تكوين

مقدمة:

هناك اتهامٌ شهيرٌ ظهرَ في أواخر القرن العشرين يتهمُ العلمَ بقتل الفلسفة! وترى الأغلبيةُ الآن أن القضية حُسمت وأُثبتَ أن العلمَ مذنب، في حين ترى أُخرى أن القضيةَ لم تُحسم بعدُ وأن العلمَ بريءٌ من هذه التُهمة، فهو لم ولن يرتكب مثل هذه الجريمة، ويتساءلون مُتعجبين ومُدافعين عن العلم! وكيفَ يمكنُ لطفلٍ أن يقتلَ أُمهُ وهو يحتاجُ إليها دائمًا حتى لا يموت؟ ومن هذه التساؤلات أكتبُ مقالي هذا وأتساءلُ بدوري، هل ما تزالُ الفلسفةُ صالحةً للاستخدام في عصرنا الحالي؟ أم أنها لم تعد مفيدةً فقتلها العلم وأخذ مكانها؟ وإذا كانَ هذا ما حدث فما هو العلمُ وما الذي يميزهُ عن الفلسفة؟ وهل هو مذنبٌ أم بريء؟ وهو ما سوف أُحاولُ الإجابة عنهُ.

طبيعة الفلسفة:

في أثناء محاولاتي المُتعددةُ والمختلفةُ -والتي لم تنتهِ بعدُ- لإعادة اكتشافِ وتحديدِ ما يميزُ الفلسفة عن باقي فروعِ المعرفة، والتي أصبحت تنتسبُ أساسًا إلى ما يُسمى بـ العلم الحديث، بعدما كانوا ينتسبونَ قديمًا إلى الفلسفة، لأبدأ بتحليل ما كانت وما أصبحت عليهِ طبيعةُ هذهِ الفروع من أجل معرفةِ جذرها وتعيينُ السبب في تحولِ انتسابها.

عائدًا إلى زمن اليونان بوصفهمُ الآباءُ المؤسسين للفلسفة، ولأنها الفترةُ التي تأسست عليها المعرفة البشرية حتى الآن، لاحظتُ أن الإنسان قديمًا وتحديدًا في زمن اليونان، كان يُسمِّي محاولاتهِ من أجل معرفة حقيقة هذا الوجود بـ الفلسفة، ولكن هل هي مجردُ تسمية يونانية للعملية نفسها التي كان يَعرفُ بها الإنسان ويكتشف بها حقيقةُ الوجودِ حولهُ قبل اليونان؟ والإجابةُ لا، فالفرقُ بين العملية المعرفية اليونانية وما قبلها من عمليات معرفية أخرى تَمَيَّزَ بها الشرقُ القديمُ أو الآخر غير اليوناني، أنها كانت باختصار محاولاتٌ من أجل اكتشاف الطريقةُ التي يهمينُ بها الإلهُ/الطبيعة على البشر، وتلكَ كانت حقيقةُ الوجود في زمانهم، وكان الإنسانُ وقتها يتبعُ أو يبتدعُ كلَّ الطرقِ الممكنةِ حتى يَنجوَ بحياته مانعًا كل الأخطار التي تهددها إن أمكن له ذلك.

إذًا حتى يصلَ الإنسانُ إلى هدفه يستخدمُ طريقًا أو طرائقَ متعددةً ومختلفةً، والذي سأسميه هنا بـ المنهج، وهو الطريقُ الذي يتبعهُ أو يبتدعهُ الوعيُ الإنساني حتى يصلَ إلى هدفهِ، ففي أثناء محاولات الإنسان المنهجيةِ في معرفة الوجود يحدثُ تفاعلٌ تبادليٌ بين وعي الإنسان وما يظهرُ لهُ من معطيات الوجود، وأعني بالتفاعل التبادلي هو حدوث تأثير متبادل بين الوعي والوجود فيغير كل منهما طبيعة الآخر، وبناءً على هذا التفاعل التبادلي قد يُعقِّدُ الإنسان منهجهُ أو يصحبهُ بمناهجَ أخرى أو يبتعدُ عنهُ تمامًا فيستبدلُ بمنهجه منهجًا آخر وهكذا…

فما يحدث هو تفاعلٌ تبادليٌّ يستخدم الوعي الإنساني طريقًا ما وينطلق منه مصطدمًا مع ما يظهرُ له في الوجود من معطيات، ثمَّ يرتدُّ هذا الطريق مرة أخرى إلى الوعي بعد أن تغيَّرت طبيعتهُ، هذا التَغَيُّر هو ما أسميه (الخبرة) وهي التغيرات التي حدثت في طريقة الوعي الإنساني في التفاعل مع ما يظهرُ له في الوجود من معطيات، فترتدُّ تلكَ الخبرةِ إلى الوعي الإنساني مرة أخرى مؤثرةً فيهِ، وهنا تبدأ عملية المعرفة، فعندما يجدُ الإنسانُ أن في تطبيقهِ لمنهجهُ هذا يستطيعُ وعيهُ فهم ما يظهرُ لهُ من كمٍّ كبيرٍ من معيطات الوجود، وهو ما يحدثُ حينما يبدأُ الوعي بتركيبها وتكثيفها داخله مكونًا ما أسميه بـ المفاهيم، وهي النتائجُ التي يَبني عليها الوعي طبيعة معرفتهِ عن هذا الوجود.

إذًا فمن هذا التفاعل التبادلي تنتجُ لنا المفاهيمُ الإنسانيةُ عما يحدث في الوجود، فالمفاهيم تُعَبِّرُ عن ماهيةِ الشيء المُعطى كما ظَهَرَ أمام الوعي واستقبلهُ وتفاعلَ معهُ مستخدمًا منهجًا ليُكوِّنَ في النهايةِ معرفةً خاصةً بهِ عن الوجود.

ثم بحثتُ بعد ذلك في الأسلوب الذي يُعَبِّرُ بهِ الإنسانُ عن المنهج الذي يفهمُ به ما يظهرُ له من معطيات الوجود حسيةً كانت أو غيرَ ذلك، فوجدتهُ يستخدمُ أداةً تفاعليةً تُسمَّى اللغة، فمن طريق هذه الأداة أصبح قادرًا على تسمية الأشياء حتى يستطيع التعبير عن مناهجه ومفاهيمه ونقلُ معرفتهِ بهذا الوجود وإيصالها إلى الآخرين، وتلك الكيفيةُ في محاولة معرفة طبيعة/حقيقة هذا الوجود هي ما سماها اليونان بـ الفلسفة.

المعرفةُ قبل اليونان؛ الوعيُ الخاضعُ

لكن ليسَ كلُّ من يحاولُ معرفة حقيقة الوجود بهذه الطريقة تُسمى معرفتهُ فلسفة، بل هناك فرقٌ مهمٌّ يميزُ طبيعةَ الوعي التفاعلية تُمكننا من فهم الفرق بين المعرفة اليونانية المُسماة فلسفة والمعارفُ السابقةُ عليها بأسمائها ودرجاتها المختلفة، يمكننا رصدها من طريق فهم الكيفية التي يتفاعل بها الوعي مع معطيات الوجود ويعبرُ بها عن معرفته أي عن منهجه ومفاهيمه، فالبشرُ قبل اليونان كانوا يحاولون منهجيًا فقط معرفة الكيفيةُ التي يعملُ بها الإلهُ/الطبيعةُ -فالاثنان وقتها كانا وجهان لعملة واحدة- لتكونَ بداءةُ طريقتهم الواعيةُ في التفاعل التبادلي مع الوجود سلبيةٌ، فالإنسان يعرفُ فقط حتى ينجو بحياته، ولذلك تتكونُ لديه بناءً على هذه الخبرة مفاهيمَ سلبية عن ماهيات الأشياء، فيمكنُ لي باختزال تصويرُ ما حدثَ من تفاعلٍ تبادلي بين الإنسان والوجود ووصفها بأنها محاولاتٌ سلبيةٌ لا تنتهي هدفها إرضاء الرب/الطبيعة للإفلات من عقابهم المُهدد لحياتهم أو منعهِ. فطبيعةُ الوعي وعلاقتهِ بهذا الوجود كانت طبيعةً خاضعةً، لذلك سَميتُ وعي الإنسان وقتها بالوعي الخاضع، أي الوعيُ الذي هدفه معرفة ماهيات الأشياء حتى يمنع وقوعها، ونلاحظ هنا أنها درجةٌ من التحكم أو السيطرة، ولكنها سلبية لأن الفهم هدفه المنع.

المعرفةُ بعد اليونان: الوعيُ المهمينُ

أما في (زمن اليونان وليس معهم) بَدَأَ الوعيُ الإنسانيُ يَتفاعل تبادليًّا مع الوجود بطريقةٍ إيجابيةٍ أكثر، فقد بدأ يفصل بدرجة ما بين الإله والطبيعة، وتلك هي بداية محاولة التحكم والسيطرة، وذلك عندما فصل بين شيءٍ لا يُمكننا السيطرةَ عليه وبين شيءٍ يمكننا السيطرة عليه، مُبتعدًا بذلك عن المنهج الديني القديمِ ومفاهيمه بوصفهِ أسطورةً أو خرافةً غيرُ صالحةٍ، وربما من أسباب هذا التحول في طبيعة المعرفة هو أن المعرفةَ القديمة لم تساعدهم على النجاة بطريقةٍ أكيدةٍ ولم تُلبي حاجات الإنسان الأخرى التي تتجاوز غريزته في حفظ ذاته كالحيوان بالإضافة إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حدثت في المجتمعات الإنسانية وغيرها من الأسباب، فظهرت الحاجةُ تدريجيًا إلى نوع معرفة جديد يُمَكِّنُنَا أكثرَ من التحكم بالطبيعة كأنها أداةٌ يُمكنُ للإنسانِ إخضاعها والهيمنةُ عليها من طريقِ فهمها فهمًا إيجابيًّا.

فربما جعلهم هذا الانفصال الذي حدث بين الإله والطبيعة يدركونَ بطريقة ما أن الظواهرَ التي  تُهدد حياتنا ليست بسبب إلهٍ غاضبٍ لا يمكنُ إرضاؤهُ بسهولة، بل ربما هناك شيءٌ آخرَ يُحركها، هذا الشيءُ منفصل عن الأشياء الأخرى ويكمنُ داخلها وربما تكون تلك هي طبيعتها، فلنحاول إذًا فهمُ طبيعتها حتى نتحكم فيها ونستخدمها من أجل تعزيز حياتنا ودعمها وتحقيق غاياتنا الإنسانية، وهذا هو الفرقُ بين التحكم السابق على اليونان والمعاصر لهم واللاحق عليهم هو أنه كان تحكمًا سلبيًا مانعًا، والذي سيتطورُ بعد ذلك تدريجيًّا في العصور اللاحقة بعد اليونان إلى تحكمٍ إيجابيٍ صانعٍ.

ويمكننا رصدُ بداءة التحول من الوعي الخاضع إلى الوعي المهيمنِ والانفصال الذي حدث بين ما هو إلهي وما هو طبيعي مع طاليس، (فقد أشار أرسطو إلى أنهُ الشخصيةُ المُؤسسةُ للفلسفة التي لم تعد تتعلقُ بما هو إلهي)([1]) وذلك لأن المنهجُ الذي  تعاملَ به مع الماء مثلًا يختلفُ عن مناهج سابقيه في الهند ومصر القديمة، فهي محاولةٌ للتعامل معهُ كونهُ عنصرًا يمكنُ معرفةُ طبيعتهِ إيجابيًا، أي أن ما يجعلهُ ماءً هي أسبابٌ كامنةٌ فيهِ يُمكنُ التحكمَ فيها وهو ما سَوف يُسمى فيما بعدُ بجوهرِ الشيء، أي طبيعةُ الشيء الكامنةُ فيهِ والمُحددةُ لماهيته، وهذا يعني أيضًا الكيفيةُ التي سوف يظهرُ بها للوعي الإنساني في الوجود، مع ملاحظة أن هذا المنهجُ لا ينفي أو يُثبت أن الإلهَ هو من خلقَ جوهرهُ أي خلقَ طبيعتهُ، ولكن هذا الفصلُ ساعدَ على إنتاج منهجٍ جديدٍ يَنْتُجُ منهُ مفاهيمَ مختلفةً عن طبيعة الأشياء في الوجود، مفاهيمٌ تقتربُ من الشيء الذي يمكنُ فهمُ طبيعته والتحكم بهِ وتبتعدُ عن صانعهِ الذي لا يمكنُ فهمُ طبيعته والتحكم بهِ، ذلك هو بداءةُ الوعي المهيمن الذي يحاولُ التحكمَ  بالطبيعةِ من طريق فهمها إيجابيًّا وتلكَ هي بداءاتُ التعبير عنهُ، ومن هنا نعرفُ لماذا انتسبت كل فروع فهم طبيعة الوجود إلى الفلسفة وسُميت بها حتى وقتٍ قريبٍ في العصر الحديث، فكلُّ محاولةٍ للوعي المهيمن لمعرفةِ حقيقة الوجود من أجل التحكم فيه سُميت فلسفة، وهي بذلك تنفصلُ عن الطريقة القديمة ذات المفاهيم السلبية في معرفة طبيعة الوجود والتي سُميت دينًا.

اللغةُ كونها أداةُ الفلسفةِ:

ولكن هل أيُّ وسيلةٍ كان يُعَبِّرُ بها اليونان عن منهجهم ومفاهيمهم كانت تُسمى فلسفةً؟ والإجابةُ لا، فقد اختصَّ اليونانُ اللَّغةَ بكيفياتها المختلفة من (شعر ورواية) بوصفها وسيلةً للتعبير عن محاولاتهم لمعرفة حقيقة الوجود، وذلك لما فيها من تجريدٍ وتكثيفٍ وتشبيهٍ يُمَكِّنها من نقل المعرفة، لتُصبحَ اللغةُ هي وسيلةُ التعبير الأمثل عن ماهية الفلسفة حتى عصرنا الحالي، وتحديدُ الوسيلة مهمٌّ حتى لا تصبحَ وسائل وأدوات التعبير عن أي منهجٍ تُسمَّى فلسفةً، أي حتى لا ينطبقَ تعريفُ الفلسفة على الفنون مثل الرسم والموسيقى.

ضرورة ابتداعُ المنهج:

بالإضافة إلى ما سبق لا يكفي التعبير لُغويًّا فقط عن أي منهجٍ حتى نُسمي صاحبهُ فيلسوفًا، فهناك شرطٌ آخرَ وهو الإبداع المنهجي، وإثباتُ فاعلية هذا المنهج من طريق إنتاج مفاهيمٍ خاصةٍ به تساعدنا على الاقتراب من حقيقة الوجود، أما من يتبع مناهج ومفاهيم غيرهِ يُسمى أكاديميًا شارحًا أو عالمًا مُجربًا أو شاعرًا مُشبهًا إلى آخره.

المُتَّهم بريء

ومما سبقَ ذكرهُ يمكننا أن نُثبت براءة المُتَّهم (العلم)، وأنه لم ولن يقتل الفلسفة لأنهُ أحدُ أساليبها التعبيرية، أي أن الأمر يتوقفُ على أسلوب التعبير عنها الفلسفة/المنهج والمفاهيم، فإذا اكتفى الإنسانُ بالتعبير عن ما ابتدعهُ من منهج ومفاهيم مستخدمًا اللغة بأساليبها المختلفة فهو فيلسوف، أما إذا استخدم أسلوبَ تعبيرٍ آخر مثلما يفعلُ العالمُ عندما يطبقُ منهجهُ ومفاهيمهُ أو ما تعلمهُ منهما بطريقةٍ حسيةٍ تجريبيةٍ فيسمى عالمًا، إذًا يمكنُ للعالم وغيرهُ الجمعُ بين الوصفينِ أي أن يكونَ عالمًا وفيلسوفًا في الوقت نفسه، وذلك إذا استخدم أسلوبين للتعبير اللغة/أيُّ أسلوبٍ آخر فإذا كان العالمُ مبتدعًا للمنهج والمفاهيم وَعَبَّرَ عنها لُغويًا ثمَّ طبقها حسيًا فيُسمى فيلسوفًا وعالمًا، أما إذا كان مطبقًا حسيًّا فقط لمناهجَ ومفاهيمَ غيرهِ والتي لم يبتدعها يُسمى عالمًا فحسب.

إذًا هناك ارتباطٌ حتميٌّ بين التعبير اللُّغوي وبين الإبداع المنهجي والمفاهيمي، وبهذه الطريقة سوف نتمكنُ من تحديد الجزء الفلسفي فيما فعله نيوتن وداروين وأينشتين وأباء ميكانيكا الكم، فما فعلوه له جانبان نظري/فلسفي وتطبيقي أو تعبيري/علمي، فالنظري هو ما أطلقنا عليه اسم الفلسفة أي ابتداعُ منهجًا يولدُ مفاهيمًا، وهم يستخدمون اللغةَ للتعبير عنهما بقصدِ الهيمنة من أجل التحكم الإيجابي بالوجود، وإذا اكتفوا بفعل ذلك فقط كانوا فلاسفة، لكن هناك منهم من طبقَ فلسفتهُ رياضيًا وحسيًا تجريبيًا لذلك سُموا علماءً، كذلك الشيء نفسه مع الرسامين وغيرُ ذلكَ من الأساليب المختلفة للتعبير، فلهُ أيضًا بعدان نظري وتطبيقي، فلأنهم يستخدمون أسلوبًا مُعبرًا مختلفًا في شكله عن اللغة فهم ينتمون إلى مجالٍ آخر يجمعُ أساليب التعبير هذه بداخله يُسمى الفن، إذًا يتوقف الأمرُ أيضًا مثل العالم على التطبيق أو أسلوب التعبير المتضمن بداخله فلسفة إذا عبر عنها بالحروف الأبجدية كان فيلسوفًا أما التعبير بالألوان والآلات وغيرها فحسب فيسمى فنانًا.

مُهمةُ الفيلسوف

وأُؤكد حتى لا يَفْهَمَ بعضهم من كلامي هذا أن عملية  التفلسف كانت عمليةً عقليةً مجردةً ومنفصلةً عن الوجود ومظاهره، بل هي مرتبطةٌ به وقائمةٌ عليه، وهو ما أشرتُ إليه في أول المقال بالتفاعل التبادلي الذي يحدث دائمًا بين الوعي الإنساني والوجود، لذلك كلُّ يومٍ تصبحُ مهمة الفيلسوف أصعب بكثير مما كان الأمرُ عليه في الماضي، لذا يجبُ عليه أن يكون محيطًا بكل ما  أنتجهُ الواقعُ  من تفاعلات المنظرين والمطبقين/المُعبرين الآخرين الواعيةُ السابقين عليه والمعاصرون له، حتى يستطيع إبداع منهج جديد في معرفة طبيعة هذا الوجود واستخراج مفاهيم تساعدنا على التحكم فيه أكثر.

وفي النهاية أظنُّ أن الأمر قد ازداد وضوحًا  بخصوص اتهام العلم بقتله للفلسفة، وأن سبَبَ هذا الاتهام هو في رأيي كان نتيجة لهيمنة الأساليب العلمية في التطبيق ووضوحها المباشر للإدراك الحسِّي، وتزايد المُنجزات العلمية كل عام عن سابقه، بل تتضاعفُ أحيانًا، وهو ما يجعل المشتغلين بالعلم  ينسونَ أو يتغافلونَ الأصل الفلسفي لتطبيقاتهم، فيقولون بأنهم قتلوا الفلسفة، وهم لا يدركون أن بفعلتهم هذه يقتلون العلم أيضًا وكلُّ مجالات المعرفة الأخرى، فموتُ الفلسفة يعني موتُ التفكير النظري ومن ثمَّ موتُ التطبيق أو التعبير عنه، فكيف سَيُجرى العالمُ تجاربًا رياضيةً أو حسيةً في الواقع إذا كان رأسهُ خالٍ من أي منهجٍ مُسبقٍ يَرسمُ من طريقه خُطةً يسيرُ عليها ليصل إلى مفاهيمه عن الأشياء التي يُجري عليها تجاربهُ.

وبتعبيرٍ آخرَ إذا كان الإنسانُ لا يُفكر فكيفَ سيتفاعلُ وعيهُ المهيمنُ مع الوجود إلا كما تتفاعلُ الحيوانات الأخرى بطريقةٍ سطحيةٍ سلبيةٍ خاضعةٍ هدفها الوصول إلى إشباعِ الضغطِ الغرائزيِّ فقط، لذلك نراهم أسيرو الطبيعة عبيدٌ عندها لا يستطيعون الهيمنة عليها، وذلك لأن الهيمنة تحتاجُ إلى طبيعة وعيٍّ مختلفةٍ وتحتاجُ إلى مناهجَ أخرى أكثر تعقيدًا في التفاعل مع الوجود.

خاتمة

لذلك أقولُ للعلماء وغيرهم بدلًا من محاولات قتل الفلسفة الأفضلُ لكم إفساحُ المجالِ لعمليات تفلسفٍ أكثر، أي فتح المجال من أجل محاولات معرفيةٍ أكثر لطبيعة هذا الوجود، وذلك من أجل تطوير مناهج جديدةً تُمكننا من الاقتراب من حقيقة الوجود وفهم طبيعة الأشياء حولنا، لذلك يمكننا تأويلُ قولهم هذا بطريقةٍ مختلفةٍ، فربما في قتلهمُ السطحيُّ للفلسفة يعلنون بطريقةٍ غيرُ مباشرةٍ عن موتِ منهجٍ قديمٍ ويُبشرون في الوقت ذاته بميلادِ منهجٍ جديدٍ، مثلما فعل ديكارت وبيكون مع أرسطو، -رُغم أنهم لم يكونوا بهذه السطحية- لأنهم عندما أرادوا قتل منهج أرسطو لم يتخلصوا من جثته، بل زرعوا فيها بذور منهجهم الجديد، والمُؤسَّسْ على منهج أرسطو ولكن بطريق يُقدم معرفةً أكثر ملائمة لطبيعة الوجود وأهدافهم.

 

المراجع:

([1])  Karl Vorländer, Philosophie des Altertums, Rowohlt, Germany, 1963, P 12.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete