تكوين
ترتبط المساحات المرنة التي تسعى المؤسسات الدينية نحو امتلاكها؛ بغية العمل على تطوير مضمون خطابها، ومناهج التعليم الخاصة بمعاهدها، بمدى التحديات التي تواجهها، وقدرتها على تطويع تلك المحن، ممّا ينتج سياقات جديدة وآفاق مختلفة نحو التطوير والحداثة، واستبصار مراحل زمنية وحضارية جديدة، كما لا يمكن فصل السياق العام والسلطة الزمنية الذي تحيط بتلك المؤسسات، عن مسارات التطوير والنهضة اللازمين. إذ يتفاعل مشروع الحداثة والطريق نحوه، مع واقع المجتمع ومدى تمثلات الطبقات الاجتماعية واستجابتها لهذا المسار، كما أنّ ذلك يعضد تلاقي مشروع الحداثة مع مخرجات المجتمع من شرائح الطبقة الوسطى في حقب زمنية لاحقة، الأمر الذي بدا في مصر منذ عقود القرن العشرين، وراكم ذلك خلال الثلاثينات وما تلاها، في كافة مؤسسات الدولة الدينية والسياسية.
الكنيسة الأرثوذكسية في مصر
تمثل الكنيسة الأرثوذكسية في مصر واحدة من أقدم الكنائس الرسولية في العالم، وهي كتلة صلبة في جدارية المسيحية، فضلاً عن تميزها وتفردها بالرهبنة بين كنائس العالم، كما أنّها كجزء حيوي متصل ومرتبط بالحالة المجتمعية، وما يعتريها من تطورات وما تواجهه من تحديات، كانت في عمق هذا المصير، خلال التمهيد للحظة الاحتلال البريطاني، وما تلى ذلك من أوضاع الحقبة الاستعمارية، وترتيب أمر المؤسسات النافذة، لا سيما الدينية في سياق الوضع السياسي الجديد، وما ترتب عليه من أوضاع اقتصادية واجتماعية.
ثمّة وضع من الصعب تجاوزه في فهم مسار الكنيسة القبطية، كونها عانت كثيراً من تفشي الأمية في المجتمع المصري، أو الاعتماد على تعلم “الكتاتيب”، ممّا حصر دور رجل الدين المسيحي في التعاليم النسكية والروحية، دون أي تأثير حقيقي في نهر الإكليروس والكهنوت، وفي المقابل كان وجهاء الأقباط ينازعون رجال الدين في إدارة الكنيسة من خلال المجلس الملي.
الكنيسة وسؤال الإصلاح
لم يكن تأسيس حبيب جرجس مدارس الأحد، بصورة مؤسّسية في العام ١٩١٨، خارج التاريخ أو بعيداً عن ملابسات، حيث تحركت في سياق ذات الهدف، الذي يستجيب للتطور الاقتصادي والاجتماعي في مشهد الدولة الحديثة، إذ تزامنت وحبرية عصر البابا كيرلس الرابع الذي ارتكز على التعليم بشكل رئيس؛ لإحداث متغير عميق في الكنيسة من خلال المدارس القبطية للبنين والبنات، وكانت الكنيسة في ذلك الأمر تتحرك بوعي كامل لمقاومة التعاليم الوافدة “الارساليات التبشيرية”، التي بدت أمام “الاكليروس” (رجال الدين) خطراً يهدد سلامة العقيدة.
وعلى جانب آخر، كان ذلك تماهياً مع تطور الملكية الزراعية في المجتمع المصري، حيث انخرط وجهاء الأقباط، بشكل أو بآخر، نحو دفع الكنيسة لبلوغ عتبة التحول الكبرى، في هذا التوقيت مع مشروع بناء الدولة الحديثة، ممّا دفع بعضهم لتأسيس جمعيات أهلية قبطية، لا سيما جمعية المساعي الخيرية القبطية، من خلال بطرس غالي، الذي سعى نحو ذلك؛ لدعم مسار المجلس الملي في العام 1881.
ما بين سعي الكنيسة القبطية ورجال الدين نحو تعزيز التعاليم الدينية، والتمسك بثوابت العقيدة الأرثوذكسية، وتحرك العلمانيين والأراخنة نحو التسلل لمشاركة الاكليروس السلطة على الشعب القبطي من خلال المجلس الملي، بدت أزمة الكنيسة تتسع في ذهن أتباعها خلال العقود التالية، الأمر الذي أنتج ذهنية مختلفة لفئات التحقت بالتعليم الجامعي خلال عقد الاربعينات، ودخلت سلك الرهبنة في لحظة فارقة من عمر الوطن والكنيسة وكانوا جميعا ابناء مدرسة الاحد وتلاميذ مؤسسها حبيب جرجس[1]. وفي تلك الأثناء عرفت الكنيسة الأب متى المسكين والبابا شنودة الثالث، والأنبا غريغوريوس والأنبا صموئيل، في ظاهرة الرهبان الجدد، التي عرفت باسم الرهبان الجامعيين، والذين ارتأوا جميعا، بتأويلات مختلفة، أنّ مسار خلاص الكنيسة لن يكون سوى عبر الرهبنة والمرور نحو ارتقاء السلم الكهنوتي.
كانت أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مرحلة تاريخية وفكرية لافتة ومؤثرة في مصر بشكل كبير وترتب عليها جملة من الاعتبارات، التي أضحت واقعاً ملموساً فيما بعد على عديد المستويات، إذ كان سقوط الخلافة العثمانية، ووصول البعثات التبشيرية وسؤال الهوية الذي يصارع مسار التغريب والأفكار الوافدة، من المسائل التي دفعت نحو بروز الشخصية الدينية للمصريين، والبحث عن كيفية تعظيم هذا الأمر في مواجهة المد الخارجي، خاصة مع تموضع الاحتلال الإنجليزي في مصر[2].
حركات التبشير ومحاولة تطويق الكنيسة القبطية
بدت حركات التبشير في هيئتها الواضحة في مصر، أواسط القرن التاسع عشر، وبخاصة على عهد الوالي سعيد باشا، حيث دخلت في ركاب رأس المال الغربي، الذي تدفق بعد أن أنهت معاهدة 1840 احتكار الدولة الذي انشأه محمد علي. وتشير أغلب المراجع إلى أنّ أهم إرساليتين تبشيريتين وفدتا إلى مصر، في القرن التاسع عشر، جاءت إحداهما من إنجلترا والثانية من أمريكا. وبدأت سلطات الاحتلال باستخدام عدد من الآليات؛ من أجل اجهاض أي تحرك ضدّها، وكان في المقدمة فصل الأقباط عن المسلمين، والتقى هذا المسعى موضوعياً مع نشاط الإرساليات ومع تدخلات سياسية للدول الغربية الكبرى، وهي الدول التي ألّقت أعلام القومية جانباً في مرحلة الإمبريالية وجاءت إلى المشرق العربي، تحت أعلام دينية، حيث رُفع شعار حماية الكاثوليكية من قبل فرنسا، ورفعت روسيا القيصرية شعار “الجامعة الأرثوذكسية”، وجاءت الولايات المتحدة لتقوم بعمل تبشيري بنشر المذهب الإنجيلي البروتستانتي كما عملت بريطانيا على تنفيذ مخططها لفصل الأقباط عن المسلمين على المستويات التالية:
–المستوى الأول: التعامل مع القبط وفق رؤية عرقية، تصف الشرقي بأنّه بليد ومليء بالشكوك ورافض للإصلاح.
–المستوى الثاني: ويتمثل في عزل الأقباط عن الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني، ويرتبط ذلك بمحاولات تشويه وعي القبط القومي.
–المستوى الثالث: تجسد في نشاط المبشرين نحو العمل على احتواء المؤسسة الدينية للأقباط وتفكيكها، وهي كنيستهم الارثوذكسية مما يؤدي إلى شرذمتهم وتوزيعهم على المذاهب الأخرى، وتولت القيادة في هذا المجال الكنيسة المشيخية المتحدة “البروتستانتية”.[3]
انتشر التعليم الأجنبي في مصر على يد الإرساليات التبشيرية، وعملت الإرساليات الأمريكية على أن تنشئ المدارس الدينية في أنحاء مصر، وقد تركزت في أسيوط بصعيد مصر، والقاهرة والإسكندرية، وأنشأوا أول مدرسة في العام 1855، وفي أسيوط عام 1865، وبلغت مدارس هذه الإرساليات في العام 1897 نحو 168 مدرسة، يدرس بها 11014 تلميذاً.
وتسارع تحول أعداد متزايدة من القبط الأرثوذكس إلى المذهب الإنجيلي، ومن ثم قفز عدد القبط الذين تحولوا إلى المذهب الإنجيلي من 600 عام 1875 إلى 4554 عام 1895، ثمّ إلى نحو 29 ألفاً في عام 1904.
الكنيسة القبطية في مصر
عارضت الكنيسة القبطية هذا النشاط التبشيري، ولم يكن وقوفها ضدّ التبشير محض رفض به، بل تجاوز ذلك إلى أن يضحى عنصراً في حث الكنيسة على تشجيع الاستفادة من العلوم الحديثة، وفتح المدارس التي تأخذ بمناهج التعليم الحديث، فكان العاملان الرئيسيان في تشجيع حركة إنشاء المدارس القبطية الحديثة؛ مقاومة البعثات التبشيرية، ودخول الأقباط للمدارس الأميرية المصرية، الذي كان قليلاً نسبياً حتى الربع الثالث من القرن التاسع عشر.
لا يمكن عزل هذا السياق عن فهم شخصية الكنيسة الأرثوذكسية، كونها كنيسة محافظة، لها طابع هير اركي يرتكز في الأساس على سلطة رجل الدين المطلقة، ولا يقبل أن ينازعه أحد هذه السلطة أو يشاركه فيها، بيد أنّها جزءاً فاعلاً من فضاء عام يتشارك الأحداث ويتفاعل معها، ويبدو عليها آثار الواقع ونتائجه، كما أنّ اتباعها مكون رئيس في المجتمع، يبصر الأحداث ويرقب تطورها وتبدو عليه أعراض الأزمة، متى تجلّت، ويسعى نحو مواجهتها وتأويلها حين تشتد الأعراض.
في ذات الفترة لم يكن من الوارد أن يكون مسار المواجهة سوى مركزياً عبر الإطار الكهنوتي ورأس السلطة الدينية، الذي بدا واضحاً من خلال حبرية البابا كيرلس الرابع، الملقب بأبي الإصلاح، الذي قاد عملاً منظماً بمشاركة وجهاء الأقباط في نشر التعليم بين صفوف الاقباط، وتأسيس المدارس، الأمر الذي عمّق من دور العلمانيين الأقباط في عمل الكنيسة.
تياران داخل الكنيسة
كان ذلك بالتحديد، ومن خلال تفاعل مقومات التغيير وفواعله الرئيسية في كافة أركان الوطن، جسراً نحو قرار الخديوي توفيق باعتماد تشكيل المجلس الملي، في مطلع العام ١٨٧٤، بعدما عرفت مصر مجلس شورى النواب في نفس الفترة الزمنية. ربما تلك النقطة التاريخية تعد عاملاً رئيساً في فهم هذا الأمر، غير أنّها لا تكفي وحدها لاستيعاب الأمر كله، إذ بدا واقع الأمر حينها من خلال صراع الكنيسة في الحفاظ على أبدية قبضة رجل الدين ويده الثقيلة على الجميع، وحتمية أن يخضع الجميع لنفوذه، بينما مثل التيار الآخر “العلمانيون” من خلال المجلس الملي، موجات الحداثة والتغريب، وضرورة مشاركة رجل الدين في إدارة شؤون الكنيسة غير الدينية، سيما فيما يتعلق بالأموال والشؤون الإدارية وغيرها.
لم تكن العلاقات بين المجلس الملي والبطريرك الجديد كيرلس الخامس، والسلطة الزمنية منذ العام ١٨٧٥، (امتدت حبريته حتى العام ١٩٢٧)، تعرف الوجهة الواحدة، خاصّة وأنّ البابا لم ير في المجلس سوى اعتداء مباشر على سلطاته الدينية، كما أنّه لا يري في المجلس سواء من ناحية الفكرة أو مسار العمل، سوى تكريساً لثقافة وافدة بعيدة عن جوهر الكنيسة الأرثوذكسية وثوابتها الدينية. خبرت العلاقة فيما بينهما جميعاً منعطفات حادة، وصلت لقرار السلطة حل المجلس الملي، وتدخل السلطة السياسية في الأمر بطلب من وكيل المجلس الملي بطرس غالي، لعودة عمل المجلس، فضلاً عن قرار لاحق بنفي البطريرك نحو دير البراموس.
في هذا السياق سعى البطريرك كيرلس الخامس، نحو تعزيز جهود سلفه كيرلس الرابع، واهتم بالتعليم الديني، بغية الوصول لرجل دين يستطيع مواجهة المتغيرات بالعلم، وكذا عمل على أن يلتحق به رجال الاكليروس بهدف تعزيز قدراتهم. إلى ذلك بدا ظهور الارشيدياكون حبيب جرجس، المولود في العام ١٨٧٦، إيذاناً بمرحلة جديدة، حيث الذي يعد أحد أبرز الفاعلين في مسار المدرسة الإكليريكية، التي انشأها البابا كيرلس الخامس، والتي تعد أيضاً عتبة الوصول لفكرة حبيب جرجس الأصلية في تأسيس مدارس الأحد خلال العام ١٩١٨. ثمّة نقطة مشتركة فيما بين مدارس الأحد والمجلس الملي من ناحية الشكل، كونهما يعكسان بشكل أو بآخر تأثر أبناء هذا الجيل بالأفكار الوافدة، حيث إنّ مسمى مدارس الأحد لا يرتبط بالأرثوذكسية، ولا مرتكزات كنيسة مار مرقس الرسول ومدرسة الاسكندرية اللاهوتية، بل هو اسم غربي عرف في القرن الثامن عشر، وكذا تشكيل المجلس الملي، اعتبره الاكليروس أكثر من مجرد مزاحمة لدورهم المركزي.
بيد أنّ حبيب جرجس وبدعم مباشر وقوى من البطريرك كيرلس الخامس، دفع هذه الفكرة عميقاً في الواقع المصري، خاصّة في مدن الصعيد، التي كانت تشهد نشاطاً كبيراً لبعثات التبشير وكذا مدن الوجه البحري. إذاً، مع نهاية القرن التاسع عشر تبلورت الأمور نحو اتجاهين؛ الأول: اتجاه الكنيسة الذي كان يتزعمه البطريرك كيرلس الخامس، والاتجاه الثاني الذي يرمي إلى تقليص نفوذ البطريرك لصالح المجالس الملية. في تلك الأثناء اختار حبيب جرجس طريقه بحسم، والتحق بالمدرسة الإكليريكية في العام ١٨٩٣ وتعجب من خلوها من مدرس للدين.
ويدون حبيب جرجس تعجبه من خلو المدرسة الإكليريكية من مدرس للدين قائلا: “وقد يعجب القارئ إذ يرى أنّ المدرسة الإكليريكية التي أنشئت لتدريس الدين، والتثقيف بجميع أنواع الثقافات الدينية لم يكن بها مدرس للدين”. ثمّ يستطرد حبيب جرجس متحدثاً عن كيفية اختياره وهو ما زال طالباً، ليقوم بتدريس الدين في المدرسة الإكليريكية، فيقول: “..ولما كان ترتيبي الأول بين طلبة المدارس، وكان المرحوم يوسف بك منقر يوس يثق بي كل الثقة، طلب من اللجنة الملية تعييني مدرساً للدين بالمدرسة، وأنا طالب بالسنة النهائية، وقررت اللجنة اعتماد هذا التعيين في العام 1898. وتخرج حبيب جرجس وقام بتدريس اللاهوت والوعظ، وكان يضع الكتب الروحية، وقد وثق به البابا كيرلس الخامس فرسمه شماساً، ثم رئيس شمامسة وواعظ الكاتدرائية الكبرى”[4].
ولما أصبح سعد زغلول ناظر المعارف سنه 1907 قرر إدخال تعليم الدين المسيحي بالمدارس االإبتدائية، إذ قال نريد أن يكون الأقباط على علم بمبادئ عقائدهم ومتمسكين بقواعد دينهم. ومع بدايات القرن العشرين وبوادر انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتحرك سعد زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية للسفر للندن، لعرض مطالب الأمة المصرية، اتخذ البطريرك كيرلس الخامس قراراً هاماً في جسد الكنيسة، وهو أن تكون رسامة الكهنة الجدد من خريجي المدرسة الإكليريكية فقط، كما قرر تشكيل لجنة لإدارة شؤون مدارس الأحد، وشغل حبيب جرجس موقع مدير التعليم، وهنا تكتلت مدارس الأحد وحبيب جرجس داخل تيار الكنيسة، في مواجهة تيار المجلس الملي، رغم أنّ المؤسس كان يتطلع نحو ترقية المستوى العلمي والثقافي لرجال الدين[5].
مسارات التناقض وثنائية الرؤية
لم تكن تلك الثنائية: المجلس الملي ومدارس الأحد، هي الأخيرة في مسار الكنيسة الأرثوذكسية وتفاعلها مع التطورات الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسية بالمجتمع المصري، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بل نمت وامتدت في حقب زمنية تالية، وكشفت عن ثنائيات جديدة من داخل كل اتجاه؛ عبر الفواعل المجتمعية وتداعياتها. ومن داخل اتجاه مدارس الأحد ودخول حقبة الرهبان الجدد خلال عقود الأربعينات وما تلاها، بدأ ظهور ثنائية جديدة عبر مدرسة الأب متى المسكين والبابا شنودة الثالث، حيث كان الأول يمتلك منظوراً خاصاً بالمؤسسة الكنسية، يمتد نحو الدور الروحي واللاهوتي، منعزلاً تماماً عن السلطة الزمنية، بينما تمركزت رؤية البابا شنودة الثالث نحو الدور الشامل للكنيسة، بل وتتصل ذات الرؤية حول مساحة الحركة مع الدولة وسلطتها السياسية؛ من خلال قيادة البطريرك لمجتمعه القبطي، وإحكام قبضته عليهم من خلال هيمنة الكنيسة على كافة الأنشطة، وهو ما تحقق خلال حبرية البابا شنودة من خلال عمل مدارس الأحد[6].
لم تتولد تلك الثنائية في غفلة من الزمن بل تلاقت مع اعتبارات السياسة والمجتمع وتفاعلاتهم خلال حقبة الخمسينات، وتداعيات مشهد سقوط الملكية وثورة الثالث والعشرين من تمّوز (يوليو) ١٩٥٢، وتحرك الرهبان الجدد ( الأب متى المسكين ، الأنبا صموئيل ، الأنبا شنودة) لتبوأ المشهد الكنسي على كرسي مار مرقس الرسول، بيد أنّ سلطة يوليو بتفاهمات مع الكنيسة أقصت هؤلاء الشبان، وانحازت لرجل الصلاة البابا كيرلس السادس، وتعمد الأخير مشاركة جيل مدارس الأحد السلطة، وتقلدوا مراتب كهنوتية في السلم الكنسي، ممّا أفضى إلى بروز التناقضات بين المدرستين.
كان نظير جيد “البابا شنودة “، فاعلاً في معترك التفاعلات قبل تمّوز (يوليو) ١٩٥٢، وانضم لحزب الكتلة الوفدية بجانب مكرم عبيد، في مواجهة مصطفى النحاس، ممّا راكم لديه خبرة بواقع السياسة ورهاناتها العديدة، بيد أنّ اللافت أنّ ذلك الجيل أدرك تماما أهمية تأسيس عتبة انتقالية تمهد عبورهم للواقع الجديد، من خلال البابا كيرلس السادس، ممّا جعل مدارس الأحد مشروعا مركزياً للكنيسة.
خلال سنوات عقد الستينات، كان بروز اسم البابا شنودة ينمو ويتسع بين مجتمع الأقباط بصورة لافتة، ويتابعه الآلاف في درسه المنتظم بالكاتدرائية، مع ملاحظة خفوت صوت طبقة وجهاء الأقباط وكبار ملاكهم، على خلفية القرارات الاقتصادية لثورة تمّوز (يوليو)، ممّا شكل ظاهرة أقباط المهجر، وانتقال سلطة الكنيسة ومجتمع الأقباط لرجال الاكليروس، وبالأحرى لتيار الرهبان الجدد.
مرة أخرى يعاود رموز هذا الجيل التنافس على الكرسي البابوي، بعد وفاة البابا كيرلس السادس، عقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، من خلال البابا شنودة الثالث، والأب متى المسكين، وبعيداً عن رواية محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب، وتدخل الدولة في حسم الكرسي البابوي لصالح البابا شنودة الثالث، كان الأخير يمتلك كاريزما واعجاب معظم مكونات المجتمع القبطي. هنا وعبر سنوات حقبة السبعينات، تجلّت التناقضات بين الرؤيتين، وارتفع منسوبها لأقصى درجة، على هامش التطور السياسي والاجتماعي والطائفي، خلال السنة الأخيرة لحكم الرئيس السادات، ممّا دفع الرئيس المؤمن لاستدعاء الأب متى المسكين، عوضاً عن البابا المعزول[7].
وكان متى المسكين يلزم نفسه بمنهج محدد في كتابه “الكنيسة والدولة”، الذي صدرت طبعته الثانية في العام 1977، كشف فيه أنّ المؤسسة الكنسية تختلف عن السلطة السياسية، في كون الأولى تعتمد على الإيمان وعلى الله، وبالتالي مهمتها ليست خدمة المجتمع، ولكن خدمة الإيمان ممّا يجعل المسيحية تنجح في رسالتها .
ومضت تجربة مدارس الأحد من خلال هاتين الرؤيتين والمدرستين، خلال عقود القرن العشرين وما تلاها من عقود القرن الجديد حتى وفاة البابا شنودة الثالث في العام 2012.
وربما ذلك الطابع المحافظ، هو ما عبر عنه وفيق حبيب، في كتابه: “الجماعة القبطية بين الاندماج والانعزال”، حين قال: “ستظل الكنيسة هي مؤسسة المسيحية المصرية، وسيظل الانتماء لها عنواناً لتدين أقباط مصر… فالمؤسسة الكنسية أصبحت مؤسسة أقباط مصر… إنّ أهم ما في هذا الأمر أنّ الأقباط ليس لهم موقع جغرافي، ورغم أنّ انتشارهم يختلف مسبباً من مكان لآخر، إلا أنّ التوحد المؤسسي والتوحد مع المؤسسة، جعل لهم حدوداً وكياناً، وهو ما يؤثر على الامتزاج والاندماج داخل الجماعة الوطنية”[8].
ويمكن القول إنّ الكنيسة القبطية كنيسة محافظة، إن لم تكن في الواقع أشد الكنائس تمسكاً بالتقاليد الكنسية، ولعل هذا يرجع إلى عدد من العوامل التاريخية والمذهبية. ونظام الكنيسة كمؤسسة، يعكس وبشدة هذا الطابع المحافظ. فالتدرج الكهنوتي الذي يبدأ من أسفل، ينتهي إلى أعلى سلطة في الكنيسة، وهي سلطة البطريرك، وهي في النهاية، ومن الناحية الواقعية هي سلطة ذات طبيعة مطلقة، وقد استقر في تقاليد الكنيسة القبطية، أنّه ما إن يتم الاتفاق على تحديد شخصية المرشح لمنصب البطريرك، وما إن ينتهي حفل تنصيب المرشح، يستقر حينها إلى أيدي البطريرك نوع من السلطة الكلية على الكنيسة، وعلى هيئة الإكليروس وعلى الرعية في كل ما يتعلق بالشؤون الروحية، وعلى جميع المؤسسات الملحقة بالكنيسة. وتقوم سلطة البطريرك على ركيزتين: إحداهما؛ روحية وتستند إلى أنّ جلوس البطريرك على كرسي مار مرقص الرسول تمّ بمشيئة إلهية، وركيزة ثانية زمنية، وتشتمل على مكون سياسي يمثل كونه حلقة الاتصال بين الدولة وبين جمهور الأقباط، ثم ما بين الدولة وبين البطريرك[9].
المجلس الملي وجدل العلاقة مع السلطة الكهنوتية
مع نمو الحركة الديمقراطية الوطنية الملحة على وجود دستور ومجلس نيابي، اتجهت البورجوازية القبطية إلى المماثلة في نظام إدارة الكنيسة، وذلك فيما يتعلق بإدارة الشؤون غير الدينية، كالأوقاف والمدارس، وفي إطار ذلك أصدر الباب العالي الأمر في العام 1874 لائحة المجلس الملي، ونص الأمر على أن يتكون من اثني عشر نائباَ، يتم انتخابهم في جمعية عمومية ويرأس اجتماعها البطريرك.
وفي السادس عشر من كانون الثاني (يناير) 1874، تشكل أول مجلس ملي، ونصت لائحة المجلس على أن تكون رئاسة المجلس للبطريرك. وبدأ المجلس في أداء مهامه خلال شهر شباط (فبراير) من ذات العام، بعد أن اعتمد الخديوي إسماعيل تشكيله، وأصدر قراره بذلك، وجاءت المهام الموكلة للمجلس حسب لائحته؛ النظر في كافة المصالح الداخلية للأقباط، وحصر أوقاف الكنيسة والأديرة والمدارس، وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف، وحفظ الأرصدة وإدارة المدارس والمطبعة، ومساعدة الفقراء، وحصر الكنائس وقساوستها، والأديرة ورهبانها، والسجلات الموجودة بهذه الجهات.
توفي الأنبا ديمتريوس الثاني في العام 1870، وظلّ الكرسي البابوي شاغراً حتى رسم الراهب يوحنا الناسخ بطريركاً في أول شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1875، وحمل اسم كيرلس الخامس. وفي تلك الأثناء كانت بعثات التبشير تعمل بنشاط وارتباط بعصر الاستعمار التقليدي، ويشير أندرو واتسون في كتابه: “البعثة الأمريكية في مصر من عام 1854 إلي عام 1896” بقوله: “إنّ الأهداف السياسية من حركات التبشير أكثر أهمية من المسيحية ذاتها، وبينما كانت خطة الأمريكيين هي القضاء على الكنيسة الأرثوذكسية، وضم أبنائها إلى كنيسة بروتستانتية جديدة، كانت خطة الإنجليز الإبقاء على كنيسة مصر مع التغلغل فيها والسيطرة عليها من الداخل”[10].
جاءت لحظة ميلاد المجلس الملي، أثناء سعي الأقباط للمحافظة على تقاليدهم الكنسية، في اختيار البطريرك، وفق تقاليدهم وطقوسهم الكنسية، فضلاً عن كون المجلس في حد ذاته يمثل من وجهة نظر الإكليروس منازعة في سلطاته المطلقة الممتدة من السماء ليده.
وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهر اتجاهان مختلفان، الأول اتجاه الكنيسة الذي كان يتزعمه البطريرك كيرلس الخامس، واتجاه يرمي الى تقليص نفوذ البطريرك لصالح المجلس الملي، وكان بطرس غالي على رأس الاتجاه المناوئ للبطريرك. وكان البطريرك كيرلس الخامس محافظاً وتشكك في دعوات هؤلاء الذين تلقوا تعليماً في انجلترا وفرنسا، وراقهم انتخاب الشعب حكومته عن طريق الهيئات النيابية، ولهذا ركز البابا في منشوراته على أنّ المجلس يهدف إلى طرد الإكليروس عن آخرهم، وأن يسيطر العلمانيون على الكنيسة فحل المجلس.
ظلت العلاقة بين المجلس الملي والسلطة الدينية في الكنيسة ما بين المد والجذر خلال الثلاثينات وما تلاها من عقود، قبل ثورة تمّوز (يوليو)، غير أنّ استقرار الحكم لرجال الثورة، وسيامة البابا كيرلس السادس وتميز العلاقات الثنائية، فيما بينه وبين عبد الناصر، وكذا طبيعة الحكم خلال تلك الحقبة التي عرفت الاختيار المباشر بعيداً عن ثقافة الانتخابات، دفعت السلطة الزمنية لتنفيذ رغبة الكنيسة والبطريرك في حل المجلس الملي تماماً، وانفراد البطريرك بسلطاته المطلقة، دون أي مزاحمة من المدنيين، مع ملاحظة غياب وجهاء الأقباط والأثرياء منهم في تلك المرحلة، عبر الخروج مع القرارات الاشتراكية وتأميم الثروة.
لم يتخذ البابا شنودة الثالث قراره بعودة المجلس الملي مرة جديدة، بعد قرار التجميد في حبرية البابا كيرلس السادس، سوى عبر سيامة أعضاء المجلس الملي شمامسة “درجة كهنوتية”، مما جعل المجلس خلال حقبة البابا شنودة آلية تنفيذية للبطريرك، دون أي منازعة أو شبهة صدام، وعادت بوصلة الجذب والاتجاه من جديد لرجل الدين وسلطته الأبدية.
إلى ذلك، يبدو من مسار الأحداث وتطورها، أنّ ثنائية الاتجاه الأول في مدارس الأحد، أفضت نحو الميل كل الميل للاتجاه المحافظ، الذي يرى أنّ الكنيسة مؤسسة شاملة، تمتد فيما هو أبعد من الروحي وترتبط برعيتها في كل شيء. وفي نفس الوقت عكست الثنائية الثانية مسار السلطة الدينية في ثنائية العلمانيين والإكليروس، ممّا عزز من سلطة رجل الدين مرة أخرى.
المراجع:
[1] سمير مرقس، مدارس الأحد من الحركة إلى المأسسة، المصري اليوم، ع12 أيّار (مايو) ٢٠١٨.
[2] طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الشروق، القاهرة، ٢٠٠٤، ص ٥٥٨.
[3] أبو سيف يوسف، الاقباط والقومية العربية، مكتبة الأسرة، القاهرة، ٢٠٠٢، ص ص 114-115.
[4] إعداد لجنة المئوية، تاريخ مدارس الأحد، الكنيسة الارثوذكسية، ٢٠١٨.
[5] إعداد لجنة مئوية مدارس الأحد، الكتاب التذكاري، تاريخ مدارس الأحد.
[6] كمال زاخر، الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟، مؤسسة بتانة، القاهرة، ٢٠١٩، ص ص ١١٥ ، ١٩٣
[7] هاني لبيب، الكنيسة المصرية توازنات الدين والدولة، دار نهضة مصر، القاهرة، ٢٠١٢، ص ٤٣.
[8] وفيق حبيب: الجماعة القبطية بين الاندماج والانعزال، دار الشروق، القاهرة، 2005، ص 13.
[9] أبو سيف يوسف، مرجع سابق، ص 138.
[10] أندرو واتسون: البعثة الأمريكية في مصر من عام 1854 إلى عام 1896، القاهرة، د.ت. ص41.