تكوين
هل يعتمد بناء الذات على اكتساب مهارات معينة فحسب؟ أم أنه يستوجب فهمًا للذات أولًا، لمقوماتها وإمكاناتها وحدودها؟ أليس الوعي الذاتي أساسًا ضروريًا لبناء الذات؟ هل يمكن تصور ذات على غرار الذات الديكارتية التي تقطع مع التاريخ وتتأسس على الفكر فقط؟ أم أن بناء الذات لا يستقل عن الشروط التاريخية والثقافية والاجتماعية التي نشأت فيها؟ كيف يُمكن للإنسان أن يبني ذاته باستقلال عن أي وصاية خارجية أو تدخل من أحد؟ كلها تساؤلات سوف نحاول مقاربتها في مقالتنا هذه تحت عنوان “بين بناء الذات والوعي الذاتي“.
الشك بوصفه أساسًا لبناء الذات المُفكرة
“أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود“، كانت هذه هي العبارة التي أطلقها ديكارت لتكون شعارًا للحداثة، التي على أساسها كوَّن تصورًا بخصوص الإنسان والعالم. إن التفكير هو العملية التي تسمح للإنسان بتكوين تصور بخصوص نفسه قصد فهمها وتطويرها، وعملية الشك هي المُحفز أو الدافع لهذا البحث عن الذات عبر التفكير قصد إعطاء قيمة للحياة والإعلاء من مكانة الوجود البشري.
في هذا الصدد، قد يعترض أحدهم فيقول إن الشك الديكارتي ما هو سوى نسخة للشك الذي عُرف به الغزالي حينما قال: “إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال”، ويُواصل قائلًا “إن الشك يؤدي إلى اليقين”.
في هذا الإطار لا بًد من تمييز نوعين من الشك: شك يُؤدي إلى الإيمان بالله كما هو حال الغزالي، وشك يؤدي إلى معرفة الذات والإعلاء من مكانة العقل البشري كما هو حال ديكارت، فإذا كان الشك لدى ديكارت أدى إلى معرفة الذات الإنسانية، فإن الشك لدى الغزالي أدى إلى معرفة الذات الإلهية.
إقرأ أيضا: إحتضار الذات الانسانية في واقع العبثية
رغم هذا الاختلاف في الهدف إلا أن البداءة كانت واحدة: فالغزالي اتضحت له أهمية الشك نتيجة المتناقضات الموجودة في عصره بسبب التقليد الأعمى للاعتقادات والقيم الموروثة، فرأى أنه لا بُد من الشك فيها حتى يستقل بفكره ويُكوّن رأيا خاصا به؛ أما ديكارت فقد اتخذ منهج الشك لمساءلة الأفكار التي يأخذها الإنسان بوصفها حقائقَ واضحة ويقينية، التي كانت بداءتها التربية والتقليد عن طريق المعارف والحقائق التي تلقاها الإنسان منذ الطفولة، فحاول أن يُغربل المعارف التي تلقاها منذ الصغر عبر عملية الشك.
إن المُشترك بين الغزالي وديكارت هو أن عملية الشك دفعت كلًّا منهما إلى السعي وراء الاستقلال الذاتي ونشدان الحقيقة دون توسط للحواس، بل عن طريق إعمال العقل والمنطق دون تدخل أو وصاية من أحد.
لذا نرى أن العملية الأولى في طريق بناء الذات هو الشك، ليس الهدام، بل المنهجي، الذي يُساعدنا في إعادة البحث عن الذات المفقودة في خِضَم الموروثات والتقاليد وكل أشكال التربية والتلقين التي تلقيناها والتي أغلبها لا أساس منطقي له.
الوعي بالذات بوصفه بدايةً لفعل المسؤولية
قد يلاحظ بعضهم في الآونة الأخيرة تزايد الطلبات على دورات التكوين الذاتي والبرمجة اللغوية العصبية، مما أدى إلى تزايد العرض كذلك وبأثمنة باهظة، مما يُعطي لمثل هذه التكوينات طابعًا بورجوازيا. على أي، ما يهمنا في هذا الإطار هو التساؤل بشأن ما إذا كان تزايد الطلبات دليلًا على الوعي بالذات أم على شيء آخر؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بُد من ضبط دلالات فكرة الوعي وتجلياتها في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية. إن الوعي ظاهرة إنسانية، إذ إن الإنسان يعرف نفسه عن طريق الوعي، بل كلما كان وعيه بذاته أكبر كلما كانت معرفته بها أعمق. إنه إدراك الإنسان بما يُحيط به من ذوات مختلفة وطبيعة متنوعة، فهو مرتبط ليس بالعقل وحده أي الحساب والمنطق، بل كذلك باللاعقل أو اللاشعور المُتمثل في الرغبات والغرائز والطموحات.
من هذا المنطلق لا يصبح الوعي وعيًا يقظًا إذا حُصر في مجال مُعين وفي حقبة تاريخية معينة، لأن الوعي ظاهرة تاريخية، تتطور بتطور الواقع الإنساني، وإلا فإننا سنقع فيما أسماه ماركس بالوعي الزائف وأطلق عليه هيغل عبارة مكر العقل، ولنا في قصة غاليلي درسًا في تاريخية الوعي والعقل الإنساني، إذ إن التطور العلمي أسهم في اتساع رقعة الوعي الإنساني عن طريق العقل التجريبي، فأثبت غاليلي مثلًا أن دوران الأرض حول الشمس هو الصحيح وليس العكس، واتُهم بعد ذلك بالإلحاد لا لشيء إلا لأنه قد عارض فكرة الكنيسة عن الكون وانتقد النظرة الأحادية والجامدة للعقل التي كانت ترى أن الأرض هي مركز الكون.
على هذا الأساس فالوعي بالذات هو ما يُميز الإنسان عن الحيوان الذي لا يتخطى مستوى الإحساس بالذات، وإذا كان الوعي بالذات ميزة الإنسان فلأنه مرتبط أيما ارتباك بفعل المسؤولية، أي أن الوعي بالذات يجعل الذات أكثر مسؤولية وأكثر التزامًا بالقضايا التي تم استيعابها وفهم مغزاها ومآلاتِها.
مهارات تطوير الذات
من بين تجليات وعي الإنسان بذاته نذكر:
- الوعي بحدود قدراته سواء في مجال العلم أو المعرفة أو المهارات اليدوية والذهنية وغيرها، هذه المحدودية أو بلغة الأخلاق التواضع المعرفي يُساعد الإنسان في البحث عن تطوير ذاته والخروج من نرجسية الذات وكبرياءها قصد التعلم واكتساب المهارات التي ستفيده في حياته الشخصية أو المهنية.
- الوعي بإمكان التغيير، فبعدما يعي الإنسان قصوره الذاتي، لا بُد أن يعي قدرته على التغيير والتطوير، لأن الوعي والعقل كما قلنا آنفًا يتطوران بطبعهما وفق الشروط التاريخية، فهذا الإيمان بأن التغيير ممكن، يفتح للإنسان مجالَ الإبداع والتفاؤل، ويَقيه شر التشاؤم والانطواء والكآبة التي ما هي إلا نتيجة الوقوف عند الوعي الأول بمحدودية الذات دون تجاوزه إلى مرحلة الوعي بإمكان التغيير.
- بعد هذا الوعي بإمكان التغيير، تأتي مرحلة التعلم التي من طريقها تتطور الذات وتزيد من إمكاناتها وتشحذ قدراتها، إلا أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، بل يتخطاه نحو بناء رؤية مستقبلية في محاولة للإجابة عن سؤال: ماذا بعد؟ أي ماذا بعد مرحلة تعليم الذات وتطويرها، وهل الهدف هو أخذ المسؤولية قصد تعليم ونقل المعارف والمهارات التي تعلمناها للآخرين؟ هل هو منفعة الآخر أم السيطرة عليه؟ الاعتراف به أم احتقاره والحط من إنسانيته، لا لشيء إلا لأننا تعلمنا أحسن منه ولدينا شواهد أكثر منه؟ ومن ثم إذا لم يكن هدف الوعي بالذات هو الاعتراف بالآخر، فإن قيمة كل ما تعلمناه سوف يبقى حبيسَ ما يُسمى بالأنوية الطفولية، أي التمركز في الذات التي هي المرحلة الأولى من مراحل تطور إدراك الطفل، مما يُعيق التواصل مع الآخرين، بل وحتى الاعتراف بهم، فالطفل في هذه المرحلة يظن أن العالم كله موجود لخدمة مصالحه وتحقيق رغباته دون أي قيد آو شرط أو اعتراف بوجود الآخرين.
الوعي بالذات طريق الاعتراف بالآخر
إن التواصل بين الأشخاص يقتضي وعي كل ذات بذاتها، ولا يُمكن لهذا الوعي أن يتحقق دون عد الذات المقابلة جزءًا من ذاتي، وإمكانًا من إمكانات وجودي، وأن الحديث عن الحب في هذا الإطار هو حديث عن اعتراف الذات باختلافها عن الذات الأخرى ورغبتها في التعرف إليه والتواصل معه، إذ إن تواصل الذوات فيما بينها رهين باعتراف الذوات بعضها بالآخر.
لتحقيق هذا المُبتغى، لا بُد أن يكون الوعي بالذات وعيًا بالآخر المُختلف، فإذا كان الوعي بالذات وعيًا أحاديًا لا يعترف بقيمة الآخر، فإنه وعي ناقص أو لنقل وعي نرجسي وأحادي البعد، وهذا يؤدي إلى الصراع ليس من أجل البقاء، بل من أجل الاعتراف بالقيمة الإنسانية للآخر الذي شُيِّئَ وبُخِّسَت قيمته.
المثال الذي قد يُعبر عن هذا الوضع التشييئي للآخر بوضوح، هو علاقة الرجل بالمرأة في مجتمعنا، فيرى الرجل نفسه ذاتًا مستقلة وكاملة فجعل المرأة ذاتًا ناقصة وتابعة، ما جعله يُهيمن عليها ويسيطر على وجودها، بل ويُحدد المسار الذي يجب أن تسيره في حياتها، وجعلها موضوعًا وليس ذاتًا، جسدًا وليس فكرًا، أداةً، وليس ذاتًا مستقلة.
فوائد تطوير الذات
فكان من نتائج هذا الوضع الذي يَغيب فيه الاعتراف بالآخر المختلف أن أصبح المجتمع أقل إنتاجية وأقل تنوعًا وإبداعًا، وأدى ذلك بالمرأة التي هُيمن عليها ماديًا إلى إنتاج هيمنة مضادة مُتمثلة في ولوج عالم الشعوذة والسحر واستعمال كل أشكال الحيلة للنيل من الرجل، مما أدى إلى تخلف المجتمع وإهدار قدراته البشرية في أشياء لا تعود بالنفع إليه سواء من الجانب المادي العلمي أو من الجانب المعنوي الرُوحي.
خلاصة القول، إذا كانت المقاومة تَجلي من تجليات الوعي بالذات قصدَ التحرر والانعتاق من قبضة الآخر المستعمِر، فإن الاعتراف بالآخر هو تجاوز مرحلة المقاومة إلى مرحلة أكثر إنسانية وتقدمًا أساسها الكرامة الإنسانية والاعتراف بالاختلاف بكل أشكاله الدينية والسياسية والثقافية، فإذا لم يكن الهدف من وراء التطوير الذاتي وبرامج التنمية الذاتية والدورات التكوينية هو الشك في المعارف الذاتية والاعتراف بالآخر وتحمل المسؤولية والإسهام في توسيع رحبة الوجود الإنساني عن طريق تبادل التجارب المعارف والمهارات مع الآخرين، فالسؤال يبقى مطروحًا: ماذا بعد؟ وما الجدوى من وراء ذلك؟
بين سوفسطائية اليونان وسوفسطائية عصرنا الحالي
لا بُد بداءة من تعريف السوفسطائية: إنها مذهب قديم تعني كما قال بروتاغوراس زعيم هذا المذهب: حُسن تدبير الفرد لحياته الخاصة والعامة، يتعلم منها كيف يرتب داره خير ترتيب، ويصبح بها قديرًا على القول والعمل في مباشرة شؤون منصبه. إذا كان هذا هو الهدف الأول للسوفسطائية، فإنها فيما بعد اتخذت شكل التمويه والبحث عن الثراء عن طريق تعليم طرق الحجاج والإقناع دون أساس عقلي ومنطقي.
إن الدافع وراء الحديث عن سوفسطائية العصر الذي نعيش فيه، هو التقارب بين سوفسطائية اليونان وما يُسمى حاليا بالتنمية الذاتية والدورات التكوينية. وسنحاول أن نُبين أوجه التشابه والاختلاف بين هذين النمطين من التفكير من طريق المسائل التالية:
الظرفية التاريخية، عرف مجال التنمية الذاتية وخاصة ما يُسمى بالبرمجة اللغوية العصبيةNLP انتشارًا واسعًا في القرن الواحد والعشرين، بعدما دخل العالم طور العولمة والديمقراطية والتقدم التكنولوجي والتقني، فازداد التنافس بين الدول والأفراد وانتشرت الأمراض النفسية نتيجة السرعة والتلوث والضوضاء، فظهرت البرمجة اللغوية العصبية، ووجدت البيئة الملائمة لمساعدة الناس لتحسين التعامل مع أنفسهم والتواصل مع غيرهم والتخلص من المخاوف المرضية وتعلم استراتيجيات التواصل مع العالم الخارجي.
تمامًا كما كان عليه الحال مع سفسطائية اليونان، فقد انتقلت هذه الأخيرة من طابع زراعي إقطاعي مرتبط بالقبيلة إلى مجتمع تجاري يهتم بتطوير الصناعات وتنمية الحرف والاعتماد على الكفاءة الفردية والمبادرة الحرة، ومنذ ذلك الحين سادت الديمقراطية معظم مدن اليونان، وتعاظم التنافس بين الأفراد، فازدادت أسباب النزاع أمام المحاكم والمجالس الشعبية، وشاع الجدل القضائي والسياسي، فنشأت الحاجة إلى تعلم الخطابة وأساليب المحاجة واستمالة الجمهور، ووجد فريق من المثقفين المجال واسعًا لاستغلال مواهبهم فأصبحوا معلمي البيان وأساليب الخطابة.
سؤال الأخلاق ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية: الجزء الأول
المُتجارة بالعلم، يعتمد مدربو التنمية الذاتية على إقامة دورات لفائدة من يريد الاستفادة، وذلك مقابل مبالغ كبيرة، فمثلا قرأت عن دورات ستقام في أحد المدن المغربية، فكانت دورة العلاج بخط الزمن لمدة خمس أيام تكلف 5000 درهم للفرد، وندوة في يومين بخصوص NLP تكلف 3000 درهم … مما قد يُصيب المثقف الفقير بالإحباط، ويرى الآخرين قد استفادوا بدرجة لا يُمكنه بلوغها إلا بالمشاركة، والأكثر من هذا، فقد حضرت إحدى المحاضرات التمهيدية المجانية، فبدأ المحاضر في ترويج سلعته ويقول: (إن هذا العلم مهم جدا… سيغير حياتك… وعلى هذا قررنا تخصيص ندوات لمن يريد الاستفادة أكثر)، وهذا قد يُهيج نفسية السامعين في اتجاهين: اتجاه الغني الذي يسعد لأنه سوف يتمكن من تغيير مجرى حياته، واتجاه الفقير الذي يشقى لأن قطار التغيير سوف يفوته. تمامًا كما كان سفسطائيو اليونان يتاجرون بالعلم ويمتدحون سلعتهم، فأبناء الأغنياء وحدهم المستفيدين من هذه العروض.
تمويه الحقائق، ثمة قلة قليلة فقط من مدربي التنمية الذاتية أو NLP من تتوخى نشر الحقائق، وخصوصًا فيما يتعلق بقدرات الإنسان الذهنية وطاقته الرُوحية، أما الأغلبية فتبالغ كثيرًا، فمثلًا في أحد البرامج التي خُصصت للرد على هؤلاء المدربين، قام ناقد بالرد على محاضر ادعى في إحدى محاضراته أنه- فيما يخص القراءة السريعة- يستطيع قراءة30000 كلمة في الدقيقة، في حين يُؤكد الناقد أن الحد الأقصى عالميًا أقل من ذلك، وهو 25000 كلمة في الدقيقة، فقد قام بهذا الإنجاز شخص اسمه “هوارد ستيفن بيرجHoward Stephen Berg “.
تمامًا كما كان عليه سفسطائيو اليونان فقد -على سبيل المثال لا الحصر- عدوا الحقيقة نسبية، فما تراه أنت أبيضًا قد أراه أنا أسودًا، فلك حقيقتك ولي حقيقتي، ولا نختلف على شيء، إلا أن أرسطو قام بنقد السفسطائية في قولها بالنسبية في المعرفة والأخلاق، وقال إن الأشياء ليست كلها محسوسات، وأن الضدين قد يجتمعان بشيء واحد، ولكن بشرط ألا يكون اجتماعهما من جهة واحدة، فالماء إذا كان ساخنًا بالفعل فهو ساخن بالقوة في آن واحد، إلا أن الماء لا يُمكن أن يكون ساخنًا وباردًا بالفعل أي في آن واحد؛ وقد أورد أرسطو ذلك كله في كتاب (تبكيت السفسطائية).
تيار وليس مدرسة، إن البرمجة اللغوية العصبية ومدربو التنمية الذاتية لا ينتمون إلى أي مدرسة فيما يخص علم النفس، لا المدرسة السلوكية ولا التحليلية ولا الجشطلتية ولا البنيوية ولا غيرها، فهم تيار أو حركة ليس إلا، لأن موادهم عبارة عن خليط من مدارس علم النفس وشيء من الفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها، فهم يأخذون من هذا ومن ذاك، حتى إن التخصص في مجالهم أسهل بكثير من التخصص في العلوم المؤطرة بمفاهيم ومصطلحات كعلم النفس، حتى إن البرمجة اللغوية العصبية تأخذ من العلوم الأخرى ما لم يعد صالحا مع تغيير ملامحه وإقحامه في تسميه (علمها)، وأتحدث هنا مثلا عن التنويم المغناطيسي الذي أعلن فرويد عدم جدواه.
تمامًا كما كان الحال عند سفسطائيو اليونان، فهم تيار أو حركة دون تمذهب أو حلقة مغلقة أو قواعد إجبارية كالتي ميزت المدارس الفلسفية آنذاك (الفيتاغورية والأفلاطونية…)، التي تتكون على نمط زوايا أو إخوانيات تُلزم المنتمين إليها برامج تربوية واقتسام معتقدات، لذلك عُدَّ السفسطائيون فلاسفةً دون معتقد ودون حقيقة ودون علم، فمعرفتهم خليطٌ مما سبقها من المدارس الأيونية والأيلية والفيتاغورية وغيرها، فيأخذون من هذا قولة ومن ذاك أخرى ثم يتولون هم مُهمة الربط واستخراج أفكار أخرى، ثم يقحمونها في ما يسمونه (علمهم)، وأتحدث هنا عن أقوال هيرقليطس في التغير والحركة، وأقوال بارميندس وزينون الأيلي في الثبات على سبيل المثال، فقد اعتُمد على هذه النظريات لا لتدريسها، بل لاستغلال ما يبدو مفيدًا ومغريًا بل ومربحًا، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق وبيع الأوهام للمتعلمين.
الاهتمام بالإنسان، اهتمت البرمجة اللغوية العصبية بالرفع من قدرات الإنسان، وتأكيد الطاقة العظيمة التي يختزنها داخله، والبحث عن سبل إخراجها واستثمارها، كما أنها درَّست التفوق الإنساني بوصفه القدرة على بذل قصارى الجهد أكثر فأكثر، لأنه الطريقة الجبارة والعملية التي تؤدي إلى التغيير الشخصي، كما سلمت بالوضع الراهن ودعت إلى البدء بتغيير الأفراد، وقد ظهرت في الوقت الذي بدأ البحث فيه عن طرق التواصل والتغيير والراحة النفسية وغيرها.
تماما كما كان الحال مع سفسطائيو اليونان، فقد أعلوا من النزعة الفردية، ولكنها هذه المرة لم تذهب إلى الحَسَبِ والنَسَبِ، بل ذهبت إلى القدرات العقلية والفكرية، تتخذ منها معيارًا للمنافسة والتفاخر، وعدُّوا الإنسان مقياسًا لكل شيء، وبيده أساليب التغيير، كما أنهم سلموا بالأوضاع الراهنة في المجتمع، وطالبوا بالمحافظة عليها، والإعلاء من قيمة الفرد لأنه أساس التغيير.
إجمالًا، إذا أوردنا هذه المرتكزات التي ترتكز عليها أغلب دورات التغيير الذاتي والتطوير الفردي من تمويهٍ للحقائق ورغبة في الربح وإعلاء من قيمة الفرد على حساب الآخر، وغيرها كثير. فالهدف من وراء هذا كله هو تأكيد أن عملية بناء الذات لا تستقيم بالمشاركة في دورات تكوينية أو الحصول على شواهد تقديرية في مجالات التفكير والتواصل والبرمجة اللغوية العصبية فحسب.
إن بناء الذات رهين بالوعي بالذات المُؤسس أولًا، على الشك المنهجي في كل ما يُحيط بالإنسان ومنها ما يتلقاهُ من مثل هذه الدورات، وليس الأخذ بها دون مراجعتها والوقوف على مدى صحتها، ثانيًا، الاعتراف بالآخر في اختلافه، دون رغبة في تغييره أو تشييئه عن طريق ممارسة العنف سواء المادي أو الرمزي المُتمثل في الإقصاء والتهميش والاحتقار، بل إن هذا الاعتراف أساسه ما يُمكن أن نسميه “التواضع الوجودي” القائم على عد الذات إمكانًا ليس إلا من إمكانات الوجود البشري وأن الآخر هو كذلك إمكان من إمكانات هذا الوجود، وأن الحقيقة كامنة في نقطة الاعتراف والتواصل بين الذات والآخر.
في الختام، أتمنى أن أكون قد لامست قدر الإمكان في هذه المقالة الجوانب المُهمة في الموضوع، وبيّنت كيف أن بناء الذات لا يستقيم دون الوعي بالذات، هذا الوعي الذي يتأسس على نسبية الحقائق، الشك المنهجي، الاعتراف بالآخر، تحمل المسؤولية اتجاه الحياة.
إن الهدف الأسمى للوعي بالذات هو الخروج من هذه الحياة أقل غباءً مما ولجناها به وتركها أكثر بهاء مما وجدناها عليه، ولا يستقيم كل هذا في نظرنا إلا عن طريق التفلسف الذي يسمح لكل واحد منا بالتفكير بذاته وفي ذاته دون أي وصاية من أحد ودون أن ننخدع بمن يريدون أن يفكروا مكاننا ويسلبوا منا أغلى ما عندنا ألا وهو نعمة العقل التي بها نميز بين الأشياء التي تعد وفق قول ديكارت أعدل قسمة بين الناس.
بهذا المعنى، نكون جميعًا على قدم المساواة، والأعلى مرتبة فينا ليس من يمتلك أكثر، بل من يستخدم عقله بطريقة أعمق وأحسن، دون أن يترك غيره يستخدم عقله مكانه، فقيمة الإنسان كامنة في قدرته على استخدام عقله بحرية، فلتكن إذن لدينا الشجاعة في استخدام عقولنا قصد تحرير ذواتنا.