تكوين
إن لحظة إيقاف التكرار التي تتم بالسير القصدي السَّمتي الحادِسِ بتجويد الإقامة واستقبال الحداثة الدائمة لا يتمُّ الانخراط فيها إلا بالعزم الذي يمكِّنُ الفرد من مبادرة الوجود، أي بتحسُّسِ أزمة في العلاقة بين الإنسان ومحيطه. وتحسُّسُ الأزمة لا يكون إلا باستشكال القيم التي صيَّرت الحدثَ بؤرةَ فهمٍ حيٍّ، أي لحظةً يمتنعُ فيها إمكانُ الإقامة في قُطبٍ قيميٍّ دون آخر، فلا ينجرُّ الفاهمُ إلى الاستقطاب والاختلال المؤدي إلى عدم الاعتدال، بل يتوسَّط دومًا بإرادةٍ لا تنثني. هذا التوسُّطُ الذي لا يحيا إلا بالتعقُّل والرويَّة على قولة الفارابي، التي سنناقِشُ جدواها الأنطولوجيَّة في تظهير القيم العادلة القادرة على تكثيف إبداع التعرُّف بالكون، وخصوصًا في حالة الأزمة كالحرب مثلًا، حيث لا يمكن الخروج من هذه الورطةِ العَلوق إلا باستبصارٍ وتدبُّرٍ يبديان أثَر التعقُّل في حلِّ النزاع واستعادة حال الخير والسلام. ذلك أن الحربَ ليست سوى فعل استماتةٍ في سبيل القيم، لذا يكون الخروج منها باستعادة زمام المبادرة في التفكير الحثيث في هذ القيم نفسها التي لأجلها قامت حربٌ واشتدت أزمة. فلا انحيازَ في استشكالِ الحَدَثِ إلا إلى فهمِ الحدث، أي إلى فعلِ الفهم نفسِه، وهو التعقُّل، الذي يُدرِجُ التفكُّرَ في مراتب التدبُّر للخطوِ في سيرورة الغايات المثلى، أو في طريق الحكمة. والحكمةُ سلامٌ دائمٌ لا يديمُ استحضارَه إلا الإقامةُ الدائمةُ في التعرُّف والكشف، فهي ليست هدنةً معرفية ساذجة مع معارف موجودة. وما الحربُ إلا تشغيلٌ قصديٌّ لمعايير التفكُّر القيمي في إدارة العالم، لذا من الضروري إبداعُ القيمة في موضِعِها، لتكون مفهومًا يمنعُ الاحتراب والتقاتل العبثي، ويبعثُ العدالةَ الحدثيَّة الملائمة للعيش الكريم الحاضر.
التعقل
التوسُّط فعلُ تفلسُف
يقول أبو نصر: “التعقُّل هو القدرة على جودة الرويَّة واستنباط الأشياء التي هي أجودُ وأصلحُ فيما يُعمل ليحصل بها للإنسان خيرٌ عظيم في الحقيقة، وغاية شريفة فاضلة، كانت تلك هي السعادة”[1]. ويقول: “الأفعال التي هي خيرات هي الأفعال المعتدلة المتوسطة بين طرفين هما جميعًا شر. أحدهما إفراط والآخر نقص”[2].
وقبلَ أن نلتفتَ للاستفاضة بتعقليَّة الفارابي في ذاتها، لا بدَّ من الإشارة إلى موقفٍ فلسفي راهن أبداه محمد محجوب لمفهوم التعقُّل الفارابيِّ في إبداعه فهمًا لتعقليَّةِ الفلسفة في استشكال اليومي، بحيث إن توسُّط الفهم هو الذي يؤمِّن التزمُّن وإبداع فهمٍ حضوريٍّ للزمان يوفِّرُ هذه النُّقلة النوعية الدائمة للذات في أنطولوجيتها الحضورية؛ فبدل أن تتهمَّشَ أو تتحيَّز أو تنحصِرَ في ضيقٍ لا ينفتح لوصل المحلِّي بالكوني على بساط الفكر، فإنَّ التعقُّل من شأنه إبقاء هذا الوعي لليومي راهنًا، بحيث يكون كلُّ تفكُّرٍ هو مَوْجَدَةٌ للإنسان حيثُ يمكنُ هذا الانوجاد، وبكلِّ السُّبُل الانتقالية إلى الوعي الحي، سواء بالترجمة أو الشعر أو التفكُّر الفاهم لليوم. يرى محجوب أن “الفكر في تعلقه بيومه إنما يستضيفه يومًا فلسفيًّا، بأن يقيم لنفسه ضمنه معاصرةً منها يكون فكرًا، وبها يضطلع بالزمان…”[3]. إذًا هذا الارتفاع باليومي إلى المقام الفلسفي هو الذي يمكِّنُ من إبداء مفهومٍ للزمان، أي ما سمَّيناه في عنوان هذه الدراسة بـ “مبادرةُ الوجود”. نعم إن الوجود لا يُبدِعُ ذاته بشكلٍ عاديٍّ، بل إن فاعلًا يعاين هذا الوجود ليحدِّدَ معالِمَ الانوجاد في المجرى الحدثي الحي، بسَبْقٍ وإسراعٍ ينجزانِ مساوقة الفعل للحدث.
وما الفهمُ الفارابيُّ للتعقُّلِ والروية إلا إحرازُ هذه الأنطولوجيا الإبداعية للقيم المعرفية الحية في العيش. فليس الوجودُ سوى انبثاقُ الوعي في حينه. يقول محجوب “إن اللحظة التي هي اليوم ليست آنًا من الآنات وإنما هي ضربٌ من اللحظ المنظوري الدائري… لا يكون فيها المفهوم للمفهوم إلا أوان آن، وحِيانَ وقت، ولا يكون فيها أوان الآن إلا تصادي المفهوم والمفهوم”[4]. هذا الحراك المفهومي “الدائري” بالتعبير المحجوبي يحيلنا على الحراك المفهومي القيمي للأفعال عند الفارابي الذي يقتضي التعقُّلَ والتروي في سبيل الاستنباط لإحراز وضعية التوسُّط والاعتدال سيرًا في طريق السعادة والكمال والحكمة. فالتوسُّط بين “الإفراط” و”النقص” عند الفارابي ليس بالفعل العادي أو الاعتباطي، بمعنى إنه ليس اتخاذ موقفٍ محايد من سيرورة الأفعال في المعيش، بل هو اقتدارٌ قائمٌ على التعقل والفهم والتروي لاستيعاب ظاهرة العيش نفسها التي قوامها الإنسان والزمان والمكان. ذلك أن القادر على التعقُّل التوسطي المعتدل المتروِّي هو المَلك، أي هو القائد السياسي الحكيم، عذا الرأس الذي يفعل الخير لذاته. إنه الذي يقيم المدينة الفاضلة التي تسير إلى السعادة دومًا. يقول الفارابي في الأفعال: “وقد يكون منها ما هو معتدل لطائفةٍ دون طائفة في زمانٍ ما، ويكون منها ما هو معتدل لطائفةٍ طائفةٍ في زمانٍ ما آخر، ويكون منها ما هو معتدل لإنسانٍ إنسانٍ في وقتٍ وقت… والمستنبِط للمتوسِّط والمعتدل في الأخلاق والأفعال هو مُدَبِّرُ المُدُن والملك، والصناعة التي يستخرج بها ذلك هي الصناعة المدنية والمهنة الملكيَّة”[5].
وقد رهنَّا الموقف السياسي بالموقف الفلسفي عند الفارابي بناءً على ربطِه فعل الصناعة المدنيَّة بالتعقُّل والروية، وإفاضته في شرح ذلك بناءً على الموقف الأنطولوجي المعرفي الذي يمكِّنُ من هذا الاقتدار الأخلاقي في التحكم العادل في صيرورة الأفعال، ألا وهو التوسُّط. فالوسطية هنا ليست وضعيَّة توافقية مبنيَّة على التنازلات المَصلَحيَّة الفردية في عدم الإفراط أو الإنقاص من مضامين الرأي في إدارة الأمور. والتلفيقُ ليس صناعةَ موقفٍ أخلاقيٍّ خيِّرٍ عند الفارابي، بل إن الخير هو التمكُّن من هذا التوسط ابتعادًا من الشر الممكن أن يلحق بالإنسان في حال مفارقته لهذه الوضعيَّة التعقُّليَّة المُثلى. فالتوسُّطُ هو ما يحقِّقُ مبادرةَ الوجودِ باجتراح المفاهيم الملائمة للحظة الحضورية الراهنة، بإنسانها وزمانها ومكانها. وفعلُ الخير لا يكون لغايةٍ خاصة، بل لمنفعةٍ عامة، وهي التمظهُر الحقيقي للمنفعة بذاتها، أي للخير في ذاته. إذ إن الفعلَ مِراسُ الفكر، وبالنتيجة هو مظهرُ الفضيلة وكمالها، وبالنتيجة لا يمكن الحديث عن فكرٍ بلا فعلٍ في إطار المفهوم الحقيقي للكمال والفضيلة. يقول الفارابي: “وأن الكمال هو في أن يفعل لا في أن يقتني الملكات التي بها تكون الأفعال، كما أن كمال الكاتب أن يفعل أفعال الكتابة لا أن يقتني الكتابة… وبهذا الكمال يحصل لنا الكمال الأخير، وذلك هو السعادة القصوى، وهو الخير على الإطلاق، فهو المؤثر المشتهى لذاته، ولا يكون ولا في وقتٍ أصلًا مؤثرًا لأجل غيره”[6].
والتعقُّلُ الفارابيُّ هو نتاج العقل العملي، كما أن الفارابي يربط بين الفكري والعملي، أما العقل النظري عنده فهو الاستعداد الأولي الذي يكون بالطبع. إذًا إنَّ مقياس التعقُّل والعلميَّة مقرونٌ بالتجربة والبحث والفعل. وما هذا الابتداء بالعملي سوى دلالةٍ على التفاعل الحي مع الوضعية الأنطيقية للمفاهيم وجعلها مباشرةً في لحظةِ الفكر-الفعل-التوسط-التعقل، أي إحالتها إلى الوضعية الأنطولوجية بالتجريب والتفاعل. يقول الفارابي: “الجزء الناطق النظري والجزء الناطق الفكري لكلِّ واحد منهما فضيلة على حيالها. ففضيلة الجزء النظري العقل النظري والعلم والحكمة. وفضيلة الجزء الفكري العقل العملي والتعقل والذهن وجودة الرأي وصواب الظن”[7]. وعلى هذه الأفعال العملية سيبني الفارابي أطروحة التعقُّل الذي لا ينفذ إلى مراميه في الفضيلة إلا باستمرار التجريب في كلِّ العمر الذي يعيشه الإنسان. إذًا لا يوجَد عند الفارابي مفهوم سابق للتجربة يقاس به الفهم في كل زمان ومكان، فلا مفهومَ مارِقٌ على الزمان بحيث يلائم كل حالات العيش وتجارب الحوادث، بل إن التجريب هو الذي يستتبع التعقل والروية لإنتاج مفهومٍ مواكبٍ يؤدي إلى التقدم في سبيل السعادة القصوى، أي الفضيلة. إن اقتران العلم بالفكر هو السبيل إلى جعل العلم النظري موضوعًا على الدوام في وضعية التجريب والتوسيط في التجربة[8].
يرى هيدغر أنه “يجب على التأويل الزماني للدازين اليومي أن يستند في البداية إلى البنى التي في نطاقها يتشكَّل الانفتاح. وهي الفهم والوجدان والانحطاط والكلام. وإن ضروب تزمُّن الزمانية، التي علينا أن نرفع النقابَ عنها بالنظَرِ إلى هذه الظواهر، إنما شأنها أن تمدنا بالأرضية اللازمة لتعيين زمانية الكينونة – في – العالم”[9]. وهنا نجِدُ أن ظاهراتيَّة الانفتاح هي التي تتيح انجماع كل إمكانات إظهار الكينونة القصدي في الزمان، أي تأويل الكائن حيث هو الآن هنا، وليس كتابة فكرة عن تاريخه، بل فهمه الراهن الذي يتزمن الحدث، أي حيثُ تستشكل الأزمة ليَبْدُرَ الوجودُ بالكينونة الممكنة أنطولوجيًّا. ذلك أن الوعي بوحدة التعقُّل النظري والعملي والكياني عند هيدغر هو الذي يؤدي إلى انوجاد الدازين في لحظةٍ محددة. لذا إن حيويَّة الوجود تكون بالقدرة على تمكينه في الكينونة، كما يقتضي الإفصاح في هذا الموقف التاريخاني الذي يتكوَّن الآن في الحدث القائم. الكينونة هي الوعي بالوجود لذاته بمبادرتِه تعقُّلًا، وما اجتماع الانحطاط بالكلام هيدغريًّا إلا هذه السيرورة الحرة للفهم والوجدان في مجرى الفعل.
من خلال هذا التعيين الهيدغري للكينونة نسترجِعُ لحظة التوسُّط التعقُّلي الفارابية، حيث إن مآل الفهم ليس إلى مفهومٍ من خارج دائرة الحدث التي يصنعها ويجرِّبها هذا المتفكِّرُ المتعقِّلُ المستنبط المتوسط. إذًا إن الوسطيَّة هنا هي أنطولوجيا إبداع الصيرورة الحقيقية للفهم المصاقِب للحدث. إن استيعاب ظاهرة العيش الراهن هو الذي يولِّد مفهوم الخير، لأن السقوط في النقص أو الإفراط هو الشر كما قال الفارابي. هذا التوسُّط يحاكي أيضًا أرضنةَ المفهوم عند دولوز، إذ الوسطُ الذي لا يتعلَّقُ بفهمٍ من خارجِه، وإنما بفهمٍ ممكنٍ عليه يحدِّده هذا الاهتزاز المُكوِّن للمفهوم، أو هذه الصيرورة الحيَّة للمفهوم في موضعه، والذي لا يُجاري سيرورته التاريخية قبلَ هذه الصيرورة الحدثية الاهتزازية الحرة التي تؤمِّنُ مواكبةَ الحضورِ بعيشِهِ تعقُّلًا برويَّةٍ وفكر. هذه الأرضية التي ينشأ عليها المفهوم، وفيها تتظهَّرُ الفلسفة بما هي هرمينوطيقا تأويلية لهذه اللحظة الفينومينولوجية الحرة. يقول جيل دولوز: “ليست الطوباوية مفهومًا مناسبًا، لأنها حتى عندما تتعارض مع التاريخ، فإنها تستمر في الارتجاع إليه، والاندراج فيه، كإحدى المُثل أو كحافز ما. إلا أن الصيرورة هي المفهوم عينه. فتولد في التاريخ وتتساقط فيه، ولكن دون أن تكون هي التاريخ. لا تمتلك في ذاتها بداية ولا نهاية وإنما وسطًا فحسب. فهي بذلك جغرافيَّةً أكثر منها تاريخية. تلك هي الثورات ومجتمعات الأصدقاء، فهي مجتمعات المقاومة، إذ إن الإبداع هو المقاومة: أي أن نبدع ونقاوم في وقت واحد، صيرورات خالصةً، أحداثًا خالصةً فوق مسطَّح المحايثة”[10]. فما الحضور التعقُّلي سوي هذا الاعتراف بما يجري، وليس الانتقاص منه في سبيل ما جرى، بل إن باب الممكن هو الأساس في تمكين الفعل الآن من مَلْءِ الحدث. إنَّ وعي الحدثيَّة هو البراعة في الحضور، أي هو الإبداعُ لفهمِ الوجود بمبادرَتِه.
لذلك إن هذا الجزء الفكري النطقي العملي بحسب الفارابي مسؤول عن التعقُّل واستنباط المفاهيم، من وجهةِ ابتدائها برصانةٍ وثقة لا تقصِّرُ عن إمكان استئناف رحلة السعادة أو الخير المطلق. إنَّ العملي ابتداءُ لا يمكنُ للنظري أن يتجاوَزَه إذا ما قرَّرَ الباحِثُ عن الفضيلةِ أن يتعقَّلَ فهمَه للوجود. وما أجدى التفكُّرَ في اللحظة الكنطيَّة في تحصيل العقل المحض، بإمرارِها على هذا التفكُّر الفارابي بتدبُّر مجرى السيرورة تعقُّلًا وتروِّيًا.
تعقُّليَّة الجهاد
لما كان فهمُ الفارابي للفضيلة هو أنها الخير لذاته وليس لغاية، فإن في هذا دليلٌ على ذهنيَّةٍ تقيمُ وزنًا لفكرة فعليَّةِ الخير بذاته، وهي ذهنية تتوافق مع المبدأ الفلسفي الكلِّي للخيرية بأنَّها ليست ربحيَّةً أو براغماتيَّةً أبدًا، بل نفعيَّةً في ذاتها، فسيرورة الخير هي الخيريَّة نفسُها. لذا نقول إن تعقُّلَ الخير في الفعل اليومي، أو في العيشِ خيرًا، هي الخيرية المطلقة، أو الفضيلة. ونجتَرِحُ مفهومَ العيشِ خيرًا من طرحِ الفارابي لمفهوم “بادي الرأي”، الذي يتحدث في أرضيَّتِه عن الفضيلةِ الفكريةِ بما هي “وارد مشترك”[11] عند جميع الأمم؛ “والفلسفة في بادي الرأي في الحقيقة هي أن يحصل للإنسان العلوم النظرية وأن تكون أفعاله موافقة لما هو جميل في بادي الرأي المشترك وفي الحقيقة”[12]. وبدوُّ الرأي هو، بحسب ما ورد في لسان العرب[13]، ظهور الرأي والعلمُ به حالَما يبدو، وهذا يعني حصول ما لم يكن، فسَمْتُ السَّير في طريق الدِّرايَةِ إلى الرأي هو القصديَّة الممكنة في بادي الرأي، بل هو التروي والتعقُّل الذي لا يمكن للرأي أن يقوم ويبدو من دون حدوثهما لربط العقل النظري الفاهم بالعقل الفكري العملي الفاعل. إذًا البدوُّ هنا إبداءٌ في جدَّةٍ من الموقف، وبادي الرأي يفيد راهنيته وحدثيَّته، لذلك هو واردٌ مشتركٌ على جميع الأمم. هذا الاشتراك الذي لا يفيد تباعد الأزمنة والأمكنة والأفعال المعيشة، بل يفهِمنا اشتراك الموقف في العيش المشترك الذي يُظهِرُ القيم المشتركة، فهو لحظةُ بادي الرأي في الفلسفة بما هي سؤال الفضيلة والسعادة الذي لا يخدم أهدافًا ومصالح أخرى غير هذه الحيثيَّة الخيرية القصوى عينها.
يقول الفارابي: “المجاهد الفاضل إذا خاطر بنفسه فليس يخاطر وعند نفسه أنه لا يموت بفعله ذلك، فإن هذا حمق؛ ولا أيضًا لا يبالي إن مات أو عاش، فإن هذا تهوُّر. بل يرى أنه عسى أن لا يموت وعسى أن يتخلَّص… ولا يخاطر بنفسه وهو يعلم أو يظنُّ أن الذي يلتمسه يناله بلا مخاطرة…، ويرى أنه إذا خاطر عسى أن يناله أو يرى أنه سينال ذلك أهل المدينة لا محالة من فعله ذلك، مات أو عاش”[14]. إذًا إن العيش خيرًا كما وصَّفنا مفهوم الفارابي للفضيلة قائمٌ على الربط المطلق بين الفضيلة والحياة. فالفاضل هو الذي يحيا في سبيل فكرته ولا يستهوِنُ الموت لأجلها. وقد سوَّغ الفارابي لذلك بأن جعل جزَع الفاضِلِ من الموت هو جزعُ من يرى في الموتِ انقطاعًا عن فعل الخير، “الفاضل إنما يفوته بالموت أن يستكثر من فعل ما يزداد به سعادة بعد موته، … فلا يفزع أصلًا بل يحبُّ البقاء ليزداد من فعل الخير… ليس ينبغي للفاضل أن يستعجل الموت، بل ينبغي أن يحتال في البقاء ما أمكنه ليزداد من فعل ما يُسعد به”[15].
إقرأ أيصاً: تحديث الانشغال بالكون: الحلقة الثانية… إحكامُ الإقامة وإمكانُ السَّمت
لذلك إن تعقُّلَ الفرد هو قدرته على مراس الخير والتمييز بين الخير والشرِّ، لقدرةٍ في الانوجاد خيرًا بالإمكان عدمُ الانزياح عنها. كما إن من الجدارة بمكان أن يستثمِرَ الإنسانُ ما يعلمه في إبقاء ذاته حيَّةً. وهنا قيمةٌ كبرى في الفكر الإنساني تتجلى في التخطيط العلمي، تعقُّلًا وتروِّيًا، في الحفاظ على الإنسان في قيد الحياة. وبما أن الحياة دارُ علمٍ وفضيلة فمن الخطأ مغادرتها مجانًا. وقد كرَّر هذه الفكرة سبينوزا مؤكدًا أن الفضيلة هي ماهية الإنسان، وأنها ليست مقابل الرذيلة، بل مقابل العجز، وكذلك إن الحياة هي معيار الفضيلة أما الانتحار فليس فيه فضيلة لأنه فعلٌ منافٍ للعقل والطبع. يرى سبينوزا أن الفضيلة هي “السلوك وفقًا لقوانين طبيعتنا الخاصة، كما لا يمكن للمرء أن يحافظ على كيانه إلا وفقًا لقوانين طبيعته الشخصية، … إن الذين ينتحرون إنما أصابهم وقهرتهم العلل الخارجية المناقضة لطبيعتهم”[16].
من ذلك نخلصُ إلى أن فعلَ العقلِ في الحياة هو الذي يضمن الهناء والسعادة للإنسان، بحيث لا يكون التنافر والتضاد والاختلاف في الرأي سببًا في استسهال إحداث الشرور. فالشر ما هو إلا سقوطٌ لا عقليٌّ من مقام الخير إلى حيث لا يمكن للذات الإنسانية أن تتموضع في سعادة. والفارابي لم يغفل عن دَرْسِ حال العداوة بين طرفين، لكنَّه اشترط لكينونةِ المجاهد السَّيْرَ التعقُّلي على درب الفضيلة، أي وعي الوجودِ خيرًا في الحياة. إن الهدف من الحياة هو البقاء في دوام الفضيلة كيما يتمكَّن الحيُّ العاقل من بلوغ السعادة القصوى، وهي الاستثمار الكلِّيُّ للعقل بتروٍّ وجودة في التمييز والاستنباط والفهم، لذا ليس الجهاد هدفًا في ذاته، بل إنه إذا ما أُكرِهَ المرءُ عليه فالسبب يجب ان يكون زيادة في الفضيلة وفي النفع على الناس. أما إذا كانت المعارك ستؤدي إلى إهلاك المجتمع والإكثار من شروره، فإن القتال عبثيٌّ، بل هو شرٌّ حتمي. وقد أوضح الفارابي مراتب وحيثيَّات تمكِّنُ العاقِلَ من تفادي الموت، لأنَّ الخير هو الحياة، فإذا ما كان يمكن استئنافُ الخيريَّة ونحن أحياء، فلماذا نستهين بذواتنا. إذًا الحرب ليست طبيعةً في البشر، بل الأساسُ هو التعايشُ الحر، لأنه ينسجم مع الطبيعة الإنسانية العاقلة لهذا الوجود. يقول فتحي التريكي: “الصمود يمكن أن يأخذ أيضًا نهج التفكير والتعقل ونشر جودة التمييز بين الناس، نهج التحاور والتعايش. مع العلم أن التعقل لا يفيد أصلًا استسلامًا أو استكانةً، بل هو نضالٌ يومي ومقارنة مستمرة ضد الاستبداد وضد كل اللامعقول في العالم. وهو بذلك أساس فلسفة العيش سويًّا”[17]. نعم، إن خيريَّة اليوم هي في القدرة على تمكين العقل من منع الاستبداد والدكتاتورية واختزال الرأي الآخر بالقوة. إن العقل اليوم هو في القدرة على إبداع فلسفة العيش المشترك، أو ما يسميه التريكي في مواضع أخرى “فلسفة التآنس”. إنَّ الحاجةَ إلى تحيين فلسفةٍ أخلاقيَّة، تصاقِبُ الحراك العلميَّ السريع الذي يجري اليوم بانشغالٍ تفكُّريٍّ يرسِّخُ قيمًا جديدةً للبقاء سعداء في هذا العالم هو معنى الإنسانية الراهن. لا مجال لأن يعودَ الإنسانُ فاعلًا للخير إلا بإحداث دلالاتٍ جديدةٍ على الخير الحدثيِّ الحاضر، إذ لا يمكن التلهي عن اليومي بتراثٍ قيمي من دون استئنافِ الجهد الأخلاقي البشري بمبادَرةِ الوجود. إنَّ المبادرةَ تقتضي الإسراع في إنقاذ قيُّوميَّة الإنسان في العالم، كي لا يغدو متفرِّجًا ساذجًا أو فاعلًا شريرًا لا يبحثُ عن إمكان الخير وتقصِّي درب السعادة القصوى في احترام كينونة العقل في الوجود الحر. السعادة اليوم هي العلمُ الحر، وإلا نفارِقُ عيشنا اليومي، وننسحب من التأثير إلى أن نصبح أثارةً قد لا يعتدُّ بها ولا يُكتَرَثُ بوجودها على مرِّ الأيام.
المراجع:
[1] الفارابي، أبو نصر، فصول منتزعة، تحقيق فوزي متري نجار، المكتبة الزهراء، إيران، ط 2، 1405 هـ، ص 55.
[2] المصدر نفسه، ص 36.
[3] محمد أبو هاشم محجوب، في استشكال اليوم الفلسفي تأملات في الفلسفة الثانية من أجل إعادة التأسيس، دار كلمة، تونس، 2021، ص 162.
[4] المصدر نفسه، ص 170.
[5] فصول منتزعة، ص 39.
[6] المصدر نفسه، ص 46.
[7] المصدر نفسه، ص 50.
[8] المصدر نفسه، راجع ص 54 وما بعدها لفهم العقل العملي-الفكري عند الفارابي وارتباطه بالتجربة.
[9] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2012، ص 582.
[10] جيل دولوز وفليكس غتاري، ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي – بيروت/ المركز الثقافي العربي – بيروت والدار البيضاء/ اليونيسكو – باريس، 1997، ص 122-123.
[11] فصول منتزعة، ص 99.
[12] المصدر نفسه، ص 100.
[13] انظر: “الفَرَّاءُ: لَا يُهْمَزُ بادِيَ الرأْي لأَن الْمَعْنَى فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا ويَبْدُو، وَلَوْ أَراد ابْتِدَاءَ الرأْي فهَمَز كَانَ صَوَابًا… قال ابنُ الأَثير: وَهُوَ مَعْنَى البَداء هَاهُنَا لأَن القَضَاءَ سَابِقٌ، والبَدَاءُ اسْتِصْوَابُ شَيْءٍ عُلم بَعْدَ أَن لَمْ يُعْلم، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بَدَا لِي بَدَاءٌ أَي ظَهَرَ لِي رأْيٌ آخَرُ” (ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، (ت 711هـ)، لسان العرب، تحقيق اليازجي وآخرون، دار صادر، بيروت، 1414 هـ، الجزء 14، مادة “بدا”، ص 65-66).
[14] فصول منتزعة، ص 85.
[15] المصدر نفسه، ص 84.
[16] باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص 248-249.
[17] فتحي التريكي، الفلاسفة والحرب، ترجمة زهير المدنيني، دار الروافد الثقافية-ابن النديم، بيروت-وهران، 2015، ص 13.