بصدد الثورة الفينومينولوجية

 تكوين

مقدمة المترجم

مارك ريشير واحد من أهم الفينومينولوجيين المعاصرين إن لم يكن أهمهم، ينتمي ريشير إلى الجيل الثالث من الفينومينولوجيين؛ في الأوساط الأكاديمية يُقسَّم الفينومينولوجيين إلى ثلاثة أجيال: الجيل الأول، وهو الجيل المؤسس ويتمثل في هوسرل وهايدجر وفينك. الجيل الثاني، وهو الجيل الذي كان معظمه فرنسيين مثل ميشيل هنري وليفيناس وميرلوبونتي. والجيل الثالث، من أبرز ممثليه مارك ريشير. تتضح أهمية هذا التصنيف في أن مارك ريشير لم يكتفِ بالتأثر بالجيل المؤسس فحسب، وإنما حمل على عاتقه إرثي الجيل الأول والثاني.

تتمركز فكرة التأصيل المؤسس للفينومينولوجيا في فلسفة ريشير، إذ لم يرتكن إلى مساءلة الإرث الفينومينولوجي فحسب، وإنما طرح حدث إعادة التأسيس ليكون تساؤلًا فينومينولوجيًا أصيلًا، نتج عن حدث إعادة التأسيس حدوثَ تصدُّعات بنيوية (انظر مقدمة دريدا للترجمة الفرنسية لأصل الهندسة) ولَّدت توترات ذات طابع ثنائي في التصور الهوسرلي لفعالية العنف المموضِع الخاص بنشاط الذات، فلم نعد نرى القسمة الكلاسيكية المُثَوِّرة في صيغتها الهوسرلية بين النشاط الذاتي من جانب، وعالم الخبرة القصدية من جانب آخر، بل انتقلنا إلى تصدُّع أشد جذرية في طبقات الوجود وهو التصدُّع الكامن بين الإسكيما ذات البعد ما قبل الأنطولوجي والمجال الانفعالي.

كما تتجلى جدة ريشير في إدخاله طبقة الظلال (وهي استعارة للهروب من الدلالات المشحونة للاوعي التحليلنفسي) بوصفها مجال المخيلة ما قبل القصدي المؤسس لكل الطبقات الأخرى، وبذلك تكون نقطة انطلاقنا المُخيلة (الفانتازيا) بدلًا من المعيش القصدي الهوسرلي.

النص المترجم  

بصدد الثورة الفينومينولوجية، بعض المُسَوَّدَات 

الضَمِيْمَةُ الأولى، موقف الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة النقدية                                                                         

إن الموقف المعني للفلسفة الكلاسيكية والفلسفة النقدية يجد نفسه معروضًا بوضوح بواسطة كانط في فِقرة من فصل شهير في نقد العقل المحض في التفريق بين الفينومين والنومين. نتبع ها هنا نص الطبعة الأولى للكتاب، يبدأ كانط بالكتابة في هذه الفِقرة: “إن التمظهرات بالنسبة إلى الحد الذي يكونون فيه متَفَكرين بوصفهم موضوعات وفقًا إلى وحدة المقولات، تُدعى فينومينات. لكنني إن كنت أُقِرُّ الأشياء التي تكون موضوعات للفاهمة والتي تكون بناءً على ذلك -بما هي هي- قابلة للإنعطاء لحدس وإن لم تكن كذلك لحدس حسي (بوصفها مقابلًا للحدس العقلي)، تلك الأشياء يجب أن تدعى نومينات

إن وضع الأشياء بوصفها نومينات يُحدد بجلاء موقف الفلسفة الكلاسيكية في مجموعه، هذا الذي يُمكن أن نطلق عليه المنظومة الأفلاطونية للفلسفة، وهو ما نجده أيضًا لدى ديكارت، عندما يوضح في ردوده الثانية[1] بمثال السماء أن الرؤية (الحسية) لشيء ما لا تَلمس الرُوح، إلا إن كانت متضمنة أو مصحوبة بحدس عقلي وهو فكرة الشيء، تلك نفسها المتوارثة في الرُوح. إن الرؤية الحسية تتعلق بالممتد، بالجسد، ومن ثمَّ بالخيال: هي ليست إلا صورة للشيء المُنطبع فيها.

وبناءً عليه فإن الفكرة حتى تكون في الرُوح، لا تكفي للتأكد من وجود الشيء الذي هي فكرة له، يجب لذلك وجود سبب موجودًا وجودًا حقيقيًا، هذا إذن على العكس تمامًا من أن الشيء نفسه (الشيء في ذاته) يجب أن يُفهَم بوصفه سببَ الواقع الموضوعي للفكرة.

إن الافتراص الكامن وراء كل ذلك مُثقل جدًا، كما يكتبه مرة أخرى ديكارت: “نحن لا نستطيع إدراك أي شيء إلا تحت هيئة شيء موجود بالفعل”. الوجود إما مُمكن وإما محتمل للأشياء المحدودة، كامل أو ضروري للإله، هنا يكمن تكرار ضمني للحجة الأنطولوجية (إذ إن الوجود يكون “متضمَّنًا” أو “مفهومًا”، على الأقل بِعَدِّهِ مُمكنًا أو مُحتملًا، في مفهوم أو فكرة شيء محدود)

سنكون قد أعدنا التعرف على المشكلات المطروحة منذ أفلاطون، عن طريق الكوريسيموس[2] (أي الفصل بمعناه الأفلاطوني) بين الحسي والعقلي، وكذلك معضلات التفاعل التشاركي (بمعناها الأفلاطوني بين المثال وتمظهراته)[3].

إن كان الفصل بين الحسي والعقلي كاملًا، فلن أمتلك من جانب سوى تخييلًا للشيء دون معرفة لأي شيء يكون هذا التخييل، ومن جانب آخر سوي فكرة (يجب أن نلاحظ -وهو أمر جوهري- أنها غير ممتدة ومن ثمَّ غير تمثيلية) للشيء الذي يُمكن أن يكون نومين (أفلاطون: نومين؛ فكرة)، لكن الذي يكون أبسط مفهوم متعلق به (أبسط فكرة) مُتضمنًا للوجود.

نعرف أن هذه المشكلة المحلولة لدى ديكارت بواسطة لغز الوَحْدة بين الجسد والروح، لم تظهر إلى النور سوى لدى أفلاطون في إشكال التفاعل التشاركي، ويكفي ها هنا أن نقرأ المتون الأفلاطونية حتى ندرك المعضلة التي يؤدي إليها التماثل بين المثال والنومين، (محاورة بارمنيد، بينما كل الأشياء تُفكَِر لأنها مجبولة على التفكُّر، أو إنها أفكار دون تفكُّر يُمكن أن يتفكرها).

كما أننا أيضًا تعرفنا إلى كل المفارقة التي يجب أن تُدَّعم -منذ جمهورية أفلاطون– أن ثمة حدس، وفي معنى آخر رؤية (لشيء ما، الشيء وحتى الشيء في ذاته بما هو هو، الكائن) الذي بحكم تعريفه لا يتضمن أي تصوير أو تشكيل حدسي (فكرة الأيقون[4] لا تحل المشكلة) يستعصي إذًا -بأقل تقدير- على كل تناول معيِّن، كما يستعصي على كل شكل خطابي مباشر.

إن كانت الفاهمة[5] أو حوار الروح مع ذاتها تتوقف عند شيء ما، فإن هذا الشيء هو الدوكسا، وإذا تدخل الإحساس، فعندئذ يكون الدمج بين دوكسا وأيستيسيس (أي ملكة الإدراك الحسي)، وهو -وَفقًا إلى أفلاطون- مخيلة[6]، من رتبة (phainetai)

ذلك الذي يكشف ويحمل الأشياء إلى الانبثاق (محاورة السفسطائي) والذي “يجعله يُرى”.

إقرأ أيضًا: فلسفة هوسرل الفينومينولوجية: علم كلّي للمعرفة الانسانية؟!

لكن الفاهمة ليست حدسًا (نويسيس) العقل (نوس)، وذلك الذي أُظهِرَ في الدوكسا ليس العقلي (نويتون)، لهذا السبب -سوف نعود إلى ذلك فيما بعد- نرى أننا قد تمادينا في الترجمة الأحادية للـ “دوكسا” “بالرأي”، و”الدوكسازن” بـ “أن تحكم (الحكم المنطقي)”

وهو ما يعني -بإيجاز وبأسلوب شديد التكثيف– كل المشكلات الهائلة للفلسفة الكلاسيكية. وإذا كان النسق الفلسفي مُتسقًا معماريًا ومستقرًا استقرارًا ملحوظًا عبر القرون، فإن هذا النسق يستعيد -بواسطة تلك المفاهيم نفسها في كل مرة– أسئلة تَكُون الأجوبة عنها مضاعفة، تلك تؤسس بدورها عن طريق تنويعاتها جزءًا كبيرًا من الكوربوس (الجسد) الفلسفي حتى كانط.

لأنه مع كانط وجد المعمار الكلاسيكي للمفاهيم الفلسفية لأول مرة نفسه مقلوبًا رأسًا على عقب، ويبدو أن هذا القلب يأخذ مكانه على الأقل في جانبين:

إن فكرة الحدس العقلي غير قابلة للتدعيم نظرًا إلى أنه يعتزم أن يستعيد (في وحدةً) الحدس الذي يُطرح بطريقة غير قابلة للرد فعل الرؤية والرؤية، والعقلي الذي -كما نوهنا– لا يُمكن لمضمونه أن يكون في المعمار الكلاسيكي إلا بوصفه غير تصوري أو غير تمثيلي، ومن ثمَّ غير قابل للرؤية أو حتى بوصفه كينونة وكائنًا، فارغًا بالنسبة إلى الرؤية وفعلها أو على أقل تقدير تحويلٌ استعاري للرؤية في حدس عقلي، وهو ما يُضِلُّ المعنى الذي نتحدث عنه ها هنا.

المُتفكَّر، النومين لا يُمكن أن يُرَى، وهذا ما يُطلق عليه كانط بالمعنى السلبي “النومين”، وكل رؤية تعتزم قصده هي وهم ترنسندنتالي، وفي هذا المعنى -هي نتاج “جزئي” -بأقل تقدير- للعقل أو المخيلة أو الخيال.

إذًا النومين غير مُحدد -مقارنة بالمعرفة الموضوعية– “كائن ترنسندنتالي = س”، “شيء ما بعامة” قابل للتَعُيُّن بواسطة مختلف ظهوراته أو بالأحرى ظواهره، أو بذلك الذي يؤسس جانبه الإيجابي (إيجابيته) فيما يتعلق بالمعرفة، بوصفه “شيئًا في ذاته”، وهو غير القابل جذريًا للوصول إليه للأخيرة (المعرفة الموضوعية).

في الجانب الآخر ينصفُ كانط لوهلة الظهورات الحسية والظواهر كما يُعرِّفها، وكذلك الخطابية في المعرفة (الموضوعية)، بالتأكيد عبر المقولات ومخططاتها الترنسندنتالية، كما أُشير إليه في الجملة الأولى التي أوردناها، وهكذا يُشرِّع كانط -كما هو معروف جيدًا– معرفة موضوعية، تلك التي تكون رياضية وفيزيائية، لكنها فوق كل شيء ميتافيزيقية.

إن مجال الأشياء لديه غير قابل للوصول وخيالي (إشكالية المثالي الترنسندنتالي)، على أقل تقدير أن تُتَنَاول الكلية الهارمونية لإمكان الأشياء نقديًا بقدر الإمكان بوصفها فكرة مشروعة، أي بوصفها أفقًا للمعرفة الذي خلفه تغرب شمس الميتافيزيقا.

ورغم ذلك ليس ثمة صعوبات إن تساءلنا عن المعنى الكانطي للحدس، والظهور (الظاهرة)، وحتى الخطابية.

لقد رأينا أن الحدس لدى كانط يكون حتمًا حسيًا، هو يَحْدِسُ ظهورات، وبذلك يظل لفظ “الحدس” غامضًا من وجهة نظر فينومينولوجية، إذ إن الحدس يُمكن أن يكون حدسًا لخاصة ما (اللون مثلًا) مثلما يُمكن أن يكون حدسًا بشيء حسي، وهو ما يحدث في كل مرة دون وضع المعرفة الموضوعية في الحسبان.

في شكل أقرب إلى إمبريقية محضة: يُمكن للحدس أن يكون إحساسًا أو إدراكًا إمبريقيًا.

إن الظهورات لا تصير (لا تُحوَّل) إلى فينومينات سوى إذا فُكِّرَت (الظهورات إحساسات وإدراكات) “بوصفها موضوعات ضمن وَحْدة المقولات”، أي أن تُدمج إياها في معرفة موضوعية تلك التي تتضمن جزءًا ترنسندنتاليًا، والتي تكون بكل ذلك توليفية وخطابية قبليًا.

إذًا ليست الفينومينات إدراكات أو إحساسات، بل بطريقة ما هي العناصر “الحسية” لتوليف معرفي ذلك الذي تكون “مصفوفاته” الترنسندنتالية في المقولات، وفي الإسكيما الترنسندنتالية الخاصة بهم مُحددة قبليًا أو “تحديدًا مُضمرًا” الروابط الداخلية للفينومينات، وهو ما يعني مُعطيات ممكنة لشيء ما في الحدس المكَوِّن بمعيةِ المعرفةِ، أو حتى إحالات ممكنة خاصة بالفكر (المفهوم) إلى الظهورات التي بواسطتها يظهر الموضوع المعروف بالمعنيين (الخارجي والداخلي).

أما عندما يتعلق الأمر بالمقولات، فليس ثمة ما يُبحَث عنه لدى كانط، شيئًا مثل “تكوُّنها” لتكون مثالًا: فنحن نعرف أنها مُستمدة من جدول الأحكام الذي هو كله “مُعطى”، أي أنه ينتمي -في مصطلحاتنا- إلى المنظومة الرمزية، إنها تكوّن -بالمعرفة الموضوعية- الروابط الخطابية قبليًا، أي الروابط الدائمة -مؤَسسة رمزيًا– للمنطق الترنسندنتالي، منطق منفتح على المعرفة الموضوعية لتكونَ بعامة الإحالات الممكنة لأحكامه أشياءً ملموسة مؤكدة قبليًا.

بالتأكيد ما يزال هناك الكثيرُ لقوله، وخاصة عن تقسيم الأفكار الكلاسيكية إلى أفكار مُنَظِّمةٍ للمعرفة، ومُثُل، تلك التي -كما رأى كانط نفسه- تُعد المعادِل الصارم للأفكار بالمعنى الأفلاطوني، لكن الأفكار ليست فقط لا تتمتع بالقابلية للوصول مقارنة بالمعرفة الموضوعية، وإنما لا توجد أيضًا خارج الإمكان، إن لم يكن ذلك بطريق دقيق عبر هفوة ترنسندنتالية لوهم ترنسندنتالي يمرح الخيال فيه.

إقرأ أيضًا: الفيلسوف واللاهوتي: من القلق المعرفي إلى الخوف من المعرفة

باقتصارنا على ما كنا قد قلناه باختصار وجزئيًا، يمكننا مع ذلك أن نؤكد عدم طرح سؤال “حدوث المعنى” نفسه ببساطة سواء في الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة النقدية النظرية والعملية، أكان فيما يتعلق بالأفكار بمعناها الكلاسيكي (أفلاطون، وديكارت) أم فيما يتعلق بالعناصر (الحساسية، الفاهمة، العقل المحض) “للفلسفة الترنسندنتالية للعناصر”، وبوضح أكثر المقولات الكانطية للحكم، كل ذلك يُعَد “مُعطى” منذ الأزل وإلى الأبد، أي مُحدَّد، ومن ثم مُحدِّد -على الأقل من ناحية الحق- في هذا النوع من الفلسفة المتحرك عبر شغف حقيقي بالتحدُّد المسبق.

بصدد “الزنإيرأيجنس” “حدوث المعنى” الذي لن يكون ببساطة كشفًا لمعنى كان بالفعل أزلًا وسيكون أبدًا، لكنه الذي يتضمن غير المنتظر والجدة دون أن يكون بشكل بسيط وخالص محتملًا أو عارضًا.

يُمكننا أن نعثر على موضع لدى أفلاطون في الدوكسا (وهي أكثر أولية من الرأي)، ولدى كانط في المجال الشاسع لنقد ملكة الحكم (استاطيقي وتليولوجي (غائي))، لكن الموضع المناسب للـ “زينإيرأيجنس” “حدوث المعنى” في رأينا يتموقع في الفينومينولوجيا التي فيها سنعاين ثورة ثانية بعد الثورة الكانطية.

الضَمِيْمَةُ الثانية، بصدد الثورة الفينومينولوجية لدى هوسرل (1)

بداءةً سنتناول الثورة الفينومينولوجية من جانبين حاسمين (بين جوانب أخرى): هما الإدراك والماهوي.

إن الغموض الذي كنا قد رصدناه فيما يتعلق بالمفهوم الكانطي للحدس الحسي لم يكن ملحوظًا إلا بعد ظهور المفهوم الهوسرلي للإدراك، لقد انتبه هوسرل بسرعة شديدة إلى كل البطلان الظاهر عند وصف الإدراك بأسلوب كلاسيكي، منذ ما أطلق عليه ديكارت “الصورة المُنطبعة في المُخيلة” مع صعوبة تصور الشيء المُدرك بشكل آخر سوى بواسطة فكرة لا تُرى بغير العقل.

في الواقع إن كان الإدراك الحسي الملموس لشيء ما يتم بتوسط صورة، فإنه لن يكون سوى موضوع -صورة لـ ذات- صورة خيالية، وإذا لم يحضر الحدس العقلي ليحل محل تلك العملية، ففي هذه الحالة سيكون من الصعب وجود شيء يُتيح لنا التفرقة بين الخيالي والواقعي، ذلك حتى في حالة القول بأن الفعل الإدراكي قصدي، أي أنه يقصد المعنى القصدي نفسه للموضوع المُدرَك.

في رأينا تُمثل تلك الإشكاليات أسبابَ قَلبٍ معماري وهو ما لم يكن معروفًا هكذا من قبل، إن الانقلاب الفينومينولوجي لهوسرل، وهو انقلاب عبقري يحل ذلك المُشكل المستعصي -يأتي في الجانب الأول من الأخذ في الاعتبار أن الوجود الجسدي، ما قبل الأنطولوجي (بما تتضمنه الدلالة في الألمانية من خصائص للجسد كالتزمّن والتموضع) هناك[7] للشيء المُدرك في حضوره لا يتعلق بفكرة ما تجعل الشيء المُدرك -عن طريق التفاعل التشاركي- شيئًا يُمثل جزءًا من الموجود، بل جزءًا من معنى قصدي (بذلك “معنى وجود هكذا”، وأيضًا معنى وجود) للموضوع المُدرَك نفسه، الذي فيه لا يكون المعنى القصدي للموضوع المتخيل مختلفًا إلا بسبب كونه مُحوَّرًا بواسطة “يكاد”.

وعلى الجانب الآخر بطريقة متصلة بما ذكرنا فإن انتزاع القوة نفسه يعود إلى طرح هذا المعنى القصدي، معنى الوجود والوجود هكذا للموضوع المقصود بواسطة فعل الإدراك، وليس بالطبع -كما سنرى- إلى نوع من الحدس العقلي للفكرة، ولكن إلى الدوكسا، بل حتى إلى الدوكسا بمعناها الأفلاطوني، إذا عددنا المقطع رقم 38 ب 6 -39 من محاورة فيليبوس بوصفه نصًا يكاد أن يكون فينومينولوجيًا بحق، واضحًا في سؤال خاص بالإدراك، وهو: “ما الذي يُمكن أن يكون هذا الذي يظهر إليَّ (فانتاتسومينون)[8] خلف هذه الصخرة، واقفًا، تحت شجرة؟

وهو السؤال الذي تكون الإجابة عنه مشكوكًا فيها (إنه إنسان أو تمثال قد نحته راعٍ)، وإذا عددناه، كما قلنا، أن الدوكسا تتكون بوصفها بترًا للحوار بين الروح ونفسها.

من هنا وفي حال إقرارنا، أنه لمن الصواب أن نقول -وهو ما يتعارض مع نص السوفسطائي– إن خليط الدوكسا والحساسية لا يمنح بالضرورة مكانًا للمخيلة (الفانتازيا)، بل بالأحرى هنا، إلى الكل الهيلمورفيكي[9] للفعل الإدراكي في مكوناته الهيولية والنويطيقية والنوماطيقية.

نلاحظ أن المعنى القصدي بوصفه كُلًا يتضمن -بوصفه دوكسا- الـ “هذا وجودًا” والـ “ما” والـ “وجود” (حاضرًا بالتضاد مع الماضي، والخيالي إلخ) للموضوع.

في قول آخر، بعد  قرون من أفلاطون، يُعيد هوسرل اكتشاف أن القصدية في معناها الحقيقي (تكويني، وليس بسذاجة علاقة الذات بالموضوع، ولكن المعني ومعنى وجود الموضوع) دوكسية، وأنها -في هذا الصدد- (كما هو الحال عند أفلاطون، ولاحقًا ديكارت) قابلة للشك (هل هو إنسان أم تمثال؟)، بالإضافة إلى ذلك، يكتشف هوسرل في الوقت نفسه أن التذكر والتخيل وما إلى ذلك من أفعال، أي كل الأفعال الخاصة بالوعي هي أفعال لقصدية دوكسية، وأن الوصف الفينومينولوجي الخاص بهم يجب أن يمر عبر تحليل (الوضع بين قوسين الذي يُبرزها) للأنماط المختلفة للدوكسا.

ذلك دون الحاجة إلى فكرة الشيء بالمعنى الكلاسيكي، تلك التي هي -كما نعلم– تنسحب إلى ما لا نهاية والتي يُطلق هوسرل عليها فكرة “بالمعنى الكانطي”، ومن ثمَّ لا تُمثل سوى أفقًا قصديًا للمرئي الدوكسي، قصدي للموضوع، إنها ميتافيزيقا الحدس العقلي التي تُنبَذ إلى ما لا نهاية، وهي أيضًا لا تتسم بتاتًا بالقابلية للوصول.

وهكذا تتحول الفكرة بالمعنى الكلاسيكي التكويني إلى فكرة مُنظِّمة، موازية للانهائي هو نفسه مُنظِّم بفضل قابليته للعد (راجع “لاسلو تانجيلي”)، تلك التي لم تتحقق فينيومينولوجيًا قط أزلًا وأبدًا، إن التعيين الكامل للمُدرَك لم يكن قط إلا افتراضيًا، في معادلة حثيثة للمعنى القصدي بواسطة نفسه، أو ببساطة مُعطَّلة أو مقاطعة بواسطة “خيبة الأمل” الإدراكية.

إذن ثمة ما نطلق عليه الماهوي وحدس الماهوي[10]. من المهم أن نذكر في هذا الموضع صيغتين وردتا في الضَمِيْمَةِ السبعين من المجلد الأول لكتاب الأفكار -نادرًا ما يُؤكَّد عليهما– تُبرزان لنا اتساع الثورة الفينومينولوجية: “(الخيال) هو العنصر الحيوي للفينومينولوجيا كما هو الحال لكل علم ماهوي”، و”إن الخيال هو المصدر الذي منه تَحْصُل معرفة “الحقائق الأبدية” على غذائها”.

تشير هاتان الصيغتان إشارةً واضحةً إلى التنويع الماهوي الذي هو خيالي، وهو ما لا يُمكن أن يحدث – كما نعلم– بكل دقة إلا عبر الرد الفينومينولوجي الترنسندنتالي، أي دون “القبض” الدوكسي على الإدراك أو أي حالة لواقعة تجريبية.

ليست الماهيات أفكارًا، بل هي نُوِىٌّ توافِق متتاليات لا نهائية لمتغيرات خيالية للمعنى القصدي نفسه، ذلك الذي يستمد هُويته من ماهية أو جوهر نواة من هذا النوع.

بالطبع ثمة دائرية منهجيًا، وذلك حتى تكون المتتالية لا نهائية فعلًا، وحتى يكون التنويع ماهويًا حقًا. إن النموذج (النموذج الخيالي) يجب أن يكون أيًا-كان، وهو ما لا يمكننا التأكد منه إلا بحدس الماهية نفسه.

ومهما كان الحال فيما يتعلق بالتنويعات الماهوية الملموسة التي تكون -في حقيقة تحققها المنهجي- بطريقة أو بأخرى دائمًا افتراضية، فإنها مع ذلك مُمكنة قبليًا، لأن حدس الماهية تحديدًا ليس فعلًا خالصًا ومشحونًا للحدس العقلي للماهية أو للفكرة، بل الوعي المُحدَّد نسبيًا (على سبيل المثال، نعرف أن نفرّق بين فعل إدراك وفعل تخييل) الذي يعرف بالفعل بطريقة أو بأخرى بمَ بتمسك (أي توافق) لأنه يعي في الحال المتتالية (السلسلة) اللانهائية من المتغيرات الخيالية (تمامًا كما يستطيع فعله مع المتتالية (السلسلة) اللانهائية للأعداد الطبيعية، دون الحاجة إلى عدهم واحدًا تلو الآخر)، أو لأن لانهائية امتداد الماهية تكون دائمًا حاضرة ضمنيًا في الإمكان، في هذا الفعل الفردي (وليس الخاص) أو ذاك للإدراك أو الخيال في المثال نفسه.

بهذا الشكل لا يوجد إلا شيء كذاتية ترنسندنتالية يمكنه بوصفه مقامًا ترنسندنتاليًا أن يُحكِم كنُوِى لا نهائية، الماهيات وروابطها المشتركة معًا في بنى.

ليست الذاتية الترنسندنتالية شيئًا غير ذلك عند التفكير مليًا. يظل الإشكال قائمًا بالطبع فيما إن كان للذاتية الترنسندنتالية نفسها ماهية، أو أنها تمتلكها بوصفها في ذاتها بين-ذاتية ترنسندنتالية كما يُعقّب هوسرل.

في قول آخر: يبقى السؤال ما إذا كانت (المثالية الترنسندنتالية)، أو الجماعة الترنسندنتالية التي تكونها مع آخرين يمكن تَصوُّرها أو فهمها على غرار المثالي الترنسندنتالي بوصفه غير متغير لكل أشكال الماهية الممكنة، يقابل كل منها ذاتية ترنسندنتالية مفردة، وهو ما يفترض حل الإشكال المستعصي فيما يتعلق بالواقعانية والرد، أي التحقق الكلي والمجهول لهذا الأخير فوق كل شيء، بغض النظر عن الأنا.

إقرأ أيضًا: مذهب الشك في الفكر الفلسفي القديم والحديث (خمسة نماذج)

إنها طريقة للقول إن هذا السؤال قد أغرق هوسرل في معضلات لا نستطيع تناولها هنا، التي حاول التملص منها عن طريق ما يُمكن أن نُطلق عليه “ميتافيزيقا ما-بعد-فينومينولوجية” مُستَلهَمةً من لايبنتس وكانط وشوبنهاور. ومن ثمَّ فإنها طريقة للقول إنه مع هذه الميتافيزيقا لم تصل الفينومينولوجيا إلى استنفاد الذات، وذلك لأن ثمة أُسُسًا ميتافيزيقية -في فكر هوسرل– يجب الكشف عنها بدورها التي يُمكن أن نصفها في كلمة واحدة بـ “العقلانيةالهوسرلية.

حتى وإن كان ثمة في كل مكان –في فينومينولوجيته– من أبسط إدراك حتى أشد الصيغ المنطقية دقةً –”مساحات من اللاتعيُّن” وهي التي تترك المجال مفتوحًا لحدوث متعدد للمعنى، لكن يجب أن نعترف أن هذه محكومة بشغف كلاسيكي بالتعيين وما هو مُتعين، أي الاستقرار أو في صياغة أفضل باليونانية الـ “أوسيا”. تكون قناعتنا في المقابل أنه إذا كان على الفينومينولوجيا أن تستمر فإنها لا يُمكن أن تصل إلى ذلك إلا في حال استطاعت “العمل” مع اللامُتعينات، لا في طواف فوضوي، بل تلك المترابطة بعضها البعض، بالطبع وفقًا إلى ماهوي أو أكثر، ولكن بواسطة وضعها الديناميكي المتبادل إذ تُفسح المجال لحركتها نفسها.

وهذا يتم بواسطة تكوينات قابلة للتعقب عن طريق عمارة فينومينولوجية بخاصة لبُنى تشوُّه وتبدُّل الظواهر من بعضها إلى بعض، ولبعضها بواسطة البعض الآخر.

الضَمِيْمَةُ الثالثة، انفتاحات على حدوث المعنى

علينا أن نُعيد تعريف فينومين الفينومينولوجيا (التي كما هو الحال عند كانط، لا تقتصر على الظهور)، وتعريف ذلك الذي أطلق عليه هوسرل الفينومينولوجيا التوليدية.

تُحيل الظاهرة في الفينومينولوجيا الإستاتيكية عند هوسرل إلى المعيش بوصفه كُلًا قصديًا يتضمن الهيولى والنويمي والنويماطيقي بوصفها عناصر، تلك التي تكون قابلة للتمييز بواسطة تجريد تحليلي. ومن هنا لا تكشف الظاهرة عن نفسها إلا بواسطة الرد الفينومينولوجي مارًا بتفاصيل الظهورات وكذلك بعمليات إمساك ذلك الذي في كل مرة يبدو كائنًا أو يكاد أن يكون بواسطة الدوكسا أو “تكاد أن تكون دوكسا” يفتح المجال لتحليل ملموس لبُنى المعيش وعناصر تلك البنى التكوينية.

هكذا يكون الاكتشاف الهوسرلي مزدوجًا: فمن جهة هناك بالفعل عائلات معيشات (ماهوية)، أي أن هناك أيضًا علاقات وتشابكات بينها، ومن جهة أخرى ليس ثمة من معيش لا يكون “ممتدًا” في الزمن.

ينتجُ عن ذلك أنه إذا كانت العائلات الماهوية للمعيشات تتوافق مع علاقات بنيوية لظواهر معينة، وهذه تكون دائمًا وبطريقة غير قابلة للرد ممتدة في الزمن، فإن سؤال تكوُّنها أو تكوينها بالمعنى الفاعل يطرح نفسه ها هنا: يجب أن تكون العناصر المكوِّنة لهذه الظاهرة أو تلك موضوعة حتى تكون هذه الظاهرة أو تلك قائمة تكوينيًا، بدءًا من الأبسط في بنيتها إلى الأعقد.

ومن الطبيعي تمامًا أن هوسرل قد تصور هذه العملية بوصفها تتم في أثناء تكوين زمانية فينومينولوجية أصلية، وهي لا تُفهَم بوصفها تسلسلًا من الأحداث الاصطناعية التي تتماثل مع هذا الانبثاق الظاهر أو ذلك لعائلة من الفينومينات أو الظواهر، بل بوصفها تعقيدًا عبر تحويرات مُركَّبة للظاهرة الأصلية نفسها للزمانية دامجةً دمجًا تدريجيًا مزيدًا من العناصر، ومتماثلة في كل مرة مع هذه العائلة أو تلك من الظواهر أو الفينومينات.

ومن الطبيعي كذلك أن هوسرل وهو يتعمق في تفاصيل الانخراطات القصدية لهذه البنية أو تلك للظاهرة في سياق التحليل الإستاتيكي، قد أضطُرَ على كشف هذه الانخراطات (الواقعية والممكنة في العموم) لبنى أخرى للظواهر في هذه الظاهرة عينها، ومن ثمَّ انتقل إلى التحليل التوليدي لتتابعاتها.

ومع ذلك إذا كانت المصفوفة لهذه الأخيرة لدى هوسرل قد كانت دائمًا هي الزمانية الأصلية، أصل التأسيس في التأسيس الأولي في الحاضر[11]، وتكوين الهابيتوس وترسبات المعنى في الاحتفاظات، فإن الأمور لا تبدو لنا بمثل هذه البساطة.

يجب علينا -كي ندرك ذلك– أن نفحص عن قرب بنية التأسيس بوصفها تأسيسًا (في ذاتها)، من منظور فينومينولوجي إن أول شيء مهم هو أن عائلات الظواهر منظورًا إليها من خلال تعقّد بنيتها فقط، لا تتطابق تمامًا مع العائلات الماهوية.

تُمثل الأولى بذلك ما نُطلق عليه الأنماط الحفرية المعمارية التي تدمجُ (على سبيل المثال) إدراكات وخيالات ( في حالة الأشياء “المادية”، حتى وإن لم تكن الدوكسا الموضعية للإدراك مطابقة تمامًا للدوكسا شبه الموضعية للخيال) الممكنة إلى ما لا نهاية وفقًا إلى تعقّد بنية القصدية نفسها، وتملأ النمط الحفري نفسه. إنه هنا في هذا المثال (يتضح لنا) المعنى القصدي بعامة للموضوع مُتصوَّرًا حدسيًا.

إن نمطًا حفريًا كهذا يُمكنه أن يُمثل أساسًا فينومينولوجيًا لتأسيس (فعل تأسيس) هو نفسه أساسًا، في الحدس المقولي -على سبيل المثال– الذي فيه يبدو من البداءة هذا التمثيل للأشياء أو ذلك مُهيكلًا بنيويًا بواسطة علاقة محددة. وهذا يعني أن العلاقة المعنية تبدو مؤسَّسة على قاعدة فينومينولوجية رغم كونها مُحوَّرة بنيويًا أو منقولة معماريًا إلى نمط حفري مؤسِّس. ذلك إلى الحد الذي يكون فيه بطريق غير قابل للرد ثمة دائرية بين المؤسَّس والمؤسِّس، كما لو أن القاعدة الفينومينولوجية لم تكن قط إلا بوصفها مُهيكلة بنيويًا بالفعل بواسطة كل العلاقات الممكنة في النمط الحفري المؤسَّس، أي دائمًا ما كانت هي نفسها نمطًا حفريًا مؤسِّسًا للنمط الحفري المؤسَّس.

يحمل هذا في طياته نتيجتين حاسمتين تعملان لدى هوسرل دون أن تكونا بخاصة تيمات (في أعماله): الأولى، هي أنه –من نمط حفري إلى آخر– لا يوجد “استدلال” ممكن (أمنطقيًا رياضيًا كان أم ميتافيزيقيًا)، فـ “الأساس” ها هنا رمزي كما نقول.

كما أنه بين القاعدة الفينومينولوجية والنمط الحفري المؤسِّس -أي بين القاعدة الفينومينولوجية والأساس (الشتيفتبيلدونج)– ثمة هوة لا يُمكن عبورها، قفزة عبرها وفيها لا تكون القاعدة الفينومينولوجية منفية، بل ممحوة.

إذا فكرنا في أن منظومة الحدس المقولي هي منظومة معنى، فإننا نلاحظ أنها بلا مقدمات محددة (ولكن ليست بلا قاعدة)، وأنها تجلب إلى الحقل الفينومينولوجي جدّة جذرية فيما يتعلق بقاعدتها، ومن ثمَّ هي حدوث للمعنى.

تكون النتيجة الثانية بناءًا على ذلك وفي حد الهوة الفاصلة بين القاعدة الفينومينولوجية والأساس، تلك لا يمكن أن تكون فعلًا مقصود للوعي، اختيارًا ناتجًا عن مقدمات عقلانية (حتى وإن كان هذا الأساس في حد ذاته لعقلانية ما)، ولكنها بدقة فعل اختراع، واختراع أعمى نسبيًا لا يكشف نفسه إلا في الحد الذي ينفتح فيه ما هو مؤسَّس على أسس أخرى من البنية نفسها، أي على نمط، حفري معماري جديد الذي يُمكنه بدوره أن يُكَوِّنَ أساسًا (قاعدة) فينومينولوجيًا لمؤسسات أخرى.

ومن ثمَّ يُمكن عد المجال الفينومينولوجي بمنزلة تكديس الأنماط، الحفرية المعمارية التي يمكن أن تعمل بطريقة بديلة بوصفها نمطًا حفريًا مؤسَّسًا، قاعدة فينومينولوجية ونمطًا حفريًا مؤسِّسًا لنمط حفري آخر مؤسَّس، مع ذلك -وهو أمر بالغ الأهمية– لا ينتمي تناوب الوظائف هذا إلى أفعال الوعي قابلة التعيين في أي حاضر للزمن الأصلي المُفترَض.

إنه الأساس أو بالأحرى تكديس الأسس هو الذي يُنظم حياة ومعاني الوعي، وذلك على مدار ما لا يُمكن فهمه إلا بوصفه تاريخه الترنسندنتالي:

تكديس لا نَخْبَرُ فيه أي أسبقية أو تعاقبية حدوثية لتكوينات المعنى التي تحوِّل نفسها لحظيًا (في الفجائية الأفلاطونية التي هي غير متزمّنة) إلى أسس معنى، ودون الأساس الأصلي الذي يفترض الفعل التدشيني لحاضر خاص بذات الوعي، لا أحد يعلم متى “بدأ” في التحدث أو “متى” بدأ في الحساب.

الأساس المنظومة الرمزية (في أمثلتنا، تلك الخاصة باللغة أو تلك الخاصة بالحساب) هي بطريقة غير قابلة للرد بلا أصل (بلا قفزة يُمكن إثباتها فينومينولوجيًا في “الآن” الخاص بالوعي، دون قفزة الأصل)، ومن ثمَّ بلا أصل فينومينولوجي قابلًا للتعقب، وبلا بدءٍ تدشيني في الزمن، وذلك على العكس مما اعتقده هوسرل.

هذا –عن طريق عدم الاستمرارية الذي يتخلله– يؤدي بوصفه إحدى عواقبه إلى مساءلة عميقة للتحليلات الهوسرلية للزمانية، إذ إن الأخيرة تفترض دائمًا استمرارية التدفق (الزماني) دون العودة بطريقة أو بأخرى إلى اللحظوية الديكارتية (كون اللحظة بلا ماضٍ وبلا مستقبل).

وهو يُعيد أيضًا وبطريقة متوازيةٍ إلى المساءلة كل تصور يخلط بين “الرضة الأصلية” (هايدجر، وليفيناس) وقطيعة المجال الفينومينولوجي الموجود بمعية الهُوة بين القاعدة الفينومينولوجية والمنظومة.

لا يُمكن أيضًا، لا يمكن بعد الآن -بسبب هذه الهُوة نفسها– إعادة النظر في التصور الهنري (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي “ميشيل هنري”) للحياة بوصفها انفعالية في انفعالية ذاتية خالصة ومستمرة، ولنفترض -كما فعل ميشيل هنري– أن هذه الأخيرة تُكوِّن القاعدة الفينومينولوجية النهائية، فإن هذه القاعدة سوف تظل بكماء ومُلغِزة أبدًا، لأنها دائمًا ما تكون مُحوَّرة أو منسية بواسطة تحولها المعماري إلى نمط حفري مؤسِّس للغة في أفضل الفرضيات.

لا يُمكننا هنا -بسبب ضيق المساحة– إعادة شرح ما نعنيه بمفهوم “النمط الحفري المعماري الأكثر بدئية” للمجال الفينومينولوجي، نكتفي بالقول إن اللغة تُمثل جزءًا، وأن الانفعالية هي بطريقة غير قابلة للرد جزءٌ أساسي منه.

إذًا اللغة وليس اللسان، أي القاعدة الفينومينولوجية للسان وليس نمطه الحفري المؤسِّس، تكون مقسَّمة بالفعل في دلالات و”مؤلفَنة” بواسطة قواعد متتابعاتهما.

إنه في اللغة بوصفها تزمُّنًا في الحضور، بلا حاضر قابل للتعيين، لمعنى يبحث عن نفسه ويتمم نفسه دون أن يتشبع منها (إلا تشبعًا وهميًا) يُحدث تكوِّن المعنى.

هذا المعنى خطابي داخليًا وليس مرتبطًا بأي موضوع ارتباطًا جليًّا، هو ليس قصديًا، ولكنه في الوقت نفسه ليس ذهنيًا كفكرة بالمعنى الأفلاطوني أو الديكارتي.

إن القصدية -والدوكسا التي تكوِّنها- تنتمي إلى المعنى، ولكن في مفهوم آخر، أي -وبدقة أكبر- بالدلالية، بالتدلال الذي ينتمي هو نفسه إلى أساس المعنى.

إن حوار الرُوح مع نفسها الذي تحدث عنه أفلاطون هو في الواقع لدينا -فينومينولوجيًا– ينتمي إلى اللغة، ينتمي إلى التزمُّن في حضور بلا حاضر، وإن توقف هذا الحوار هو توقف للحضور -انقطاعه- على ما يترتب عنه كونه حاضرًا للدوكسا، حاضرًا يذهب فيه بدقة إلى دلالية “ما”: “ما” الإدراك والخيال عندما تعرف ما تدركه وما تتخيله.

هناك يكمن بلا شك الأساس الأكثر أولية، على الرغم من أننا لا يُمكننا الآن إلا أن نتركه موضع تخمين، فإنه سيكون معقدًا بالفعل، تعقُّدَ الانقطاع.

ومع ذلك ليس كل حدوث للمعنى مناظرًا لأساس التدلالات، تلك التي تنتمي إلى اللغة أو تلك التي تنتمي إلى المجال اليومي للإدراك والخيال إلخ.

إن الأساس موازٍ بعامة، من ناحية لهابيتوس مُكتسب بالممارسة اللاواعية لوظيفيته -إن الأمر يتعلق هاهنا بمسارات الوصول إلى الأساس التي بإمكاننا عبورها دون وعي– ومن ناحية أخرى المكثَّفات الرمزية المتراكمة فيها وهي لا تمثل موضوعًا للاستذكار التي تبدو -كجدول الأحكام الكانطي– نابعة من اللامكان.

هذا يعني أنه منذ “جملة-الرابطة-الوظيفية”[12] الهايدجرية حتى تلك النظرية الرياضية ومرورًا بهذه المجموعة أو تلك من قواعد الخلق الفني، أصبح كل ما هو منتمٍ إلى الخبرة البشرية ينتمي إلى الأساس وإلى نظام تراص الأساسات.

إنه دائمًا الأساس الفينومينولوجي (الإنساني) نفسه الذي يُشفر ويُهيكل بطريقة مختلفة في ثقافات متنوعة، دون أن يكون من الممكن الحديث عن تقدم في أي مقاربة للحقيقة، يُمكننا الحديث على أكثر تقدير عن تقدم مادي وتقدم تِقْني، لكننا بدأنا ندرك أن هذا ليس أحادي المعنى، بل يضم مناطق غموض التي قد تكون (أو للأسف! أحيانًأ بشكل حالٍ) كارثية.

في قول آخر وبصورة صريحة، ليس كل أساس قابلًا للتحديد تحديدًا خالصًا وبسيطًا في حدوث المعنى، فالرأسمالية على سبيل المثال تنتمي إلى أساس، لكنها بالتأكيد لا تتزامن مع ظهور معنى، بل إنها مولِّدة بطريقة هائلة للامعنى.

ها نحن إذن قد وصلنا إلى مفترق طرق جديد، لا يمكن فيه التمييز إطلاقًا بين النظر إلى المعنى والنظر إلى اللامعنى، لقد اعتدنا –في إطار منظومة الفلسفة– على النظر إلى الوجه الإيجابي والتنويري للعقل إلى درجة نسيان وجهه الغامض، بل إننا نخشى هذا الجانب وننسب إليه لقب اللاعقلانية.

لكن الأمر مختلف منذ الثورة الفينومينولوجية: إن كان العقل ينطلق من منظومة رمزية فلسفية معينة للغة والواقع، وإن كان هكذا يعود ليُعيد تشفير مصطلحات اللغة ومتتالياتها وتعيينها وكذلك الحال لتلك الخاصة بالواقع نفسه، فإن الفينومينولوجيا يجب أن تبرز لنا -وهذا كل ما نود قوله هنا– إن الذي يجعل الفكر الفلسفي حيًا ليس بالضبط تصنيف تعييناته وأطروحاته وعقائده والدوجما الخاصة به، بل مساحات اللاتعين التي تنفتح –في كل مرة– ضمن كل تعيين، والتي لا تتوقف عن التدفق في الهُوة الكامنة بين القاعدة الفينومينولوجية والنمط الحفري المؤسس المرتبط بشكل دائري بنمط حفري مؤسَّس.

يكمن اللغز البشري في أنه، من جهة أولى أن الإنسان حيوان رمزي ينتمي إلى المنظومة الرمزية التي لم “يخلقها”، بل هي التي صنعته، ولو توقف الأمر هنا لكان الإنسان مثل الحيوان البري الذي ليس لديه وعي بسلوكياته.

هذا يعني -من جهة أخرى- أنه يبقى على مسافة التعيينات أو الشفرات الرمزية، أي أنه يسكن ويُسكَن -جوهريًا– بواسطة مساحات اللاتعيين التي نتحدث عنها، ومن هنا يبدو لنا أخيرًا –عبر الإيبوخيه الفينومينولوجي الذي نصفه بالمكثَّف لأنه يجعل في موضع تعليق كل تعيين رمزي– تتمثل الثورة الفينومينولوجية في استئناف تحليل الأساسات الرمزية انطلاقًا من مساحات اللاتعيين نفسها، وفقًا إلى صياغة هوسرل: أن نفهم ما هو غير بدهي في ذلك الذي هو بدهي.

يتضح حينها أن الوجه الغامض أو المُظلم للعقل هو ذلك الذي يتوافق مع التحقق التام للعقل، أي تماثله “التأتبي” مع “ماكينة” عقلية أو رُوحية، وهنا -مذاك– يُدشن الحكم المطلق للامعنى نفسه، وقد وصفناه بـ “التأتبي”، لأننا عندئذ لن نكون حتى عقولًا داخل صندوق، بل حواسيبَ محضة دون مكان أو زمان ودون تاريخ، عُميٍ وغير واعين.

إن الوجه المُضيءُ من العقل -على العكس- هو نفسه الذي لا يتحقق عبره العقل، إذ يكمن هذا التحقق في مساحات عدم التعيين الخاصة به التي تجعله يتبع خطاه، وهي التي تجعله يؤسس معنى غير مٌشبَع أبدًا مع آفاقه إذ يتبلور إلى الأبد.

إن كانت “لحظة” تأسيس المعنى لا تتموضع بالضبط في الزمن – وهو ما فهمه بالفعل هوسرل بأسلوبه، بطريقة ملحوظة في “أصل الهندسة”، فإنها على النقيض محفوظة في التاريخ الترنسندنتالي لتراكمات الأساسات، وهي بدورها مولِّدة للتاريخ، لأنها مولِّدة للتبلورات الرمزية التي تستمد منها بوصفها مصدرًا لها، ومن ثمَّ لتاريخ لا علاقة له قبليًا بأي ثيوديسيا.

هكذا يمكننا أن نقول: ليس ثمة حدوث للمعنى إلا وكان مولِّدًا للتاريخ، لتاريخ فردي كذلك الأمر لتاريخ جمعي.

وعندنا -وعلى العكس من الرأي السائد– ليس هيجل  مَن أدخل التاريخ في الفلسفة، بل هو هوسرل الذي أدخلها إدخالًا قابلًا للتحليل، وهذا -كما نعرف- لأنه لا يوجد تاريخ موجَّه نحو المجئ الثاني للروح المطلق، بل تواريخ تتواشج وتتقاطع، تاركًا الفينومينولوجيا بوصفها تخصصًا تحليليًا لمجالات دراسة غير محدودة وبالكاد مُستَكشَفة، وهذا ليس فقط إلى ما لا نهاية، بل فيما وراء التفرقة الكلاسيكية بين العقلاني واللاعقلاني إذ لا يُمكن أن يُحكَم قبليًا بالمعني أو باللامعنى، باستثناء ما يتعلق باللامعنى بشكل دقيق، أي تَفسُّخ المنظومة والتبلور الرمزي في الميكانيكية العمياء إذ لا يمكن لشيء أن يتبلور.

هكذا يُمكننا أن نذهب إلى أن أساس تكون بنيته قابلة للإيغال حتى تحققها الذاتي مبتلعةً حدوث المعنى سيكون بالأحرى تفكيك أساس، تفكيكَ مؤسسة بوصفه مؤسسة رمزية، إننا لا نتحدث دون سبب -على سبيل المثال– عن الرأسمالية المتوحشة، إن نوع حدوث المعنى الذي سوف يكون مترابطًا مع ذلك هو البربرية بعامة.

هذا يعني أيضًا -مع وضع كل شيء في الاعتبار– أن الأساس نفسه لا يتطابق مع حدوث المعنى الذي لا يُحققه إلا إذا كان من طريق الهُوة التي تفصل الأساس الفينومينولوجي عن النمط الحفري المؤسِّس ومن طريق الانقطاعات الزمنية التي ينطوي عليها ذلك، كما أن عدم تعيين المبدأ يتسمر في لعب دور فيه، عبر ما أطلقنا عليه في مكان آخر “تجاوزية الثاني للأول بوصف الأول مُنتميًا إلى نظام التجاوزية لدى للثاني”.

إن الاعتقاد بأن الأول ممحوًّا كليًا بواسطة الثاني هو مثل الانخراط في الأيديولوجيا، الاعتقاد –على سبيل المثال– أن الرأسمالية هي النتيجة الطبيعية لرغبة الإنسان في ترفه المعيشة والثراء المادي، أو الاعتقاد أيضًا أن العقل البشري مطابقٌ لهيئة حاسوب عملاق إلخ، ومن ثمَّ ابتلاع ضرورة التبلور الرمزي، إنه بواسطة هذا يقدم ما أسماه هيجل بجدارة “ألاعيب العقل” نفسه إلينا.

يظل أننا لا نعرف ولن نعرف أبدًا بالضبط وعلى وجه اليقين ذلك الذي يؤسس نفسه أو يبعثها -بواسطة الأساس– بوصفه معنىً، وإن كان وضع هذا المعنى المؤسَّس أو ذاك يُمكن إسناده إلى هذا النمط الحفري المعماري أو ذاك، فإن مضمون هذا المعنى يتأثر تأثرًا لا يُمكن اختزاله بالضبابية، بذلك الذي أطلق عليه ميرلوبونتي “الكون مضطربًا” التي هي بالفعل فينومينولوجية، وهذا يعني أنها حية بطريقة خاصة.

أن تكون من معشر الفينومينولوجيين هو أخيرًا أن يكون لديك إحساس بهذا “الكون مضطربًا” أو هذه الضبابية، وأن تكون قادرًا على العمل معها بالقدر الكافي دون نفيها.

في حقبةٍ نكون فيها مُهدَدين من جميع الجوانب بواسطة الميكانيكية العمياء للحتميات، هذا يعني بواسطة البربرية المتجلية في أوجه لا نهائية يبدو أن كل شيء فيها ينطلق بطريقة ما من قدرية لا مفر منها، يجب على المرء بلا شك أكثر من أي وقت مضى أن يبقى ذهنه منفتحًا -بيقظة شديدة– على كل مساحات اللاتعيين التي يظل فيها هواءً يُمكن لحيرتنا أن تتنفسه، فحدوث المعنى ليس ضروريًا وكذلك ليس اعتباطيًا، ليس مُنتجًا للقدرية وليس أيضًا نتيجةً للإرادة.

الحواشي والمراجع: 

[1] وهو ما نجده في عمل نشرته دار جاليمار تحت عنوان „Descartes Oeuvres et lettres“

[2] باليونانية في النص الأصلي

[3] يمكن الرجوع إلى الفصل السادس من محاورة الجمهورية، ومحاورة بارمنيدس، وأيضًا محاورة فيليبوس التي يتناول فيها معنى المشاركة استعاريًا وهارمونيًا

[4] نقلًا عن اليونانية  eikon

[5] باليونانية في الأصل

[6] Phantasia

[7] بالألمانية في الأصل

[8] باليونانية في الأصل

[9] وهو الصفة من الهيلمورفيىة وهو رأي أرسطو في تكون الكائنات من صورة وهيولي

[10] بالألمانية في الأصل

[11] بالألمانية في النص الأصلي

[12][12] لجأنا هنا إلى استعمال ترجمة البروفيسور فتحي المسكيني للمصطلح، انظر الفصل الثالث من الكينونة والزمان، “الوظيفية؛ عالمية العالم”

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete