادة هي جوهر الحياة مفترضًا أن مسألة القوة تحدد من سوف يسود.

لقد كان نقد نيتشه للمسيحية ولاقتراحاتها شديدًا، ويبقى السؤال عن مدى اتساق نيتشه في نقده للأخلاق المسيحية والديمقراطية. فقد عدَّ أن هذه الأنظمة تُكبِّل الأقوياء وتُخفي إراداتهم. في النهاية يُمثلُ نيتشه تحديًا فلسفيًا يتطلب إعادة التفكير في العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويشدد على أهمية الإيمان بالقوة بوصفها قيمةً إنسانيةً أساسيةً، لكنه يتبنى وجهة نظر تُفضل الأفراد الذين يمتلكون هذه القوة، مما يعكس تناقضًا عميقًا في فلسفته. أحيانًا يُصنَّف نيتشه بوصفه دارويني اجتماعي، لأنه ينقل الصراع من أجل الوجود إلى مجال الأخلاق، ولكن في الحقيقة فإن فكرة الإنسان الأرقى عند نيتشه لا تُعدُّ نظرية تطورية إلا إذا نُظِر إليها نظرة سطحية، إذ تتنبأ هذه الفكرة بنوع جديد من الإنسان، يدرك قدرته على تجاوز ذاته، ويطالب بحق العلو على نفسه وعلى الآخرين الذين يمتلكون القيم الرفيعة، ففلسفته تُعد دعوة أخلاقية أو دينية للعمل، تستند إلى مناشدة الأفراد ذوي القدرات الرفيعة للعمل بجدية وتضحية لتجاوز تراثهم الحيواني والاجتماعي.

بإيجاز لم يكن نيتشه معنيًا بمسألة علمية تتعلق بإمكان تطور نوع جديد بعد “الإنسان العاقل”، بل كان يهتم بالإمكانات الروحية للإنسان نفسه. ومن الظلم أن نقول إن نيتشه الذي كان أبوه قسيسًا، قد عاش طوال حياته بوصفه واعظًا غير متخصص يسير في الطريق البروتستانتي التقليدي، إذ تتجلى عقيدته في إمكان الخلاص الفردي دون الحاجة إلى مُخلص. وقد لوحظ أن المثقفين المستنيرين في عصر علمي ينظرون إلى العالم من طريق النزعة الطبيعية، لأنه لم تعد الأركان الأساسية للأسطورة المسيحية قابلة للتصديق وفقدت كثيرًا من بريقها وقوتها.

لا يعني هذا أن نيتشه عندما تخلى عن المسيحية، قد تخلص آليًا من الحاجات التي دعمت أسطورة البعث لدى الكثيرين. السؤال هو: كيف يُمكن تلبية هذه الحاجات في إطار نظرة طبيعية لا تعترف بفضل الأسطورة المسيحية في التنبؤ أو النبوة الرمزية؟ لقد عثر نيتشه على الجواب في مذهب العود الأبدي الذي لم يكن فكرة فلسفية، بل تصورٌ دينيٌ للخلود الفردين وفقًا لرأيه كل فرد يمر في كل لحظة بدورة من الفاعلية الأبدية، مما يعني أن كل ما يفعله الفرد يُعدُّ حاضرًا دائمً، ما يهم الفرد في نظر نيتشه ليس الخلود غير الشخصي الذي يتمثل في الشهرة، بل الخلود الشخصين فهو لا يكتفي بفكرة أن آخرين سوف يعيشون تجارب مشابهة في المستقبل، بل يسعى في الحفاظ على وعيه بصفة مستمرة، إذا كانت النظرة الطبيعية للعالم صحيحة، فإن تلبية هذه الحاجة تتطلب مذهب العود الأبدي، بسبب عودة دورة الحياة إلى الوجود مرات لا حصر لها.

  • روحانية علمانية؟ عن أعمال أندريه كونت سبونفيل ولوك فيري. لفرانسيس غيبل[9]

أولاً، عُرف كل من أ. كونت-سبونفيل و ل. فيري بأعمالهما في مجال الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وقد بدؤوا منذ بضع سنوات نقاشًا عن “حكمة العصريين”، الذي لم يتوقف نجاحه في مقالات أحدث. فبغض النظر عن الغموض الذي تحمله الوسائط الإعلامية، يجب ألا يُعفي ذلك من فحص معقول لمشروع له ميزة كسر الاتصال مع نوع معين من الغموض النخبوي، من طريق تذكير الفلسفة بمهمتها الإنسانية والعالمية: تعلم “التفكير بنفسك وللجميع”، انطلاقًا من تجربة حية يمكن مشاركتها، خصوصًا وأن التحدي المطروح هنا يهمنا جميعًا ولا يشغل بلا شك الإيمان الديني أقل من العقل الفلسفي، إن الأمر يتعلق في الحقيقة بالاعتراف بانهيار التأكيدات التقليدية التي كانت تدعي اشتقاق أساسيات التعايش بين البشر من أسس مطلقة، دون التخلي عن السعي الدؤوب في تحقيق العدالة والمعنى، ومن دون ذلك نواجه همجية تهددنا، ومن المثير للاهتمام مع ذلك أن هذه الرغبة المشتركة في ابتكار حكمة أو رُوحانية “علمانية” تتلاءم مع الحقبة والتواجد “العصريين”، وكلاهما علماني وعالمي، يؤدي هنا إلى مواجهة ودية بين مصدرين متناقضين، إن لم يكن متعارضين: سكينة المصالحة الممنوحة إلى وجود الكل (كونت-سبونفيل) أو توسيع وجود مُحرر من عواطفه ومخاوفه (فيرى)، قد يكون هذا التفاوت يُمثلُ دعوة لنا من أجل الدخول في نقاش مفتوح، من طريق متابعة مقدماته الاستفهامية ومحاولة الخروج من البديل الذي يظهر هناك.

أ. كونت-سبونفيل: الروح في العالم

في كتابه “روحانية دون إله”، يسعى سبونفيل في توضيح الفجوة بين الرُوحانية والدين التقليدي، فيرى أن الإيمان بوجود إله ليس بالضرورة شرطًا لتحقيق تجربة روحية غنية، هذه النقطة تمثلُ محورًا أساسيًا في رؤيته الفلسفية، لأنه يفتح بابًا واسعًا لنقاشات عميقة بخصوص طبيعة الروحانية وعلاقتها بالدين. إن الروحانية بوصفها خبرة شخصية هي تجربة تمس جوهر الفرد وتعبّر عن احتياجاته الروحية، بدلاً من أن تكون مجموعة من المعتقدات أو الطقوس المرتبطة بدين معين. وهنا يشدد على أن الروحانية تتعلق بالتجربة الإنسانية في عمقها وبساطتها، ويمكن أن تظهر في مختلف الأشكال والألوان. كأن التجربة الروحانية هي بحث عن معنى في الحياة، مما يدفع الأفراد إلى استكشاف الذات وفهم العالم من حولهم، في هذا السياق يمكن للأشخاص أن يجدوا الروحانية في العلاقات الإنسانية والفن والطبيعة وغيرها من المجالات التي تعزز من تجاربهم الحياتية.

ينتقد سبونفيل الدين التقليدي لأنه قد يفرض قيودًا على الأفراد، مما يمنعهم من استكشاف ذاتهم الروحية استكشافًا كاملًا، وهنا تلعب بعض الأنظمة الدينية دورا قمعيا وسلطويا يحد من حرية الفكر والتعبير والاعتقاد والإيمان، مما يجعل تجربة الروحانية عملية صعبة إن لم نقل مستحيلة، وبدلاً من الاعتماد على العقائد التقليدية والجامدة والحادة من الإبداع الإنساني، يُشجع سبونفيل الأفراد على استكشاف روحانياتهم بأنفسهم، ويؤكد أهمية التحليل النقدي والتفكير الشخصي، مما يمكّن الناس من بناء تجربة روحية خاصة بهم تتوافق مع رؤيتهم وفهمهم للعالم. وتمثلُ البوذية مثالا مناسبا للفلسفات غير الدينية، التي تركز في التجربة المباشرة والتأمل الذاتي والعيش في اللحظة الحالية والوعي الذاتي لتحقيق وإشباع الجوانب الروحانية وتعزيز التجربة الشخصية.

إن الروحانية وفق سبونفيل يمكن أن تكون متنوعة، لأنه يمكن لكل فرد أن يجد مساره الخاص، فمن طريق التجارب الحياتية المختلفة مثل السفر والفن والعلاقات، يمكن للناس أن يستكشفوا جوانب جديدة من روحانيتهم، كما أن الفصل بين الروحانية والدين، يُعزز قيم التسامح والتفاهم بين الأديان والثقافات المختلفة، فيمكن للأشخاص أن يجدوا قواسم مشتركة في تجاربهم الروحية، حتى لو اختلفت معتقداتهم. فالأخلاق يجب أن تكون أساسًا للروحانية، بغض النظر عن الدين، فهي من تدعو إلى التفكير في كيفية تحقيق الخير في العالم وتعزيز العلاقات الإنسانية، مما يشجع على الروحانية المستندة إلى القيم الأخلاقية.

من ثم فالفصل بين الروحانية والدين كما يراه سبونفيل يُعد خطوة نحو التحرر الفكري والبحث عن تجربة روحية شخصية، فمن طريق تعزيز التجربة الذاتية وفهم القيم الإنسانية، يمكن للأفراد أن يعيشوا حياة غنية بالمعنى والدلالات، بعيدة عن القيود التي قد تفرضها الأنظمة الدينية التقليدية. هذا الحوار لا يقدم فقط وجهة نظر فلسفية جديدة، بل يفتح أيضًا آفاقًا لاستكشاف عمق الروح البشرية ومكانتها في عالم معقد ومتغير.

رؤية لوك فيري للروحانية: استكشاف الأبعاد الإنسانية

تُعدُّ الروحانية من المفاهيم المعقدة التي تُعبر عن تجارب الوجود والبحث عن المعنى، في هذا السياق يأتي فيري ليقدم رؤية شاملة للروحانية تتجاوز الأبعاد التقليدية المرتبطة بالدين. فيري الذي يُعرف بأسلوبه الفلسفي العميق والواقعي، يعكس في أعماله فهمًا متميزًا للروحانية بوصفها أداة للتواصل مع الذات والآخر ووسيلة للبحث عن المعنى في الحياة.

في نظر فيري، تُعد الروحانية قيمة إنسانية أساسية تعزز الوجود الفردي والاجتماعي، يعتقد أن الروحانية ليست محصورة في الدين أو الممارسات الروحية التقليدية، بل هي تجربة شاملة تُعبر عن البحث عن المعنى في حياة الإنسان، فمن طريق الروحانية يُمكن للأفراد استكشاف قيمهم ومعتقداتهم، مما يُساعدهم على تطوير هويتهم الشخصية، كما أنها تُعتبر وسيلة لتعزيز التواصل والتفاهم بين الأفراد، ومن طريقها يُمكن للأشخاص أن يحققوا تواصلًا أعمق، حيث تُساعد على فهم المشاعر والتجارب الإنسانية المشتركة، وتعزيز التعاطف والتعاون، مما يُعطي العلاقات الإنسانية طابعًا أكثر صدقًا وعمقًا.

تمثل الروحانية في رؤية فيري أداة أساسية للبحث عن المعنى في الحياة، من طريق التأمل والتفكر، لأنه يُمكن للأفراد أن يستكشفوا ذاتهم ويتوصلوا إلى أهدافهم الحياتية، وذلك بإعطاء الأفراد فرصة لتجاوز الماديات والتركيز في القيم الأساسية مثل الحب والإبداع، في هذا السياق يُشجع فيري الأفراد على تحديد معاني جديدة تُعبر عن تجاربهم الشخصية، لأن عمق هذه الفلسفة الروحانية وفق فيري يسهم في مواجهة الألم والمعاناة بوصفها جزءًا من التجربة الإنسانية، بسبب إسهام هذه التجارب في فهم أعمق للوجود وتساعد الأفراد على اكتساب الحكمة، فمن طريق تفسير الألم يمكن للأفراد أن يُدركوا كيف يُمكن أن يكون لديهم تأثير إيجابي على حياتهم وحياة الآخرين، وهذا يُعزز من القدرة على التغيير والنمو الشخصي.

يرى فيري أن الروحانية تتضمن أيضًا علاقة وثيقة مع الطبيعة، فهو يرى أن الانفتاح على الجمال الطبيعي والأبعاد الروحية للطبيعة جزءًا مهمًا من التجربة الإنسانية، مما يعزز من التقدير للكون ويُساعد الأفراد على فهم أنفسهم بوصفهم جزءًا من كون أكبر، ومن طريق التواصل مع الطبيعة، يمكن للأفراد أن يستمدوا الإلهام ويحققوا توازنًا داخليًا. هذا الامتلاء الذاتي والإشباع الروحاني، يُشعر المرء بالانتماء إلى شيء أكبر من الذات، ويعطي إحساسًا أعمق بالارتباط مع الكون والإنسانية جمعاء، فلا العقائد ولا الأيديولوجيات يمكن أن تشل حركة الإنسان أو لا محدودية تفكيره، مما يُساعد على تحقيق المعنى في حياة الإنسان، فيتمكن من تجاوز الحدود الفردية والإغلاقات الأيديولوجية، ليصبح جزءًا من المجتمع البشري الأوسع.

تُعدُّ رؤية فيري للروحانية إطارًا شاملًا يُغطي جميع جوانب التجربة الإنسانية، من طريق فهم الروحانية بوصفها قيمة إنسانية وأداة للتواصل ووسيلة للبحث عن المعنى، فهو يُعزز من أهمية الروحانية في ملء الحياة الجيدة والمليئة بالمعنى، ويشجع الأفراد على استكشاف ذواتهم وفهم معاناتهم والارتباط بالطبيعة والمجتمع، من طريق روحانية علمانية متجاوزة للأديان التقليدية، فيصير الإنسان جزءًا أساسيًا من رحلة نحو تحقيق الذات والعيش بسلام وسعادة.

المراجع:

[1] – فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ.

[2] – من بين من يوظف مصطلحا ما بعد الأديان هناك الداعية البوذي الكبير الدالاي، لاما. ما وراء الأديان أخلاقيات لعالم متكامل. ترجمة ياسمين العربي. مؤسسة هنداوي. ط1، 2022.

[3] – زبغمونت، باومان. الحداثة السائلة. ترجمة حجاج أبو جبر. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1،2016.

[4] – Jean brun ; le stoïcisme.que sais je ?; treizième édition . p : 7

[5] – يمكن الاطلاع أكثر على أفكار الرواقيين من خلال ما كتبه محمد زكي نجيب محمود، وأحمد أمين. قصة الفلسفة اليونانية، ط1،2018.

[6]–  – أنظر المزيد عن هذا اللفظ بالمعجمين التاليين:

DICTIONNAIRE DE LA BIBLE ET DE RELIGIONS ; MATIERE MESSIE ,   P :291

DICTIONNAIRE DU JUDAISME, MATIERE MESSIE

كما يمكن الاطلاع أكثر على المفهوم من خلال كتابنا ولادة المسيح وإشكالية التثاقف اليهودي المسيحي. المركز الثقافي العربي، ط1،2014.

[7] – لوك، فيري. المرجع السابق.

[8] – هنري، أيكن. عصر الإيديولوجية. مؤسسة هنداوي، ط1،2023.

[9] – Une spiritualité laïque ?A propos des essais de André Comte-Sponville et de Luc Ferry Par Francis Guibal.

https://shs.cairn.info/revue-etudes-2007-9-page-201?lang=fr

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete