يعرّف معجم اللغة العربية المعاصر[1] مصطلح التراث ب: «كلّ ما خلّفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضاريّة المنتقلة جيلاً بعد جيل، مما يعتبر نفيسًا بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه: التُّراث الإسلاميّ/ الثَّقافيّ/ الشَّعبيّ». التراث بمعنى كل ما وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب للثقافة الاسلامية، وقد يشمل ما وصل الينا وينتمي لثقافات أخرى، فالتراث يشمل جوانب متعددة بالإمكان حصرها في ثلاثة جوانب: (1) الجانب المادي، أي المخطوطات والوثائق ومختلف الآثار… وهذا ما يطلق عليه التراث المادي، وهناك منظمات وهيئات دولية ومحلية في كل بلد تسهر على الحفاظ عليه بترميمه وحمايته من الضياع. (2) جانب علمي ونظري وهو يشمل مختلف الآراء والتصورات والتفاسير، أي مختلف المدونات الكبرى في الثقافة الإسلامية في مجال مختلف العلوم الشرعية والعقلية… ففي هذا السياق نتحدث عن الفلسفة الإسلامية وعن الفقه الإسلامي وما كتب في مجال السياسة والادب… (3) جانب متصل بما هو شعبي من أمثال وحكايات وسرديات شفاهية غير مكتوبة وتصورات ذهنية لكثير من القضايا اليومية…
موضوع التراث موضوع حديث يرتبط بالزمن الحاضر، فلا يوجد عند المتقدمين شيء اسمه تراث بالمعنى الفكري والأدبي للكلة كما هي اليوم، فمفهوم التراث عند المتقدمين كان يشير في الغالب إلى المال والحسب، ورد في لسان العرب ” التُّراثُ: مَا يَخْلُفُهُ الرَّجُلُ لِوَرَثَتِهِ، والتاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ. وَرُوِيَ”[2] وهذا ما خلص له محمد عابد الجابري في دراسته وتتبعه لكلمة “تراث” و “ميراث” فمفهوم التراث في نظره، كما نتداوله اليوم، يجد إطاره المرجعي داخل الفكر العربي المعاصر ومفاهيمه الخاصة، وليس خارجهما. اصطلاح التراث إذن بالشكل المعرفي الذي نعرفه، يعود الى أواخر القرن التاسع عشر بعد لحظة التقاء الشرق بالغرب، أي بعد حملة نابليون (الحملة الفرنسية) على مصر (1798م– 1801م) التي شكلت نقطة التقاء مباشر بين حضارتين، حضارة الشرق وحضارة الغرب.
فحضارة الشرق، لها تصورها الخاص عن العالم وعن العلم، وهو تصور في مجمله لا يعرف أي شكل من أشكال القطيعة بين الماضي والحاضر، فمفهوم الزمن لديها مفهوم دائري، يتداخل فيه الماضي والحاضر دون فصل بينهما، وهذا ينعكس بشكل منهجي على مفهوم العلم ومفهوم السياسة ومفهوم الثروة ومفهوم الآخر. فعلى مستوى الفقه مثلا، ليس هناك أي مشكلة تذكر في استحضار فتوى من القرن العاشر الميلادي في حل مشكلة ما في القرن التاسع عشر، وليس هناك أي مشكلة في التعاطي مع مقتضيات التجارة والبيوع والمال… من خلال مجمل فقه المعاملات التي تشكلت في القرن التاسع الميلادي. صحيح وبدون شك بكون التاريخ الإسلامي عرف تراكما معرفيا غنيا لا شبيه له؛ في مختلف مجالات المعرفة. ولكن هذا التراكم لا يحمل بداخله تأسيسا منهجيا يجعل المنتسبين إليه يقطعون مع بعض منه، دون البعض الآخر. ومن البديهي في مجال الفقه، أن نجد حضور الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) حضور متصل بمجمل التاريخ الإسلامي.
وقد يقول القائل بكون الثقافة العربية الإسلامية قد تجاوزت وقطعت مع الكثير من التصورات التي قال بها بعض من الفرق الإسلامية، مثلا، كان لفرقة الخوارج والمعتزلة حضور على مستوى الفكر والواقع الاجتماعي والسياسي، وقد تم تجاوزها الى ما بعدها من الفرق والتصورات. وهذا أمر صحيح؛ ولكن الأمر بالنسبة للتاريخ الإسلامي في هذه الحالة، لا يرتبط بالقطيعة المعرفية مع تلك التصورات، وتجاوزها إلى تصورات نقيضة أو بديلة عنها بشكل جذري، فالمسألة منهجيا تتعلق بتصويب وترشيد تصورات ببسط تصورات أخرى، لأن هناك قواعد وأصول ثابتة تعود اليها مختلف التصورات (أصل: القرآن والسنة) فالتاريخ يأخذ مجرى الفرقة المنتصرة ويبقى بمفهومه الدائري محتفظا بمختلف تصورات وأراء الفرق المغيبة بالرغم من غياب أو قلة من ينتسب إليها، نتيجة لظروف سياسية واجتماعية وثقافية…. فالتاريخ العربي الإسلامي احتفظ بمختلف تصورات وأراء الفرق الإسلامية من معتزلة ومتصوفة وغيرهم، ولو توفرت الظروف الاجتماعية والسياسية لظهرت المعتزلة مثلا بتسميات أخرى وبتصورات مختلفة وبقراءة مختلفة للثوابت (أصل: القرآن والسنة) قبل القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي.
الذي يؤكد ما ذهبنا إليه، أننا نجد رجل العلم في القرن الثامن عشر أو السابع عشر، ونفترض بكونه أشعري العقيدة وشافعي المذهب، تجد مختلف أقواله لا تخلو من استحضار تجربة الصحابة والتابعين والخوارج والمعتزلة… بالرغم من غيابهم، بمعزل عن الاتفاق أو الاختلاف مع كل هؤلاء… دون أن يخطر بباله تجاوز تراثهم والقطع معه، فالماضي ليس بالضرورة خصم للحاضر. وفي وقتنا الحاضر لازال من يصف فلان بكونه معتزلي أو بكونه مع جماعة الفلسفة أو بكونه من كبار المحدثين.
ليس لنا أية نية أو قصد في تبخيس النظرة الدائرية للتاريخ، التي تميز بها الشرق بما فيه العالم العربي الاسلامي، فهي نظرة لها سلبيات وإيجابيات. ونضيف هنا بكون ابن خلدون (-1406م) وهو يؤرج للحضارة ويدقق في ماهية سننها، فمجمل طروحاته جاءت وفق الفهم الدائري للتاريخ أي الدورة التي تمر منها الدولة، منذ لحظة قيامها ولحظة قوتها ولحظة انهيارها لتعقبها دولة أخرى. ويجري عليها ما جرى لسابقتها. فالنظرة الدائرية للتاريخ، لا تعني الاكتفاء بمعرفة الوقائع والاحداث دون تحليل ونظر وأخد للعبرة، وتبعا لرأي ابن خلدون، فإن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق.
أما حضارة الغرب فقد تشكلت وبنيت على فكرة التقدم، وهي فكرة توحي بكون التاريخ له اتجاه خطي يحكمه التحول من مرحلة إلى أخرى، وما دمنا نتحدث عن التاريخ بشكل خطي تصاعدي، فهذا يعني ضمنيا القطيعة مع أمور كثيرة لتحل محلها أمور أخرى، والسؤال هنا كيف تشكلت هذه النظرة في الغرب؟ جذور الفكرة تعود إلى حركة الإصلاح الديني في أوروبا ” البروتستانتية ” في القرن السادس عشر، التي شكلت نقطة تحول وانعتاق الإنسان الأوربي من القيود والأغلال التي وضعتها الكنيسة ورجال الدين باسم الدين المسيحي، مما انعكس إيجابا على الحياة الفكرية والثقافية… في أوروبا، وقد شكل عصر الأنوار في القرن السابع عشر والثامن عشر، قاعدة لفكر الحداثة بناء على أساس العقلانية، والتاريخانية، والحرية، والعلمانية، والقطيعة مع الماضي. فهذه المقومات الأربع لفكر الحداثة، كانت من وراء طبيعة التمدن والنهضة العلمية المتسعة والكبيرة، وقد صاحب كل هذا التحول (صراع بين الدين والعلم) حرب دينية بين المسيحية الكاثوليكية التي لا ترغب في التغيير حينها وتعارض كل ما يقول به العلم، وبين المسيحية البروتستانتية التي تناصر العلم والتغيير.
فكرة النظر الى الزمن والتاريخ من زاوية التقدم والتطور، نجدها بارزة وحاضرة بشكل قوي في الفكر الغربي، نجدها مثلا بشكل جلي عند تشارلز داروين (-1882م) صاحب نظرية التطور أو نظرية النشوء والارتقاء. ونجدها عند ماركس(-1883م) فهو يعتبر أن التاريخ تحكمه قوانين يدركها العقل الإنساني، وهي قوانين حتميه ناتجه عن حركة التاريخ نفسه، كما يرى أن الرأسمالية مرحلة تأتي قبل الاشتراكية التي تليها الشيوعية، فالفهم الخطي للتاريخ عند كل من داروين وماركس؛ كان من بين الأسباب التي جعلت طروحاتهم تعرف انتقادا شديدا في العالم الإسلامي، لأنها تفجر الفهم الدائري للتاريخ. ونجدها عند أوغست كونت(-1857م) أب الفكر الوضعي، فهو يرى بأن تطور العقل البشري مر من ثلاث مراحل مرحلة اللاهوت ومرحلة الميتافيزيقا ومرحلة الوضعية. فهذا التقسيم الذي قال به أوغست كونت، لم يكن ليعجز عن القول به كبار العلماء في العالم الإسلامي كابن خلدون مثلا، لأنهم لا يتصورون التاريخ كخط تصاعدي. ونجدها عند يوهان جوتفريد هردر (-1803م) الذي ارتبط به مفهوم التاريخانية، فحسب تعريف محمد أركون، فالتاريخانية منهج تكتيكي يكتفي بتسجيل الوقائع التاريخية وترتيبها في خط زمني متواصل تقرأ فيه البدايات والأصول والتأثيرات والأحداث من كل نوع. مع إبعاد كل ما هو معنوي ومتعالي.
نعود الآن الى اللحظة التي تلت حملة (الحملة الفرنسية) على مصر (1798م– 1801م) التي شكلت نقطة التقاء بين حضارتين كما أشرنا سالفا، إذ بعدها تشكل الفكر الإصلاحي أي رواد النهضة، وإرث هؤلاء هو ما سميناه بتراث رجال النهضة والاصلاح، ونذكر منهم كل من رفاعة الطهطاوي (1801م /1873م) وجمال الدين الأفغاني (1839م ـ1897م) وعبد الرحمن الكواكبي (1855م ـ 1902م) ومحمد عبده (1849م ـ 1905م) لقد وجد هؤلاء وغيرهم أنفسهم أمام نموذج حضاري ومدني مخالف لما عليه الشرق، “فأهم ما نبهت له هذه الحملة هي الحقيقة التي أخفتها العزلة عن العالم لحقبة طويلة و التي تتجلى في تأخر العرب والمسلمين المزدوج، عن ماضيهم الحضاري المرجعي وعن عصرهم ومدنيته الجديدة”[3] من خلال هذا السياق المعرفي والحضاري فكر رجال النهضة في الحاضر والماضي والمستقبل. وتفكيرهم ذلك نتج عنه سؤال كيف نتعامل مع ماضينا؟ وهو سؤال فرعي وتابع لسؤال محوري مفاده لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟ وجد رجال النهضة أنفسهم أمام طريقين، طريق كل ما هو موروث ويعود الى الشرق، وطريق كل ما هو مدني وحديث ومتقدم ويعود الى الغرب. وتبعا لهذا الأمر انقسمت مواقف ورؤى لرجال النهضة حول سؤال التراث إلى ثلاث مواقف:
(1) موقف يرى: عدم التفريط في الماضي بضرورة التمسك بتراث الامة، فهو مصدر صلاح السلف وينبغي أن يكون مصدر لصلاح الخلف. فالتراث هو أفضل وسيلة للدفاع عن الامة ووجودها، وقد يحميها من الذوبان في ثقافة الغرب. ويعد التيار التقليدي من أههم ممثلي هذا الاتجاه، فهو يرفض أي جديد كيفما كان حتى ولو كان من داخل التراث، ويدرج في هذا التيار الكثير من خريجي الازهر والمؤسسات الدينية والتعليمية الموروثة. ولا نستغرب إن وجدنا أراء محمد عبده قد واجهت انتقادات ورفضت من لدن الكثير من مشايخ الأزهر، رغم أن محمد عبده رجل أزهري.
(2) وموقف آخر يرى: بأنه لا ينبغي التفريط في التراث ولا ينبغي رفض الغرب ومدنيته. هذا التيار مثله رجال النهضة والإصلاح الأوائل وقد جئنا على ذكرهم من قبل وهم كل من رفاعة الطهطاوي (1801م /1873م) وجمال الدين الأفغاني (1839م ـ1897م) وعبد الرحمن الكواكبي (1855م ـ 1902م) ومحمد عبده (1849م ـ 1905م) تأثر هؤلاء وغيرهم بأفكار المصلحين والفلاسفة الأوروبيين ، ولهم اطلاع في الوقت ذاته بالتراث الاسلامي في جوانبه المتعددة، فمن يقرأ كتاب رفاعة الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” سيدرك بكون المؤلف يدعوا إلى الأخذ بمدنية الغرب، دون أن يحس بعقدة نقص اتجاه ماضيه وتراثه الإسلامي الذي ينتمي إليه، وهو الموقف الذي سيقف عليه من يعود إلى قراءة جريدة العروة الوثقى، التي تولَّى الأفغانيُّ إدارتها، وأوكل تحريرها لمحمد عبده.
(3) وموقف آخر يرى: ضرورة الانفصال عن التراث وتبني النموذج الغربي، لأنه يرى فيه مسلك طريق التقدم والمدنية. مثل هذا التيار مجموعة من الشخصيات التي آمن بالتكتل باسم لحمة العروبة والإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه الثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة ووحدة المصير، ومن تم كانت نظرتهم الى التراث الإسلامي نظرة عروبية، مع العلم أن فكرة ومفهوم القومية ظهر وتشكل في السياق الأوربي. من بين هؤلاء: جورجي زيدان (-1914م)، شبلي شميل (-1917م)، فرح أنطوان (-1922م). تأثر هؤلاء وغيرهم بأفكار المصلحين الأوروبيين «روسو» و«فولتير» و«رينان» و«مونتسكيو»، وتأثروا في الوقت ذاته بفلاسفة مسلمين أمثال «ابن رشد» و«ابن طفيل» و«الغزالي» فالتراث والماضي بالنسبة لهم متصل بالعروبة بدرجة أولى أكثر من أي شيء آخر، وقد تحول هذا الاتجاه إلى معطى واقعي على المستوى السياسي والاجتماعي إذ تم عقد أول مؤتمر يدعو إلى الفكر القومي العربي جوابا على سؤال من نحن؟ سنة 1912م في باريس، وبعد هذا المؤتمر تشكلت الكثير من الجمعيات داخل العالم الإسلامي، التي اختزلت سؤال الهوية في العروبة. وقد تم تجسيد فكرة إيديولوجيا القومية العربية من خلال تنظيمات وأحزاب سياسية.
نحن اليوم أمام ثلاثة حزم من تراث الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وهو تراث له أثره المباشر وغير المباشر على ما بعده، فهذا التراث يشكل بشكل واعي أو غير واعي الجذور التاريخية والفكرية لكبار المثقفين طيلة القرن العشرين حتى هذه اللحظة، ولفهم مشروع من بين المشاريع الفكرية اليوم والتي كتبها مثقفين كبار يحتفون بالتراث وينتقدون الغرب، أو شكلوا لأنفسهم انساق ونماذج للتفكير والنظر.
نحن في حاجة لنعود لفهم واستيعاب تراث رجال النهضة لماذا؟ لأن تراث رجال النهضة والإصلاح يعد نقطة البدئ في لقائنا ونظرتنا وتفاعلنا مع الآخر الحضارة الغربية وهي واقع غطى العالم بأكمله اليوم، ونقطة البدئ في الوقت ذاته في علاقتنا بماضينا وبتراثنا العربي الإسلامي بشكل جديد.
[1] معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عبد الحميد عمر، (مادة: و.ر.ث) صدر في عام 2008
[2] جمال الدين ابن منظور الأنصاري (المتوفى: 711هـ)، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان؛ ط.3، 1414ه، ج.2، ص 201
[3] عبد الإله بلقزيز، من النهضة إلى الحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية،ط .1، 2009م.ص.39