تاريخ الفرق الإسلامية: قراءة سوسيولوجية… الشيعة الجزء الأول 

تكوين

مقدمة

تعرضنا في المقالات السابقة للإرهاصات التاريخية التي سبقت ظهور الفرق والمذاهب الإسلامية، وسلطنا الضوء على أهم الأحداث التي أثرت تأثيرًا كبيرًا في ميادين السياسة والفكر داخل المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري، بعدها سلطنا الضوء على مذهب أهل السنة والجماعة، وتناولنا بعض المُحددات المُهمة في تكوين هذا المذهب وصياغته وتشكيله. نتابع رحلتنا في هذا المقال بدراسة المذهب الشيعي، لنرى كيف تغيرت دلالات مصطلحي الشيعة والتشيع في القرون الأولى من الهجرة.

الآراء التقليدية في ظهور التشيع

ظهر مصطلح الشيعة في اللغة العربية للدلالة على معاني التأييد والنُصرة والاتباع، فالشيعة في اللغة هم القوم الذين يجتمعون علي أمر معين، ومن هنا فكل قوم اجتمعوا علي أمر واحد فهم شيعة[1]، وفي هذا المعنى يُقال: شيعة الرجل أي أتباعه وأنصاره[2]. على الصعيد المصطلحي، يُقصد بالشيعة الحزب الذي أعلن تأييده لعلي بن أبي طالب وأبنائه من بعده، ودعم حقهم في الخلافة والإمامة، وذلك منذ لحظة وفاة النبي في السنة الحادية عشرة من الهجرة وحتى اليوم.

طبقًا لوجهة النظر التقليدية الشائعة في الأوساط الشيعية فأن المذهب الشيعي هو النسخة الحقيقة الوحيدة من الدين الإسلامي، في هذا السياق يمكن القول إن: الشيعة قد ظهروا منذ عهد النبي نفسه، وأنهم قد أعلنوا تأييدهم وولائهم المُطلق لعلي بن أبي طالب بموجب مبدأ الوصية الإلهية الذي نصَّ عليه النبي في واقعة غدير خم[3]، وظل هؤلاء الشيعة محافظين على دعمهم لعلي عقب اغتصاب حقه في الخلافة في واقعة سَقِيفَة بني سَاعِدة.

الرأي المهاجم للتشيع

في الجانب المقابل يرفض عموم المسلمين من أهل السنة والجماعة الرأي السابق جملةً وتفصيلًا، وينظرون إلى الشيعة بوصفهم أحد الفرق المارقة الخارجة عن تعاليم الدين الإسلامي الصحيح.

عمومًا اعتادت الدوائر السنية أن تنسب ظهور التشيع إلى إحدى الشخصيات الغامضة التي ظهرت في سياق الحرب الأهلية بين المسلمين في العقد الرابع من القرن الأول الهجري، تُعرف تلك الشخصية باسم عبد الله بن سبأ أو عبد الله ابن السوداء[4]، تذكر عديدٌ من المصادر التاريخية أن ابن سبأ كان يهوديًا من أهل اليمن، وأنه أسلم زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وبعد إسلامه تنقل فترة بين عدد من الأمصار الإسلامية، فزار الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر[5]، وحاول أن يدعو إلى عدد من الأفكار المُضللة بين المسلمين، ومن تلك الأفكار أن عليًّا بن أبي طالب هو الأحقُّ بالخلافة، وأنه يُمثل أحد التجليات الإلهية.

تختلف الروايات التاريخية في تحديد مصير ابن سبأ، جاء في بعض الأخبار أن عليًّا بن أبي طالب قد قَتَلَ عبد الله بن سبأ، بسبب نشره للأفكار الضالة بين الناس[6]، في حين جاء في روايات أخرى أن ابن سبأ كان لا يزالُ حيًّا وقت وفاة علي بن أبي طالب، وأنه -أي ابن سبأ- قد عَلَّقَ على وفاة الخليفة الرابع بأن: عليًّا لم يمت، ولكنه صَعِدَ إلى السماء كما صَعِدَ إليها عيسى ابن مريم[7].

على الرغم من شهرة عبد الله بن سبأ في عديد من مدونات أهل السنة والجماعة وبعض الكتابات الشيعية، إلا أن عديدًا من مؤرخي الشيعة قد ذهبوا إلى أن ابن سبأ مجرد شخصية أسطورية مُخْتَلَقَة[8]، ويرى هؤلاء أن جميع الروايات التي وردت بخصوص ابن سبأ في كتب مؤرخي الإسلام: الطبري وابن الأثير والذهبي وابن كثير، إنما ترجع إلى كتابات الإخباري سيف بن عمر التميمي المُتوفى بعد عام 170هــ/786م[9]، ويرى عديدٌ من الباحثين أن سيف بن عمر كان كاذبًا، وأنه اختلق شخصية ابن سبأ بهدف الطعن في التشيع، ومما يؤيد ذلك الرأي أن كثيرًا من علماء الحديث من أهل السنة قد ضعفوا الأحاديث التي شارك سيف بن عمر في روايتها، كما أن بعض هؤلاء العلماء قد اتهموا سيف بالزندقة والكذب في كثيرٍ من كتبهم[10].

بعيدًا عن ابن سبأ حاول كثيرٌ من المستشرقين أن يربطوا بين ظهور المذهب الشيعي من جهة، وعدد من الأديان والمؤثرات الفكرية القديمة من جهة أخرى، ومن ذلك على سبيل المثال -لا الحصر- محاولة المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن الذي قال:

بتأثر التشيع الإمامي بالدين اليهودي، وكذلك ما قام به المستشرق الهولندي رينهرت دوزي عندما أكد أن التشيع تأثر بعقائد الديانة الزرادشتية الفارسية القديمة[11].

 

التطور الدلالي لمصطلحي الشيعة والتشيع

تذهب الدراسات الموضوعية المُحايدة الخاصة بظهور التشيع إلى خطأ التصورين السابقين، لم يظهر التشيع المُكتمل -بكل ما فيه من عقائد وأصول وأفكار- في السنوات الأولى من عُمْر الإسلام، كذلك لا يمكن الركون إلى القول بأن: التشيع قد وُلِدَ من رحم المؤثرات اليهودية والفارسية القديمة، في الحقيقة مَرَّ مصطلح التشيع بعديدٍ من المراحل التاريخية المهمة، ولم يحمل المصطلح الدلالة نفسها عبر القرون الأولى، بل -وعلى النقيض من ذلك- حمل مصطلح التشيع دلالات مختلفة في كل فترة وفق الظروف السياسية والاجتماعية التي مر بها المسلمون.

بدأ التشيع في شكله الأولي عقب اجتماع سقيفة بني ساعدة، تتضافر الروايات السنية والشيعية على إثبات أن هناك نفرًا من المسلمين قد أيدوا عليًّا بن أبي طالب في موقفه الرافض لنتائج اجتماع السقيفة، وأن مواقف هؤلاء قد تباينت واختلفت في طبيعتها وشدتها،

  • فمنهم من تعاطف مع علي وإن كان قد بايع أبا بكر الصديق
  • ومنهم من رفض مبايعة الخليفة الأول رفضًا مطلقًا وحمل السلاح في سبيل ذلك
  • كما تذكر بعض الروايات أن بعض المسلمين قد عرض على علي بن أبي طالب التأييد والنصرة والعون بالمال والرجال والعتاد.

من أهم الشخصيات التي تجتمع المصادر السنية والشيعية على موالاتها لعلي بن أبي طالب في تلك الفترة التاريخية الدقيقة، شخصية الزُّبَير بن العوام، حيث تؤكد المصادر التاريخية أن الزُّبير قد انقطع مع عليٍّ في بيته، ورفض أن يبايع أبا بكر[12]، كما أن بعض الروايات قد أكدت أن الزُّبير قد شهر سيفه واقسم ألا يُرجعه إلى غمده حتى يُبايع عليًّا بالخلافة[13]. ونستطيع أن نتفهم تأييد الزُّبير لعلي في تلك المرحلة، خصوصًا وأن هناك صلة قرابة قوية قد جمعت بين الرجلين، فالزُّبير هو ابن صفية بنت عبد المطلب، والتي هي عمة علي بن أبي طالب، وهناك عدد من الأقوال المنسوبة إلى علي قال فيها إنه:

كان يَعُدُّ الزبير فردًا من بني هاشم، وأنه ظل على تلك المكانة حتى كبر ابنه عبد الله بن الزبير[14].

في السياق نفسه تواترت الأخبار والروايات المُؤكِّدة على أن الهاشميين كلهم قد ساندوا عليًّا في موقفه تجاه نتائج السقيفة، فكان من أهم رجال بني هاشم الذين أيدوه العباس بن عبد المطلب وأبنائه[15]، وذكرت بعض الروايات شعرًا للعباس ولبعض ولده يُعلنون فيه موقفهم الصريح المؤيد لخلافة علي بن أبي طالب[16]. من جهة أخرى تذكر المصادر التاريخية أن عددًا من الأنصار ذهبوا إلى أحقية عليٍّ في الخلافة في ذلك الوقت، ويشهد على ذلك ما ورد في أن بعضهم قد قال صراحةً: “لا نُبايع إلا عليًّا” أو “لا نُبايع حتى يُبايع عليٌّ[17]. وكذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه أنه في أثناء النقاش بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، أن أحد الأنصار –وهو المنذر بن أرقم– قد قال: “إن فيهم -يقصد المهاجرين- لرجلًا لو طلب هذا الأمر -يقصد الخلافة- لم ينازعه فيه أحد، يعني عليًّا بن أبي طالب[18]، وهو ما يعني أن هناك قطاع من الأنصار -ممن لم تغلب عليه النزعة القبلية الأوسية أو الخزرجية -كان علوي الهوى، وكان يفضل وصول علي بن أبي طالب إلى سُدَّةِ الحكم.

كذلك كان هناك مجموعة أخرى من الصحابة ممن أعلنوا تشيعهم الصريح لعلي، ويعتقدون بأحقيته في خلافة النبي، ومنهم كلٌّ من

  • عمار بن ياسر
  • المقداد بن عمرو
  • أبي ذر الغفاري
  • سلمان الفارسي
  • البراء بن عازب
  • حذيفة بن اليمان
  • أُبَيّ بن كعب
  • أبا الهيثم بن التيهان
  • خالد بن سعيد
  • عُبَادة بن الصامت
  • بريدة الأسلمي
  • أم أيمن[19].

ولعل من أكثر الروايات المتواترة غرابةً بخصوص شيعة علي بن أبي طالب في تلك المرحلة، هي تلك الروايات التي تذكر أن أبا سفيان بن حرب قد عرض المساعدة على عليٍّ والعباس، وأنه قد شجعهما على النهوض للمطالبة بحق بني هاشم في الخلافة، فكان مما قاله لهما في هذا المقام:

بنو هاشم لا تُطمعوا الناس فيكم… ولا سيما تَيم بن مرة أو عُدي

فالأمر فيكم وإليكم وليس لها… إلا أبو الحسن علي[20].

 

والحقيقة أننا لا نستسيغ تلك الروايات، وذلك لعدة أسباب وهي:

  1. أن قوة أبو سفيان الحقيقية كانت في مكة وليس في المدينة، فمن أين يستطيع أن يأتي بالرجال والعتاد اللذان وعد بهما عليًّا والعباس؟!
  2. أن نفوذ أبو سفيان قد تدهور واضمحلت كثيرًا بعد فتح مكة في العام الثامن للهجرة، كما أن هناك عدد من الزعامات الأموية البديلة التي ظهرت بعد الفتح، مثل عثمان بن عفان، مما كان يعني أن أبا سفيان كان غير قادر على إنفاذ أوامره داخل عشيرته وقبيلته إنفاذًا مطلقًا كما كان الأمر من قبل.
  3. أن بني أمية كانوا من أوائل من بايعوا أبا بكر، حيث يذكر الجوهري أنه في يوم السقيفة قد “كثر الناس على أبي بكر، فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم… واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة، فقال: ما لي أراكم ملتاثين، قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايع له الناس وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر[21].

بطبيعة الحال لم تبق بنية الطبقة الأولى من الشيعة على حالها، فقد تسببت الأحداث السياسية التي وقعت في زمن الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل في تغيير شكل تلك الطبقة وبنيتها، حتى إذا ما صار أمر الخلافة إلى عليٍّ بن أبي طالب عام 36هـ وجدنا طبقة جديدة من الشيعة، من أبرز سمات الطبقة الجديدة أنها قد شهدت اضمحلال أدوار عديد من المتشيعين الأوائل تدريجيًا، إما بفعل العمل في دولة الخلفاء الأوائل والتماهي مع سياساتهم كما كان الحال مع سلمان الفارسي على سبيل المثال، أو بفعل الضغط الواقع عليهم من السلطة الحاكمة كما حدث في عهد عثمان بن عفان، عندما نُفِيَ أبا ذر الغفاري إلى الربذة حيث تُوفي هناك وحيدًا.

في هذا السياق ظهرت طبقة جديدة من الشيعة في بداءة عهد خلافة علي بن أبي طالب، معظم أفراد تلك الطبقة كانوا من مقاتلي القبائل العربية البعيدة عن قريش، وممن كان لهم جُهد مذكور وبلاء مشهود في نجاح حركة الفتوحات الإسلامية وخصوصًا في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، كان معظم هؤلاء المقاتلين ممن خَمُلَ ذكرهم في فترة حكم عثمان بن عفان، وقد ساءهم تسلط بني أمية على شئون الحكم والسلطة في الدولة، فنهضوا للاعتراض والثورة على الخليفة الثالث، حتى إذا ما تم الأمر بمقتله، هرعوا إلى عليٍّ بن أبي طالب وقد وجدوا فيه الشخص المثالي لتَقَلُّد مقاليد الخلافة.

ومن الممكن أن نحدد الأسباب التي جعلت هؤلاء يُقبلون على عليٍّ بن أبي طالب ويرتضونه خليفةً، في النقاط الأتية:

  • أن قريشًا كانت تستطيل على باقي العرب بقربها إلى النبي، رغم أن القريشيين كانوا قد هضموا حق بني هاشم أقرب الناس إلى الرسول، فكان اللجوء إلى علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته وأبي أحفاده، فيه ما فيه من إبطال لحجج القريشيين التي لطالما تفاخروا بها على باقي القبائل العربية.
  • أن شخصية عليٍّ كانت أقرب إلى هؤلاء الثوار من شخصية عثمان وغيره من بني أمية، فهؤلاء الثوار قد بنوا شهرتهم بوصفهم محاربينَ ومقاتلينَ أشداء، وقد حاربوا الروم والفرس في اليرموك والقادسية وغيرهما من المعارك الكبرى، وكان عليٌّ بن أبي طالب يُمثل لهم النموذج الكامل التام للفروسية والفُتُوَّة، ولما لا، وهو الذي ضُربت في شجاعته الأمثال في معارك بدر وأحد والخندق وخيبر، أما عثمان فكان يُمثل لهم شخصية التاجر الثري الذي يُغدق من أموال الخلافة على أقاربه ومعارفه دون أن يحفظ لفارس حق أو لمحارب سابقة.

وقد كان من أهم أفراد تلك الطبقة الجديدة من الشيعة[22]، كلًّا من: مالك بن الحارث الأشتر النخعي وصعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان ومحمد بن أبي بكر وعبد الرحمن بن عديس البلوي وعمرو بن الحمق الخزاعي. ويمكن القول إن: الأسس التي جعلت أفراد تلك الطبقة ينضمون إلى عليٍّ بن أبي طالب، كانت في حقيقة الأمر أسس قبلية ومجتمعية أضيفت إليهما بعض النزعات الدينية المحدودة التأثير.

وقد ظهرت أولوية الدافع القبلي في تكوين تلك الطبقة الجديدة في كثيرٍ من المواقف، فالأشتر –وكان من أعظم أصحاب وأعوان علي بعد استخلافه- أبدى اندهاشًا وانزعاجًا واضحين عندما بلغه خبر تعيين الخليفة الرابع لبعض أبناء عمه العباس على بعض الولايات، وظهرت دهشته في قوله: “على ماذا قتلنا الشيخ -يقصد عثمان بن عفان- أمس؟”[23]، فهو يتعجب من سياسة الخليفة الجديد، تلك السياسة المشابهة لسياسة سلفه، والتي أثارت الغضب والأحقاد في صفوف العرب، كما أنه -أي الأشتر- ألحَّ على عليٍّ بن أبي طالب مرارًا في إجبار من تَخَلَّفَ عن بيعته، فقد ورد أنه قال لعليٍّ:

“دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك، فقال له عليٌّ: كُفَّ عني، فانصرف الأشتر وهو مُغضب”[24].

تلك الحادثة تُبرز التضاد الواقع بين الخليفة الرابع من جهة والطبقة الجديدة من المتشيعين له من جهة أخرى، ذلك أن عليًّا بن أبي طالب كان يهتم بالمكانة الدينية لمن تَخَلَّفَ عنه، وكان فيهم عدد من كبار الصحابة ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب على سبيل المثال، أما الأشتر وجماعته فكان همهم الأساسي ينصبُّ في الدولة، ولم تكن مكانة وسابقة من تخلف عن بيعة علي لتبعد بهم عن البطش بأفراد تلك الطبقة، خصوصًا وأن عديدًا منهم -أي أنصار عليٍّ- كانوا ممكن أشترك في قتل الخليفة الثالث من قبل.

بقيت عناصر تلك الطبقة تُمثل السواد الأعظم من الشيعة في عهد وَلَدَي علي، الحسن والحسين، حتى إذا ما قُتل الحسين في كربلاء في السنة الحادية والستين من الهجرة، نجد أن طبقة جديدة من الشيعة قد تكونت حول شخصية علي زين العابدين بن الحسين المتوفى 95هـ، من أبرز هؤلاء كلٌّ من سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن جبير بن مطعم ويحيى بن أم طويل وأبو خالد الكابلي[25]، من الملاحظ أن عديدًا من هؤلاء مثل سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير لم يُعرفوا بوصفهم من الشيعة في المصادر غير الشيعية، بل العكس فإن كلًّا من الرجلين عُدَّ من أعلام السنة عند أهل السنة والجماعة، ولعل ذلك الخلط قد نشأ بسبب التوسع في استخدام مفهوم التقية من جانب الشيعة في ذلك الوقت، فكثيرٌ من الشيعة قد تعرضوا لملاحقة السلطة الأموية، حيث قَتَلَ والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي عددًا من كبار الشيعة من أمثال كميل بن زياد وقنبر مولى علي بن أبي طالب[26]، مما حدا بقسم كبير من الشيعة إلى مواراة الأفكار السياسية التي تُظهر موالاتهم للحزب العلوي، مما تسبب في وقوع الالتباس والخلط في تصنيف الانتماءات السياسية لكثير من الأعلام في تلك الفترة.

في عهد الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين المُتوفى 114هـ، انتشر التشيع في العراق، وقد ورد في بعض الروايات أن الخلفاء الأمويين كانوا يعرفون ذلك ويلتفتون إليه وينتبهون لعواقبه، فعلى سبيل المثال ورد أن الخليفة هشام بن عبد الملك قد وصف الباقر بأنه “الرجل المفتون به أهل العراق[27]، وقد ظهر في تلك الفترة، عدد من كبار رجال الشيعة الذين ارتبطوا بالباقر ونقلوا عنه، ومن أهمهم كلٌّ من جابر بن يزيد الجعفي وزرارة بن أعين ومعروف بن خربوذ وبُريد بن معاوية البجلي وأبي بصير الأسدي وفُضيل بن يسار ومحمد بن مسلم[28].

ويمكن أن نلاحظ أن هناك سمتين مميزتين اصطبغ بهما التشيع في عهد الباقر:

  • أولهما، حدوث انفصام كامل بين مشاهير رجال الشيعة من جهة وأقرانهم من السنة من جهة أخرى، فللمرة الأولى، خَلَت قائمة أسماء كبار الشيعة من العلماء المحسوبين على التيارات الفكرية الأخرى.
  • أما السمة الأخرى، فقد تَمَثَّلت في ظهور الغُلاة، إذ تذكر المراجع الشيعية[29]، أسماءَ عددٍ من الشيعة الغُلاة الذين ظهروا في عهد الباقر، وقد أكَّدت الروايات المتواترة، أن الإمام الشيعي الخامس قد رفضهم ورفض أقوالهم وأعلن بوضوح عن مخالفتهم لنهجه وأفكاره وأوامره، وكان من أهم هؤلاء الغُلاة كلًّا من المغيرة بن سعيد وبيان بن سمعان. عمومًا مهدت السمتان السابقتان لظهور كثيرٍ من الفرق الشيعية التي ظهرت في الفترات التاريخية اللاحقة.

المراجع:

[1] ابن منظور، لسان العرب، صـ2377

[2] المعجم الوسيط، صـ503

[3] للمزيد عن واقعة غدير خم راجع من المصادر السنية التي ذكرت حديث الغدير، راجع على سبيل المثال مسند أحمد بن حنبل، ج2، ص71، حديث رقم 641؛ سنن ابن ماجة، ج1، ص45، حديث رقم 121؛ سنن الترمذي، ج5، ص633، حديث رقم 3713؛ ابن أبي عاصم، السنة، ج2، ص605، حديث رقم 1359؛ مسند البزار، ج2، ص133، حديث رقم 492؛ النسائي، السنن الكبرى، ج7، ص309، حديث رقم 8089. ومن المصادر الشيعية التي ذكرت حديث الغدير، راجع على سبيل المثال الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ت260ه، الإيضاح في الرد على سائر الفرق، عنى بتحقيق الكتاب وخرج أحاديثه وقدم له: -جلال الدين الحسيني الأرموي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 2009م، ص99 -100؛ أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة الكوفي ت332ه، فضائل أمير المؤمنين، جمع وترتيب وتقديم:- عبد الرازق محمد حسين حرز الدين، دليل ما، قم، 1424ه، ص55؛ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتقديم وتعليق:- حسين الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1991م، ص227- 228.

[4] ابن قتيبة الدينوري المتوفى 276هـ، المعارف، طـ4، حققه وقدم له: -ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة، د.ت، صـ622؛ عارف تامر، الإمامة في الإسلام، صـــــ65

[5] عارف تامر، الإمامة في الإسلام، صـــــ65

[6] ابن قتيبة، المعارف، صـ622؛ الملطي، التنبيه، صـ16؛ ابن حزم، الفصل، جـ5، صـ47؛ الرازي، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، صـ57؛ عارف تامر، الإمامة في الإسلام، صـــــ65

[7] أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، صـ85؛ الملطي، التنبيه، صـ16؛ محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، صــــــــــ36

[8] علي سبيل المثال، راجع السيد مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، ط6، دار الزهراء، بيروت ،1991م، صـــــــــ72

[9] المرجع نفسه، صــــــــــ72

[10] المرجع نفسه، صــــــــــــ76-78

[11]  محمد يسري أبو هدور، في نقد ظهور التشيع: جدل السلطة والمذهب، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2022م، ص140-144

[12] صحيح البخاري، ج8، ص168، حديث رقم 6830؛ الواقدي، الردة، ص32؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3، ص203؛ محمد تقي المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، تصحيح وتعليق: -هاشم الرسولي المحلاتي-جعفر الحسيني-محسن الحسيني الأميني-علي الآخوندي، دار الكتب الإسلامية، طهران، د.ت، ج26، ص189

[13] سليم بن قيس، كتاب سليم، ص159؛ الجوهري، السقيفة وفدك، ص44؛ الطبرسي، الاحتجاج، ص73؛ ابن الأثير، الكامل، ج2، ص187

[14] ابن قتيبة الدينوري ت276ه، الإمامة والسياسة، تحقيق: -علي شيري، دار الأضواء، بيروت، د.ت، ص28

[15] سليم بن قيس، كتاب سليم، ص140 -143؛ ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ص33؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص9 -10

[16] سليم بن قيس، كتاب سليم، ص142

[17] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3، ص202؛ ابن الأثير، الكامل، ج2، ص187

[18] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص8

[19] سليم بن قيس، كتاب سليم، ص 139 & ص157؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص9؛ الجوهري، السقيفة وفدك، ص46؛ ياسين حسين علوان الويسي، الصحابي سلمان المحمدي في كتابات المستشرق ماسينون: دراسة تحليلية لنظريات المستشرقين، مجلة الدراسات الاستشراقية، العدد الخامس، صيف 2015م، ص184

[20] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص10؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3، ص209؛ الجوهري، السقيفة وفدك، ص38؛ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق: -مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت، 1995م، ج1، ص190؛ المؤلف نفسه، الجمل، ص57؛ ابن الأثير، الكامل، ج2، ص187؛ عباس القمي، بيت الأحزان، ص62

[21] الجوهري، السقيفة وفدك، ص60

[22] للمزيد عن أفراد تلك الطبقة، راجع اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص75-77؛ أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة، ج4، ص 2006؛ عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي الطوسي ت القرن السادس الهجري، الثاقب في المناقب، ط3، تحقيق: -نبيل رضا علوان، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، قم، 1419ه، ص226؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج3، ص69؛ ابن حجر العسقلاني، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص556

[23] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص125؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص209

[24] الطوسي، الأمالي، ج2، ص310؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج32، ص71

[25]  رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسية، ج1، ص190؛ هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمة الاثنا عشر، ج2، ص146

[26]  تاج الدين العاملي، التتمة في تواريخ الأئمة، ص88

[27]  ابن صباغ، الفصول المهمة، ص890؛ رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسية، ج1، ص231

[28]  رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسية، ج1، ص237

[29]  رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسية، ج1، ص232

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete