تحدثنا في الحلقة الأولى عن إيقاف التكرار وإحداث الكينونة الأصيلة، تلك الحضورية المطلقة التي تبدِعُ الموقف الحقيقي الذي يمكِّنُ من التواصل القوي النافع في العلاقات الإنسانية. ننتقل هنا إلى حيثيَّة التعقُّل للإقامة وتوثيقها وهو ما يكون بإمكان السَّير القصدي، وهو السَّمْتُ الذي يكون بالنحو والاهتداء وتهيئة وجهة السير بالحدس والظنِّ، إنَّه تنسُّمُ القصد، أي التماسُ العلمِ به شيئًا فشيئًا[1]. وما يعنينا من هذا السَّمت، هو السمتُ الحَدثِيُّ الحضوري الذي يرهنُ المعرفة بانتحاء الانفتاح في عين الحدث، بحيث يكون الحدسُ الشَّيْمِيُّ[2] ممكنًا لتأويل الوجود الحر في الابتداء المطلَق. إذًا ما نتغيَّاه في وعي الإنِّيَّة الحضورية هو إحداثُ الكائن الانبعاثيِّ القادِرِ على استمرار الوجود من الآن إلى المستقبل، بقصديَّةٍ تحصِّلُ فتحَ الطريق تعلُّمًا واهتداءً وإحكامًا للإقامة الدائمة الهنيئة في هذا العالم. إن وعيَ الحاضِر لا يكون بالبكاء والتحسُّر وإحصاء الخسائر والغنائم، بل بالتأويل التجاوزي الحر الذي يمكِّنُ الذات الفاعلة من تحسُّس وضعيَّتها الأنطولوجية المعرفية على الدوام. لابدَّ ما إحداثِ معنى جديد لمفهوم الحياة، حتى نتمكَّن من الاشتراك الفعلي في قيم الاجتماع البشري المعاصر. لا يمكن استمرار الخضوع لمفاعيل توجيه القيم من جهةٍ واحدة، وذلك ليس من باب التمرُّد المزاجي على حالٍ راهنة، بل لأن من طبيعة العيش البشري ضرورة الاختلاف في مصادر القيم، وذلك انسجامًا مع التنوع الظاهراتي لبيئات العيش.
إن ما يتطلَّبُ التفكُّرَ اليوم هو الاعتراف بضرورة الوجود البشري، إذ إن ما يبدو لنا من خلال تصرفات القوى العظمى في التصنيع والتكنولوجيا هو إدارة تطوير التقانة بِمَن حَضَرَ فحسب في مجال القدرة على المواكبة. أما الفئات غير المواكِبة لتطور التكنولوجيا، لأسباب لا تخرج عن تأثير المهيمنين أنفسهم على إدارتِها عالميًّا، فهم مجموعات معرَّضة للإبادة الجماعية من دون أي كلام عن شعورٍ بالشفقة أو الحرام تجاه فاعلية القتل في نفسِ الآخر. يتمُّ إخراج الآخر من الحضورِ الحي في العالم، وذلك بالتخلُّص من مناطق مأهولة بالسكان، لأنها لا ترضى بسياسةٍ ما لدولة عظمى أو بهيمنةٍ فالتةٍ لعصابات مسلحة. والأمثلة على الإقصاء العَمْدي والإبادة المنظَّمة كثيرة، سواءٌ تمت بالأسلحة البيولوجية كالتوليد القصدي لفيروس كورونا، والتهديد به أو بأقرانِه وأشباهه كلما اشتدَّ التوتر بين أقطاب النظام العالمي، أو تمت بأسلحة الدمار الشامل الفتاكة كما يجري اليوم في فلسطين أو بين روسيا وأوكرانيا وقبل ذلك في احتلال العراق وتدميره ثم في الحرب السورية… إلخ.
إن ما يجري هو التسويغ العلمي للهمجيَّة، بحيث يتم استثناء الذوات في سبيل الأشياء، أو استثناء الحب في سبيل ما يقتصر على علاقة بين شاب وفتاة…إلخ. ولئن تحدَّث زيغمونت باومن عن الحداثة السائلة، باعتبار ما سبقها من مراحل الحداثة الصلبة بالأيديولوجيا والتنوير والتوجيه، فإن ما نراه اليوم يمكن أن نسميه استثقال حيازة الذات البشرية للعقل. لذا بدأ الإنسانُ بالتخلُّص من عوائق حضوره الجسدي الفنومينولوجي الشديد الامتثال للغريزة، بأن مارسَ عُريَ الجَسَدِ واستهلاك الإعلام لفضح هذا العُري، ثم تسطيح مضمون الكلام حتى لا يكون لذوي العقول المفكرة حضورٌ ينافِسُ حضور البلهاء على الشاشات وفي مواقع التأثير في ما يسمى بثقافة العصر. إن مسؤولية الثقافة اليوم ليست بِيَد المفكِّر المتعقِّل للواقع الراهن، بل بيد مَن لا يريد العقل الرصين ويستهوي الحضور المنفلت في الحدث. وشتَّانَ ما بين المواكبة الإبداعية للحدث والحضور الهلامي للذات الحَيرى في اختيار مشهدها دون اكتراث بأنطولوجيتها؛ إنه الوجودُ الخُلَّب. يصف ميشيل هنري هذا الانحدار بالهمجية، لأن العيش الحداثي الراهن حادثٌ دون أي اعتبار لمرجعرية أخلاقية إيثيقيَّة بالمعنى الجمالي الفني الذوقي المرجعي الذي يهيِّء مشهديتها الممكنة؛ “إن السمة الحاسمة للحداثة، وما يجعل منها هذه الهمجيَّة غير المسبوقة، هي بالتحديد أنها مجتمع مفتقر لكل ثقافة ومستمر من دونها”[3]. ويُرجِعُ هذا العطب القائم في أمشاج العلاقة بين الذات والأشياء إلى تلك الصرامة الموضوعية التي اقترحها العقل التجريبي العلمي في بداية التحديث، حيث كان المطلوب هو رؤية الأشياء كما هي، بما هي. فاشتداد اعتبارية الأشياء بذاتها، أحدث اختلالًا في استعادتها الحرة إلى مجال التأويل الذاتي لها، بمعنى إلى مركزية التحكم البشري بكيفية وجودها الخاضع للإنسان، “أفضى تعطيل الذاتية، الذي ووري خلف اعتبارات الصرامة، إلى خراب البسيطة على يد الطبيعة اللاذاتية للتقنية”[4]. ويتحدث هنري عن الوجود الإعلامي الذي هيمن على مفهوم الحرية جذريًّا، واستباح العقول وهتك الأعراض واستعبد الناس، بحيث أصبح “كل فردٍ يعيش فيه وجودًا غير وجوده، والمحتوى الذي يحتل فكره ما عاد ما ينتج منه، وإنما ما تأتي به الآلة التي تتكفَّل كل شيء… فإنها تصير الإشباعات الوحيدة الممكنة عندما أصبح الوجود الإعلامي الوجود الوحيد الفعلي. ليس هذا مجتمع المعوزين الاجتماعيين بقدر ما هو مجتمع المعوزين العقليين”[5].
إن الخطورة تكمن في استخفاف الذات البشرية بمركزيتها، بحيث إن اعتبارًا تولَّد لديها على ما يبدو باكتمال وجودها في العالم، لذا أجازت الذوات المتحكمة لنفسها إفساح المجال في الوجود نفسه لإمكانية وجودٍ بطريقة جديدة يبدأ من الآلة هذه المرة. فالذكاء الاصطناعي ليس معجزةً اخترقت العقل البشري الراهن، بل هو تنَزَّل بمنزلة الشرط القَبْلي للمعرفة في ما يتعلَّق بالعقل العملي المحض اليوم. إنَّ ترنسندنتاليَّةً معرفيَّةً على الطريقة الكانطية، فرضت نفسها، رغمَ انعطاء الكينونة المطلق في عالم اليوم. وإذا ابتدأنا من العالم بما هو فسحةٌ حيَّةٌ لظهور الأشياء بما هي علامات دالة، لها حيثيَّتها المبتكرة دومًا من جهة البشر الفاعلين في دلالتها، أي حضورها المنتج للمعنى في الذهنية المتفكرة بها وفيها، فإننا سنلحظُ اليومَ تسييرًا للعقل البشري على سَمْتِ المعنى المطلوبِ لفهم الواقع كما هو قائم، وليس استنادًا إلى إرادةٍ حرة في تظهير الاقتدار المطلق نيتشويًّا في التقرير والاختيار. إنَّ تنظيم حركة المطرقة المعرفية بحسب الشريك الافتراضي في تعقُّل الوجود وهو “الذكاء الاصطناعي”، أدى إلى تهفيت الدهشة الفلسفية الممكنة من طريق المصاقبة الوجودية بين الذات والأشياء. فإن ما يجري اليوم شديد التمكن من السيطرة على الطريق الهادي، لذا إن استلابًا قصديًّا أحدثه الفاعلون في التقنية العالية الجودة للذات الإنسانية الطبيعية، بأن استبدلوا مركزيَّة العقل بمركزية الآلة، من هنا صار العقل يلهث للاشتراك في مركزية التعقل، أي لإحكام الإقامة في أنطولوجيا العالم الافتراضي.
هذه الإقامة الراهنة توفِّرُ للإنسان المعاصر إمكان السَّمت المقصود في الحدث الراهن، لعلَّ إمكان إنتاج دلالةٍ جديدة لمعنى الوجود البشري تصبح ممكنة في هذا الوضع. والمفارقة الكبرى هي أن الإنسانَ أشركَ نظيرًا له في السيطرة على العالم، بحيث إن التناظُر والمساوقةَ الحدثيَّين قد يحجبان إمكان تمثُّل العقل البشري في جهةٍ أخرى هي الآلة، بل إن الآلة نفسُها عقلٌ يضاهي في حضوريته حضور الكائن، الذي لا نزال نقولُ خوفًا وتوجُّسًا أنه هو الذي أبدع هذه الآلة، ونصرُّ على ذلك كي لا نفقد مكانتنا في مكاننا. المسألة ليست بهذه البساطة، إن التفكير الذي تولَّد في أوساط الفاعلين بالسياسات الكبرى للعالم، أو المهيمنين الجدد، هو أنهم امتلكوا العالم حقيقةً. ولما كان هذا العالم لا يزال حيًّا دون سلطةٍ منهم في بعض المواضِع، فهم أرادوا التألُّه في إدارة هذا العالم، لإحكام القدرة على الاشتراك في إيجاد شيء فيه لم يكن موجودًا. إنهم يريدون شيئًا يقرِّرُ كيف يكون العالم، وليس شيئًا يفهم العالم، لذا إن لحظة الابتداء الراهنة ليست استئنافًا معرفيًّا بقدر ما هي استئصالٌ لمعارف الناس عن العالم واستبدالها بمعارف لم تكن قبلًا، ولا يمكن تحصيلها إلا من خلال الخضوع لنظام تعلُّمِها الراهن، والذي يمرُّ عبر التقنية الافتراضية الذكية فحسب، إنه العقل النظير للعقل، بفهمٍ قد يخالف شروطَ العقل في اتسعاب معنى الحياة والبقاء فيها. وهذا ما قد يؤدي إلى تدمير العالم بالمطلق، إحداثًا لمشهد فينومينولوجي قوامه القدرة على الإبادة التي تضاهي القدرة على الخلق.
ولما كان التوهُّم مرحلة لا يمكن الاستهانة بوجودها، فهي إحدى برْهات الذهن في سيرورة التفكُّر، فإن أثر التوهُّم هو الوعي بإحكام الهيمنة، الذي تجري مفاعيل حضوره الكلي في إنفاذ الذهن إلى الواقع. وتنفيذُ ما في الذهن البشري التقني هو لحظة البداية الأولى لوجود الشيء في الواقع، أما اللحظة الثانية التي ستكون مصاقبةً أو متقدِّمةً في بعض الأحيان فهي لحظة الابتداء الآلي لوجود الأشياء والأحداث، وهذا ما سيقرِّر مصير العالم اليوم. إنه الاشتراكُ في الابتداء. يرى تورين أنه “لما كانت هذه القدرة ما تزال ضعيفة، كان على البشر أن يضعوا الإبداعية خارج أنفسهم… اكتسبنا مستوى أكثر ارتفاعًا من الوعي بإبداعيتنا عندما اكتشفنا أننا نستطيع تدمير أنفسنا، أولًا باستخدام الأسلحة النووية، ثم بتخريب بيئتنا ونظامنا المناخي. فعليًّا بدأ بعض العلماء في عمل مخ اصطناعي من خلال الجمع بين الإنسان الآلي وتكنولوجيا النانو سيكون أكثر فعالية من المخ البشري وسيمنحنا وعيًا قصيًّا بأننا خالقو أنفسنا”[6].
هذا الوعي بخلق أنفسنا الذي يتحدث عنه تورين بأنه سبب في تدمير ذواتنا أيضًا، هو ما يستدعي تأملنا الجديد. إنَّ فلسفةً تنتظرُ رعايتنا لإقامتها بإحكام، قوامُها الكائن الانبعاثي الذي يبادِرُ إلى إحياء علاقةٍ جديدة بالطبيعة، بالبيئة التي يكون فيها. هذه العلاقة ليست إصلاحًا لاختراب الفهم ولا انتقادًا لسلطة الفهم الراهن، بل هي التفاعل التأمُّلِيُّ الحر في دوَّامة الحدث، لإبداع فهمٍ يواكب السَّير النافع في ذروة الائتلاف القائم بين عناصر الوجود الراهن. إنَّ النفعية هنا ليست براغماتية انتقائية، بل اعتراف بكل خطوةٍ تحدثها الذات تعقُّلًا لفهم العلاقة الممكنة بين الإنسان والعالم بأشيائه اليوم. إنَّ الابتداء من اللحظة الراهنة هو الزمان الوحيد الذي يتيحُ للإنسانية استعادة ملامحها في حضارة اليوم. لابدَّ من الاعتراف بنسيان الإنسانية في كل ما جرى، حتى نتمكَّن من توثيق ظهورها المؤكَّد في مجرَّد ابتدائنا التأمُّلي في الواقع. إن التأمُّل اليوم لا يقتضي منا غابةً سوداء ولا صحراء مقفرة ولا شواطئ شريدة، بل وقوفٌ في وسط كل شيء، لاختراق شبكة العلاقات القائمة بعلاقة لا بد من حضورها المستمر، وهي علاقة الإنسان بكل شيء. إن الإنسانَ لا يمكن أن ينأى عن ذاته بحجة الانشغال بالظروف الراهنة، إذ لا شيء يمكِّنه من سمتِ الظروف إلا إحكامُ الإقامة في الحدث، فيستعيد فهمه لحراك الكل، ويمنع الإقامة على الهامش.
المصادر والمراجع:
[1] للتفصيل في معنى “سَمَتَ” انظر: ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم، (ت 711هـ)، لسان العرب، تحقيق اليازجي وجماعة من اللغويين، دار صادر، بيروت، 1414 هـ، الجزء 2، ص 46 وما بعدها.
[2] بخصوص مفهوم “الحدس الشَّيمي”، فالمقصود هو وعي الكينونة الحضورية الانبعاثية للكائن، بحيث إن الوجود باللغة، بما هي فعلُ اللغة، أي هذا الاستحضار البياني للفاعل هو القدرة التي لا يمكن أن تبدأ من عدم، بل هي استجلاء الوجودِ خلْقًا لا يقبلُ التكرار، بل يتجدَّدُ دومًا بوعي الحال. “ما نعنيه بلحظة الانبعاث في الذهنيَّة الشَّيْمِيَّة العربية، هو القدرة الدائمة على إبقاء الفاعل موجودًا، حتى ولو كان مفعولًا به زمانيًّا ومكانيًّا، ذلك أنَّ هناك أفعالًا وجوديَّة هي التي تميِّزُ كينونة العربي، كفعل الخلق مثلًا، الذي يتحكَّمُ بالفعلية العربية، من نقطة الابتداء حتى انفلات الخلود… فالعربي، كما سنرى، يعتبر الكون والكائنُ والمُكَوِّنُ عناصر لا يمكن أن تكون مجهولةَ إذا ما أراد الحضور، بل هي في حالة السيرورة البيانية نحو الكون فحسب…انبعاث البينونة في الكينونة، فهو الفاعل المضارع لفعله الوسط الأصل، وهو الماضي إلى مستقبله لأنه حاضرٌ الآن، وليس لأن هناك مستقبلًا موجودًا بذاته أو معدومًا بذاته، فلا شيءَ في الكون من دونه، لذلك إن الفاعل بفعله حالٌ دائمة. العدم غير موجود في ذهن العربي [لم يرد في الشعر ولا في القرآن تصوُّرٌ مفهوميٌّ للعدم بأنه موجود مستقلٌّ عن الوجود]، كي ما يقرِّر هو متى يبدأ الكون، كل ما في الأمر هو أن الوجود حاصل، والأصالة تكون في وعي حضوره… إنه إنسانٌ يعتبر الزمان هو الفاعل الوجودي المضاد له، وما عليه لكي يوجدَ إلا أن يكون فاعلًا متمكِّنًا في البيان، مصارعًا حالة المفعولية، لكي يبرز في الكون بأفعاله. إن الفعل العربي لا يمكن إلا أن يكون إبداعًا فلا تكرار ولا انعدام في سيرورة الفعل، بل هناك صيرورة دائمة للمعنى، بحيث ينبعث المعنى من حال إلى حال، فيبقى الفاعل قادرًا على الوجود…” (انظر كتابنا: فلسفة الصَّرْف العَربيِّ دراسةٌ في المَظهَرِ الشَّيْمِيِّ للكينونة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2017، ص 102-103. [لمزيد من التفصيل يُراجع مبحث “الحدس الشَّيْمي”، ص 95-106])
[3] ميشيل هنري، الهمجية زمن علم بلا ثقافة، ترجمة جلال بدلة، دار الساقي، لندن، 2022، ص 309.
[4] المصدر نفسه، ص 310.
[5] المصدر نفسه، ص 315-316.
[6] ألان تورين، نحن ذوات إنسانية، ترجمة صالح راشد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2021، ص 12.