تكوين
على مر القرون المتعاقبة شهدت الحضارة العربية الإسلامية تلاقح عديدٍ من الآراء والأفكار من جانب مختلف المذاهب والجماعات الفكرية. في هذا السياق، تمكنت بعض الأفكار من فرض نفسها داخل المنظومة المعرفية الجمعية. ومع مرور الزمن، وتراجع الثقافة السائدة عن مراجعة ما رسخ في ضميرها الجمعي من معتقدات، تحولت تلك الآراء إلى ما يشبه البداهات التي لا تقبل النقد أو التشكيك، إذ نُظر إليها بوصفها حقائق مطلقة، وقد اُحيطت بهالة من هالات التبجيل والتقديس.
من تلك البداهات الاعتقاد بوقوع التحريف والتغيير في نصوص الكتب السماوية المقدسة السابقة على القرآن الكريم، ولا سيما التوراة والإنجيل. نناقش تلك الفكرة في هذا المقال، لنتعرف على السياق السيسيولوجي الذي انتشرت فيه تلك الفكرة، والرؤى الإسلامية المخالفة لها.
التوراة والإنجيل
ينقسم الكتاب المقدس إلى قسمين متمايزين:
- يُعرف القسم الأول، في الثقافة المسيحية باسم العهد القديم، ويحتوي هذا القسم على كتب اليهود التي يصل عددها لتسعًا وثلاثين سفرًا، وتضم أسفار التوراة الخمسة المنسوبة إلى النبي موسى وأسفار الأنبياء والكتب. من الجدير بالذكر أن تسمية التناخ -وهو الاسم اليهودي لهذا الكتاب- قد اشتقت من الحروف الأولى لأقسامه الثلاثة الرئيسة التوراة والأنبياء والكتب.
- أما القسم الآخر، من الكتاب المقدس فيُعرف باسم العهد الجديد، ويحتوي على الكتب المسيحية السبعة والعشرين التي تضم الأناجيل القانونية الأربعة المنسوبة إلى كل من متى ويوحنا ومرقس ولوقا، وأعمال الرسل والرسائل بالإضافة إلى سفر الرؤيا.
من جهة أخرى تتعدد اللغات التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس، بخصوص العهد القديم، فإن الأغلبية الغالبة من أسفاره قد دونت باللغة العبرية، فيما كُتبت باقي الاسفار باللغة الآرامية. أما العهد الجديد، فقد كُتبت أسفاره باللغة اليونانية، وهي اللغة الأوسع انتشارًا وذيوعًا في منطقة فلسطين وبلاد الشام في القرون الأولى بعد الميلاد.
آراء مختلفة
ورد القول بتحريف الكتب السماوية المقدسة السابقة للقرآن الكريم في عديدٍ من الآيات القرآنية. من تلك الآيات ما ورد في الآية رقم (75) من سورة البقرة
“أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”
وما ورد في الآية رقم (13) من سورة المائدة
“يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ”.
تأسيسًا على تلك الآيات ظهر الرأي القائل بأن اليهود والمسيحيين قد غيَّـروا وبدَّلوا آيات التوراة والإنجيل. وأنهم حذفوا عديدًا من الآيات التي تشتمل على آيات التشريع، بهدف التنصل والهروب من تنفيذ الحدود والأحكام الإلهية.
في الجانب الأخر ظهر رأي معارض، يرى أن التحريف المُشار إليه في الآيات القرآنية السابقة ليس تحريفًا في النص، بقدر ما هو تحريف -أي تأويل- في المعاني والدلالات. استند أصحاب هذا الرأي لمجموعة من الآيات القرآنية التي يُفهم منها قدر قيمة النصوص التوراتية والإنجيلية وقداستها التي كانت موجودة في عهد النبي محمد. من تلك الآيات الآية رقم (43) من سورة المائدة
“وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ”.
والآية رقم (47) من سورة المائدة
“وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ”.
والآيات الأولى من سورة آل عمران
“نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ”.
فضلًا عن الآية رقم (94) من سورة يونس
“فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ”.
اعتمادًا على تلك النصوص، قال الصحابي عبد الله بن العباس في القرن الأول الهجري: “معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزل على نبيها فتبدله… وإنما بدلوه وحرفوه بالتأويل…” كما قال المحدّث محمد بن إسماعيل البخاري في القرن الثالث الهجري في صحيحه مفسرًا معنى التحريف: “يحرفون: يزيلون، وليس أحد يزيل لفظَ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله“. كذلك، ذهب الأصولي فخر الدين الرازي في القرن السادس الهجري إلى المعنى نفسه، عندما أورد في كتابه “مفاتيح الغيب” رأيه في المسألة، فقال: “إن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح“.
كيف ساد الرأي بالتحريف النصي؟
لفترة طويلة، ظل الرأيان السابقان مطروحين جنبًا إلى جنب في مختلف الدوائر الفكرية في المجتمع الإسلامي، لكن ومع مرور الوقت ساد الرأي القائل بالتحريف النصي في الكتاب المقدس، وصار هو القول المُعتمد في الأوساط الإسلامية الأرثوذكسية، فيما فقد الرأي القائل بالتحريف التأويلي حظوته ومكانته، ليتوارى جانبًا ويُهمش بعدما تم أُفرغ من دلالته ومضمونه.
في الحقيقة، توجد عديد من الأسباب التي تضافرت مع بعضها البعض للوصول إلى تلك النتيجة، والتي ينبغي تحليلها تحليلًا سيسيولوجيًا في ضوء رصد العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمع الإسلامي. في هذا السياق يُمكن أن نحدد ثلاثة أسباب رئيسة لتفسير سيادة الرأي القائل بالتحريف النصي: وهي ترجمة الكتاب المقدس وتبيان الاختلاف مع النظرة القرآنية، والصدام مع أهل الكتاب، والحاجة الملحة إلى إظهار هيمنة الإسلام على باقي الأديان، فضلًا عن تكون الهُوية الإسلامية المتمايزة.
إقرأ أيضًا: الإسرائيليات وحركة التثّاقف في الفكر الإسلامي
ترجمة الكتاب المقدس وتبيان الاختلاف مع النظرة القرآنية
بحسب ما هو معروف، استأثر أهل الكتاب -اليهود والمسيحيون- بقراءة كتبهم المقدسة في الفترة المبكرة من عمر الإسلام. تذكر عديدٌ من الروايات أن يهود المدينة كانوا يقرأون التوراة باللغة العبرية أو الآرامية، كما أن المسيحيين اعتادوا على قراءة نصوصهم المقدسة باللغتين اليونانية أو السريانية. من هنا، لم تُتح الفرصة للأغلبية الغالبة من المسلمين للاطلاع – مباشرةً- على النصوص التوراتية والإنجيلية، الأمر الذي تسبب -بالتبعية- في تكون وجهة نظر إسلامية لا أدرية، لا تقطع في تحديد الكيفية التي جرى تحريف النصوص الكتابية من طريقها، وتشهد على ذلك الرواية التي يذكرها ابن حجر العسقلاني في كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” والتي جاء فيها:
“كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام، فقال رسول الله لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد”.
بطبيعة الحال ومع انفتاح الثقافة الإسلامية على معارف الآخر الديني، تُرجمت النصوص الكتابية إلى اللغة العربية، وظهرت في العراق وبلاد الشام والأندلس نسخ مترجمة من الكتاب المقدس، الأمر الذي أتاح الفرصة للمسلمين للاطلاع مباشرةً على تلك النصوص.
من طريق القراءة النقدية والمقارنة، ظهرت عديدٌ من الاختلافات القائمة بين السرديات القرآنية من جهة والسرديات الكتابية من جهة أخرى، ولا سيما في القصص الخاصة بالأنبياء والرسل. وأيقن كثيرٌ من العلماء المسلمين المهتمين بمقارنة الأديان من استحالة التوفيق بين السرديتين. في هذا السياق، ازداد الرأي القائل بوقوع التحريف النصي قوةً وحضورًا. خصوصًا بعدما انضم إلى أصحاب هذا الرأي مجموعة من الأصوليين البارعين في مضمار الجدل والمناظرة، ومنهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي المُتوفى 456هـ.
في كتابه الشهير “الفِصل في الملل والأهواء والنحل“، فكك ابن حزم أدلة القائلين بوقوع التحريف التأويلي في النصوص الكتابية بالاحتكام لبعض القواعد القرآنية. فقال في إحدى مواضع الكتاب:
“إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} … {لا معقب لحكمه}، وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) …”.
في موضع أخر من الكتاب، رد الفقيه الأندلسي على أحد أهم الأدلة التي ساقها المخالفون لدعم رأيهم، عندما قال:
“وأما قوله تعالى (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ). فإنما هو على الاستخفاف بهم والتوبيخ لهم، كقول القائل لآخر: أنا أعلم منك ثم يأتيه ثانية فيسأله فيقول المسؤول كيف تسأل وأنت أعلم مني؟ وقد قلنا إن الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقًا ليكون حجة عليهم وزائدًا في خزيهم…”.
إقرأ أيضًا: التعبيرات الدينية ومحدودية اللغة: نموذج النبي موسى أو العالَم من خارج النص
الصدام مع أهل الكتاب
في بداءات القرن السابع الميلادي، خرجت الجيوش العربية الإسلامية من شبه الجزيرة العربية، واندفعت في موجة توسعية نحو الأقاليم المحيطة في كل من بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس والمغرب الكبير.
لمّا كانت الأغلبية الغالبة من سكان تلك الأقاليم من اليهود والمسيحيين، فقد كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن تترافق وقائع الصدام العسكري الحربي، بحالة من حالات الجدال الأيديولوجي الفكري المستعر بين الأفكار العربية الإسلامية المؤسسة للكيان السياسي الغازي الممثل في دولة الخلافة، والمعتقدات اليهودية- المسيحية المعبرة عن أفكار الشعوب المغلوبة في الأراضي التي شملتها عمليات التوسع العسكري. في هذا السياق احتدم الجدل بشأن علاقة النص القرآني بالنصوص المقدسة السابقة. وتباينت تأويلات الآية رقم (48) من سورة المائدة “…وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ…”، لتُفهم هيمنة القرآن بوصفها حكمًا شاملًا على ما قبله من الكتب طبقًا لما ورد في تفسير ابن كثير، بعد أن كانت تُفسر بوصفها تصديقًا وحفاظًا وتأييدًا لما ورد في متون تلك الكتب كما ذكر الطبري في تفسيره.
تكون الهُوية الإسلامية المتمايزة
في بداءات الدعوة الإسلامية، قدم الإسلام نفسه بكونه الشريعة/الرسالة المكملة والمتممة للإرث السماوي التوحيدي الذي بدأ مع النبي إبراهيم -وربما منذ آدم نفسه- واستمر في تطوره وتتابع حلقاته في عهود كل من النبي موسى، والمسيح عيسى بن مريم.
مع مرور السنوات ورسوخ قدم الدعوة الإسلامية من جهة، وتضارب المصالح بين المسلمين وجيرانهم من اليهود من جهة أخرى، تغير فحوى الخطاب الإسلامي، ليتجاوز حلقات الوساطة الكتابية اليهودية والمسيحية سواء. في هذا السياق نصت الآية رقم (67) من سورة آل عمران “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”. رغم ذلك ظل المسلمون في حاجة إلى التفسيرات والتأويلات والإضافات المُستمدة من النصوص الكتابية، وفي هذا المقام، لعبت “الإسرائيليات” دورًا مهمًا في سد الفراغات الموجودة في بنيان المعارف الدينية الإسلامية.
تغير الوضع تغيرًا كبيرًا عقب اتمام حركة التوسعات الإسلامية الكبرى في النصف الأول من القرن السابع الهجري. وذلك بعدما أُسلمَت عديدٌ من القصص والأخبار والروايات المختصة بالأنبياء السابقين عن النبي محمد. في تلك الفترة تكونت الهُوية الإسلامية المتمايزة عن الهُوية الكتابية، وصاغ المسلمون سرديتهم الخاصة عن موسى وبني إسرائيل والمسيح ويحيى وغيرهم من الأنبياء، لتُهمش -بالتبعية- الأخبار الواردة في الكتاب المقدس، مما أعطى الفرصة إلى القول بتحريف نصوص التوراة والإنجيل وتبديلها.