تكوين
تعرضنا في المقال السابق للظروف التاريخية التي واكبت ظهور مذهب أهل السنة والجماعة على مسرح الأحداث السياسية في الدولة الإسلامية، وتناولنا بعض المُحددات المهمة في تكوين التيار السني العام وتشكيله وهي “شرعنة حكم المُتغلب“، و”الميل إلى الجبرية” على الترتيب، نواصل في هذا المقال تسليط الضوء على محددات المذهب السني من طريق مناقشة فكرتي “النظرة المُعظِّمة للصحابة” و”تقديم السنة ومضاهاتها للقرآن”.
النظرة المُعظِّمة للصحابة
من المعروف أن هناك خلافًا واسعًا بين الأصوليين والمُحدِّثين في تعريفهم لمصطلح “الصحابي“، يتوسع المُحدِّثون في إطلاق صفة الصحبة على جميع من قابل النبي أو تحدث معه، فالصحابي في مذهبهم هو “كل من رأى الرسول أو سمع منه“. بينما في الجانب الأخر نجد أن الأصوليين قد وضعوا بعض الشروط اللازمة حتى يصح إطلاق صفة الصحبة على شخص ما، من تلك الشروط طول المجالسة مع النبي وكثرة النقل عنه، فضلًا عن المشاركة في بعض الغزوات.
كما وُضِّحَ في الحلقات السابقة تختلف الصورة المُتخيلة للصحابة عن الصورة التاريخية التي يمكن أن نرسم ملامحها من طريق الروايات الواردة في عموم المصادر الإسلامية. تعرض النبي للأذى من بعض الصحابة، ونزلت بعض الآيات القرآنية في لومهم وعتابهم[1]، كما أن بعض الصحابة أظهر غضبه واعتراضه على قرارات النبي في بعض المواقف[2]، بل وصل الأمر إلى قيام بعضهم بالترتيب لاغتيال النبي في أثناء مروره في منطقة العقبة عقب رجوعه من غزوة تبوك في العام التاسع من الهجرة[3].
عموما تسببت أحداث الحرب الأهلية التي بدأت عقب وفاة عثمان بن عفان عام 35هـ في إثارة عديد من الأسئلة الخاصة بمقام الصحابة ومكانتهم في المجتمع الإسلامي، كان جل أقطاب النزاع في تلك الحرب من طبقة الصحابة، وكثيرًا ما حَتَّمت الظروف أن يخوض بعضهم الحرب ضد البعض الآخر، كما حدث في موقعة الجمل/البصرة عام 36هـ عندما قاتل علي بن أبي طالب الخارجين عليه بقيادة كلًا من الزبير بن العوام وطلحة بن عُبيد الله والسيدة عائشة بنت أبي بكر. وحرب صفين عام 37هـ والتي شهدت اندلاع القتال بين المعسكر العراقي بقيادة الخليفة الرابع من جهة، والمعسكر الشامي بقيادة معاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص من جهة أخرى. وحرب النهروان عام 38هـ والتي قُتل فيها كثير من الصحابة الذين اختاروا الانضمام للمُحَكِّمَة الذين أعلنوا خروجهم على خلافة علي بن أبي طالب.
بطبيعة الحال تسببت تلك الأحداث في ظهور سؤال مهم بشأن “…سلف الأمة والخروج على عثمان، وفترة علي وحروبه مع طلحة والزبير ثم معاوية، وصراع القوى المعارضة مع الخلافة، الأمر الذي أفسح المجال أمام مناقشة مسألة الإيمان والكفر…”[4]. في هذا الوقت اختلفت مواقف التيارات السياسية المتواجدة في الساحة، اختار معسكر المعارضة –الشيعة والخوارج– الإعلان عن ولايتهم لبعض الصحابة وتبرؤهم من البعض الآخر في حين وقف التيار السني على مسافة متساوية مع عموم الصحابة، مدفوعين في هذا الموقف برغبة السلطة في إضفاء صفة الشرعية على خلافة الراشدين والحكم الأموي.
في البداءة ظهرت فكرة الإرجاء داخل المعسكر السني للتهرب من الإجابة على السؤال الخاص بكفر أو إيمان المتقاتلين في أحداث الفتنة، في هذا السياق فصل المرجئة بين الإيمان والعمل وقالوا إن: “الإيمان لا تُزيله المعاصي“، كما رفضوا تقييم السلطة الأموية “وقالوا إن: الله هو الذي سيقرر من المخطئ، ومن المصيب“، ولكن لم يتمكن الاتجاه الإرجائي من فرض نفسه داخل المعسكر السني، فلم يكن بوسع الإجابات البسيطة التي قدمها المُرجئة في الرد على الاستفسارات المطروحة، أن تبقى صامدة أمام الأسئلة المُركبة التي طرحتها باقي التيارات السياسية والفكرية.
مع ظهور البوادر المبكرة لتكون التيار السني بدأت فكرة تبجيل عموم الصحابة في فرض نفسها في الفضاء السني تدريجيًا، ساعدت السلطة الأموية على نشر تلك الفكرة لما فيها من صرف للعامة عن الحديث والتفكير في العمل السياسي، وحاول المعسكر الأموي أن يُضخم من مكانة أبي سفيان بن حرب ومعاوية من طريق تأكيد كونهم من الصحابة، في السياق ذاته رُوِّج لبعض الفضائل التي نُسبت إلى معاوية على وجه الخصوص ومنها تدوينه للوحي وكونه خالًا للمؤمنين، واستهدفت تلك المحاولات رفع المقام الديني لمؤسسي الدولة الأموية ليوازي المكانة السامية لأعدائهم من الهاشميين.
تكرر الأمر مع وصول العباسيين إلى الحكم، لتترسخ فكرة المساواة بين الصحابة ترسخًا أكثر عمقًا، وساعد في ذلك سعي العباسيين في المساواة بين جميع الصحابة بصرف النظر عن أقدمية إسلامهم، وعن الأدوار التي لعبوها في نشر الإسلام وتثبيت حكم دولة المدينة الناشئة. وكان السبب الأهم في ذلك أن العباسيين حاولوا -في أثناء صراعهم مع المعسكر العلوي– أن يقللوا من مكانة علي بن أبي طالب -الأب الروحي للعلويين- وأن يرفعوا في المقابل من شأن العباس بن عبد المطلب الذي أسلم في وقت متأخر نسبيًا.
بالتزامن مع السعي السياسي في تأكيد مفهوم أفضلية الصحابة، وضع علماء التيار السني مبدأ “عدالة الصحابة“، وهو المبدأ الذي تحول مع الوقت إلى أصل من أصول المذهب السني، استشهد علماء السنة على صحة هذا المبدأ بعديد من النصوص القرآنية والحديثية، ومن ذلك ما ورد في سورة الفتح ” لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا”[5]، وأيضًا ما ذكره مسلم بن الحجاج في صحيحه، من قول الرسول: “لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا، ما أدرك أحدهم ولا نصيفه”، وما اتفق عليه البخاري ومسلم من قول النبي: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ“، بناءً على قاعدة القرون الخيرية فرَّق علماء السنة بين طبقة الصحابة وما بعدها من الطبقات، فصار للصحابة منزلة سامية خاصة بهم، لا يقترب منها التابعين أو تابعي التابعين حتى لو كانوا ممن اُشتهر بالفضل والصلاح والتقوى، وفي هذا المعنى نقل الآجري في كتابه “الشريعة” أن عبد الله بن المبارك -وهو من علماء القرن الثاني الهجري- قال لمَّا سُئل عن درجة أفضلية عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان: “تراب دخل في أنف معاوية في بعض مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بن عبد العزيز“.
بناءً على النصوص السابقة اتفق جمهور علماء أهل السنة على أن “الجميع -أي الصحابة- عدول…” وذلك وفق ما يذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه “الإصابة في تمييز الصحابة“، ويعلل ابن عبد البر في كتابه “الاستيعاب في معرفة الأصحاب“، سبب تقديم أهل السنة للصحابة على جميع من لحق بهم من المسلمين، بقوله “هم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل وثناء رسول الله، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منها”.
تأسيسًا على ما سبق مالت الأغلبية الغالبة من أهل السنة والجماعة للابتعاد عن تفاصيل المخاصمات والمنازعات التي دارت بين الصحابة في زمن الحرب الأهلية، ووصفت تلك الحرب بـ “الفتنة” التي قاتل فيها الصالحون إخوانهم، في هذا السياق انتشر رد الخليفة الأموي عمر بن العزيز لمَّا سُئل عن موقفه مما دار بين الصحابة زمن الحرب الأهلية “تلك دماء طَهَّر الله منها أسنتنا أفلا نُطَهِّر منها ألسنتنا“، وانتشر هذا القول في الوسط السني إلى حد كبير، حتى اقترب أن يكون منهجًا معياريًا للتعامل مع تلك الفترة التاريخية الحرجة.
ملاحظات على مسألة عدالة الصحابة
في الحقيقة أثرت مسألة عدالة الصحابة تأثيرًا عميقًا في الوجدان السني الجمعي، حتى صارت “من المسلمات التي يرفض الضمير الإسلامي مراجعة النظر فيها نظرًا إلى القداسة التي أسبغت عليهم مع الزمن من جراء انتصار مذهب أهل السنة...”[6].
من جهة لعب مفهوم عدالة الصحابة دورًا محوريًا في المنظومة الحديثية عند أهل السنة والجماعة، فقد أسهم في تصحيح الاعتماد على أقوال الصحابي وروايته للحديث النبوي، بمجرد التأكد من كونه صحابيًا للرسول دون تدقيق في ضبطه أو أمانته، كما هو متعارف عليه عند أهل الجَرْحِ والتعديلِ، وبالإضافة إلى ذلك فقد صارت مذاهب وأفعال الصحابة من الحجج القوية التي اعتمدت عليها المذاهب الفقهية السنية.
من جهة أخرى إذا كان أهل السنة قد أبدوا احترامهم المطلق لصحابة الرسول، وحرصوا على الثناء عليهم والإشادة بهم في كل موقف، فأنهم -أي أهل السنة- قد رتبوا أفضليتهم، حتى تتوافق مع الواقع التاريخي السياسي الذي مرَّ به المسلمون في عهد دولة الخلافة الراشدة، ومن هنا فقد وضعوا أبا بكر الصديق في المقدمة ومن بعده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم جعلوا الخليفة الثالث عثمان بن عفان في المرتبة الثالثة، أما علي بن أبي طالب فقد منحوه الدرجة الرابعة في ترتيب درجات الأفضلية والمكانة. من أهم الكتابات التي تعبر عن الرأي السني في مسألة ترتيب أفضلية الصحابة، الرد المنسوب إلى أنس بن مالك عندما سُئل عن تعريف أهل السنة والجماعة، فقال: “أن تحب الشيخين -يقصد بهما أبو بكر وعمر بن الخطاب- ولا تطعن في الختنين -ويقصد بهما عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب- وتمسح على الخفين“[7]، وما أعلنه الخليفة العباسي القادر بالله عام 408هـ في وثيقته المعروفة باسم المعتقد القادري، والتي جاء فيها أن “خيرهم -يقصد الصحابة- كلهم وأفضلهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم...”، وكذلك ما ذكره ابن الصلاح من قوله “أفضلهم على الإطلاق أبو بكر ثم عمر، ثم أن جمهور السلف على تقديم عثمان على عليٍّ، وقَدَّم أهل الكوفة من أهل السنة عليًّا على عثمان، وبه قال: منهم سفيان الثوري أولًا ثم رجع إلى تقديم عثمان… وتقديم عثمان هو الذي استقرت عليه مذاهب أهل الحديث وأهل السنة“[8].
تقديم السنة ومضاهاتها بالقرآن
يُعدُّ تقديم السنة النبوية ومضاهاتها بالقرآن الكريم أحد المحددات المهمة المميزة للمذهب السني. عموما استند الفقهاء والمحدّثون إلى بعض الآيات القرآنية التي فهموا منها ضرورة الاقتداء بالسنن النبوية[9]، في السياق نفسه اشتهر الحديث النبوي الذي نُقل عن النبي في الفترة الأخيرة من حياته، والذي جاء فيه “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي“[10].
على عكس الشائع، لم يكن قبول السنة النبوية بوصفها مصدرًا تشريعيًا مضاهيًا للقرآن الكريم شائعًا في السنين الأولى التي لحقت وفاة النبي، في هذا السياق كان التشكيك في حُجية السنة النبوية أمرًا معروفًا في القرن الأول الهجري[11]، وأتاح ذلك الفرصة إلى ظهور الاجتهادات الشخصية وتيار “الرأي” بين بعض الفقهاء الأوائل.
وفق عديد من الباحثين فقد تغيرت النظرة إلى السنة النبوية تغيرًا كبيرًا في القرن الثاني الهجري، في تلك الفترة ظهرت حركة المُحدِّثين، وقد تصدى أصحابها لممثلي المدارس الفقهية “وكان مبدؤهم الأساسي الذي ينصرونه أنه لا يكفي أن يرجع العمل التشريعي عامة إلى سنة النبي، بل يجب أن يرجع كل حكم يصدره العلماء إلى حديث نبوي يُنقل عنه حرفيًا، وهكذا قرروا أن الحديث النبوي من قول أو فعل يُقدم على العمل الجاري حتى لو أدعى أصحابه انتمائه إلى سنة النبي، كما كانوا ينبذون استعمال الرأي ويعولون على الحديث فحسب”[12].
وقع ذلك التغيير -بالأساس- من طريق الأفكار التي طرحها الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى 204هـ، دعا الشافعي إلى عدِّ السنة وحيًا من نمط مغاير لوحي الكتاب/القرآن، فوحي السنة هو نوع من أنواع “الإلقاء في الرَوْع“، ويختلف عن الوحي القرآني الإملائي النصي، فإذا كان جبريل في أثناء الوحي القرآني “يُلقي اللفظ والمعنى وترتيب النص إلى الرسول، فإنه في حالة السنة “يُلهم الرسول المعنى الذي يصوغه بلفظه إثر ذلك“[13]، يُعلق المُفكر المصري نصر حامد أبو زيد على تلك النقطة في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية“، فيقول إن: مجهودات الشافعي في تأكيد السنة بوصفها وحيًّا منحها -أي السنة- “شمولية بعد أن وسع مجالها فحول النص الثانوي الشارح إلى الأصلي، وأضفى عليه درجة المشروعية نفسه…”، ومن طريق هذا التصور نُظر إلى السنة في الفكر السني الأرثوذكسي بوصفها “المعيار” المُتبع، ونشأ عن ذلك مفهومٌ مقابل وهو “البدعة“، وتشير إلى كل ما أحدثه الناس من بعد النبي “من غير إمام أو مثال“.
مع مرور الوقت لاقت أفكار الشافعي فيما يخص تبجيل السنة شيوعًا وذيوعًا في الأوساط السنية خصوصًا، لا سيما أن التيار السني لم يعتمد على “الإمام” بوصفه مصدرًا للاحتجاج ومعرفة أوامر الدين ونواهيه، كما حدث مع التيار الشيعي، ومن ثم فقد مَلئت الأحاديث والروايات المنسوبة إلى النبي المساحة الفارغة في وجدان مذهب أهل السنة والجماعة، ولم تجد السلطات الحاكمة بأسًا في ذلك، لأن الاهتمام العلمي بالسنة وبآثار النبي كان -في أغلب الوقت- موجهًا ناحية الأمور الحياتية والمعاملات المعيشية الاعتيادية، ولم يركز في التوجهات السياسية التي مارسها الحكام والسلاطين إلا فيما ندر.
من التدوين إلى الصحاح
في سياق الاهتمام المتزايد بالسنة النبوية ظهرت الحاجة إلى جمع الآثار والأقوال الواردة عن النبي في مصنفات مكتوبة[14]، مرت عملية التدوين عند أهل السنة والجماعة بعديد من المراحل المهمة، ولعل أول تلك المراحل قد تم تحت نظر الدولة الأموية عندما أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث، وعهد بتلك المهمة لابن شهاب الزهري المتوفى 124هـ في منتصف القرن الثاني الهجري بدأت المرحلة الثانية وهي “التبويب“، ويُقصد به توزيع الأحاديث إلى أبواب الفقه والتفسير والمغازي والتاريخ وباقي العلوم، وبدأت تلك المرحلة فعليًّا على يد مُحدِّث المدينة مالك بن أنس الأصبحي المتوفى 179هـ وأقرانه من المُحدثين من أمثال ابن جريج وسفيان الثوري والأوزاعي، أما المرحلة الثالثة فبدأت في القرن الثالث الهجري وصُنفت فيها “المسانيد“، وكان الهدف منها أن تُجمع الأحاديث المروية عن كل صحابي، ومن أهم نماذج تلك المرحلة مسانيد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه والدارمي وابن أبي شيبة. في أواسط القرن الثالث الهجري مال مجموعة من المُحدِّثين إلى تصنيف “الصحاح” وتم في تلك المرحلة انتقاء الأحاديث الصحيحة فقط من بين مئات الآلاف من الأحاديث المنسوبة إلى النبي، بعد عرضها على مجموعة من المعايير والشروط الدقيقة، وأهم الكتب التي تنتمي إلى ذلك النوع صحيحي البخاري ومسلم.
ملاحظات على عملية جمع وتدوين الحديث في المذهب السني
من الملاحظات المهمة التي يجب الالتفات إليها فيما يخص مسألة جمع وتدوين الحديث في المذهب السني، أن المُحدِّثين وجدوا أنفسهم أمام الآلاف من الروايات المنسوبة إلى النبي، بطبيعة الحال لم تصدر جميع تلك الروايات عن النبي، بل زُوِّرَت كثيرٌ منها ونُسبت إلى النبي بهدف الوصول إلى بعض المنافع الاقتصادية والسياسية، بل زُوِّرَت بعض الروايات لأهداف دينية أو مذهبية، على سبيل المثال في كتابه “شرح نهج البلاغة” ألقى ابن أبي الحديد المعتزلي الضوء على الظروف التي زامنت وضع الأحاديث بسبب الخصومات السياسية المُنعقدة بين الأمويين والهاشميين، فقال: “…كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمَّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن رَوى شيئًا من فضل أبى تراب -يقصد علي بن أبي طالب- وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليًا ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته…”. يتابع ابن أبي الحديد بعدها فيقول: “...إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أمية تقربًا إليهم بما يظنون أنهم يُرْغمون به أنوف بني هاشم...”، يذهب العالم السني أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي إلى الأمر نفسه في كتابه “الموضوعات” إذ يقول: “…قد تعصب قوم لا خَلاق لهم يدعون إلى التمسك بالسنة فوضعوا لأبي بكر فضائل وفيهم من قصد معارضة الرافضة بما وضعت لعلي عليه السلام، وكلا الفريقين على الخطأ…”.
في بعض الأحيان لُفقت الأحاديث داخل الأوساط السنية نفسها بهدف الإعلاء من شأن بعض المذاهب الفقهية، يقول أبو العباس القرطبي في كتابه “المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مُسلم” في سياق حديثه عن فقهاء الحنفية “استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة قوليه فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا! ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة تشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سندًا”، الأمر نفسه اعترف أبو شامة المقدسي في كتابه “مختصر المُؤمل في الرد إلى الأمر الأول” عندما قال: إن عديدًا من علماء الشافعية اعتادوا الاستدلال بالأحاديث الضعيفة لنصرة أقوالهم، ومن هنا غيروا ألفاظ الروايات “فتارة ينقصون منها وتارة يزيدون فيها”.
في محاولة للتغلب على ظاهرة وضع الأحاديث وتلفيقها، استحدث علماء السنة منهجًا جديدًا لانتقاء الأحاديث وتصحيحها، اعتمد هذا المنهج على “الإسناد” وصحة السند، بمعنى ألا يُدوَّن الحديث إلا عقب التثبت من سلسلة نقله من النبي وحتى الراوي الأخير، على الرغم من الاتفاق على أهمية قواعد الجرح والتعديل التي وضعها المُحدِّثون، إلا أن المبالغة في الاعتماد عليها قد تحول -بمرور الوقت- إلى هاجس خرج بها عن وظيفتها الأصيلة، يذكر بعض الباحثين أن تلك الآلية قد اُستخدمت “للانتقاء والإقصاء” في كثير من الحالات، وبذلك تحولت من طريقة لتمييز الروايات الصحيحة إلى وسيلة لإبعاد الروايات المخالفة للمذهب السني وتهميشها بذريعة أن رواتها مبتدعون وخارجون عن تعاليم الدين القويم.
الحواشي والمراجع:
[1]على سبيل المثال” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا”. سورة الأحزاب، الآية 53
[2] على سبيل المثال، ورد في عدد من المصادر التاريخية أن الأنصار قد غضبوا من طريقة توزيع الغنائم، وقال بعضهم “يغفر الله لرسول الله يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم”، فأوضح لهم الرسول أنه أعطى هؤلاء ليتألفهم كونهم حديثي عهد بالإسلام، وقال لهم: “أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به”.
صحيح البخاري، ج4، ص94، رقم 3147؛ صحيح مسلم، ج2، ص733، رقم 1059؛ مسند أحمد بن حنبل، ج20، ص168، رقم 12766
[3] صحيح مسلم، ج4، ص2143، رقم 2779؛ مسند أحمد بن حنبل، ج39، ص210، رقم 23792؛ أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت807ه، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: -حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1994م، ج1، ص110، حديث رقم 423.
[4] خير الدين يوجه سوي، تطور الفكر السياسي عند أهل السنة، ص91
[5] يلاحظ بعض الباحثين أن الأدلة التي سيقت لإثبات مفهوم عدالة الصحابة قد تضخمت تضخمًا ملحوظًا مع مرور الزمن، بما يُثبت ترسخ هذا المفهوم من جهة، وتحوله من مجرد قاعدة نظرية إلى إيمان عقائدي ضروري في بنية الأرثوذكسية السنية من جهة أخرى، على سبيل المثال احتج كل من الباجي والجويني بآيتين فقط لإثبات عدالة الصحابة، وزاد العدد مع الغزالي ليصل إلى أربع آيات، أما الشوكاني فقد استدل بخمس آيات. راجع حمادي ذويب، السنة بين الأصول والتاريخ، ص190
[6] حمادي ذويب، السنة بين الأصول والتاريخ، ص184
[7] سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص347
[8] علوم الحديث، ص299
[9] من تلك الآيات “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” سورة النساء، الآية رقم 65؛ “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” سورة النساء، الآية رقم 59؛ “مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا” سورة النساء، الآية رقم 80؛ “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” سورة الأنفال، الآية رقم 24
[10] مسند أحمد بن حنبل، ج17، ص169، حديث رقم 11104؛ ابن أبي عاصم، السنة، ج2، ص643، حديث رقم 1553؛ أبو بكر محمد بن الحسين الآجري البغدادي ت360ه، الشريعة، ط2، تحقيق: – عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن، الرياض، 1999م، ج5، ص2216، حديث رقم 1702؛ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ت360ه، المعجم الصغير، تحقيق: – محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، بيروت، 1985م، ج1، ص226، حديث رقم 363. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك الحديث قد ورد بصيغة أخرى في بعض المصادر، تقول … كتاب الله وعترتي.
[11] حمادي ذويب، السنة بين الأصول والتاريخ، ص70
[12] المرجع نفسه، ص39
[13] المرجع نفسه، ص55
[14] من الملاحظات المهمة التي يجب الالتفات إليها أن هناك العديد من الروايات التي ذكرت أن النبي نهى الصحابة عن تدوين حديثه، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: “لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه”. كما نُقل أيضًا نهي عمر بن الخطاب عن الإكثار في رواية الحديث النبوي، ومن ذلك ما جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي: عن قرظة بن كعب “قال: لما سيَّرَنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر وقال: أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا: نعم تكرمة لنا قال: ومع ذلك أنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدثنا فقال: نهانا عمر…”. كما نُقل عن عمر بن الخطاب أنه نهى أبي هريرة عن رواية الحديث، وأنه قال له: “لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس”.