تكوين
[I]
إنَّ التَّساؤل عن تحديث الإنسان والمجتمع هو، في المعنى الأخص، موضوع التَّساؤل عن الحداثة والتحديث. أن نتساءل: الطريق إلى الحداثة، أم طرق الحداثة؟ أو دروب الحداثة؟ هي تساؤلات تنطلق من حقل علوم المجتمع والإنسان على نحو دروب الحداثة، أي الطرق غير المتعيَّنَةِ بعدُ نحوَ الحداثةِ والتحديث؛ من منظار أنَّه علينا أن ننطلق من كيف التمايز بين فهم الحداثة، وتحديث الفهم. إنَّ ذلك إنَّما هو كلامٌ في ضرورة الحداثة وإمكانها.
تُميِّزُ الدراسات ما بعد الحديثة بين ضربين من السيرورة، لا الصيرورة: يتمثَّل الضرب الأول بالسير على سبيل واضح المعالِم مُعدٌّ قبليَّاً، ومعاييره وحدوده؛ والضرب الثَّاني بالسير على ما هو ليس مبنيَّاً بعدُ ويتطلَّب، في كلِّ مرَّةٍ، بناءً من شأنه. في هذا التمايز بين الطريق بوصفه سبيلاً متعيَّنًا، قبليَّاً، وبين الدرب بوصفه سبيلاً مُتَعَيَّنًا، بَعْدِيَّاً، ينكشف الدرب على نحو التعيُّنِ دائماً على نحو ما بعد السير عليه. إنَّ منهجًا جاهزًا لموضوع جاهز إنَّما هو كاريكاتور بحثي، ليس أكثر من ذلك؛ وفضيحة فلسفية وعلمية، ليس إلاّ. في هذا المعنى، تُؤخَذُ الحداثة والتحديث من جهة كونهما قائمَيْن على ثُلاثيَّة [الفعل- والبناء- والإنتاج] التي تتطلَّب نظرية كاملة، تُحدِّد علاقات تكامليَّة فيما بين أطرافها الثلاثة.
بالاِنطلاق من، [ههنا- و- الآن] يبدأ كل شيء في تساؤلاتنا، نحن معشر العقلانيين الجدد، أعني أولئك الذين يعرفون، بداهةً، أن لا ثَمَّةَ شيءَ غير الفكرة في المعنى العلميّ الذي قطع قطعًا ظاهرًا بين ميتافيزيقا دينية، وميتافيزيقا عقليَّة من صنع الإنسان وخلقه. إنَّه لا ثَمَّةَ غير الفكرة، قبليَّاً وبَعْدِيَّاً، عن الحداثة والتحديث في العالَم العربيّ الحديث والمعاصر؛ أو ما / من منه الذي هو يريد أن يكون كذلك. وعلى هذا النحو، ينهض تساؤل الحداثة على بساطه الأصليّ من جديد؛ وعلى نحو جديد. إنَّه تساؤل الحداثة من منظار الحداثة؛ أو بعبارة أخرى: أن نفهم الحداثة حداثيَّاً، وعلى نحو حداثي، بمنهاجها، وبمنطق فهمها، وفلسفتها الخاصَّة، علينا أن نفهم أنفسنا على أننا لم نفعل بعدُ شيئًا في بناء السَّبيل إليها، وإلى فهمها، وبنائها، سوى التقليد؛ تقليد الحداثة على نحو حداثة التقليد، أي تحديث سبل التقليد في فكرنا العربيّ المعاصر؛ لا أكثر. إنَّ الدرب من جهة كونه سبيلاً غير متعيِّنٍ بعدُ؛ ولا ثَمَّةَ حدود جاهزة له، ولا معالم وتقاسيم دقيقة تخصُّه، هو الأصل المتوفِّر لدينا من أجل مساهمات مستقبلية آتية إلينا بالعالَمية، ذاهبين نحوها.
[II]
كيف تلقينا، نحن العرب والمسلمين، الحداثةَ، وتناولها المفاهيم والنظريات والمناهج التي من شأنها؟ وضمن أيَّة معانٍ يمكننا أن نفهم الحداثة والتحديث في الواقع العربيّ المعاصر، والمفاهيم العربيَّة المعاصرة، وصولاً إلى الفكر العربيّ المعاصر؟
درجت عادة ذهنية عند الفلاسفة والمفكرين العرب، بدءًا من عصر النهصة العربيَّة، هي الاِنطلاق من التعريفات- البداهات، التي تُؤخَذُ على أنها مقدمات كُلِّيَّة، والاِنتقال منها، عَبرَ الاِعتماد على وسائل وتقنيات وأساليب الاِستنباط، إلى نتائج ونظريَّات، هي في أفضل الأحوال فرضيات تتوفَّر على إمكان تفسير الإمكانات الموضوعيَّة التي للاشياء في العالَم، والمجتمع، والإنسان. لقد كان في إمكاننا أن نصل إلى أبعد من ذلك؛ ضمن ما توفرنا عليه، ونتوفر عليه من إمكانات إيضاح الحقيقة على نحو جديد.
إنَّ الحقيقة مأخوذةً من منظار العقلانية الحديثة تقوم على ميتافيزيقا العقل، وليس ميتافيزيقا أصلها الدِّين. وخلافًا لما يُتصوَّر، لا تقتصر ميتافيزيقا الدِّين على الإسلاميين في تناولهم للحداثة، بل، من حيثُ إنَّها بِنيَة منطق، ومنطق فهم، ومنهج في التَّساؤل والتفكير والفهم- الذي يقوم على النقل، والحفاظ على ما هو منقول كما هو، وبما هو، وفي ما هو- هي يمكن أن تُمارس من قِبَلِ الاِتجاهات والمدارس والتيارات والمذاهب التي تظن، على نحو شكلي- صُوَرِي، أنها تقع على الضدِّ من الفكر الإسلامي؛ أو تختلف عنه في منهجها. ميثودولوجيَّاً، أي ضمن وعي المناهج من خلال علم المنهج، يمكننا أن نقول أن المنهج في تناول الأشياء في العالَم، لم يُبنَ بعدُ من أجل الإجابة عن التَّساؤل الجذري: ما هي مقدمات الاِستنباط التي يستعملها الفكرُ العربيّ الحديث والمعاصر؟ إنَّه التَّساؤل الأكثر جذرية الذي يتوفَّر على كل إمكانات كشف العقبات المعرفيَّة والمجتمعيَّة التي حالت، ولازالت تحول دون تحديث الإنسان والمجتمع في العالَم العربيّ.
[III]
ولكن، من أجل ألاَّ نقع في عقبات الاِستنباط المنطقيَّة، أي الكُليانيَّةِ والشموليَّةِ والتَّعميم العادي، الذي تشكو من الكثير من الإشكالات والإشكاليات، والمشكلات التي لم تحل إلى الآن، إلاَّ ضمن محاولات ميثودولوجية فاتحة لإمكان المناهج الجديدة في كلِّ مَرَّةٍ، في الإبستيمولوجيا وفلسفة المعرفة بعامَّةٍ، وفلسفة العقل بخاصَّةٍ، سأنطلق، في مساهمتي في الحداثة والتحديث هذه، التي تحمل الإجابة عن هذه التَّساؤلات، من الأشكلة التي من شأن المفاهيم الأساسيَّة التي للحداثة والتحديث في الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة. لماذا؟ لأنَّ ما كان يُعتبر بمثابة مقدمات كُلِّيَّة، ومفاهيم بديهية لا تتطلَّب نقاشًا وجدلاً من شدَّة التسليم بها؛ هي ليست بهذا القدر من البديهية. إنَّ بداهةً نظرية تبقى كما هي، بعد التغير الجذري في الواقع، وفي فهم موضوعاته؛ تدفع، بِقُوَّةٍ، ضمن التَّساؤل السُّوسيولوجيّ عن الواقع، إلى التَّساؤل الإبستيمولوجي- والميثودولوجي عن أرضيتها؛ وبالتالي عن المسوِّغات الميتافيزيقية- والأُنطولوجية التي تبرِّرُ لها البقاء خارج الواقع؛ أو تحافظ عليها في الـ[هناك] الذي من شأنها، من شأنها هي.
[IV]
تقوم الحداثة في أساسِها الأنطولوجي (الوجودي العميق)، والميتافيزيقي (القَبْليِّ الذي يسبق كل ضروب الوجود)، والإبستيمولوجي (الأسس المعرفيَّة التي تشرِّع المعرفة وسبل إنتاجها)، والموضوعي (الذي يُحدِّدُ معنى الموضوعيَّة وطريقه ممارستها)، على مفاهيم نتجت عن صيرورة تاريخية مجتمعيَّة، أصبحت، [بَعْدَ- حينٍ]، بنيوية. وشكَّلت بدورها المجتمعات الحديثة. إنَّ علاقة المفهوم الحديث بالواقع الحديث، بعيدًا عن نقاشات آيديولوجيَّة فارغة، من حيثُ مضمونها الذي يمهدُ طريق البناء والإنتاج، حول أسبقية المفهوم على الممارسة، أو أسبقية الممارسة على المفهوم؛ إنَّما هي علاقة تغذية ذاهبة- عائدة إلى المفهوم والواقع في كلِّ مرة، لبنائهما وإعادة بنائهما.
أن نقول المفهوم يعني أن نقول الواقع الذي من شأنه؛ وأن نقول الواقع هو أن نقول المفهوم الذي يخصُّه. إنَّ علاقة التغذية هذه، بعد فهم صيرورة بناء المفهوم، في الفلسفة ما بعد الحديثة، وحقول الفهم التي من شأنها؛ وفي علوم المجتمع والإنسان وحقول الفهم التي لها، تُفهم على الدوام على أنها أساس العلم، والتفلسُف، والتفكير والتفكُّر. التفكير أي إعمال العقل في الموضوع بعامَّةٍ، والتفكُّر أي إعمال العقل في الموضوع بخاصَّةٍ.
بَيْدَ أنَّهُ، ما هو جذريٌّ في الحداثة، الذي يغيب عن الغالبية الساحقة من الباحثين العرب، والكتَّاب، والمفكرين، والفلاسفة، من منظار وحدة المفهوم والواقع، إنَّما هو الحقيقة بوصفها مفهومًا قائمًا برأسه. أعني الحقيقة من حيثُ إنَّها مفهومٌ متشابك مع مفهوم الواقع، صانعًا في كلِّ مرَّةٍ فهمًا ضابطًا للفعل في الواقع. إنَّه اِشتباك أُنطولوجيٌّ في [اليوميَّة] مع الحقيقة من حيثُ إنَّها مُعاشة- مُجرَّبَةٌ على نحو واقعاني؛ أي بالاِنطلاق من وعي واقعيٍّ للواقع.
[V]
إنَّ الحقيقة، باِعتبارها إشكاليَّة، أو لا تكون، هي أس الحداثة، وجذرها الأصليّ. ولكن كيف ذلك؟ ولماذا، بهذه المعاني، علينا أن نتعرف إلى الحقيقة على نحو جديد؟
يرتبط هذا التَّساؤل بالتوقف عند محطات خمس من شأن مفهوم الحقيقة، وفقًا لمعيار معرفي يحدده التَّساؤل عن مضمون الحقيقة، ومنظورها. هو الآتي: ما هي الحقيقة من حيثُ إنَّها تُوجِّهُ العقل على هذا النحو أو ذاك؟ وكيف تمارس الحقيقة توجيه العقل والتفكير في موضوعات العالَم والكون، المجتمع والإنسان؟
جعلت حقبة [ما- قَبلَ- الحداثة]، من الحقيقة مفهومًا مما فوق الزمان والمكان، وعيَّنته على الدوام على أنَّه يتوفَّر على جملة شروط إمكان، ومعايير قياس دقيقة. مثلاً: نظرية التطابق- والمطابقة التي من شأن الحقيقة، في العصر الإغريقي، أو نظرية الحقيقة بوصفه متعدِّدَة بتعدد الآلهات، في العصر ما قَبلَ الأوثان- الأصنام، أو نظرية الحقيقة من جهة أنها واحدة مصدرها الميتافيزيقا الدينية، في عصر الأديان التوحيدية. إنَّ حقبة ما قَبلَ الحداثة جعلت الحقيقة على الدوام مسألة ترانسندنتالية (متعالية- مفارِقة- متجاوزة) إزاء الشرط الوجودي الأصليّ الذي من شأنها، ومتعالية عليه- متجاوزة له. إنَّ مسألة الحقيقة The Problem of Truth، في الفترة الفاصلة بين القرون الوسطى وحركة الإحياء الديني، (مارتن لوثر وجون كالفن)، كانت تتضمَّنُ معنى إشكاليَّة الحقيقة.
إنَّ الحقيقة اِنتقلت لأول مرة من كونها تتسم باِجماع الباحثين عليها، أو اِجماع المؤسسة الدينية عليها، إلى الحقيقة من حيثُ إنَّها توفِّرُ أرضيَّة فهمها على نحو [التعدُّد- في- الفهم]: رينيه ديكارت، فرانسيس بيكون، إيمانوئيل كانْت، جورج. ف. هيغل. أعني المضامين الفلسفيَّة والفكرية الجديدة، المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعةِ، بوصفها إجابات، وليس [الـ- إجابة]، عن التَّساؤل الذي من شأن ماهيَّة الحقيقة، والمنظورات الفلسفيَّة والفكرية الجديدة، المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعةِ، بوصفها إجابات، لا [الـ- إجابة]، عن التَّساؤل كيفيَّة فهم ماهيَّة الحقيقة.
[VI]
إنَّ التَّساؤل عن الحداثة، يسبقه، في سلم التجريد العلميّ والفلسفي، تساؤلُ الحقيقة، بوصفها مسألة يختلف الفلاسفة والعلماء في فهمها، لا تساؤلاً ينتظر إجابة عنه، من جهة أولى، وصيرورة اِنتقاله إلى التَّساؤل عن الحقيقة بوصفها إشكالاً وإشكاليَّة، أو لا تكون، من جهة ثانية، ووحدة الموضوع والمنهج داخل مفهوم الحقيقة من حيثُ إنَّه يتوفَّر على صيرورة داخلية بين المفاهيم التي تُسهم في بنائه، وصيرورة خارجية بين مفهوم الحقيقة والمفاهيم الأخرى، التي تعيد تحديد مفهوم الحقيقة على نحو جديد، في كلِّ مرة، من جهة ثالثة.
إنَّ حركة الإحياء الديني، إنَّما هي أوَّل الطريق نحو إشكال جديد، وإشكاليَّة جديدة بشأن الحقيقة؛ حينما صار الفكر قادرًا على تغيير منظور النَّظر والفهم الذي يخصُّه؛ لكن من الداخل. بعبارة أخرى: إنَّ الفكر إنَّما هو وجهةُ الفكرِ، وتوجُّهُه؛ بتغيُّرهما يتغير الفكر. أعني أنَّ الفكر إنما هو موضوعه وكيف فهم موضوعه، ودراسته والبحث فيه. وبالتالي كيفية بناء المحطات الأساسية التي للموضوعيَّة فيه، والمحطات الأساسية للمنهج الذي يقترحه في فهم موضوعه.
[VII]
لكن، من أجل الوعي بالحداثة، والعالَميَّة، وبالتالي قابلية التحديث التي تتوفَّر في مجتمعات العالَم، في مجملها، وثقافاته، علينا أن نفهم التمييز بين الطريق إلى الحداثة على أنها طريقٌ جاهزة مُعدَّة سلفًا، والدَّرب إلى الحَدّاثة على أنَّه طريق غير متعيَّنٍ بعدُ إلاَّ بعدَ السير عليها والبدء بالفعل فيها. وفي سبيل ذلك، علينا التوقف عند المحطات الآتية، على أقل تقدير، والتساؤل عن مفاهيمها المركزية:
– I نفهم العالَم على نحو نظرية العوالم اِنطلاقًا من القرون الوسطى. ونفهم العالَم اِنطلاقًا من واحديَّة العالَم، ووَحدة العالَميَّة فيه، اِنطلاقًا من عصر الحداثة، ونفهم العالَم والتعدُّد الثقافي، والاِختلاف الآيديولوجي، والتنوع الإثني فيه، بواسطة البدء من فهم العالَم على أنَّه تعدُّدًا عالميَّاً، في عصر ما بعد الحداثة. إذ لا يمكن أن نتكلم عن العالَم من خلال كونه عوالِمَ إلاَّ في صيرورة الاِنتقال من القرون الوسطى، إلى عصر النهضة، ومن بعدُ، الحداثة، أي قَبلَ اِكتشاف العالَم الجديد، القارة الأمريكية- مع كريستوف كولومبوس 1492، وأمريكا الشمالية 1498، واِكتشاف أستراليا 1606.
– II ولكن تجاوز نظرية العوالِم لم ينحصر في فكرة الاِنتقال من العوالِم إلى العالَم فحسبُ؛ بل أيضًا هو مفتوح على الاِنتقال من قوة النص المقدس في الحياة [اليوميَّة] التي من شأن الإنسان، في علاقته بالكون والوجود والمجتمع، إلى قوة العقلانية والفردانية والذاتيَّة والحريَّة، في إنتاج إمكانات جديدة لعلاقات جديدة للإنسان، في العلاقات الخاصَّة به برباعية العالَم والكون والمجتمع والإنسان؛ وتجسُّد ذلك في المعرفة الجديدة. إنَّ المعرفة الحديثة ليست جديدة لأنَّها قطعت مع المقدس النَّقلي في كل ضروب الإنتاج المعرفيّ؛ لا؛ بل هي حديثة لأنَّها توفَّرت، أوَّل بدءٍ، على إمكان أن تكون عالَميَّة، عَبرَ توحيد العقول في العقلانية الحديثة، وتحت سقفها.
إقرأ أيضاً: لماذا لا ينمو التسامح في المجتمعات العربية؟
– III علاوة على ذلك، لعبت القطائع في بِنى الثقافة والاِقتصاد والسياسة، وبخاصة في حقول الدِّين وفهم الدِّين، والإنتاج وضرورة التأليل (نسبة إلى الآلة)، والشرعية المجتمعيَّة للسلطة، وضرورة القطع مع الحق الإلهي في الحكم، الأدوار الأساسيَّة في إعادة تحديد الوجود المجتمعيّ بعامَّةٍ على نحو جذري، في تغيُّر كُلِّيٍّ شامل. إنَّ الثورة المجتمعيَّة، وهذا ما يجب أن يفهمه الفكر العربيّ من جديد، قد سبقت الثورة على صعيد الفكر. ولم يكن هذا الأخير إلاَّ نتيجة ونتاجًا لجملة الثورات المستمرة والمستدامة في الفترة الفاصلة بين عصر النهضة، وعصر بزوغ الحداثة؛ مع رينية ديكارت، وفرانسيس بيكون، وإيمانوئيل كانت، وجورج. ف. هيغل. وهكذا، لم يبقَ الوجود المجتمعيّ الجديد مفهومًا، بكفاية Completeness وإحكام Consistency، إلاّ بعدَ أن أصبح نموذجًا عالميَّاً جديدًا، في الإنوجاد Existing، وكل ضروب الإنوجاد المجتمعيَّة، من حيثُ إنَّها الاِنتقال من كون الإنسان كائنًا خاضعًا لقوى ميتافيزيقية إلى كونه كائنًا صانعًا فاعلاً في الوجود؛ متحكِّمًا فيه. إنَّ النموذج العالمي المجتمعيّ الجديد فُهم، ويُفهم، على نحو الحُرِّيَّة، متى أُخِذَت من جهة العقل، ووظائف العقل الأساسيَّة؛ ولكن أيضًا من جهة كون العقل في علاقة وطيدة مع الشروط المجتمعيَّة والتاريخيَّة التي تجعل منه كذلك؛ أي من حيثُ إنَّه لا يوجد من جهة كونه عقلاً فحسبُ، بل إنَّه مجتمعيٌّ أيضًا.
– IV لأوَّل مرة فُهم التاريخ على أنَّه لا يمكن أن يتجدَّدَ إلاَّ عَبرَ تخطي فكرة التراكم المعرفيّ إلى فكرة الثورة المعرفيَّة؛ وبالتالي القطع المعرفيّ الذي بُنِيَ على التمايز الجذري بين القديم والجديد. إنَّ فكرة النقل، لأوَّل مرَّةً، بدءًا من فرانسيس بيكون، أصبحت خارج إطار بناء الموضوع، وبناء المنهج، في الأبحاث الفلسفيَّة. إنَّ التَّساؤل عن الميتافيزيقا أصبح، لأول مرَّةٍ، تساؤلاً بَعْدِيَّاً؛ أي عوضًا عن أن يكون التَّساؤل الفلسفي- والعلمي تساؤلاً قائمًا على ما يحدِّدُهُ القَبْليُّ Priori من حيثُ إنَّه الموضوع المركزي للميتافيزيقا، أصبح تساؤلاً يخضع لكل ما تضعه الأبحاث الإمبيريقية، والعقلانية التي تقوم على نتائج الإمبيريقية.
– V إنَّ التَّساؤل من موقع بداهة التَّساؤل عن البداهات بدأ على نحو جذري من خلال وضع تساؤلات إيمانوئيل كانْت على أرضيَّة العلاقة بين العقل والوجود من جديد، من جهة، والتمييز بين الوجود والكينوينة، في ما بعد، من جهة أخرى. إنَّها التَّساؤلات: 1. ماذا يمكنني أن أعرف؟ 2. ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ 3. وماذا يحق لي أن أترجاه، آمله، أتطلَّعُ إليه؟ التي لا تُفهم إلاَّ اِنطلاقًا من كونها في علاقة جذريَّة مع القَبْليِّ Priori الذي من شأن [حقل- الفهم] الخاصّ بالميتافيزيقا. ولكنَّهُ مشروع بقي ينتظر تتمته مع فلسفة ما بعد الحداثة التي قامت منذ أوَّل بدئها على فكرة التعدُّد.
[VIII]
بَيْدَ أنَّهُ من أجل الظفر بفهم الأسس الوجودية، والمعرفيَّة، مجتمعيَّاً وفكريَّاً، التي من شأن [المجتمع- ما- بعد- الحديث] علينا أن نضطلع، مرة أخرى، وفي كل الأحايين، بالتساؤل الأصليّ عن التواشج البنيويِّ بين الهومو- آكادِميكوس (الإنسان الآكاديمي)، وما تنتجه الدراسات الإبستيمولوجيَّة- والميثودولوجية التي تقوم على الضِّدِّ مِنْ المنهج من حيثُ إنَّه نظام، ونسق منطقي (سستم عقلي في الفهم)… في الوحدة بين هذين الطرفين اللَّذَيْن أسَّسا، على نحو معرفي ووجودي، الإنسان ما بعد الحديث، ومن جهة المؤسسة، نكون أمام المجتمع ما بعد الحديث… ولكن المجتمعات لا تتجدد ولا يُعاد بناؤها، ولا هي تجد حاجة لذلك، إلاَّ بعد الاِصطدام، على نحو الصدمة، بالبنى المجتمعيَّة القديمة التي أثبتت فشلها في الحفاظ على المجتمع، وصون كرامة الإنسان فيه. إنَّ تجديد المجتمع إنَّما هو، قَبلَ أن يكون عمليَّةً فكرية- آكاديمية- معرفية بعامَّةٍ، هو ينطلق من أرضيَّة الشعور العميق بالنقص النبيل إزاء العالَم؛ الذي بدوره يولد الحاجة، بِقُوَّةٍ وعمق، للتكامل مع العالَميَّة؛ هذه الأخيرة من حيثُ إنَّ لها طبقات أربع: الأعم، والعام، والخاص، والأخص.